معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) (٢٣)

إن شئت جعلت خبر (البغي) فى قوله (على أنفسكم) (١) ثم تنصب (٢) (متاع الحياة الدنيا) كقولك : متعة فى الحياة الدنيا. ويصلح الرفع (٣) هاهنا على الاستئناف ؛ كما قال (لَمْ) (٤) (يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ) أي ذلك (بلاغ) وذلك (متاع الحياة الدنيا) وإن شئت جعلت الخبر فى المتاع. وهو وجه الكلام.

وقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) (٢٦)

فى موضع رفع. يقال إن الحسنى الحسنة. (وزيادة) حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرّاء قال حدثنى أبو الأحوص سلّام (٥) بن سليم عن أبى إسحاق السبيعىّ عن رجل عن أبى بكر الصدّيق رحمه‌الله قال : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة : النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى. ويقال (للذين أحسنوا الحسنى) يريد حسنة مثل (٦) حسناتهم (وزيادة) زيادة التضعيف كقوله (فَلَهُ) (٧) (عَشْرُ أَمْثالِها).

وقوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) (٢٧)

رفعت الجزاء بإضمار (لهم) كأنك قلت : فلهم جزاء (٨) السيئة بمثلها ؛ كما قال (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) (٩) و (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) (١٠) والمعنى : فعليه صيام ثلاثة أيام ، وعليه فدية. وإن شئت رفعت الجزاء بالباء فى قوله : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) والأوّل أعجب إلىّ.

__________________

(١) فى ش ، ج قبلها : «إن شئت» وهى زيادة من الناسخ.

(٢) وهى قراءة حفص وابن أبى اسحق.

(٣) وهو قراءة العامة غير حفص.

(٤) آية ٤٥ سورة الأحقاف.

(٥) هو الكوفي أحد الأثبات الثقات. توفى سنة ١٧٩ كما فى شذرات الذهب.

(٦) كذا فى أ. وفى ش ، ج : «من».

(٧) آية ١٦٠ سورة الأنعام.

(٨) سقط فى أ

(٩ ، ١٠) آية ١٩٦ سورة البقرة.

٤٦١

وقوله : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً) و (قطعا) (١). والقطع قراءة العامّة.

وهى فى مصحف أبى كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم فهذه حجة لمن قرأ بالتخفيف. وإن شئت جعلت المظلم وأنت تقول قطع قطعا (٢) من الليل ، وإن شئت جعلت المظلم نعتا للقطع ، فإذا قلت قطعا كان قطعا من الليل خاصة. والقطع ظلمة آخر الليل (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) (٣).

وقوله : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) (٢٨)

ليست من زلت ؛ إنما هى من زلت ذا من ذا : إذا فرّقت أنت ذا من ذا. وقال (فَزَيَّلْنا) لكثرة الفعل. ولو قلّ لقلت : زل ذا من ذا ؛ كقولك : مز ذا من ذا. وقرأ بعضهم فزايلنا بينهم وهو مثل قوله (يُراؤُنَ) ويرءّون (٤) (وَلا تُصَعِّرْ (٥) ، ولا تصاعر) والعرب تكاد توفّق بين فاعلت وفعّلت فى كثير من الكلام ، ما لم ترد فعلت بي وفعلت بك (٦) ، فإذا أرادوا هذا لم تكن إلا فاعلت. فإذا أردت : عاهدتك وراءيتك وما يكون الفعل فيه مفردا فهو الذي يحتمل فعلت وفاعلت. كذلك يقولون : كالمت فلانا وكلّمته ، وكانا متصارمين فصارا يتكالمان ويتكلّمان.

__________________

(١) هذه قراءة ابن كثير والكسائي ويعقوب.

(٢) يريد أن يكون المظلم حالا من الليل ، وكذا فى الوجه الآتي فى المتحرك. ولو كان «نعتا» كان أظهر ، ويكون المراد بالنعت الحال.

(٣) آية ٨١ سورة هود.

(٤) آية ١٤٢ سورة النساء. وقد قرأ بتشديد الهمزة ابن أبى إسحق.

(٥) آية ١٨ سورة لقمان. قرأ نافع وأبو عمرو والكسائي وخلف «تصاعر» والباقون «تصعر».

(٦) يعنى إذا كان الفعل بين اثنين.

٤٦٢

وقوله : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ) (٣٠)

قرأها عبد الله بن مسعود : (تتلو) (١) بالتاء. معناها ـ والله أعلم ـ : تتلو أي تقرأ كلّ نفس عملها فى كتاب ؛ كقوله (وَنُخْرِجُ) (٢) (لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) وقوله (فَأَمَّا) (٣) (مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ). وقوله (اقْرَأْ (٤) كِتابَكَ) قوّة لقراءة عبد الله. وقرأها مجاهد (٥) (تبلو كل نفس ما أسلفت) أي تخبره وتراه. وكلّ حسن. حدّثنا محمد قال حدّثنى الفرّاء قال حدّثنا محمد بن عبد العزيز التيمي عن مغيرة عن مجاهد أنه قرأ (تبلو) بالباء. وقال الفرّاء : حدّثنى بعض المشيخة عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس : (تبلو) تخبر ، وكذلك قرأها ابن عباس.

