معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (١) ومثله (فى الكلام) (٢) أن تقول : أنا الذي أمرتك بالتجارة فاكتسبت الأموال ، فالمعنى فتجرت فاكتسبت.

وأما قوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ ...) (٦٠)

فإن القائل يقول : وما حاجة القوم إلى أن يعلموا مشاربهم ونحن نرى الأنهار قد أجريت لقوم بالمنّ من الله والتّفضل على عباده ، ولم يقل : قد علم كل أناس مشربهم ، لغيرهم؟ وإنما كان ذلك ـ والله أعلم ـ لأنّه حجر انفجرت منه اثنتا عشرة عينا على عدد الأسباط لكل سبط عين ، فإذا ارتحل القوم أو شربوا ما يكفيهم عاد الحجر كما كان وذهبت العيون ، فإذا احتاجوا انفجرت العيون من تلك المواضع ، فأتى كل سبط عينهم التي كانوا يشربون منها.

وأما قوله : (وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها ...) (٦١)

فإن الفوم فيما ذكر لغة قديمة (وهى) (٣) الحنطة والخبز جميعا قد ذكرا. قال بعضهم : سمعنا (العرب (٤) من) أهل هذه اللغة يقولون : فوّموا لنا بالتشديد لا غير (٥) ، يريدون اختبزوا وهى فى قراءة عبد الله «وثومها» بالثاء ، فكأنّه أشبه المعنيين بالصّواب ؛ لأنّه مع ما يشاكله : من العدس والبصل وشبهه. والعرب تبدل الفاء بالثّاء فيقولون : جدث وجدف ، ووقعوا فى عاثور شرّ (٦) وعافور شرّ ، والأثاثىّ والأثافىّ. وسمعت كثيرا من بنى أسد يسمّى (المغافير (٧) المغاثير).

__________________

(١) آية ٦٣ سورة الشعراء.

(٢ ، ٣ ، ٤) سقط فى أ.

(٥) «لا غير» : سقط من ج ، ش.

(٦) وقعوا فى عاثور شر : أي فى اختلاط من الأمر وشدّة.

(٧) فى أ : «يقولون : المغاثير والمغافير». والمغافير : صمغ يسيل من شجر الرمث والعرفط وهو حلو يؤكل غير أن رائحته ليست بطيبة.

٤١

وقوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ...) (٦١)

أي الذي هو أقرب ، من الدّنوّ ، ويقال من الدّناءة. والعرب تقول : إنه لدنىّ [ولا يهمزون (١)] يدنّى فى الأمور أي (٢) يتّبع خسيسها وأصاغرها. وقد كان زهير (٣) الفرقبى يهمز : «أ تستبدلون الّذى هو أدنى بالّذى هو خير» ولم نر العرب تهمز أدنى إذا كان من الحسّة ، وهم فى ذلك يقولون إنه لدانىء خبيث [إذا كان ماجنا (٤)] فيهمزون. وأنشدنى بعض بنى كلاب :

باسلة الوقع سرابيلها

بيض إلى دانئها الظّاهر (٥)

يعنى (٦) الدروع (٧) على خاصّتها ـ يعنى الكتيبة ـ إلى الخسيس منها ، فقال : دانئها يريد الخسيس. وقد كنا نسمع المشيخة يقولون : ما كنت دانئا ولقد دنات ، والعرب تترك الهمزة. ولا أراهم رووه إلّا وقد سمعوه.

وقوله : (اهْبِطُوا مِصْراً ...) (٦١)

كتبت بالألف ، وأسماء البلدان لا تنصرف خفّت أو ثقلت ، وأسماء النساء (٨) إذا خفّ منها شىء جرى (٩) إذا كان على ثلاثة أحرف وأوسطها ساكن مثل دعد وهند

__________________

(١) «ولا يهمزون» ساقط من أ.

(٢) سقط فى ش ، ج.

