معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

وإذا كان الموضع فيه ما يكون معناه معنى القول ثم ظهرت فيه أن فهى منصوبة الألف. وإذا لم يكن ذلك الحرف يرجع إلى معنى القول سقطت أن من الكلام.

فأمّا الذي يأتى بمعنى القول فتظهر فيه أن مفتوحة فقول الله تبارك وتعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) (١) جاءت أن مفتوحة ؛ لأن الرسالة قول. وكذلك قوله (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا) (٢) والتخافت قول. وكذلك كلّ ما كان فى القرآن. وهو كثير. منه قول الله (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) (٣). ومثله : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ [عَلَى الظَّالِمِينَ]) (٤) الأذان قول ، والدعوى قول فى الأصل.

وأمّا ما ليس فيه معنى القول فلم تدخله أن فقول الله (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا) (٥) فلمّا لم يكن فى (أَبْصَرْنا) كلام يدلّ على القول أضمرت القول فأسقطت أن ؛ لأن ما بعد القول حكاية لا تحدث معها أن. ومنه قول الله (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) (٦). معناه : يقولون أخرجوا. ومنه قول الله تبارك وتعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا). معناه يقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) وهو كثير. فقس بهذا ما ورد عليك.

__________________

(١) آية ١ سورة نوح.

(٢) آية ٢٣ ـ ٢٤ سورة القلم.

(٣) آية ١٠ سورة يونس.

(٤) آية ٤٤ سورة الأعراف.

(٥) آية ١٢ سورة السجدة.

(٦) آية ٩٣ سورة الأنعام.

٨١

[وقوله : ... قالوا نعبد إلهك وإلهءابائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون ١٣٣].

قرأت القرّاء (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) ، وبعضهم قرأ «وإله أبيك» واحدا. وكأن الذي قال : أبيك (ظنّ أن العمّ لا يجوز فى الآباء) (١) فقال «وإله أبيك إبراهيم» ، ثم عدّد بعد الأب العمّ. والعرب تجعل الأعمام كالآباء ، وأهل الأمّ كالأخوال. وذلك كثير فى كلامهم.

وقوله : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ...) (١٣٥)

أمر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن نصبتها ب (نكون) (٢) كان صوابا ؛ وإن نصبتها بفعل مضمر كان صوابا ؛ كقولك بل نتّبع (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ، وإنما أمر الله النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ).

وقوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ...) (١٣٦)

يقول لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى

وقوله : (صِبْغَةَ اللهِ ...) (١٣٨)

نصب ، مردودة (٣) على الملّة ، وإنما قيل (صِبْغَةَ اللهِ) لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد المولود جعلوه فى ماء لهم يجعلون ذلك تطهيرا له كالختانة. وكذلك

__________________

(١) فى ج ، ش : «ظن أن العرب لا تجوز إلا فى الآباء». وليس له معنى.

(٢) كذا فى البحر. أي نكون ذوى ملة إبراهيم. وفى نسخ الفراء : «بيكون» ولعل المراد إن صحت : يكون ما تختاره ، مثلا :

(٣) يريد أنها بدل من (مِلَّةِ إِبْراهِيمَ).

٨٢

هى فى إحدى القراءتين. قل (صِبْغَةَ اللهِ) وهى الختانة ، اختتن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قل (صِبْغَةَ اللهِ) يأمر بها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجرت الصبغة على الختانة لصبغهم الغلمان فى الماء ، ولو رفعت الصبغة والملّة كان صوابا كما تقول العرب : جدّك لا كدّك ، وجدّك لا كدّك. فمن رفع أراد : هى ملّة إبراهيم ، هى صبغة الله ، هو جدّك. ومن نصب أضمر مثل الذي قلت لك من الفعل.

وقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ...) (١٤٣)

يعنى عدلا (١) (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) يقال : إن كلّ نبىّ يأتى يوم القيامة فيقول : بلّغت ، فتقول أمّته : لا ، فيكذّبون الأنبياء ، (٢) (ثم يجاء بأمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيصدّقون الأنبياء ونبيّهم) ، ثم يأتى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيصدّق أمّته ، فذلك قوله تبارك وتعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ، ومنه قول الله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً]) (٣).

وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ...) (١٤٣)

أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين ، والمعنى فيمن مات من المسلمين قبل أن تحوّل القبلة. فقالوا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف بصلاة إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى؟ فأنزل الله تبارك وتعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ

__________________

(١) كذا فى أصول الكتاب بالإفراد. ووجه ذلك أن عدلا فى الأصل مصدر ، فيصلح للفرد والجمع. وفى غير هذا الكتاب : «عدولا».

(٢) سقط ما بين القوسين فى أ.

(٣) آية ٤١ من سورة النساء.

٨٣

إِيمانَكُمْ) يريد إيمانهم لأنهم داخلون معهم فى الملّة ، وهو كقولك للقوم : قد قتلناكم وهزمناكم ، تريد : قتلنا منكم ، فتواجههم بالقتل وهم أحياء.

وقوله : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ...) (١٤٤)

يريد : نحوه وتلقاءه ، ومثله فى الكلام : ولّ وجهك شطره ، وتلقاءه ، وتجاهه.