وقوله (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) (الحقّ) تجعله من صفات الله تبارك وتعالى. وإن شئت جعلته نصبا تريد : ردّوا إلى الله حقا. وإن شئت : مولاهم حقا.

وكذلك قوله : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) (٣٢)

فيه ما فى الأولى.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) (٣٣)

وقد يقرأ (كَلِمَةُ رَبِّكَ) و (كلمات ربك). قراءة أهل المدينة على الجمع.

وقوله : (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : حقّت عليهم لأنهم لا يؤمنون ، أو بأنهم لا يؤمنون ، فيكون موضعها نصبا إذا ألقيت الخافض. ولو كسرت فقلت :

__________________

(١) وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف.

(٢) آية ١٣ سورة الإسراء.

(٣) آية ١٩ سورة الحافة.

(٤) آية ١٤ سورة الإسراء.

(٥) هى قراءة غير حمزة والكسائي وخلف.

٤٦٣

«إنهم» كان صوابا على الابتداء. وكذلك قوله (آمَنْتُ) (١) (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) وكسرها أصحاب (٢) عبد الله على الابتداء.

وقوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) (٣٥)

يقول : تعبدون ما لا يقدر على النقلة من مكانه ، إلا أن يحوّل وتنقلوه.

وقوله : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) (٣٧)

المعنى ـ والله أعلم ـ : ما كان ينبغى لمثل هذا القرآن أن يفترى. وهو فى معنى : ما كان هذا القرآن ليفترى. ومثله (وَما كانَ (٣) الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي ما كان ينبغى لهم أن ينفروا ؛ لأنهم قد كانوا نفروا كافّة ، فدلّ المعنى على أنه لا ينبغى لهم أن يفعلوا مرّة أخرى. ومثله (وَما كانَ (٤) لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أي ما ينبغى لنبىّ أن يغلّ ، ولا يغل (٥). فجاءت (أن) على معنى ينبغى ؛ كما قال (ما لَكَ (٦) أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) والمعنى : منعك ، فأدخلت (أن) فى (مالك) إذ كان معناها : ما منعك. ويدلّ على أن معناهما واحد أنه قال له فى موضع : (ما منعك) (٧) ، وفى موضع (مالك) وقصّة إبليس واحدة.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ) (٤٤)

للعرب فى (لكن) لغتان : تشديد النون وإسكانها. فمن شدّدها نصب بها الأسماء ، ولم يلها فعل ولا يفعل. ومن خفّف نونها وأسكنها لم يعملها فى شىء اسم

__________________

(١) آية ٩٠ سورة يونس.

(٢) وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف.

(٣) آية ١٢٢ سورة التوبة.

(٤) آية ١٦١ سورة آل عمران.

(٥) يشير إلى القراءتين فى الآية. وانظر ص ٢٤٦ من هذا الجزء.

(٦) آية ٣٢ سورة الحجر.

(٧) كما فى الآية ١٢ من سورة الأعراف.

٤٦٤

ولا فعل ، وكان الذي يعمل فى الاسم الذي بعدها ما معه ، ينصبه أو يرفعه أو يخفضه ؛ من ذلك قوله (وَلكِنَ (١) النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(وَلكِنَ (٢) اللهَ رَمى)(وَلكِنَ (٣) الشَّياطِينَ كَفَرُوا) رفعت هذه الأحرف بالأفاعيل التي بعدها. وأمّا قوله (ما كانَ (٤) مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) فإنك أضمرت (كان) بعد (لكن) فنصبت بها ، ولو رفعته على أن تضمر (هو) : ولكن هو رسول الله كان صوابا. ومثله (وَما كانَ (٥) هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) و (تصديق). ومثله (ما كانَ (٦) حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) (وتصديق).

فإذا ألقيت من (لكن) الواو التي فى أوّلها آثرت العرب تخفيف نونها. وإذا أدخلوا الواو آثروا تشديدها. وإنما فعلوا ذلك لأنها رجوع عمّا أصاب أوّل الكلام ، فشبّهت ببل إذ كان رجوعا مثلها ؛ ألا ترى أنك تقول : لم يقم أخوك بل أبوك ثم تقول : لم يقم أخوك لكن أبوك ، فتراهما بمعنى واحد ، والواو لا تصلح فى بل ، فإذا قالوا (ولكن) فأدخلوا الواو تباعدت من (بل) إذ لم تصلح الواو فى (بل) ، فآثروا فيها تشديد النون ، وجعلوا الواو كأنها واو دخلت لعطف لا لمعنى بل.

وإنما نصبت العرب بها إذا شدّدت نونها لأن أصلها : إنّ عبد الله قائم ، فزيدت على (إن) لام وكاف فصارتا جميعا حرفا واحدا ؛ ألا ترى أن الشاعر قال :

ولكننى من حبّها لكميد (٧)

__________________

(١) الرفع والتخفيف قراءة الكسائىّ وحمزة وخلف. وقرأ الباقون بالتشديد والنصب.