(٣) هو من القرّاء النحويين ، وكان فى زمن عاصم ، ويعرف بالكسائي. وانظر طبقات القراء لابن الجزري رقم ١٣٠١. والفرقبىّ نسبة إلى فرقب ، كقنفذ. وفى القاموس : فرقب موضع ومنه الثياب الفرقبية : ثياب بيض من كتان. وقال شارحه : وردت هذه النسبة فى الثياب والرجال ، فيمكن أن تكون إلى موضع ، أو يكون الرجل منسوبا إلى حمل الثياب.

(٤) ما بين المربعين ساقط من أ ومن عبارة الفراء المنقولة فى اللسان. وهو صحيح لغة ، قال فى اللسان : دنؤ الرجل دناءة إذا كان ماجنا.

(٥) البيت من قصيدة طويلة للأعشى قالها فى منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامرىّ مطلعها :

شأقتك من قتلة أطلالها

بالشط فالوتر إلى حاجر

وبسل الرجل بسولا فهو باسل وبسل إذا عبس غضبا أو شجاعة. والسربال : الدرع أو كل ما لبس والجمع سرابيل ، والمراد هنا الدروع كما قال المؤلف.

(٦) فى ج ، ش : «وفسر فقال يعنى ... إلخ».

(٧) فى ج ، ش : «فى خاصتها».

(٨) فى ج ، ش : «الناس».

(٩) أي (انصرف) ونون. وهذا اصطلاح الكوفيين. فالجارى عندهم المنصرف ، وغير الجاري هو الممنوع من الصرف. ويعبرون أيضا بالمجرى وغير المجرى ، من الإجراء.

٤٢

وجمل. وإنما انصرفت إذا سمّى بها النّساء ؛ لأنها تردّد وتكثر بها التّسمية فتخف لكثرتها ، واسماء البلدان لا تكاد تعود (١). فإن شئت جعلت الألف التي فى «مصرا» ألفا يوقف عليها ، فإذا وصلت لم تنوّن فيها ، كما كتبوا «سلاسلا» و (قَوارِيرَ) (٢) بالألف ، وأكثر القراء على ترك الإجراء فيهما. وإن شئت جعلت «مصر» غير المصر التي تعرف ، يريد اهبطوا مصرا من الأمصار ، فإن الذي سألتم لا يكون إلا فى القرى والأمصار. والوجه الأوّل أحبّ إلىّ ؛ لأنها فى قراءة عبد الله «اهبطوا مصر» بغير ألف ، وفى قراءة أبىّ : «اهبطوا فإنّ لكم ما سألتم واسكنوا مصر» (٣) وتصديق ذلك أنها فى سورة يوسف بغير ألف : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (٤). وقال الأعمش وسئل عنها فقال : هى مصر التي عليها صالح بن علىّ (٥).

وقوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ ...) (٦٣)

يقول : بجدّ وبتأدية ما افترض عليكم فيه.

وقوله : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها ...) (٦٦) يعنى المسخة التي مسخوها جعلت نكالا لما مضى من الذنوب ولما يعمل بعدها : ليخافوا أن يعملوا بما عمل الذين مسخوا فيمسخوا.

وقوله : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ ...) (٦٧)

وهذا فى القرآن كثير بغير الفاء ، وذلك لأنه جواب يستغنى أوّله عن آخره بالوقفة عليه ، فيقال : ماذا قال لك؟ فيقول القائل : قال كذا وكذا ؛ فكأنّ (٦) حسن

__________________

(١) أي تتكرر فى الذكر والكلام.

(٢) آية ٤ وآية ١٥ سورة الإنسان.

(٣) هذه القراءة المنسوبة لأبى لم نقف عليها فى غير أصول الفرّاء مما بين أيدينا من المراجع.

(٤) آية ٩٩ من السورة المذكورة.

(٥) صالح بن على بن عبد الله بن العباس أوّل من ولى مصر من قبل أبى العباس السفاح سنة ١٣٣ وتوفى بقنسرين وهو عامل على حمص سنة ١٥٤.