وقوله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ...) (١٤٥)

أجيبت (لئن) بما يجاب به لو. ولو فى المعنى ماضية ، ولئن مستقبلة ، ولكن الفعل ظهر فيهما بفعل فأجيبتا بجواب واحد ، وشبّهت كلّ واحدة بصاحبتها. والجواب فى الكلام فى (لئن) بالمستقبل مثل قولك : لئن قمت لأقومنّ ، ولئن أحسنت لتكرمنّ ، ولئن أسأت لا يحسن إليك. وتجيب لو بالماضي فتقول : لو قمت لقمت ، ولا تقول : لو قمت لأقومنّ. فهذا الذي عليه يعمل ، فإذا أجيبت لو بجواب لئن فالذى قلت لك من لفظ فعليهما بالمضيّ ، ألا ترى أنك تقول : لو قمت ، ولئن قمت ، ولا تكاد ترى (تفعل تأتى) (١) بعدهما ، وهى جائزة ، فلذلك قال (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا) (٢) فأجاب (لئن) بجواب (لو) ، وأجاب (لو) بجواب (لئن) فقال (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) (٣) الآية

__________________

(١) كذا فى ش. وفى أ : «يفعل يأتى» وعلى هذا فقوله بعد : «وهى» راعى فيها الكلمة ، فلذلك أنث.

(٢) آية ٥١ سورة الروم.

(٣) آية ١٠٣ سورة البقرة.

٨٤

وقوله : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ...) (١٤٧)

المعنى أنهم لا يؤمنون بأن القبلة التي صرف إليها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبلة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى جميع الأنبياء ، ثم استأنف (الحقّ) فقال : يا محمد هو (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ، إنها قبلة إبراهيم (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) : فلا تشكّنّ فى ذلك. والممترى : الشاكّ.

وقوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ ...) (١٤٨)

يعنى قبلة (هُوَ مُوَلِّيها) : مستقبلها ، الفعل لكلّ ، يريد : مولّ وجهه إليها. والتولية فى هذا الموضع إقبال ، وفى (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) (١) ، (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٢) انصراف. وهو كقولك فى الكلام : انصرف إلىّ ، أي أقبل إلىّ ، وانصرف إلى أهلك أي اذهب إلى أهلك. وقد قرأ ابن عباس وغيره «هو مولّاها» ، وكذلك قرأ أبو (٣) جعفر محمد بن علىّ ، فجعل الفعل واقعا عليه. والمعنى واحد. والله أعلم.

وقوله : (أَيْنَ ما تَكُونُوا ...) (١٤٨)

إذا رأيت حروف الاستفهام قد وصلت ب (ما) ، مثل قوله : أينما ، ومتى ما ، وأىّ ما ، وحيث (٤) ما ، وكيف ما ، و (أَيًّا ما تَدْعُوا) (٥) كانت جزاء ولم تكن استفهاما. فإذا لم توصل ب (ما) كان الأغلب عليها الاستفهام ، وجاز فيها الجزاء.

__________________

(١) آية ١١١ سورة آل عمران.

(٢) آية ٢٥ سورة التوبة.

(٣) هو الإمام الباقر ، لقب بذلك لأنه بقر العلم ، أي شقه وعرف ظاهره وخفيه. وانظر طبقات القراء لابن الجزرىّ الترجمة رقم ٣٢٥٤

(٤) كذا فى الأصول ، ولا تعرف هذه الأداة فى أدوات الاستفهام.

(٥) آية ١١٠ سورة الإسراء.

٨٥

فإذا كانت جزاء جزمت الفعلين : الفعل الذي مع أينما وأخواتها ، وجوابه ؛ كقوله (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ) (١) فإن أدخلت الفاء فى الجواب رفعت الجواب ؛ فقلت فى مثله من الكلام : أينما تكن فآتيك. كذلك قول الله ـ تبارك وتعالى ـ (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ).

فإذا كانت استفهاما رفعت الفعل الذي يلى أين وكيف ، ثم تجزم الفعل الثاني ؛ ليكون جوابا للاستفهام ، بمعنى الجزاء ؛ كما قال الله تبارك وتعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢) ثم أجاب الاستفهام بالجزم ؛ فقال ـ تبارك وتعالى ـ (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (٣).

فإذا أدخلت فى جواب الاستفهام فاء نصبت كما قال الله ـ تبارك وتعالى ـ (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) (٤) فنصب. فإذا جئت إلى العطوف التي تكون فى الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك فى العطف ثلاثة أوجه ؛ إن شئت رفعت العطف ؛ مثل قولك : إن تأتنى فإنى أهل ذاك ، وتؤجر وتحمد ، وهو وجه الكلام. وإن شئت جزمت ، وتجعله كالمردود على موضع الفاء. والرفع على ما بعد الفاء. وقد قرأت القرّاء (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) (٥). رفع وجزم. وكذلك (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ

__________________

(١) آية ١٤٨ سورة البقرة.

(٢) آية ١٠ سورة الصف.

(٣) آية ١٢ سورة الصف.

