معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

ألا ترى أنّك تعنّف الرجل بما سلف من فعله فتقول : ويحك لم تكذب! لم تبغّض نفسك إلى الناس! ومثله قول الله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) (١). ولم يقل ما تلت الشياطين ، وذلك عربىّ كثير فى الكلام ؛ أنشدنى بعض العرب :

إذا ما انتسبنا لم تلدنى لئيمة

ولم تجدى من أن تقرّى بها (٢) بدّا

فالجزاء للمستقبل ، والولادة كلها قد مضت ، وذلك أن المعنى معروف ؛ ومثله فى الكلام : إذا نظرت فى سير (٣) عمر رحمه‌الله لم يسىء ؛ المعنى لم تجده أساء ؛ فلما كان أمر عمر لا يشك فى مضيّه لم يقع فى الوهم أنه مستقبل ؛ فلذلك صلحت (مِنْ قَبْلُ). مع قوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة ، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا فتولّوهم على ذلك ورضوا به فنسب القتل إليهم.

وقوله (٤) : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا ...) (٩٣) معناه سمعنا قولك وعصينا (٥) أمرك.

وقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ...) (٩٣) فإنه أراد : حبّ العجل ، ومثل هذا مما تحذفه العرب كثير ؛ قال الله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) (٦) والمعنى سل أهل القرية وأهل العير ؛ وأنشدنى المفضّل :

__________________

(١). ١٠٢ سورة البقرة.

(٢) فى تفسير الطبري وفى المغني «به» أي بهذا الكلام ، وهو لم تلدنى لئيمة. وقائله زائد بن صعصعة الفقعسي يعرض بزوجته وكانت أمها سرية ؛ وقبله :

رمتنى عن قوس العدوّ وباعدت

عبيدة زاد الله ما بيننا بعدا

(مغنى اللبيب ج ١ : ٢٥).

(٣) فى ج ، ش : سيرة.

(٤) فى ج ، ش : «وأما قوله».

(٥) فى ش ، ج : «ولكن عصينا».

(٦) آية ٨٢ سورة يوسف.

٦١

حسبت بغام راحلتى عناقا

وما هى ويب غيرك بالعناق (١)

ومعناه (٢) : بغام عناق ؛ ومثله من كتاب الله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) معناه والله أعلم : ولكنّ البرّ (٣) برّ من فعل هذه الأفاعيل التي وصف الله. والعرب قد تقول : إذا سرّك أن تنظر إلى السّخاء فانظر إلى هرم أو إلى حاتم. وأنشدنى بعضهم (٤) :

يقولون جاهد يا جميل بغزوة

وإنّ جهادا طىّء وقتالها

يجزىء ذكر الاسم من فعله (٥) إذا كان معروفا بسخاء أو شجاعة وأشباه ذلك.

وقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ...) (٩٤) يقول : إن كان الأمر على ما تقولون من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا أو نصرانيا (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فأبوا ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (والله لا يقوله أحد إلا غصّ بريقه) (٦). ثم إنه وصفهم فقال : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) معناه والله أعلم : وأحرص من الذين أشركوا على الحياة. ومثله أن تقول : هذا أسخى

__________________

(١) البيت من أبيات لذى الخرق الطهوىّ يخاطب ذئبا تبعه فى طريقه ، وقبله :

ألم تعجب لذئب بات يسرى

ليؤذن صاحبا له باللحاق

و «ويب» كلمة مثل «وبل» تقول : ويبك وويب زيد كما تقول ويلك ؛ معناه : ألزمك الله ويلا نصب نصب المصادر. فإن جئت باللام رفعت ، قلت : ويب لزيد ونصبت منونا فقلت ويبا لزيد. وبغام الناقة صوت لا تفصح به. والعناق : الأنثى من المعز.

(٢) فى ج ، ش : «أراد بغام راحلتى بغام عناق إلخ».

(٣) «معناه والله أعلم ولكن البر» ساقط من ج ، ش.

(٤) فى ج ، ش : بعض العرب.

(٥) فى الطبري : «من ذكر فعله».

(٦) هكذا نص الحديث فى كل الأصول ، ورواية البيهقىّ عن ابن عباس مرفوعا : (لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه) ولهذا الحديث روايات أخرى تطلب من مظانها.

٦٢

النّاس ومن هرم. لأن التأويل للأوّل هو أسخى من الناس ومن هرم ؛ ثمّ إنه وصف المجوس فقال : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) وذلك أن تحيتهم فيما بينهم : (زه (١) هزار سال). فهذا تفسيره : عش ألف (٢) سنة.

وأما قوله : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ ، ...) (٩٧)

[يعنى القرآن] (٣) (عَلى قَلْبِكَ) [هذا أمر] (٤) أمر الله به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قل لهم لما قالوا عدوّنا جبريل وأخبره الله بذلك ، فقال : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) يعنى قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلو كان فى هذا الموضع «على قلبى» وهو يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكان صوابا. ومثله فى الكلام : لا تقل للقوم إن الخير عندى ، وعندك ؛ أمّا عندك فجاز ؛ لأنه كالخطاب ، وأمّا عندى فهو قول المتكلم بعينه. يأتى هذا من تأويل قوله : (سَتُغْلَبُونَ) و (سَيَغْلِبُونَ) (٥) بالتاء والياء.

وقوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ...) (١٠٢)

(كما تقول فى ملك سليمان) (٦). تصلح «فى» و «على» فى مثل هذا الموضع ؛ تقول : أتيته فى عهد سليمان وعلى عهده سواء.

__________________

(١) زه معناها فى العربية : عش ، وهزار معناها : ألف ، وسال معناها : سنة.

(٢) فى تفسير الطبري : عن ابن عباس فى قوله (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال هو قول الأعاجم : سال زه نوروز مهرجان ، وعن ابن جبير قال : هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس : زه هزار سال.

(٣) ساقط من أ.

(٤) ساقط من أ.

(٥) آية ١٢ سورة آل عمران ، والقراءة بياء الغيبة أي بلغهم أنهم سيغلبون ، وبتاء الخطاب أي قل لهم فى خطابك إياهم ستغلبون.

(٦) سقط ما بين القوسين فى أ.

٦٣

وقوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ...) (١٠٢)

القرّاء يقرءون (الْمَلَكَيْنِ) من الملائكة. وكان ابن عباس يقول : (الْمَلَكَيْنِ) من الملوك.

وقوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ ...) (١٠٢)

أما السّحر فمن عمل الشياطين ، فيتعلمون من الملكين كلاما إذا قيل أخذ (١) به الرجل عن امرأته. ثم قال : ومن قول الملكين إذا تعلّم منهما ذلك : لا تكفر. (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ، فَيَتَعَلَّمُونَ) ليست بجواب لقوله : (وَما يُعَلِّمانِ) إنما هى مردودة على قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) فيتعلّمون ما يضرهم ولا ينفعهم ؛ فهذا وجه. ويكون (فَيَتَعَلَّمُونَ) متصلة بقوله : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) فيأبون فيتعلّمون ما يضرّهم ، وكأنه أجود الوجهين فى العربية (٢). والله أعلم.

وقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ...) (١٠٦)

أو ننسئها ـ (أَوْ نُنْسِها) عامة القرّاء يجعلونه من النسيان ، وفى قراءة عبد الله : / «ما ننسك من آية أو ننسخها نجىء بمثلها أو خير منها» وفى قراءة سالم مولى أبى حذيفة : «ما ننسخ من آية أو ننسكها» ، فهذا يقوّى النّسيان. والنّسخ أن يعمل بالآية ثم تنزل الأخرى فيعمل بها وتترك الأولى. والنّسيان هاهنا على وجهين : أحدهما ـ على الترك ؛ نتركها فلا ننسخها كما قال الله جل ذكره : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (٣) يريد تركوه فتركهم. والوجه الآخر ـ من النّسيان الذي

__________________

(١) أخذ (بتشديد الخاء) : حبس ومنع. وقد أخذت الساحرة الرجل تأخيذا.

(٢) لعل الوجه الأوّل هو ما أشار إليه المؤلف أوّلا ، وهو عطف «فيتعلمون» على موضع «ما يعلمان» وقد أجازه بعضهم ؛ لأن قوله : «وما يعلمان» وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب فى التعليم. وهناك أعاريب أخرى.

(٣) آية ٦٧ سورة التوبة.

٦٤

ينسى ، كما قال الله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) (١) وكان بعضهم يقرأ : «أو ننسأها» يهمز يريد نؤخرها من النّسيئة ؛ وكلّ حسن. حدثنا الفرّاء قال : (٢) وحدّثنى قيس (٣) عن هشام بن عروة بإسناد برفعه إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سمع رجلا يقرأ فقال : (يرحم الله هذا ، هذا أذكرنى آيات قد كنت أنسيتهنّ).

وقوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ...) (١٠٢)

من فى موضع رفع وهى جزاء (٤) ؛ لأن العرب (٥) إذا أحدثت على الجزاء هذه اللام صيّروا فعله على جهة فعل. ولا يكادون يجعلونه على يفعل كراهة أن يحدث على الجزاء حادث وهو مجزوم ؛ ألا ترى أنهم يقولون : سل عمّا شئت ، وتقول : لا آتيك ما عشت ، ولا يقولون ما تعش ؛ لأن «ما» فى تأويل جزاء

__________________

(١) آية ٢٤ سورة الكهف.

(٢) فى ج ، ش : «قال حدثنا قيس».

(٣) هو قيس ابن الربيع الأسدىّ الكوفىّ. مات سنة ١٦٥ ه‍. وانظر الخلاصة والتهذيب وتاريخ بغداد.

(٤) «ولقد علموا لمن اشتراه ما له فى الآخرة من خلاق» اللام للقسم و «من» اسم موصول مبتدأ وجملة «اشتراه» صلة الموصول ، وجملة «ما له فى الآخرة من خلاق» مبتدأ وخبر ، و «من» زائدة فى المبتدأ «خلاق» للتوكيد ، و «فى الآخرة» متعلق بمحذوف حال منه ، ولو أخر عنه لكان صفة له ، وهذه الجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «من» والجملة كلها «لمن اشتراه ما له فى الآخرة من خلاق» فى محل نصب سادة مسدّ مفعولى «علموا». هذا هو الظاهر عند النحويين ؛ وقال الفرّاء : إن «من» أداة شرط مبتدأ ، واللام فى «لمن» موطئة للقسم.