(٢) آية ١٧ سورة الأنفال. وقراءة الرفع والتخفيف لابن عامر وحمزة والكسائىّ وخلف.

(٣) آية ١٠٢ سورة البقرة. والتخفيف والرفع للقرّاء الذين سلف ذكرهم آنفا.

(٤) آية ٤٠ سورة الأحزاب.

(٥) آية ٣٧ سورة يونس.

(٦) آية ١١١ سورة يوسف.

(٧) كميد وصف من كمد كفرح : أصابه الكمد وهو أشدّ الحزن. ويروى «لعميد» ، وهو فعيل فى معنى مفعول من عمده المرض أو العشق إذا فدحه وهدّه.

٤٦٥

فلم تدخل اللام إلا لأن معناها إنّ.

وهى فيما وصلت به من أوّلها بمنزلة قول الشاعر :

لهنّك من عبسيّة لوسيمة

على هنوات كاذب من يقولها (١)

وصل (إنّ) هاهنا بلام وهاء ؛ كما وصلها ثمّ بلام وكاف. والحرف قد يوصل (٢) من أوّله وآخره. فمما وصل من أوله (هذا) ، و (ها ذاك) ، وصل ب (ها) من أوّله. ومما وصل من آخره. قوله : (إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) (٣) ، وقوله : لتذهبن ولتجلسن. وصل من آخره بنون وب (ما). ونرى أن قول العرب : كم مالك ، أنها (ما) وصلت من أولها بكاف ، ثم إن الكلام كثر ب (كم) حتى حذفت الألف من آخرها فسكنت ميمها ؛ كما قالوا : لم قلت ذاك؟ ومعناه : لم قلت ذاك ، ولما (٤) قلت ذاك؟ قال الشاعر :

يا أبا الأسود لم أسلمتنى

لهموم طارقات وذكر

وقال بعض العرب فى كلامه وقيل له : منذكم قعد فلان؟ فقال : كمذ أخذت فى حديثك ، فردّه الكاف فى (مذ) يدلّ على أن الكاف فى (كم) زائدة. وإنهم ليقولون : كيف أصبحت ، فيقول : كالخير ، وكخير. وقيل لبعضهم : كيف تصنعون الأقط؟ فقال : كهيّن.

وقوله : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) (٤٦)

(ثم) هاهنا عطف. ولو قيل : ثمّ الله شهيد على ما يفعلون. يريد : هنالك الله شهيد على ما يفعلون (٥).

__________________

(١) عبسية يريد امرأة من بنى عبس. والهنوات جمع هنة وهى ما يقبح التصريح به ، يريد الفعلات القبيحة. وانظر الخزانة ٤ / ٣٢٦.

(٢) فى ش ، ج : «يوصل بها».

(٣) آية ٩٣ سورة المؤمنون.

(٤) تراه أثبت ألف ما مع الجارّ ، وبعض النحويين يمنعه.

(٥) حذف جواب لو على عادته ، أي لجاز.

٤٦٦

وقوله : (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) (٥٠)

إن شئت جعلت (ماذا) استفهاما محضا على جهة التعجّب ؛ كقوله : ويلهم ماذا أرادوا باستعجال العذاب؟! وإن شئت عظّمت أمر العذاب فقلت : بماذا استعجلوا! وموضعه رفع إذا جعلت الهاء راجعة عليه ، وإن جعلت الهاء فى (منه) للعذاب وجعلته (١) فى موضع نصب أوقعت عليه الاستعجال.

وقوله : (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (٥١)

(الآن) حرف بنى على الألف واللام لم تخلع (٢) منه ، وترك على مذهب الصفة ؛ لأنه صفة فى المعنى واللفظ ؛ كما رأيتهم فعلوا فى (الذي) و (الذين) فتركوهما على مذهب الأداة ، والألف واللام لهما غير مفارقتين. ومثله قول الشاعر :

فإن الألاء يعلمونك منهم

كعلمى مظّنّوك ما دمت أشعرا (٣)

فأدخل الألف واللام على (ألاء) ثم تركها مخفوضة فى موضع النصب ؛ كما كانت قبل أن تدخلها الألف واللام. ومثله قوله :

وأنى حبست اليوم والأمس قبله

ببابك حتى كادت الشمس تغرب (٤)

__________________

(١) حذف جواب (إن) على عادته ، أي لجاز. وقد يكون الجواب : «أوقعت». وربما كان الأصل «جعلته» دون واو ، وهو الجواب. وقوله : «أوقعت» تفسير وتعليل له.

(٢) فى اللسان (أين) : «يخلعا».

(٣) «كعلمى» فى ا : «كعلم».

(٤) من قصيدة لنصيب يخاطب فيها عبد العزيز بن مروان وكان وفد عليه فى مصر فحجب عنه. وقبله :

ألا هل أتى الصقر ابن مروان أننى

أرد لدى الأبواب عنه وأحجب

وقوله : «وأنى حبست اليوم» فالأقرب فتح «أن» عطفا على «أننى» فى البيت قبله. ويصح الرفع على الاستئناف.