(٤) آية ١٠ سورة المنافقين. وقد عدّ لو لا فى أدوات الاستفهام ، وهذا المعنى ذكره الهروي ، كما فى المغني ، ومثل له بالآية. وقال الأمير فى كتابته على المغني : «الاستفهام هنا بعيد جدّا» أي والقريب فى الآية معنى العرض أو التحضيض.

(٥) آية ١٨٦ سورة الأعراف.

٨٦

فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ») (١) جزم ورفع. ولو نصبت على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأصبت ؛ كما قال الشاعر (٢) :

فإن يهلك النعمان تعر مطيّة

وتخبأ فى جوف العياب قطوعها (٣)

وإن جزمت عطفا بعد ما نصبت تردّه على الأوّل ، كان صوابا ؛ كما قال بعد هذا البيت :

وتنحط حصان آخر اللّيل نحطة

تقصّم منها ـ أو تكاد ـ ضلوعها (٤)

وهو كثير فى الشعر والكلام. وأكثر ما يكون النصب فى العطوف إذا لم تكن فى جواب الجزاء الفاء ، فإذا كانت الفاء فهو الرفع والجزم.

وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف ، وإن جزمتها فصواب. من ذلك قوله فى المنافقين (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) (٥) رددت (وَأَكُنْ) على موضع الفاء ؛ لأنها فى محلّ جزم ؛ إذ كان الفعل إذا (٦) وقع موقعها بغير الفاء جزم. والنصب على أن تردّه على ما بعدها ، فتقول : «وأكون» وهى فى قراءة عبد الله بن مسعود «وأكون» بالواو ، وقد قرأ بها بعض (٧) القرّاء. قال : وأرى ذلك صوابا ؛ (٨) لأن الواو ربما حذفت من الكتاب

__________________

(١) آية ٢٧١ سورة البقرة.

(٢) هو النابغة الذبيانىّ. وانظر الديوان له وشرحه فى مجموعة الدواوين الخمسة. وهذا الشعر يقوله فى مدح النعمان بن الحارث الأصغر الغساني.

(٣) القطوع : جمع قطع. وهو كالطنفسة. والعياب : جمع عيبة وهو ما يوضع فيه الثياب. يقول : إن هلك النعمان ترك كل وافد الرحلة ولم يستعمل مطيته وخبأ فى جوف العياب الطنفسة التي توضع على الرحل استعدادا للرحيل.

(٤) تنحط : تزفر من الحزن. والحصان : المرأة العفيفة. يقول : إذا تذكرت الحصان معروفه هاج لها حزن وزفرات تنكسر لها ضلوعها أو تكاد تنكسر. وخص آخر الليل لأنه وقت الهبوب من النوم.

(٥) آية ١٠ سورة المنافقين.

(٦) سقط فى أ.

(٧) يريد أبا عمرو بن العلاء ، وانظر البيضاوي ، والبحر ٨ / ٢٧٥

(٨) يريد دفع ما يرد على قراءة أبى عمرو أنها مخالفة لرسم المصحف ؛ إذ ليس فيه : (أَكُونَ) بالواو. فذكر أن الواو قد تحذف فى الرسم وهى ثابتة فى اللفظ.

٨٧

وهى تراد ؛ لكثرة ما تنقص وتزاد فى الكلام ؛ ألا ترى أنهم يكتبون «الرحمن» وسليمن بطرح الألف والقراءة بإثباتها ؛ فلهذا جازت. وقد أسقطت الواو من قوله (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (١) ومن قوله (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) (٢) الآية ، والقراءة على نيّة إثبات الواو. وأسقطوا من الأيكة ألفين فكتبوها فى موضع ليكة (٣) ، وهى فى موضع آخر الأيكة (٤) ، والقرّاء (٥) على التمام ، فهذا شاهد على جواز «وأكون من الصّالحين».

وقال بعض الشعراء (٦) :

فأبلونى بليّتكم لعلّى

أصلكم وأستدرج نويّا

فجزم (وأستدرج) ، فإن شئت رددته إلى موضع الفاء المضمرة فى لعلّى ، وإن شئت جعلته فى موضع رفع فسكّنت الجيم لكثرة توالى الحركات. وقد قرأ بعض القراء (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) بالجزم وهم ينوون الرفع ، وقرءوا (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) والرفع أحبّ إلىّ من الجزم.

__________________

(١) آية ١٨ سورة القلم.

(٢) آية ١١ سورة الإسراء.

(٣) كما فى آية ١٧٦ من الشعراء ، وآية ١٣ من ض.

(٤) كما فى آية ٧٨ من الحجز ، وآية ١٤ من ق.

(٥) قرأ الحرميان : ابن كثير ونافع ، وابن عامر : ليكة بفتح اللام وسكون الياء وفتح التاء ، فى الموضعين اللذين سقط فيها الألفان ، وكأن الفرّاء ينكر هذه القراءة كما أنكرها بعض النحويين. وانظر البحر ٧ / ٣٧

(٦) هو أبو داود الإيادىّ ، كما فى الخصائص ١ / ١٧٦ ، يقوله فى قوم جاورهم فأساءوا جواره ، ثم أرادوا مصالحته. وقوله : «فأبلونى» من أبلاه إذا صنع به صنعا جميلا. والبلية اسم منه. و «نويا» يريد نواى ، والنية : الوجه الذي يقصد. و «أستدرج» : أرجع أدراجى من حيث كنت. يقول : أحسنوا الصنيع بي واجبروا ما فعلتم معى ، فقد يكون هذا حافزا لى أن أصالحكم أو أرجع إلى ما كنت عليه. وانظر التعليق على الخصائص فى الموطن السابق طبعة الدار.