والمشهور أن اللام الداخلة على «قد» فى مثل الآية إنما هى لام القسم ، أما اللام الداخلة على أداة الشرط فهى للإيذان بأن الجواب بعدها مرتب على قسم قبلها لا على الشرط ، ولذلك تسمى اللام المؤذنة ، وتسمى الموطئة أيضا لأنها وطأت الجواب للقسم أي مهدته له. وحيث أغنى جواب القسم عن جواب الشرط لزم كون فعل الشرط ماضيا ولو معنى كالمضارع المنفي بلم غالبا ـ هذا ـ وقد يغنى عن القسم جوابه لدليل يدل عليه كما إذا وقع بعد «لقد» أو بعد «لئن» نحو «ولقد صدقكم الله وعده» و «لئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون». وراجع إعراب الآية فى تفسير الطبري.

(٥) فى ج ، ش : «إلا أن العرب».

٦٥

وقد وقع ما قبلها عليها ، فصرفوا الفعل إلى فعل ؛ لأن الحزم لا يستبين فى فعل ، فصيّروا حدوث اللام ـ وإن كانت لا تعرّب شيئا ـ كالذى يعرّب ، ثم صيّروا جواب الجزاء بما تلقى به اليمين ـ يريد تستقبل به ـ إمّا بلام ، وإما ب «لا» ، وإما «إن» وإمّا ب «ما» ؛ فتقول فى «ما» : لئن أتيتنى ما ذلك لك بضائع ، وفى «إن» : لئن أتيتنى إنّ ذلك لمشكور لك ـ قال الفراء : لا يكتب لئن إلا بالياء ليفرق بينها وبين لأن (١) ـ وفى «لا» : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) (٢) وفى اللام (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) (٣) وإنما صيّروا جواب الجزاء كجواب اليمين لأن اللام التي دخلت فى قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) وفى قوله : (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) (٤) وفى قوله : (لَئِنْ أُخْرِجُوا) إنما هى لام اليمين ؛ كان موضعها فى آخر الكلام ؛ فلمّا صارت فى أوله صارت كاليمين ، فلقيت بما يلقّى به اليمين ، وإن أظهرت الفعل بعدها على يفعل جاز ذلك وجزمته ؛ فقلت : لئن تقم لا يقم إليك ، وقال الشاعر (٥) :

لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم

ليعلم ربّى أنّ بيتي واسع

__________________

(١) ما بين الخطين ساقط من ج ، ش.

(٢ ، ٣) آية ١٢ سورة الحشر.

(٤) آية ٨١ من سورة آل عمران : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) اللام للابتداء وتوكيد معنى القسم الذي فى ضمن أخذ الميثاق ، وجواب القسم جملة «لتؤمنن به» و «ما» جعلها الفراء شرطية ، والأولى أن تكون موصولا مبتدأ خبره محذوف. وقال العكبري : وفى الخبر وجهان ؛ أحدهما أنه «من كتاب وحكمة» أي الذي أوتيتموه من الكتاب ، والنكرة هنا كالمعرفة. والثاني أن الخبر جملة القسم المحذوف وجوابه الذي هو جملة «لتؤمنن به». وراجع السمين والزمخشري فى الآية.

(٥) البيت للكميت بن معروف ، وهو شاعر مخضرم ، والشاهد فيه أن فعل الشرط المحذوف جوابه قد جاء مضارعا فى ضرورة الشعر ، والقياس «لئن كانت». وفيه شاهد آخر وهو أن المضارع الواقع جوابا للقسم إن كان للحال لا للمستقبل وجب الاكتفاء فيه باللام ، وامتنع توكيده بالنون كما هنا ؛ فإن المعنى : ليعلم الآن ربى.

٦٦

وأنشدنى بعض (١) بنى عقيل :

لئن كان ما حدّثته اليوم صادقا

أصم فى نهار القيظ للشّمس باديا

وأركب حمارا بين سرج وفروة

وأعر من الخاتام صغرى شماليا (٢)

فألقى جواب اليمين من الفعل ، وكان الوجه فى الكلام أن يقول : لئن كان كذا لآتينك ، وتوهم إلغاء اللام كما قال الآخر (٣) :

فلا يدعنى قومى صريحا لحرّة

لئن كنت مقتولا ويسلم عامر

فاللام فى «لئن» ملغاة ، ولكنها كثرت فى الكلام حتى صارت بمنزلة (٤) «إن» ، ألا ترى أن الشاعر قد قال :

فلئن قوم أصابوا غرّة

وأصبنا من زمان رققا (٥)

للقد كانوا لدى أزماننا

لصنيعين لبأس وتقى (٦)

__________________

(١) يريد امرأة منهم. ويقول الفراء فى سورة الإسراء فى هذين البيتين : «وأنشدتنى امرأة عقيلية فصيحة».

(٢) الشاهد أنه جاء الفعل «أصم» جوابا مجزوما لإن الشرطية بعد تقدم القسم المشعر به اللام الموطئة ، وهو قليل فى الشعر. وقيل إن اللام زائدة. و «ما» عبارة عن الكلام. والقيظ : شدة الحر. والبادي : البارز. وركوب الحمار بين الفروة والسرج هيئة من يندد به ويفضح بين الناس. وأعر : مضارع أعراه أي جعله عاريا. والخاتام لغة فى الخاتم. وصغرى الشمال خنصرها فإن الخاتم يكون زينة للشمال ، واليمين لها فضيلة اليمين. يقول : إن كان ما نقل لك عنى من الحديث صحيحا فجعلنى الله صائما فى تلك الصفة الشاقة ، وأركبنى حمارا للخزى والفضيحة وجعل شمالى عارية من حسنها وزينتها بقطعها. (خزانة الأدب ج ٤ : ٥٣٨).