(٦) فى ج ، ش : «فلما حسن السكوت ... إلخ».

٤٣

السّكوت يجوز به طرح الفاء. وأنت تراه فى رءوس الآيات ـ لأنها فصول ـ حسنا (١) ؛ من ذلك : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا) (٢) والفاء حسنة مثل قوله : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٣) ولو كان على كلمة واحدة لم تسقط العرب منه الفاء. من ذلك : قمت ففعلت ، لا يقولون : قمت فعلت ، ولا قلت قال ، حتى يقولوا : قلت فقال ، وقمت فقام ؛ لأنها نسق وليست باستفهام يوقف عليه ؛ ألا ترى أنه : (قالَ) فرعون (لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٤) فيما لا أحصيه. ومثله من غير الفعل كثير فى كتاب الله بالواو وبغير الواو ؛ فأما الذي بالواو فقوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٥) ثم قال بعد ذلك : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ). وقال فى موضع آخر : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ) (٦) وقال فى غير هذا : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (٧) ثم قال فى الآية بعدها : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ولم يقل : وإنّ. فاعرف بما جرى تفسير ما بقي ، فإنّه لا يأتى إلا على الذي أنبأتك به من الفصول أو الكلام المكتفي يأتى له جواب. وأنشدنى بعض العرب :

لمّا رأيت نبطا أنصارا

شمّرت عن ركبتى الإزارا

كنت لها من النّصارى جارا

وقوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ ...) (٦٨) والعوان ليست بنعت للبكر ؛ لأنها ليست بهرمة ولا شابّة ؛ انقطع الكلام عند قوله : (وَلا بِكْرٌ) ثم استأنف فقال : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) والعوان يقال منه

__________________

(١) فى ش ، ج : «حسنة».

(٢) آية ٣١ و ٣٢ سورة الذاريات.

(٣) آية ٢٧ سورة هود.

(٤) آية ٢٥ و ٢٦ سورة الشعراء.

(٥) آية ١٥ و ١٧ سورة آل عمران.

(٦) آية ١١٢ سورة التوبة.

(٧) آية ١٠ سورة البروج.

٤٤

قد عوّنت. والفارض : قد فرضت ، وبعضهم : قد فرضت (وأما البكر فلم (١)) نسمع فيها بفعل. والبكر يكسر أوّلها إذا كانت بكرا من النّساء (٢). والبكر مفتوح أوّله من بكارة الإبل. ثم قال (بَيْنَ ذلِكَ) و (بَيْنَ) لا تصلح إلّا مع اسمين فما زاد ، وإنّما صلحت مع (ذلِكَ) وحده ؛ لأنّه فى مذهب اثنين ، والفعلان قد يجمعان ب «ذلك» و «ذاك» ؛ ألا ترى أنّك تقول : أظنّ زيدا أخاك ، وكان زيد أخاك ، فلا بدّ لكان من شيئين ، ولا بدّ لأظن من شيئين (٣) ، ثم يجوز أن تقول : قد كان ذاك ، وأظنّ ذلك. وإنما المعنى فى الأسمين اللذين ضمّهما ذلك : بين الهرم والشّباب. ولو قال فى الكلام : بين هاتين ، أو بين تينك ، يريد الفارض والبكر كان صوابا ، ولو أعيد ذكرهما (٤) (لم يظهر إلا بتثنية) (٥) ؛ لأنهما اسمان ليسا بفعلين ، وأنت تقول فى الأفعال فتوحّد فعلهما بعدها. فتقول : إقبالك وإدبارك يشقّ علىّ ، ولا تقول : أخوك وأبوك يزورنى. ومما يجوز أن يقع عليه (بَيْنَ) وهو واحد فى اللّفظ مما يؤدّى عن الاثنين (٦) فما زاد قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) (٧) ولا يجوز : لا نفرق بين رجل منهم ؛ لأنّ أحدا لا يثنّى كما يثنى الرجل ويجمع ، فإن شئت جعلت أحدا فى تأويل اثنين ، وإن شئت فى تأويل أكثر ؛ من ذلك قول الله عزوجل : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٨) وتقول : بين أيّهم المال؟ وبين من قسم المال؟ فتجرى «من» و «أى». مجرى (٩) أحد ؛ لأنّهما قد يكونان لواحد ولجمع.