٨٨

وقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ...) (١٥٠)

يقول القائل : كيف استثنى الذين ظلموا فى هذا الموضع؟

ولعلهم توهّموا أن ما بعد إلّا يخالف ما قبلها ؛ فإن كان ما قبل إلّا فاعلا كان الذي بعدها خارجا من الفعل الذي ذكر ، وإن كان قد نفى عما قبلها الفعل ثبت لما بعد إلا ؛ كما تقول : ذهب الناس إلّا زيدا ، فزيد خارج من الذهاب ، ولم يذهب الناس إلا زيد ، فزيد ذاهب ، والذهاب مثبت لزيد.

فقوله (١) (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) [معناه (٢) : إلا الذين ظلموا منهم] ، فلا حجّة لهم (فَلا تَخْشَوْهُمْ) وهو كما تقول فى الكلام : الناس كلّهم [لك] (٣) حامدون إلا الظالم لك المعتدى عليك ، فإن ذلك لا يعتدّ بعداوته ولا بتركه الحمد لموضع العداوة. وكذلك الظالم لا حجّة له. وقد سمّى ظالما.

وقد قال بعض النحويين (٤) : إلا فى هذا الموضع بمنزلة الواو ؛ كأنه قال : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) ولا للذين ظلموا. فهذا صواب فى التفسير ، خطأ فى العربية ؛ إنما تكون إلا بمنزلة الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها ، فهنالك تصير بمنزلة الواو ؛ كقولك : لى على فلان ألف إلا عشرة إلا مائة ، تريد : (إلّا) الثانية أن ترجع على الألف ، كأنك أغفلت المائة فاستدركتها فقلت : اللهمّ

__________________

(١) هذا أخذ منه فى الردّ على الاعتراض السابق ؛ وكأن هنا سقطا فى الكلام. وفى هامش أ فى هذا الموطن سطران لم تحسن قراءتهما. وكأن فيهما هذا السقط.

(٢) زيادة من اللسان فى إلا فى آخر الجزء العشرين.

(٣) زيادة من اللسان فى الموطن السابق.

(٤) القائل بهذا أبو عبيدة ، وقد أبطل الزجاج والفراء هذا القول.

٨٩

إلا مائة. فالمعنى له علىّ ألف ومائة ، وأن تقول : ذهب الناس إلا أخاك ، اللهمّ إلا أباك ، فتستثنى الثاني ، تريد : إلا أباك وإلا أخاك ؛ كما قال الشاعر (١) :

ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلا دار مروانا

كأنه أراد : ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان.

وقوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ ...) (١٤٨)

العرب تقول : هذا أمر ليس له وجهة ، وليس له جهة ، وليس له وجه ؛ وسمعتهم يقولون : وجّه الحجر ، جهة ماله ، ووجهة ماله ، ووجه ماله. ويقولون : ضعه غير هذه الوضعة ، والضّعة ، والضعة. ومعناه : وجّه الحجر فله جهة ؛ وهو مثل ، أصله فى البناء يقولون : إذا رأيت الحجر فى البناء لم يقع موقعه فأدره فإنك ستقع على جهته (٢). ولو نصبوا على قوله : وجّهه جهته لكان صوابا.

وقوله : (وَاخْشَوْنِي ...) (١٥٠)

أثبتت فيها الياء ولم تثبت فى غيرها ، وكلّ ذلك صواب ، وإنما استجازوا حذف الياء لأن كسرة النون تدلّ عليها ، وليست تهيّب العرب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسورا ، من ذلك (رَبِّي أَكْرَمَنِ) ـ و ـ (أَهانَنِ) فى سورة «الفجر» (٣) وقوله : (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) (٤) ومن غير النون (الْمُنادِ) (٥) و (الدَّاعِ) (٦) وهو كثير ، يكتفى من الياء بكسرة ما قبلها ، ومن الواو بضمّة ما قبلها ؛ مثل قوله :

__________________

(١) نسب فى كتاب سيبويه ١ / ٣٧٣ إلى الفرزدق. وانظر فى تخريج إعرابه السيرافي على الكتاب ٣ / ٣٠٦ من التيمورية.

(٢) وهذا المثل أورده الميدانىّ فى حرف الواو ، وقال بعد أن أورد نحو ما ذكر هنا : «يضرب فى حسن التدبير ، أي لكل أمر وجه ، لكن الإنسان ربما عجز ولم يهتد إليه».

(٣) آيتا ١٥ ، ١٦ من السورة.

(٤) آية ١٢٦ سورة النمل.

(٥) آية ٤١ سورة ق.

(٦) آيتا ٦ ، ٨ سورة القمر.