(٣) قائله قيس بن زهير العبسي ، وتقدير البيت : لئن قتلت و «عامر» سالم من القتل فلست بصريح النسب حر الأم ؛ وأراد عامر بن الطفيل. و «يسلم» على القطع والاستئناف ، ولو نصب بإضمار «أن» لأن ما قبله من الشرط غير واجب لجاز. (هامش سيبويه ج ١ : ٤٢٧).

وقال ابن مالك : وقد يستغنى بعد «لئن» عن جواب لتقدم ما يدل عليه فيحكم بأن اللام زائدة ، فمن ذلك قول عمر بن أبى ربيعة :

ألمم بزينب إن البين قد أفدا

قل الثواء لئن كان الرحيل غدا

ومثله : فلا يدعنى قوم ... البيت. وقال فى شرح الكافية : لا قسم فى مثل هذه الصورة ، فلا يكون إلا شرط.

(٤) فى ج ، ش : «كأنها».

(٥) «غرة» فى شعراء ابن قتيبة ١ / ٤٧ : «عزة». الرقق : رقة الطعام وقلته ، وفى ماله رقق أي قلة ، وذكره القراء بالنفي فقال : يقال ما فى ماله رقق ، أي قلة.

(٦) كذا. والمعنى غير واضح. وقد يكون الأصل : للقد أ ......

٦٧

فأدخل على «لقد» لا ما أخرى لكثرة ما تلزم العرب اللام فى «لقد» حتى صارت كأنها منها. وأنشدنى بعض بنى أسد :

لددتهم النّصيحة كلّ لدّ

فمجّوا النّصح ثم ثنوا فقاءوا

فلا والله لا يلفى لما بي

ولا للمابهم أبدا دواء (١)

ومثله قول الشاعر :

كما ما امرؤ فى معشر غير رهطه

ضعيف الكلام شخصه متضائل

قال : «كما» ثم زاد معها «ما» أخرى لكثرة «كما» فى الكلام فصارت كأنها منها. وقال الأعشى :

لئن منيت بنا عن غبّ معركة

لا تلفنا من دماء القوم ننتفل (٢)

فجزم «لا تلفنا» والوجه الرفع كما قال الله : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) (٣) ولكنه لمّا جاء بعد حرف ينوى به الجزم صيّر جزما جوابا للمجزوم وهو فى معنى رفع. وأنشدنى القاسم بن معن (عن العرب) (٤) :

__________________

(١) البيتان من قصيدة طويلة لمسلم بن معبد الوالبي. والشاهد فى قوله : «للما» حيث كررت فيه اللام للتأكيد وهى حرف واحد بدون ذكر مجرور الأولى ، وهو على غاية الشذوذ والقلة ، والقياس (لما بهم لما بهم). ولددتهم هنا بمعنى ألزمتهم ؛ يقول : ألزمتهم النصيحة كل الإلزام فلم يقبلوا ، ولا يوجد شفاء لما بي من الكدر ولا لما بهم من داء الحسد. ويروى عجز البيت :

وما بهم من البلوى دواء

وانظر الخزانة ١ / ٣٦٤.

(٢) منيت : أي بليت وقدر لك. و «عن غب معركة» «عن» بمعنى بعد ، والغب : العاقبة. وانتقل من الشيء : انتفى منه وتنضل. والشاهد فى البيت أن الشرط قد يجاب مع تقدم القسم عليه ، وهو قليل خاص بالشعر.

وقال ابن هشام : إن اللام فى «لئن» زائدة وليست موطئة كما زعم الفراء.

(٣). ١٢ آية سورة الحشر.

(٤) سقط فى أ.

٦٨

حلفت له إن تدلج اللّيل لا يزل

أمامك بيت من بيوتى سائر (١)

والمعنى حلفت له لا يزال أمامك بيت ، فلما جاء بعد المجزوم صيّر جوابا للجزم. ومثله فى العربية : آتيك كى (إن تحدّثنى (٢) بحديث أسمعه منك ، فلما جاء بعد المجزوم جزم).

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا ...) (١٠٤) هو (٣) من الإرعاء والمراعاة ، (وفى) (٤) قراءة عبد الله «لا تقولوا راعونا» وذلك أنها كلمة باليهودية شتم ، فلمّا سمعت اليهود أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : يا نبىّ الله راعنا (٥) ، اغتنموها فقالوا : قد كنا نسبّه فى أنفسنا فنحن الآن قد أمكننا أن نظهر له السّبّ ، فجعلوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : راعنا ، ويضحك بعضهم إلى بعض ، ففطن لها رجل (٦) من الأنصار ، فقال لهم : والله لا يتكلم بها رجل

__________________

(١) البيت شاهد على جزم «لا يزل» فى ضرورة الشعر بجعله جواب الشرط وكان القياس أن يرفع ويجعل جوابا للقسم ، لكنه جزم للضرورة ، فيكون جواب القسم محذوفا مدلولا عليه بجواب الشرط. وتدلج : مضارع أدلج أي سار الليل كله. وأراد بالبيت جماعة من أقاربه ؛ يقول : إن سافرت بالليل أرسلت جماعة من أهلى يسيرون أمامك يخفرونك ويحرسونك إلى أن تصل إلى مأمنك.