٤٦٧

فأدخل الألف واللام على (أمس) ثم تركه مخفوضا على (جهته الأولى) (١). ومثله قول الآخر (٢) :

تفقّأ فوقه القلع السواري

وجنّ الخازباز به جنونا

فمثل (الآن) بأنها كانت منصوبة (٣) قبل أن تدخل عليها الألف واللام ، ثم أدخلتهما فلم يغيراها. وأصل الآن إنما كان (أوان) حذفت منها الألف وغيّرت واوها إلى الألف ؛ كما قالوا فى الراح : الرياح ؛ أنشدنى أبو القمقام الفقعسي :

كأن مكاكىّ الجواء غديّة

نشاوى تساقوا بالرياح المفلفل (٤)

فجعل الرياح والأوان على جهة فعل ومرة على جهة فعال ؛ كما قالوا : زمن وزمان. وإن شئت جعلت (الآن) أصلها من قولك : آن لك أن تفعل ، أدخلت عليها الألف واللام ، ثم تركتها على مذهب فعل فأتاها النصب من نصب فعل. وهو وجه جيّد ؛ كما قالوا : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قيل وقال وكثرة السؤال ،

__________________

(١) فى اللسان : «جهة الألاء».

(٢) هو ابن أحمر الباهلي. وهو فى وصف الهجل المذكور فى البيت قبله :

بهجل من قسا ذفر الخزامى

تهادى الجربياء به الحنينا

والهجل : المطمئن من الأرض. وقسا : موضع ، والخزامى : نبت طيب الرائحة. والجربياء ريح الشمال. وتفقأ أصله : تنفقأ أي تنشق. والقلع : جمع القلعة وهى السحابة العظيمة ، والسواري التي تأتى ليلا. والخازباز أراد به عشبا ، أو ذبابا. والكلام فى صفة روض فى الهجل ، ففيه العشب الذي جن وهو كناية عن طوله وعمومه ، أو الذباب الذي يغشى الرياض ، وجنونه هزجه وصوته. وانظر الخزانة ٣ / ١٠٩

(٣) يريد فتح الزاى فى الخازباز ، وهذا إحدى اللغات فى الكلمة. ومن اللغات كسر الزاى. ويقال أيضا الخزباز كقرطاس.

(٤) المكاكي ضرب من الطيور. والجواء واد فى نجد. وغدية تصغير غدوة. والرياح الخمر ، والمفلفل : الذي وضع فيه الفلفل. والبيت من معلقة امرئ القيس.

٤٦٨

فكانتا كالاسمين فهما منصوبتان. ولو خفضتا على أنهما أخرجنا من نيّة الفعل كان صوابا ؛ سمعت العرب تقول : من شبّ إلى دبّ بالفتح ، ومن شبّ إلى دبّ ؛ يقول (١) : مذ كان صغيرا إلى أن دبّ ، وهو فعل.

وقوله : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) (٥٤)

يعنى الرؤساء من المشركين ، أسرّوها من سفلتهم الذين أضلّوهم ، فأسرّوها أي أخفوها.

وقوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) (٥٨)

هذه قراءة العامة. وقد ذكر عن زيد (٢) بن ثابت أنه قرأ (فيذلك فلتفرحوا) أي يا أصحاب محمد ، بالتاء.

وقوله : (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) : يجمع الكفار. وقوّى قول زيد أنها فى قراءة أبىّ (فبذلك فافرحوا) وهو (٣) البناء الذي خلق للأمر إذا واجهت به أو لم تواجه ؛ إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجه لكثرة الأمر خاصّة فى كلامهم ؛ فحذفوا اللام كما حذفوا التاء من الفعل. وأنت تعلم أن الجازم أو الناصب لا يقعان إلا على الفعل الذي أوّله الياء والتاء والنون والألف. فلما حذفت التاء ذهبت باللام وأحدثت الألف (٤) فى قولك : اضرب وافرح ؛ لأن الضاد ساكنة فلم يستقم أن يستأنف بحرف ساكن ، فأدخلوا ألفا خفيفة يقع بها الابتداء ؛ كما قال : (ادّاركوا). (واثّاقلتم). وكان الكسائىّ يعيب قولهم (فلتفرحوا) لأنه وجده

__________________

(١) كذا فى ش ، ح. وفى ا : «يريد».

(٢) وهى قراءة رويس عن يعقوب.

(٣) أي الأمر باللام كما جاء فى قراءة زيد.

(٤) يريد همزة الوصل.

٤٦٩

قليلا فجعله عيبا ، وهو الأصل. ولقد سمعت عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فى بعض المشاهد (لتأخذوا مصافّكم) (١) يريد به خذوا مصافّكم.

وقوله : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) (٦١)

يقول : الله تبارك وتعالى شاهد على كل شىء. (وما) هاهنا جحد لا موضع لها. وهى كقوله (ما يَكُونُ (٢) مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) يقول : إلا هو شاهدهم.