٩٠

(سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (١) ـ (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) (٢) وما أشبهه ، وقد تسقط العرب الواو وهى واو جماع ، اكتفى بالضمّة قبلها فقالوا فى ضربوا : قد ضرب ، وفى قالوا : قد قال ذلك ، وهى فى هوازن وعليا قيس ؛ أنشدنى بعضهم :

إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا

ولا يألو لهم أحد ضرارا (٣)

وأنشدنى الكسائي :

متى تقول خلت من أهلها الدار

كأنهم بجناحي طائر طاروا

وأنشدنى بعضهم :

فلو أن الأطبّاء كان عندى

وكان مع الأطباء الأساة (٤)

وتفعل ذلك فى ياء التأنيث ؛ كقول عنترة :

إن العدوّ لهم إليك وسيلة

إن يأخذوك تكحّلى وتخضّب (٥)

يحذفون (ياء التأنيث) (٦) وهى دليل على الأنثى اكتفاء بالكسرة.

__________________

(١) آية ١٨ سورة العلق.

(٢) آية ١١ سورة الإسراء.

(٣) أورده البغدادىّ فى شرح شواهد المغني ٢ / ٨٥٩ وقال : «وهذا البيت مشهور فى تصانيف العلماء ، ولم يذكر أحد منهم قائله».

(٤) بعده :

إذا ما أذهبوا ألما بقلبي

وإن قيل : الأساة هم الشفاة

والأساة جمع آس ، وهو هنا من يعالج الجرح. وانظر الخزانة ٢ / ٣٨٥.

(٥) نسب هذا البيت فى أبيات أخر الجاحظ فى البيان ٣ / ١٧٦ وفى الحيوان ٤ / ٣٦٣ إلى خزز بن لوذان ، وكذلك رجّح صاحب الأغانى ١٠ / ١٨٠ طبعة الدار نسبتها إلى خزز. وذكر صاحب الخزانة ٣ / ١١ عن الصاغاني أن الشعر فى ديوانى الرجلين. وانظر اللسان (نعم).

(٦) نسخة أ : (الياء). والحق أن لا حذف فى البيت ؛ لأن القافية مطلقة ، والياء ثابتة فى اللفظ ، كما يجب أن تثبت فى الكتابة. نعم هناك طريقة فى الإنشاء تقطع الترنم ، فتسكن الياء. وقد روى أحد الأبيات التي منها هذا بالإسكان. وانظر سيبويه ٢ / ٣٠٢.

٩١

وقوله : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ ...) (١٥٠)

جواب لقوله : (فاذكرونى أذكركم) : كما أرسلنا ، فهذا جواب (مقدّم ومؤخّر) (١).

وفيها وجه آخر : تجعلها من صلة ما قبلها لقوله : (أَذْكُرْكُمْ) ألا ترى أنه قد جعل لقوله : (فَاذْكُرُونِي) جوابا مجزوما ، (فكان فى ذلك دليل) (٢) على أن الكاف التي فى (كما) لما قبلها ؛ لأنك تقول فى الكلام : كما أحسنت فأحسن. ولا تحتاج إلى أن تشترط ل (أحسن) ؛ لأن الكاف شرط ، معناه افعل كما فعلت. وهو فى العربية أنفذ (٣) من الوجه الأوّل مما جاء به التفسير ؛ وهو صواب بمنزلة جزاء يكون له جوابان ؛ مثل قولك : إذا أتاك فلان فأته ترضه. فقد صارت (فأته) و (ترضه) جوابين.

وقوله : (وَاشْكُرُوا لِي ...) (١٥٢)

العرب لا تكاد تقول : شكرتك ، إنما تقول : شكرت لك ، ونصحت لك. ولا يقولون : نصحتك ، وربما قيلتا ؛ قال بعض الشعراء :

هم جمعوا بؤسى ونعمى عليكم

فهلّا شكرت القوم إذ لم تقاتل

وقال النابغة :

نصحت بنى عوف فلم يتقبّلوا

رسولى ولم تنجح لديهم وسائلى

__________________

(١) أي مقدّم فى اللفظ ، مؤخر فى النية. والعبارة فى الطبرىّ ٢ / ٢٢ : «وزعموا أن ذلك من المقدّم الذي معناه التأخير».

(٢) فى ج ، وش «فكان ذلك دليلا».

(٣) فى ج ، وش : «أقعد».

٩٢

وقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ ...) (١٥٤)

رفع بإضمار مكنىّ من أسمائهم ؛ كقولك : لا تقولوا : هم أموات بل هم أحياء. ولا يجوز فى الأموات النصب ؛ لأن القول لا يقع على الأسماء إذا أضمرت وصوفها أو أظهرت ؛ كما لا يجوز قلت عبد الله قائما ، فكذلك لا يجوز نصب الأموات ؛ لأنك مضمر لأسمائهم ، إنما يجوز النصب فيما قبله القول إذا كان الاسم فى معنى قول ؛ من ذلك : قلت خيرا ، وقلت شرّا. فترى الخير والشرّ منصوبين ؛ لأنهما قول ، فكأنك قلت : قلت كلاما حسنا أو قبيحا. وتقول : قلت لك خيرا ، وقلت لك خير ، فيجوز ، إن جعلت الخير قولا نصبته كأنك قلت : قلت لك كلاما ، فإذا رفعته فليس بالقول ، إنما هو بمنزلة قولك : قلت لك مال.