(٢) فى ج ، ش : «إن تحدث بحديث أسمعه منك ، فلما جاء بعد الجزم جزم».

(٣) فى ج : «وهو».

(٤) فى ج : «وهو فى».

(٥) راعنا : أمر من المراعاة وهى الحفظ. وفى الصحاح : «أرعيته سمعى أي أصغيت إليه ، ومنه قوله تعالى : (راعِنا) قال الأخفش : «هو فاعلنا من المراعاة على معنى أرعنا سمعك ، ولكن الياء ذهبت للأمر». والأقرب أن المراعاة هنا مبالغة فى الرعي أي حفظ المرء غيره ، وتدبير أموره. وقراءة عبد الله بن مسعود «راعونا» على إسناد الفعل إلى ضمير الجمع للتوقير.

(٦) هو سعد بن معاذ الأنصاري الأوسى رضى الله عنه ؛ وكان يعرف لغتهم. شهد بدرا وأحدا ، وتوفى سنة خمس من الهجرة بسبب جرح أصابه فى غزوة الخندق.

٦٩

إلا ضربت عنقه ، فأنزل الله (١) (لا تَقُولُوا راعِنا) ينهى المسلمين (٢) عنها ؛ إذ كانت سبّا عند اليهود. وقد قرأها الحسن البصرىّ : (لا تَقُولُوا راعِنا) بالتنوين ، يقول : لا تقولوا حمقا ، وينصب بالقول ؛ كما تقول : قالوا خيرا وقالوا شرّا.

وقوله : (وَقُولُوا انْظُرْنا) أي انتظرنا. و (انْظُرْنا) : أخّرنا ، (قال الله) (٣) : ([قالَ] أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يريد (٤) أخّرنى ، وفى سورة الحديد [يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ] (لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (٥) خفيفة الألف على معنى الانتظار. وقرأها حمزة الزيّات : (لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا) على معنى التأخير.

وقوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ...) (١٠٥)

معناه : ومن المشركين (٦) ، ولو كانت «المشركون» رفعا مردودة على (الَّذِينَ كَفَرُوا) كان صوابا [تريد ما يودّ الذين كفروا ولا المشركون] (٧) ، ومثلها فى المائدة : ([يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً] مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) (٨) ، قرئت بالوجهين : [والكفار ، والكفار] (٩) ، وهى فى قراءة عبد الله : «ومن الكفّار أولياء». وكذلك قوله :

__________________

(١) فى ش ، ج زيادة قبل الآية : «ينهى المسلمين».

(٢) فى نسخة أ : «ينهى المسلم».

(٣) فى أ : «كقوله».

(٤) فى ج ، ش : «يقول».

(٥) آية ١٣ من السورة المذكورة.

(٦) «ومن المشركين» ساقط من أ.

(٧) ما بين المربعين ساقط من أ.

(٨) آية ٥٧ من السورة المذكورة.

(٩) ساقط من أ.

٧٠

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) (١) فى موضع خفض على قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : ومن المشركين ، ولو كانت رفعا كان صوابا ؛ تردّ على الذين كفروا.

وقوله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ ...) (١٠٨)

(أَمْ) (فى المعنى) (٢) تكون ردّا على الاستفهام على جهتين ؛ إحداهما : أن تفرّق (٣) معنى «أى» ، والأخرى أن يستفهم بها. فتكون (٤) على جهة النسق ، والذي ينوى بها الابتداء إلّا أنه ابتداء متّصل بكلام. فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ، ثم استفهمت لم يكن إلّا بالألف أو بهل ؛ ومن ذلك قول الله : (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) (٥) ، فجاءت (أَمْ) وليس قبلها استفهام ، فهذا دليل على أنها استفهام مبتدأ على كلام قد سبقه. وأمّا قوله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) فإن شئت جعلته على مثل هذا ، وإن شئت قلت : قبله استفهام فردّ عليه ؛ وهو قول الله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وكذلك قوله : (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) (٦) فإن شئت جعلته استفهاما مبتدأ قد سبقه كلام ، وإن شئت جعلته مردودا على قوله : (ما لَنا لا نَرى رِجالاً) وقد قرأ بعض

__________________

(١) آية ١ سورة البينة.

(٢) سقط فى أ.

(٣) فى الطبري : «تعرّف».

(٤) هذا إيضاح لجهتى (أم). فهى فى الجهة الأولى أداة نسق ، وفى الجهة الثانية ليست أداة نسق بل ينوى بها الابتداء على ما وصف.

(٥) آية ٣ سورة السجدة.

(٦) آية ٦٢ ، ٦٣ سورة ص.

٧١

القرّاء : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) يستفهم فى (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) بقطع الألف لينسّق عليه (أَمْ) لأن أكثر ما تجىء مع الألف ؛ وكلّ صواب. ومثله : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) ثم قال : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا) والتفسير فيهما واحد. وربّما جعلت العرب (أَمْ) إذا سبقها استفهام لا تصلح أىّ فيه على جهة بل ؛ فيقولون : هل لك قبلنا حق أم أنت رجل معروف بالظّلم. يريدون : بل أنت رجل معروف بالظّلم ؛ وقال الشاعر :

فو الله ما أدرى أسلمى تغوّلت (١)

أم النّوم أم كلّ إلىّ حبيب

معناه [بل كلّ إلىّ حبيب] (٢).