(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) و (أصغر وأكبر). فمن نصبهما (٣) فإنما يريد الخفض : يتبعهما المثقال أو الذرّة. ومن رفعهما أتبعهما معنى المثقال ؛ لأنك لو ألقيت من المثقال (من) كان رفعا. وهو كقولك : ما أتانى من أحد عاقل وعاقل. وكذلك قوله (ما (٤) لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

وقوله : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٦٣)

(الذين) فى موضع رفع ؛ لأنه نعت جاء بعد خبر إنّ ؛ كما قال (إِنَ) (٥) (ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) وكما قال (قُلْ) (٦) (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) والنصب فى كل ذلك جائز على الإتباع للاسم الأوّل وعلى تكرير (إنّ).

__________________

(١) المصاف جمع مصف ، وهو الموقف فى الحرب وموضعها الذي تكون فيه الصفوف.

(٢) آية ٧ سورة المجادلة.

(٣) وهم عامة القراء عدا حمزة ويعقوب وخلف ، فقد قرءوا بالرفع.

(٤) تكرّر هذا فى القرآن. ومنه الآية ٦٥ سورة الأعراف. يريد أنه جاء فى «غيره» الرفع على المحل والجرّ على اللفظ. والجرّ قراءة الكسائىّ وأبى جعفر. والرفع قراءة الباقين.

(٥) آية ٦٤ سورة ص.

(٦) آية ٤٨ سورة سبأ.

٤٧٠

وإنما رفعت العرب النعوت إذا جاءت بعد الأفاعيل (١) فى (إنّ) لأنهم رأوا الفعل (٢) مرفوعا ، فتوهّموا أن صاحبه مرفوع فى المعنى ـ لأنهم لم يجدوا فى تصريف المنصوب اسما منصوبا وفعله مرفوع ـ فرفعوا النعت. وكان الكسائىّ يقول : جعلته ـ يعنى النعت ـ تابعا للاسم المضمر فى الفعل (٣) ؛ وهو خطأ وليس بجائز ؛ لأن (الظريف) (٤) وما أشبهه أسماء ظاهرة ، ولا يكون الظاهر نعتا (٥) لمكنىّ إلا ما كان مثل نفسه وأنفسهم ، وأجمعين ، وكلهم ؛ لأن هذه إنما تكون أطرافا لأواخر الكلام ؛ لا يقال مررت بأجمعين ، كما يقال مررت بالظريف. وإن شئت جعلت قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) رفعا.

بقوله : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٦٣)

وذكر أن البشرى فى الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ، وفى الآخرة الجنة. وقد يكون قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى) ما بشّرهم به فى كتابه من موعوده ، فقال (وَ (٦) يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) فى كثير من القرآن.

ثم قال (لا تبديل لكلمات الله) أي لا خلف لوعد الله.

وقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) (٦٥)

المعنى الاستئناف. ولم يقولوا هم ذاك ، فيكون حكاية. فأمّا قوله (وَقَوْلِهِمْ (٧) إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) فإنها كسرت لأنها جاءت بعد القول ، وما كان بعد القول من (إن)

__________________

(١ ، ٢ ، ٣) يريد بالفعل والأفاعيل خبر إنّ.

(٤) أي فى نحو قولك : إنّ محمدا قائم الظريف. ويريد بصاحب الفعل اسم إنّ.

(٥) يريد بالنعت التابع الشامل للبدل والتوكيد والنعت.

(٦) آية ٢ سورة الكهف.

(٧) آية ١٥٧ سورة النساء.

٤٧١

فهو مكسور على الحكاية فى قال ويقولون وما صرّف من القول. وأمّا قوله (ما قُلْتُ) (١) (لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي) فإنك فتحت (أن) لأنها مفسّرة ل (ما) ، (وما) قد وقع عليها القول فنصبها وموضعها نصب. ومثله فى الكلام : قد قلت لك كلاما حسنا : أن أباك شريف وأنك عاقل ، فتحت (أنّ) لأنها فسّرت الكلام ، والكلام منصوب. ولو أردت تكرير القول عليها كسرتها. وقد تكون (أنّ) مفتوحة بعد القول إذا كان القول رافعا لها أو رافعة له ؛ من ذلك أن تقول : قولك مذ اليوم أن الناس خارجون ؛ كما تقول : قولك مذ اليوم كلام لا يفهم. وقوله (وَلا تَقُولَنَ) (٢) (لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) المعنى : لا تقولنّ لشىء : إنى فاعل ذلك غدا إلا بالاستثناء : إلا أن تقول : إن شاء الله. ولو أردت : لا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك : لا تقل إلا أن يشاء الله. كان كأنه أمر أن يقول إن شاء الله وحدها ، فلا بدّ من أن مفتوحة بالاستثناء خاصة ؛ ألا ترى أنك قد تأمره إذا حلف فتقول : قل إن شاء الله ، فلمّا أريدت الكلمة وحدها لم تكن إلا مكسورة.

وقوله : (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ) (٦٩)

ثم قال : (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) (٧٠)

أي ذلك متاع فى الدنيا. و (٣) التي فى النحل مثله ، وهو كقوله (لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ) (٤) كله مرفوع بشىء مضمر قبله إمّا (هو) وإما (ذاك).