فابن على ذا ما ورد عليك ؛ من المرفوع قوله : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) (١) و (خَمْسَةٌ) و (سَبْعَةٌ) ، لا يكون نصبا ؛ لأنه إخبار عنهم فيه أسماء مضمرة ؛ كقولك : هم ثلاثة ، وهم خمسة. وأمّا قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) (٢) فإنه رفع على غير هذا المذهب. وذلك أن العرب كانوا يقال لهم : لا بدّ لكم من الغزو فى الشتاء والصيف ، فيقولون : سمع وطاعة ؛ معناه : منّا السمع والطاعة ، فجرى الكلام على الرفع. ولو نصب على : نسمع سمعا ونطيع طاعة كان صوابا.

وكذلك قوله تبارك وتعالى فى سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) (٣). عيّرهم وتهدّدهم بقوله : (فَأَوْلى لَهُمْ) ، ثم ذكر ما يقولون فقال : يقولون إذا أمروا (طاعَةٌ). (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) نكلوا

__________________

(١) آية ٢٢ سورة الكهف.

(٢) آية ٨١ سورة النساء.

(٣) آية ٢١ من السورة.

٩٣

وكذبوا فلم يفعلوا. فقال الله تبارك وتعالى (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ، وربما قال بعضهم : إنما رفعت الطاعة بقوله : لهم طاعة ، وليس ذلك بشىء. والله أعلم. ويقال أيضا : (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) و (طاعَةٌ) فأضمر الواو ، وليس ذلك عندنا من مذاهب العرب ، فإن يك موافقا للتفسير فهو صواب.

وقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ ...) (١٥٥)

ولم يقل (بأشياء) لاختلافها. وذلك أن من تدلّ على أن لكل صنف منها شيئا مضمرا : بشىء من الخوف وشىء من كذا ، ولو كان بأشياء (١) لكان صوابا.

وقوله : (قالُوا إِنَّا لِلَّهِ ...) (١٥٦)

لم تكسر العرب (إنا) (٢) إلا فى هذا الموضع مع اللام فى التوجّع خاصّة. فإذا لم يقولوا (لله) فتحوا فقالوا : إنا لزيد محبّون ، وإنا لربّنا حامدون عابدون. وإنما كسرت فى (إِنَّا لِلَّهِ) لأنها استعملت فصارت كالحرف الواحد (٣) ، فأشير إلى النون بالكسر (٤) لكسرة اللام التي فى (لِلَّهِ) ؛ كما قالوا : هالك وكافر ، كسرت الكاف

__________________

(١) قرأ الضحاك (بأشياء) على الجمع ، كما فى الطبري.

(٢) المراد بالكسر هنا إمالة النون من (إنا) إلى الكسر كما فى النحاس عن الكسائي : إن الألف ممالة إلى الكسرة ، وأما على أن تكسر فمحال لأن الألف لا تحرك البتة ، وإنما أميلت فى «إنا لله» لكسرة اللام فى لله إلخ. وكذا الكلام على ما يأتى فى هالك وكافر من أن الكسر فى الألف إمالته مع الكاف.

(٣ ، ٤) يريد أن (نالله) كالكلمة الواحدة ، فوقعت الألف فى (نا) قبل الكسرة (كسرة لام لله) متصلّة ، وهذا سبب من أسباب الإمالة نحو عالم وكاتب ، وإن كان (نا) مما عد مشبها للحرف الذي لا إمالة فيه لأنه مبنىّ أصلىّ فهو اسم غير متمكن ، ولكنهم استثنوا من المشبه للحرف (ها) للغائبة ، (نا) للتكلم المعظم نفسه أو معه غيره خاصة ، فإنهم طردوا الإمالة فيهما لكثرة استعمالهما إذا كان قبلهما كسرة أو ياء ، فقالوا : مرّ بنا وبها ، ونظر إلينا وإليها ، بالإمالة لوقوع الألف مسبوقة بالكسرة أو الياء مفصولة بحرف.

٩٤

من كافر لكسرة الألف ؛ لأنه حرف واحد ، فصارت (إِنَّا لِلَّهِ) كالحرف الواحد لكثرة استعمالهم إياها ، كما قالوا : الحمد لله.

وقوله : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ...) (١٥٨)

كان المسلمون قد كرهوا الطواف بين الصفا والمروة ؛ لصنمين كانا عليهما ، فكرهوا أن يكون ذلك تعظيما للصنمين ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وقد قرأها بعضهم (١) «ألّا يطّوف» وهذا يكون على وجهين ؛ أحدهما أن تجعل «لا» مع «أن» صلة على معنى الإلغاء ؛ كما قال : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) والمعنى : ما منعك أن تسجد. والوجه الآخر أن تجعل الطواف بينهما يرخّص فى تركه. والأوّل المعمول به.

وقوله : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ...) (١٥٨)

تنصب على (جهة فعل) (٢). وأصحاب عبد الله (٣) وحمزة «ومن يطّوّع» ؛ لأنها فى مصحف (٤) عبد الله «يتطوع».