وكذلك تفعل العرب فى «أو» فيجعلونها نسقا مفرّقة لمعنى ما صلحت فيه «أحد» ، و «إحدى» كقولك : اضرب أحدهما زيدا أو عمرا ، فإذا وقعت فى كلام لا يراد به أحد وإن صلحت جعلوها على جهة بل ؛ كقولك فى الكلام : اذهب إلى فلان أو دع ذلك فلا تبرح اليوم. فقد دلّك هذا على أن الرجل قد رجع عن أمره الأوّل وجعل «أو» فى معنى «بل» ؛ ومنه قول الله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) وأنشدنى بعض العرب (٣) :

بدت مثل قرن الشّمس فى رونق الضّحى

وصورتها أو أنت فى العين أملح (٤)

يريد : بل أنت.

__________________

(١) تغوّلت المرأة : تلونت.

(٢) الزيادة من تفسير الطبري.

(٣) آية ١٤٧ سورة والصافات.

(٤) قرن الشمس : أعلاها. «وصورتها» بالجرّ عطف على قرن. وأملح : من ملح الشيء (بالضم) ملاحة أي بهج وحسن منظره. والبيت نسبه ابن جنى فى المحتسب إلى ذى الرمة ، ولم نجده فى ديوانه.

٧٢

وقوله : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١٠٨)

و (سَواءَ) (١) فى هذا الموضع قصد ، وقد تكون (سَواءَ) (٢) فى مذهب غير ؛ كقولك للرجل : أتيت سواءك.

وقوله : (كُفَّاراً ...) (١٠٩)

هاهنا (٣) انقطع الكلام ، ثم قال : (حَسَداً) كالمفسّر لم ينصب على أنه نعت للكفّار (٤) ، إنما هو كقولك للرجل : هو يريد بك الشر حسدا وبغيا.

وقوله : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ...) (١٠٩)

من قبل أنفسهم لم يؤمروا به فى كتبهم.

وقوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ...) (١١١)

يريد يهوديّا ، فحذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهوديّة. وهى فى قراءة أبيّ وعبد الله : «إلّا من كان يهوديا أو نصرانيّا» وقد يكون أن تجعل اليهود جمعا واحده هائد (ممدود (٥) ، وهو مثل حائل ممدود) (٦) ـ من النوق ـ وحول ، وعائط (٧) وعوط وعيط وعوطط.

__________________

(١) فى ج : «سواء للسبيل».

(٢) كذا فى أ ، وفى ج : «على».

(٣) «هاهنا» ساقط من أ.

(٤) فى القرطبي : «حسدا» مفعول له أو مصدر دل ما قبله على الفعل.

(٥) فى أ : «وهود ، مثل حائل».

(٦) الناقة الحائل : التي حمل عليها الفحل فلم تلقح.

(٧) العائط من النوق : الحائل.

٧٣

وقوله : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) (١١٤) هذه (١) الرّوم كانوا غزوا بيت المقدس فقتلوا وحرّقوا وخرّبوا المسجد. وإنما أظهر الله عليهم المسلمين فى زمن عمر ـ رحمه‌الله ـ فبنوه ، (ولم) (٢) تكن الروم تدخله إلا مستخفين ، لو علم بهم لقتلوا.

وقوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ...) (١١٤)

يقال : إن مدينتهم الأولى أظهر الله عليها المسلمين فقتلوا مقاتلهم ، وسبوا الذراري والنساء ، فذلك الخزي.

وقوله : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١٤)

يقول فيما وعد الله المسلمين من فتح الروم ، ولم يكن بعد (٣).

وقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (١١٦)

يريد مطيعون ، وهذه خاصّة لأهل الطاعة ليست بعامّة.

وقوله : (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧)

رفع ولا يكون نصبا ، إنما (٤) هى مردودة على (يَقُولُ) [فإنما يقول فيكون] (٥). وكذلك قوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ) (٦) رفع لا غير. وأمّا التي فى النحل : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فإنها نصب (٧) ،

__________________

(١) فى ج : «فهذه».

(٢) فى ج : «فلم».

(٣) فى ج ، ش : «ولما يكن بعد».

(٤) فى ج ، ش : «إنها مردودة».

(٥) ما بين المربعين من ج ، ش.

(٦) آية ٧٣ سورة الأنعام.

(٧) قوله : «نصب» ؛ هذا فى قراءة ابن عامر والكسائي عطفا على «أن نقول». والباقون بالرفع على معنى فهو يكون.

٧٤

وكذلك التي فى «يس» نصب ؛ لأنّها مردوة على فعل قد نصب بأن ، وأكثر القرّاء على رفعهما. والرفع صواب ، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله : (إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ) فقد تمّ الكلام ، ثم قال : فسيكون ما أراد الله. وإنّه لأحبّ الوجهين إلىّ ، وإن كان الكسائىّ لا يجيز الرفع فيهما ويذهب إلى النّسق.