__________________

(١) آية ١١٧ سورة المائدة.

(٢) آيتا ٢٣ ، ٢٤ سورة الكهف.

(٣) فى قوله تعالى «إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع قليل ولهم عذاب أليم» (آية ١١٧).

(٤) آية ٣٥ سورة الأحقاف.

٤٧٢

وقوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) (٧١)

والإجماع : الإعداد والعزيمة على الأمر. ونصبت الشركاء بفعل مضمر ؛ كأنك قلت : فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم. وكذلك هى فى قراءة عبد الله. والضمير (١) هاهنا يصلح إلقاؤه ؛ لأن معناه يشا كل ما أظهرت ؛ كما قال الشاعر (٢) :

ورأيت زوجك فى الوغى

متقلّدا سيفا ورمحا

فنصبت الرمح بضمير الحمل ؛ غير أن الضمير صلح حذفه لأنهما سلاح يعرف ذا بذا ، وفعل هذا مع فعل هذا.

وقد قرأها الحسن (وشركاؤكم) بالرفع ، وإنما الشركاء هاهنا آلهتهم ؛ كأنه أراد : أجمعوا أمركم أنتم وشركاؤكم. ولست أشتهيه لخلافه للكتاب ، ولأن المعنى فيه ضعيف ؛ لأن الآلهة لا تعمل ولا تجمع. وقال الشاعر :

يا ليت شعرى والمنى لا تنفع

هل أغدون يوما وأمرى مجمع

فإذا أردت جمع الشيء المتفرّق قلت : جمعت القوم فهم مجموعون ؛ كما قال الله تبارك وتعالى (ذلك (٣) يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) وإذا أردت كسب المال قلت : جمّعت المال ؛ كقول الله تبارك وتعالى (الَّذِي (٤) جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) وقد يجوز جمع مالا وعدّده. وهذا من نحو قتلوا وقتّلوا.

__________________

(١) يريد الفعل المحذوف العامل للنصب ، وهو هنا : «ادعوا».

(٢) هو عبد الله بن الزبعرى. وانظر كامل المبرّد بشرح المرصفى ٣ / ٢٣٤.

(٣) آية ١٠٣ سورة هود.

(٤) آية ٢ سورة الهمزة. وقراءة التشديد لابن عامر وحمزة والكسائي من السبعة. وقرأ الباقون بالتخفيف.

٤٧٣

وقوله (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) وقد قرأها بعضهم (١) : (ثم أفضوا إلىّ) بالفاء. فأما قوله (اقضوا إلىّ) فمعناه : امضوا إلىّ ، كما يقال قد قضى فلان ، يراد : قد مات ومضى. وأما الإفضاء فكأنه قال : ثم توجّهوا إلىّ حتى تصلوا (٢) ، كما تقول : قد أفضت إلىّ الخلافة والوجع ، وما أشبهه.

وقوله : (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ) (٧٤)

يقول : لم يكونوا ليؤمنوا لك يا محمد بما كذّبوا به فى الكتاب الأوّل ، يعنى اللوح المحفوظ.

وقوله : (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) (٧٧)

يقول القائل : كيف أدخل ألف الاستفهام فى قوله (أسحر هذا) وهم قد قالوا (هذا سحر) بغير استفهام؟

قلت : قد يكون هذا من قولهم على أنه سحر عندهم وإن استفهموا ؛ كما ترى الرجل تأتيه الجائزة فيقول : أحقّ هذا؟ وهو يعلم أنه حقّ لا شكّ فيه. فهذا وجه. ويكون أن تزيد الألف فى قولهم وإن كانوا لم يقولوها ، فيخرج الكلام على لفظه وإن كانوا لم يتكلّموا به ؛ كما يقول الرجل : فلان أعلم منك ، فيقول المتكلم : أقلت أحد أعلم بذا منّى؟ فكأنه هو القائل : أأحد أعلم بهذا منى. ويكون على أن تجعل القول بمنزلة الصلة لأنه فضل فى الكلام ؛ ألا ترى أنك تقول للرجل : أتقول عندك مال؟ فيكفيك من قوله أن تقول : ألك مال؟ فالمعنى قائم ظهر القول أو لم يظهر.

__________________

(١) نسبها ابن خالويه فى البديع إلى أبى حيوة.

(٢) فى ا : «تضلوا» ويبدو أنها مصحفة عما أثبتنا. وفى ش ، ج : «تملوا».

٤٧٤

وقوله : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) (٧٨)

اللفت : الصرف ؛ تقول : ما لفتك عن فلان؟ أي ما صرفك عنه.

ويقول القائل : كيف قالوا (وتكون لكما الكبرياء فى الأرض) فإنّ (١) النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صدّق صارت مقاليد أمّته وملكهم إليه ، فقالوه على ملك ملوكهم من التكبر.