وقوله : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (١٥٩)

قال ابن عباس : (اللَّاعِنُونَ) كلّ شىء على وجه الأرض إلا الثقلين. [و] (٥) قال عبد الله بن مسعود : إذا تلا عن الرجلان فلعن أحدهما صاحبه وليس أحدهما

__________________

(١) فى القرطبي : «روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) وهى قراءة ابن مسعود».

(٢) يريد فتح العين فى «تطوع» على أنه فعل ماض. وفى أ : «جهة ومن تطوع خيرا فعل».

(٣) لا ندرى ماذا يريد بأصحاب عبد الله ، فإن قراءة «يطوع» تنسب لحرة والكسائي.

(٤) فى ج ، ش : مصاحف.

(٥) زيادة خلت منها الأصول.

٩٥

مستحقّ اللعن رجعت اللعنة على المستحقّ لها ، فإن لم يستحقّها واحد منهما رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تبارك وتعالى. فجعل اللعنة من المتلاعنين من الناس على ما فسّر.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٦١) ف (الْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ) فى موضع خفض ؛ تضاف اللعنة إليهم على معنى : عليهم لعنة الله ولعنة الملائكة ولعنة الناس. وقرأها الحسن «لعنة الله والملائكة والناس أجمعون» وهو جائز فى العربية وإن كان مخالفا للكتاب (١). وذلك أن قولك (عليهم لعنة الله) كقولك يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة والناس. والعرب تقول : عجبت من ظلمك نفسك ، فينصبون النفس ؛ لأن تأويل الكاف رفع. ويقولون : عجبت من غلبتك نفسك ، فيرفعون النفس ؛ لأن تأويل الكاف نصب. فابن على ذا ما ورد عليك.

ومن ذلك قول العرب : عجبت من تساقط البيوت بعضها على بعض ، وبعضها على بعض. فمن رفع ردّ البعض إلى تأويل (٢) البيوت ؛ لأنها رفع ؛ ألا ترى أن المعنى : عجبت من أن تساقطت بعضها على بعض. ومن خفض أجراه على لفظ البيوت ، كأنه قال : من تساقط بعضها على بعض.

وأجود ما يكون فيه الرفع أن يكون الأوّل الذي فى تأويل رفع أو نصب قد كنى عنه ؛ مثل قولك : عجبت من تساقطها. فتقول هاهنا : عجبت من

__________________

(١) أي رسم المصحف. وفى القرطبىّ ٢ / ١٩٠ : «وقراءة الحسن هذه مخالفة للصاحف».

(٢) أي محلها فى الإعراب.

٩٦

تساقطها بعضها على بعض ؛ لأن الخفض إذا كنيت عنه قبح أن ينعت بظاهر ، فردّ إلى المعنى الذي يكون رفعا فى الظاهر ، والخفض جائز. وتعمل فيما تأويله النصب بمثل هذا فتقول : عجبت من إدخالهم بعضهم فى إثر بعض ؛ تؤثر النصب فى (بعضهم) ، ويجوز الخفض.

وقوله : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ...) (١٦٤)

تأتى مرّة جنوبا ، ومرّة شمالا ، وقبولا ، ودبورا. فذلك تصريفها.

وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ...) (١٦٥)

يريد ـ والله أعلم ـ يحبّون الأنداد ، كما يحبّ المؤمنون الله. ثم قال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من أولئك لأندادهم.

وقوله : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ ...) (١٦٥)

يوقع (يَرَى) على «أن القوّة لله وأن الله» وجوابه متروك. والله أعلم. (وقوله) (١) : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ) (٢) وترك الجواب فى القرآن كثير ؛ لأن معانى (٣) الجنة والنار مكرر (٤) معروف. وإن شئت كسرت إنّ وإنّ وأوقعت (يَرَى) على (إِذْ) فى المعنى. وفتح أنّ وأنّ مع الياء أحسن من كسرها.

ومن قرأ «ولو ترى الّذين ظلموا» بالتاء كان وجه الكلام أن يقول (أَنَّ الْقُوَّةَ ...) بالكسر (وَأَنَّ ...) ؛ لأن «ترى» قد وقعت على (الذين ظلموا)

__________________

(١) يبدو أن هنا سقطا ، والأصل : ومنه قوله. وهذا سقط فى ش.

(٢) آية ٣١ سورة الرعد.

(٣) فى ش : «معنى». وكأنها مصلحة عن «معانى».

(٤) أي أمر مكرر.

٩٧

فاستؤنفت «إن ـ (وإنّ) (١)» ولو فتحتهما على تكرير الرّؤية من «ترى» ومن (يَرَى) لكان صوابا ؛ كأنه قال : «ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب» يرون (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً).

وقوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ ...) (١٧٠) تنصب هذه الواو ؛ لأنها ولو عطف أدخلت عليها ألف الاستفهام ، وليست ب (أو) التي واوها ساكنة ؛ لأن الألف من أو لا يجوز إسقاطها ، وألف الاستفهام تسقط ؛ فتقول : ولو كان ، أو لو كان إذا استفهمت.

وإنما غيّرهم الله بهذا لما قالوا (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) قال الله تبارك وتعالى : يا محمد قل (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) فقال (آباؤُهُمْ) لغيبتهم ، ولو كانت «آباؤكم» لجاز ؛ لأن الأمر بالقول يقع مخاطبا ؛ مثل قولك : قل لزيد يقم ، وقل له قم. ومثله (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) (٢) ، (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) (٣).