وقوله : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ...) (١١٨)

يقول : تشابهت قلوبهم (١) فى اتفاقهم على الكفر. فجعله اشتباها. ولا يجوز تشّابهت بالتثقيل ؛ لأنّه لا يستقيم دخول تاءين زائدتين فى تفاعلت ولا فى أشباهها. وإنما يجوز الإدغام إذا قلت فى الاستقبال : تتشابه (عن قليل) (٢) فتدغم التاء الثانية عند الشين.

وقوله : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) (١١٩)

قرأها ابن عباس [وأبو جعفر] (٣) محمد بن علىّ بن الحسين جزما ، وقرأها بعض أهل المدينة جزما ، وجاء التفسير بذلك ، [إلا أنّ التفسير (٤)] على فتح التاء على النهى. والقرّاء [بعد] (٥) على رفعها على الخبر : ولست تسئل ، وفى قراءة أبىّ «وما تسئل» وفى قراءة عبد الله : «ولن تسأل» وهما شاهدان (٦) للرفع.

وقوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ ...) (١٢٣)

يقال : فدية.

__________________

(١) سقط فى أ.

(٢) كأنه يريد : عن قليل من العرب أو من القرّاء ، وهو متعلق بقوله : «يجوز الإدغام ...».

(٣) ساقط من أ.

(٤ ، ٥) ما بين المربعين ساقط من أ.

«بعد» ساقط من أ.

(٦) فى ج ، ش : «وكلاهما يشهد».

٧٥

وقوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ...) (١٢٤)

يقال : أمره بخلال عشر من السّنّة ؛ خمس فى الرأس ، وخمس فى الجسد ؛ فأما اللاتي فى الرأس فالفرق (١) ، وقصّ الشّارب ، والاستنشاق ، والمضمضة ، والسّواك.

وأما اللاتي فى الجسد فالختان ، وحلق العانة ، وتقليم الأظافر ، ونتف الرفغين يعنى الإبطين. قال الفرّاء : * ويقال للواحد رفع (٢) * والاستنجاء.

(فَأَتَمَّهُنَ) : عمل بهنّ ؛ فقال الله تبارك وتعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) : يهتدى بهداك ويستنّ بك ، فقال : ربّ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على المسألة (٣).

وقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ...) (١٢٤)

يقول : لا يكون للمسلمين إمام مشرك. وفى قراءة عبد الله : «لا ينال عهدى الظّالمون». وقد فسّر هذا لأن (٤) ما نالك فقد نلته ، كما تقول : نلت خيرك ، ونالنى خيرك.

وقوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ ...) (١٢٥)

يثوبون إليه ـ من المثابة والمثاب ـ أراد : من كل مكان. والمثابة (٥) فى كلام العرب كالواحد ؛ مثل المقام والمقامة.

__________________

(١) أي فرق الشعر. وهو تفريقه فى وسط الرأس ، لا يترك جملة واحدة ، ليكون ذلك أعون على تسريحه وتنظيفه.

(٢) ما بين النجمتين ساقط من ج ، ش.

(٣) أي مسألة من إبراهيم ربه ، سأله إياها أن يكون من ذرّيته مثاله : من يؤتم به ويقتدى به ويهتدى بهديه.

(٤) كذا والأحسن : «بأن».

(٥) المثابة فى اللغة : مجتمع الناس بعد تفرقهم كالمثاب ، والموضع الذي يئاب إليه أي يرجع إليه مرة بعد أخرى. وقوله : «كالواحد» يريد به المثاب. وهو يريد الردّ على من زعم أن تأنيث مثابة لمعنى الجماعة كالسيارة. وانظر تفسير الطبري.

٧٦

وقوله : (وَأَمْناً ...) (١٢٥)

يقال (١) : إن من جنى جناية أو أصاب حدّا ثم عاذ بالحرم لم يقم عليه حدّه حتى يخرج من الحرم ، ويؤمر بألّا يخالط ولا يبايع ، وأن يضيّق عليه (حتى يخرج) (٢) ليقام عليه الحدّ ، فذلك أمنه. ومن جنى من أهل الحرم جناية أو أصاب حدّا أقيم عليه فى الحرم.

وقوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ...) (١٢٥)

وقد قرأت القرّاء بمعنى (٣) الجزم [والتفسير مع أصحاب الجزم] (٤) ، ومن قرأ (وَاتَّخِذُوا) ففتح الخاء كان خبرا ؛ يقول (٥) : جعلناه مثابة لهم واتخذوه مصلى ، وكلّ صواب إن شاء الله.

وقوله : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ ...) (١٢٥)

يريد : من الأصنام ألّا (٦) تعلّق فيه.

وقوله : (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ ...) (١٢٥)

يعنى أهله (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) يعنى أهل الإسلام.

__________________

(١) فى أ : «يقول».

(٢) فى ج : «فيخرج».

(٣) فى ج ، ش : «بعد بالجزم» يريد بالجزم الأمر.

(٤) ما بين المربعين فى ج ، ش.

(٥) فى أ : «أي».

(٦) كذا فى ج. وفى أ : «لا» وقوله : «ألا تعلق» أي إرادة ألا تعلق.

٧٧

وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ ...) (١٢٦)

من قول الله تبارك وتعالى (فَأُمَتِّعُهُ) على الخبر. وفى قراءة أبىّ «ومن كفر فنمتّعه قليلا ثمّ نضطرّه إلى عذاب النار» (فهذا وجه) (١). وكان ابن عباس يجعلها متّصلة بمسئلة إبراهيم (٢) صلى الله عليه على معنى : ربّ (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) (منصوبة موصولة) (٣). يريد ثم اضطرره ؛ فإذا تركت التضعيف نصبت ، وجاز فى هذا المذهب كسر الراء فى لغة الذين يقولون مدّه. وقرأ يحيى بن وثّاب : (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) بكسر الألف كما تقول : أنا اعلم ذاك.

وقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) (١٢٧)

يقال هى إساس (٤) البيت. واحدتها قاعدة ، ومن النساء (٥) اللواتى قد قعدن عن المحيض قاعد بغيرها. ويقال لأمرأة الرجل قعيدته.

وقوله : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا ...) (١٢٧)

يريد : يقولان ربنا. وهى فى قراءة عبد الله «ويقولان ربنا».

__________________

(١) سقط فى أ.

(٢) فى الطبري : كان ابن عباس يقول : ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا بتخفيف التاء وسكون العين وفتح الراء من اضطره ، وفصل ثم اضطره بغير قطع همزتها على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة.

(٣) (منصوبة) أي مفتوحة الراء ، و (موصولة) أي بهمزة الوصل لا بهمزة القطع.

(٤) هو جمع أس ، بضم الهمزة. وهذا الضبط عن اللسان فى قعد. وضبط فى أ : «آساس» وهو جمع أس أيضا.

(٥) يريد : والواحدة من النساء ... أي الواحدة من القواعد بهذا المعنى.

٧٨

وقوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا ...) (١٢٨)

وفى قراءة عبد الله : «وأرناهم مناسكهم» ذهب إلى الذّرّيّة. (وَأَرِنا) ضمّهم إلى نفسه ، فصاروا كالمتكلّمين عن أنفسهم ؛ يدلّك على ذلك قوله : (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً) رجع إلى الذّرّيّة خاصّة.

وقوله : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ...) (١٣٠)

العرب توقع سفه على (نفسه) وهى معرفة. وكذلك قوله : (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) (١) وهى من المعرفة كالنكرة ، لأنه مفسّر ، والمفسّر فى أكثر الكلام نكرة ؛ كقولك : ضقت به ذرعا ، وقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) (٢) فالفعل للذّرع ؛ لأنك تقول : ضاق ذرعى به ، فلمّا جعلت الضيق مسندا إليك فقلت : ضقت جاء الذّرع مفسرا لأن الضيق فيه ؛ كما تقول : هو أوسعكم دارا. دخلت الدار لتدلّ على أن السعة فيها لا فى الرّجل ؛ وكذلك قولهم : قد وجعت بطنك ، ووثقت رأيك ـ أو ـ وفقت ، [قال أبو عبد الله (٣) : أكثر ظنّى وثقت بالثاء] (٤) إنما الفعل للأمر ، فلمّا أسند الفعل إلى الرجل صلح النصب فيما عاد بذكره على التفسير ؛ ولذلك لا يجوز تقديمه ، فلا يقال : رأيه سفه زيد ، كما لا يجوز دارا أنت أوسعهم ؛ لأنه وإن كان معرفة فإنه فى تأويل نكرة ، ويصيبه النصب فى موضع نصب النكرة ولا يجاوزه.

__________________

(١) آية ٥٨ سورة القصص.

(٢) آية ٤ سورة النساء.

(٣) هو محمد بن الجهم السمري مستملى الفراء وراوى الكتاب عنه.

(٤) ما بين الخطين ساقط من ج ، ش ـ هذا ـ وجاء فى اللسان مادة «وفق» : «وفق أمره يفق قال الكسائي يقال رشدت أمرك ووفقت رأيك ، ومعنى وفق أمره وجده موافقا ، وقال اللحيائى : وفقه وفهمه».

٧٩

وقوله : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ ...) (١٣٢)

فى مصاحف أهل المدينة «وأوصى» وكلاهما صواب كثير فى الكلام.

وقوله : (وَيَعْقُوبُ ...) (١٣٢)

أي ويعقوب وصّى بهذا أيضا. وفى إحدى القراءتين قراءة عبد الله أو (١) قراءة أبىّ : «أن يا بنىّ إن الله اصطفى لكم الدين» يوقع وصى على «أن» يريد وصّاهم «بأن» ، وليس فى قراءتنا «أن» ، وكلّ صواب. فمن ألقاها قال : الوصيّة قول ، وكلّ كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول أن ، وجاز إلقاء أن ؛ كما قال الله عزوجل فى النساء (٢) : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لأن الوصيّة كالقول ؛ وأنشدنى الكسائي :

إنى سأبدى لك فيما أبدى

لى شجنان شجن بنجد

وشجن لى ببلاد السند

لأن الإبداء فى المعنى بلسانه ؛ ومثله قول الله عزوجل (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) (٣) لأن العدة قول. فعلى هذا يبنى ما ورد من نحوه.

وقول النحويّين : إنما أراد : أن فألقيت ليس بشىء ؛ لأن هذا لو كان لجاز إلقاؤها مع ما يكون فى معنى القول وغيره.

__________________

(١) أو هنا للشك. فقد كان المؤلف حين الكتابة لهذا غير متثبت من الأمر ، وفى الحق أن هذه قراءة الرجلين معا ، كما فى البحر والقرطبىّ.

(٢) آية ١١ منها.

(٣) آية ٢٩ سورة الفتح.

٨٠