وقوله : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) (٨١)

(ما) فى موضع الذي ؛ كما تقول : ما جئت به باطل. وهى فى قراءة عبد الله (ما جئتم به سحر) وإنما قال (السحر) بالألف واللام لأنه جواب لكلام قد سبق ؛ ألا ترى أنهم قالوا لما جاءهم به موسى : أهذا سحر؟ فقال : بل ما جئتم به السحر. وكل حرف ذكره متكلم نكرة فرددت عليها لفظها فى جواب المتكلم زدت فيها ألفا ولاما ؛ كقول الرجل : قد وجدت درهما ، فتقول أنت : فأين الدرهم؟ أو : فأرنى الدرهم. ولو قلت : فأرنى درهما ، كنت كأنك سألته أن يريك غير ما وجده.

وكان مجاهد (٢) وأصحابه يقرءون : ما جئتم به آلسحر : فيستفهم ويرفع السحر من نيّة الاستفهام ، وتكون (ما) فى مذهب أىّ كأنه قال : أي شىء جئتم به؟ آلسحر هو؟ وفى حرف أبىّ (ما أتيتم به سحر) قال الفراء : وأشكّ فيه.

وقد يكون (ما جئتم به السحر) تجعل السحر منصوبا ؛ كما تقول : ما جئت به الباطل والزور. ثم تجعل (ما) فى معنى جزاء و (جئتم) فى موضع جزم إذا نصبت ، وتضمر الفاء فى قوله (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) فيكون جوابا للجزاء. والجزاء لا بدّله أن

__________________

(١) هذا جواب السؤال.

(٢) وهى قراءة أبى عمرو وأبى جعفر.

٤٧٥

يجاب بجزم مثله أو بالفاء. فإن كان ما بعد الفاء حرفا من حروف الاستئناف وكان يرفع أو ينصب أو يجزم صلح فيه إضمار الفاء. وإن كان فعلا أوّله الياء أو التاء أو كان على جهة فعل أو فعلوا لم يصلح فيه إضمار الفاء ؛ لأنه يجزم إذا لم تكن الفاء ، ويرفع إذا أدخلت الفاء. وصلح فيما (١) قد جزم قبل أن تكون الفاء لأنها إن دخلت أو لم تدخل فما بعدها جزم ؛ كقولك للرجل : إن شئت فقم ؛ ألا ترى أنّ (قم) مجزومة ولو لم يكن فيها الفاء ، لأنك إذا قلت إن شئت قم جزمتها بالأمر ، فكذلك قول الشاعر (٢) :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشرّ بالشرّ عند الله مثلان

ألا ترى أن قولك : (الله يشكرها) مرفوع كانت فيه الفاء أو لم تكن ، فلذلك صلح ضميرها (٣).

وقوله : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) (٨٣) ففسّر المفسرون الذرّيّة : القليل. وكانوا ـ فيما بلغنا ـ سبعين أهل بيت. وإنما سموا الذرّية لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم كنّ من بنى إسرائيل ، فسموا الذرّية ؛ كما قيل لأولاد أهل فارس الذين سقطوا إلى اليمن فسمّوا ذراريّهم الأبناء ؛ لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم.

وقوله : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) ، وإنما قال (وملئهم) وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر بخوف أو بسفر أو قدوم من سفر ذهب الوهم إليه وإلى من معه ؛ ألا ترى أنك تقول : قدم الخليفة فكثر الناس ، تريد : بمن معه ، وقدم

__________________

(١) يريد فعل الأمر فإنه عندهم فعل مضارع مجزوم بلام الأمر حذفت اللام وحرف المضارعة لكثرة الاستعمال.

(٢) نسبه الكاتبون على شواهد سيبويه إلى عبد الرحمن بن حسان. ورواه جماعة لكعب بن مالك الأنصارىّ. ويرى بعضهم أن الرواية : «من يفعل الخير فالرحمن يشكره» فغيره النحويون. وانظر الخزانة ٣ / ٦٤٤

(٣) أي إضمار الفاء.

٤٧٦

فغلت الأسعار ؛ لأنك تنوى بقدومه قدوم من معه. وقد يكون أن تريد بفرعون آل فرعون وتحذف الآل فيجوز ؛ كما قال (وَسْئَلِ (١) الْقَرْيَةَ) تريد أهل القرية والله أعلم. ومن ذلك قوله : (يا أَيُّهَا (٢) النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ).

وقوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) (٨٧)

كان فرعون قد أمر بتهديم المساجد ، فأمر موسى وأخوه أن يتّخذ المساجد فى جوف الدور (٣) لتخفى من فرعون. وقوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) إلى الكعبة.

وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٨٨)

ثم قال موسى (ربنا) فعلت ذلك بهم (ليضلّوا) الناس (عن سبيلك) وتقرأ (ليضلّوا) هم (عن سبيلك) وهذه لام كى.

ثم استأنف موسى بالدعاء عليهم فقال : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ). يقول : غيّرها. فذكر أنها صارت حجارة. وهو كقوله (مِنْ (٤) قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً). يقول : نمسخها.

قوله : (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ). يقول : واختم عليها.