ومن (٤) سكّن الواو من قوله : (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (٥) فى الواقعة وأشباه (٦) ذلك فى القرآن ، جعلها «أو» التي تثبت الواحد من الاثنين. وهذه الواو فى فتحها بمنزلة قوله (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) (٧) دخلت ألف الاستفهام على (ثُمَّ) وكذلك (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) (٨).

__________________

(١) سقط ما بين القوسين فى أ.

(٢) آية ٢١ سورة لقمان.

(٣) آية ٩ سورة الروم.

(٤) من هؤلاء ابن عامر ، ونافع فى رواية قالون ، وأبو جعفر. وانظر البحر ٧ / ٣٥٥.

(٥) آية ٤٨ سورة الواقعة.

(٦) كالآية ١٧ من الصافات.

(٧) آية ٥١ سورة يونس.

(٨) آية ١٠٩ سورة يوسف.

٩٨

وقوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ...) (١٧١)

أضاف المثل إلى الذين كفروا ، ثم شبّههم بالراعي. ولم يقل : كالغنم. والمعنى ـ والله أعلم ـ مثل الذين كفروا (كمثل البهائم) (١) التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت ، فلو قال لها : أرعى أو اشربى ، لم تدر ما يقول لها. فكذلك مثل الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن وإنذار الرسول. فأضيف التشبيه إلى الراعي ، والمعنى ـ والله أعلم ـ فى المرعىّ. وهو ظاهر فى كلام العرب أن يقولوا : فلان يخافك كخوف الأسد ، والمعنى : كخوفه الأسد ؛ لأن الأسد هو المعروف بأنه (٢) المخوف (٣). وقال الشاعر (٤) :

لقد خفت حتى ما تزيد مخافتى

على وعل فى ذى المطارة عاقل (٥)

والمعنى : حتى ما تزيد مخافة وعل على مخافتى. وقال الآخر (٦) :

كانت فريضة ما تقول كما

كان الزناء فريضة الرّجم

والمعنى : كما كان الرجم فريضة الزناء. فيتهاون الشاعر بوضع الكلمة على صحّتها لاتّضاح المعنى عند العرب. وأنشدنى بعضهم :

إن سراجا لكريم مفخره

تحلى به العين إذا ما تجهره (٧)

والعين لا تحلى به ، إنما يحلى هو بها.

__________________

(١) فى أ : «كالبهائم».

(٢) فى أ : «أنه».

(٣) فى أ : «مخوف».

(٤) هو النابغة الذبيانىّ. وانظر الديوان.

(٥) ذو المطارة : اسم جبل. وفى معجم البلدان فى رواية البيت : من ذى مطارة. و (عاقل) : صفة وعل. يقال : عقل الظبى والوعل إذا امتنع وصعد فى الجبل العالي. وانظر أمالى ابن الشجري ١ / ٥٢

(٦) هو النابغة الجعدىّ. وانظر اللسان (زنى) والإنصاف ١٦٥ ، والخزانة ٤ / ٣٢.

(٧) يقال : حلى الشيء بعيني إذا أعجبك ، ومن ثم كان ما فى البيت من المقلوب. ويقال : جهرت فلانا إذا راعك وأعجبك. والرجز فى اللسان (حلى) ، وهو فى مدح من يدعى سراجا.

٩٩

وفيها معنى آخر : تضيف المثل إلى (الذين كفروا) ، وإضافته فى المعنى إلى الوعظ ؛ كقولك مثل وعظ الذين كفروا وواعظهم كمثل الناعق ؛ كما تقول : إذا لقيت فلانا فسلّم عليه تسليم الأمير. وإنما تريد به : كما تسلّم على الأمير. وقال الشاعر :

فلست مسلّما ما دمت حيّا

على زيد بتسليم الأمير

وكلّ صواب.

وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١٧١) رفع ؛ وهو وجه الكلام ؛ لأنه مستأنف خبر ، يدلّ عليه قوله (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) كما تقول فى الكلام : هو أصمّ فلا يسمع ، وهو أخرس فلا يتكلّم. ولو نصب على الشتم مثل الحروف (١) فى أوّل سورة البقرة فى قراءة عبد الله «وتركهم فى ظلمات لا يبصرون صمّا بكما عميا» لجاز.

وقوله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ...) (١٧٣)

نصب لوقوع (حَرَّمَ) عليها. وذلك أن قولك (إِنَّما) على وجهين :

أحدهما أن تجعل (إِنَّما) حرفا واحدا ، ثم تعمل الأفعال التي تكون بعدها [فى] (٢) الأسماء ، فإن كانت رافعة رفعت ، وإن كانت ناصبة نصبت ؛ فقلت : إنما دخلت دارك ، وإنما أعجبتنى دارك ، وإنّما مالى مالك. فهذا حرف واحد.

__________________

(١) يريد بالحروف الكلمات الثلاث : صما وبكما وعميا. وفى أ : «الحرف».

(٢) زيادة يقتضيها السياق ، خلت منها الأصول.

١٠٠