قوله : (فَلا يُؤْمِنُوا). كلّ ذلك دعاء ، كأنه قال اللهم (فَلا) (٥) (يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) وإن شئت جعلت (فلا يؤمنوا) جوابا لمسئلة (٦) موسى عليه

__________________

(١) آية ٨٢ سورة يوسف.

(٢) أول سورة الطلاق.

(٣) كذا فى ش ، ج.

وفى ا : «البيوت».

(٤) آية ٤٧ سورة النساء.

(٥) فالفعل (يؤمنوا) مجزوم بلا التي للدعا.

(٦) أي فى قوله : اطمس وما عطف عليه.

٤٧٧

السلام إياه ؛ لأن المسألة خرجت على لفظ الأمر ، فتجعل (فلا يؤمنوا) فى موضع نصب على الجواب ، فيكون كقول الشاعر (١) :

يا ناق سيرى عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا

وليس الجواب يسهل فى الدعاء لأنه ليس بشرط.

وقوله : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) (٨٩)

نسبت الدعوة إليهما وموسى كان الداعي وهارون المؤمّن ، فالتأمين كالدعاء. ويقرأ (٢) (دعواتكما).

وقوله : (فَاسْتَقِيما) أمرا بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة. ويقال : إنه كان بينهما (٣) أربعون سنة.

(قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) قرأها أصحاب (٤) عبد الله بالكسر على الاستئناف. وتقرأ (أنه) على وقوع الإيمان عليها. زعموا أن فرعون قالها حين ألجمه الماء.

وقوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) (٩٣)

يعنى بنى إسرائيل أنهم كانوا مجتمعين على الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث ، فلمّا بعث كذّبه بعض وآمن به بعض. فذلك اختلافهم. و (العلم) يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته.

__________________

(١) هو أبو النجم فى أرجوزة يمدح فيها سليمان بن عبد الملك. والعنق ضرب من سير الإبل.

(٢) تنسب هذه القراءة إلى على وأبى عبد الرحمن السلمى.

(٣) أي بين هذه الإجابة من الله وتأويلها أي وقوع مضمونها وهو هلاك فرعون وقومه.

(٤) هذه قراءة حمزة والكسائي وخلف.

٤٧٨

وقوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) (٩٤)

قاله تبارك وتعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يعلم أنه غير شاكّ ، ولم يشكك عليه‌السلام فلم يسأل. ومثله فى العربية أنك تقول لغلامك الذي لا يشكّ فى ملكك إياه : إن كنت عبدى فاسمع وأطع. وقال الله تبارك وتعالى لنبيه عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَأَنْتَ) (١) (قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) وهو يعلم أنه لم يقله ، فقال الموفّق معتذرا بأحسن العذر : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ).

وقوله : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) (٩٨)

وهى فى قراءة أبىّ (فهلّا) ومعناها : أنهم لم يؤمنوا ، ثم استثنى قوم يونس بالنصب على الانقطاع مما قبله : ألا ترى أن ما بعد (إلّا) فى الجحد يتبع ما قبلها ، فتقول : ما قام أحد إلا أبوك ، وهل قام أحد إلا أبوك ؛ لأن الأب من الأحد ؛ فإذا قلت : ما فيها أحد إلا كلبا وحمارا ، نصبت ؛ لأنها منقطعة ممّا قبل إلا ؛ إذ لم تكن من جنسه ، كذلك كان قوم يونس منقطعين من قوم غيره من الأنبياء. ولو كان الاستثناء هاهنا وقع على طائفة منهم لكان رفعا. وقد يجوز الرفع فيها ؛ كما أن المختلف فى الجنس قد يتبع فيه ما بعد إلا ما قبل إلا ؛ كما قال الشاعر :

وبلد ليس به أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

__________________

(١) آية ١١٦ سورة المائدة.

٤٧٩

وهذا قوة للرفع ، والنصب فى قوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ). لأن اتباع الظن لا ينسب إلى العلم. وأنشدونا بيت النابغة :

...... وما بالربع من أحد (١)

إلا أوارىّ ما إن لا أبيّنها

قال الفراء : جمع فى هذا البيت بين ثلاثة أحرف من حروف الجحد : لا ، وإن ، وما. والنصب فى هذا النوع المختلف من كلام أهل الحجاز ، والإتباع من كلام تميم.

وقوله : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (١٠٠)

: العذاب والغضب. وهو مضارع لقوله الرجز ، ولعلهما لغتان بدّلت السين زايا كما قيل الأسد والأزد (٢).

__________________

(١) ما أورده للنابغة من بيتين هما :

وقفت فيها أصيلانا أسائلها

عيت جوابا وما بالربع من أحد

إلا أوارىّ ما إن لا أبينها

والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد

وقوله : «ما إن لا أبينها». فالرواية المشهورة : «لأياما أبينها». وتقدم البيتان فى ص ٢٨٨ من هذا الجزء.

(٢) وهو أبو حى من اليمن. ومن أولاده الأنصار.

تم بحمد الله وتوفيقه طبع الجزء الأوّل من كتاب معانى القرآن للفراء

ويتلوه إن شاء الله الجزء الثاني ، وأوّله سورة هود

٤٨٠