__________________

(١) فى ش ، ج : «ولم».

(٢) فى ج ، ش : «من الجواري».

(٣) فى ج ، ش : «بين هاتين من شيئين». ولا وجه له.

(٤) أي ضميرهما.

(٥) فى ج ، ش : «لم تكن إلا بتثنية».

(٦) ساقط من ج.

(٧) آية ١٢٦ سورة البقرة.

(٨) آية ٤٧ سورة الحاقة.

(٩) فى ش ، ج : «على مجرى».

٤٥

وقوله : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها ...) (٦٩) اللّون مرفوع ؛ لأنك لم ترد أن تجعل (ما) صلة فتقول : بيّن لنا ما لونها (١) ولو قرأ به قارئ كان صوابا ، ولكنه أراد ـ والله أعلم ـ : ادع لنا ربك يبيّن لنا أىّ شىء لونها ، ولم يصلح للفعل الوقوع على أىّ ؛ لأن أصل «أى» تفرّق (٢) جمع من الاستفهام ، ويقول القائل : بين لنا أ سوداء هى أم صفراء؟ فلما لم يصلح للتّبيّن أن يقع على الاستفهام فى تفرّقه لم يقع على أىّ ؛ لأنها جمع ذلك المتفرّق ، وكذلك ما كان فى القرآن مثله ، فأعمل فى «ما» «وأىّ» الفعل الذي بعدهما ، ولا تعمل الذي قبلهما إذا كان مشتقّا من العلم ؛ كقولك : ما أعلم أيّهم قال ذاك ، ولا أعلمنّ أيّهم قال ذاك ، وما أدرى أيّهم ضربت ، فهو فى العلم والإخبار والإنباء وما أشبهها على ما وصفت لك. منه قول الله تبارك وتعالى : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) (٣) (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) (٤) (ما) (٥) الثانية رفع ، فرفعتها بيوم ؛ كقولك : ما أدراك أىّ شىء يوم الدّين ، وكذلك قول الله تبارك وتعالى : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) (٦) رفعته بأحصى ، وتقول إذا كان الفعل واقعا على أىّ (٧) : ما أدرى أيّهم ضربت. وإنما امتنعت من أن توقع على أي

__________________

(١) «لونها» بالنصب فى المثال مفعول يبين ، وتكون «ما» زائدة. ما بين النجمتين ساقط من نسخ ج ، ش.

(٢) يريد أن أيا نابت عن جمع من الاستفهام متفرّق. فبدل أن يقال : بين أ سوداء هى أم صفراء أم حمراء. يقال : بين أي شىء لونها ، فتغنى أي عن هذا الجمع من الاستفهام ، فمن ثمّ كان أصلا لها. وعبارة الطبري : «لأن أصل «أي» و «ما» جمع متفرق الاستفهام». ويريد الطبري بالأصل ما يوضع له اللفظ ويدل عليه ، وهذا غير ما يريد الفراء. وكل صحيح.

(٣) آية ١٠ سورة القارعة.

(٤) آية ١٧ سورة الانفطار.

(٥) فى ش ، ج : «وموضع ما».

(٦) آية ١٢ سورة الكهف.

(٧) أي : اسم استفهام عما يعقل وعما لا يعقل ، وأدوات الاستفهام (كغيرها من المعلقات) تعلق العامل عن العمل لفظا لأن لها صدر الكلام ، فلو أعمل ما قبلها فيها أو فيما بعدها لخرجت عن أن يكون لها صدر الكلام. ولا يكون التعليق إلا فى أفعال القلوب التي تلغى نحو علم وظن ، ولذلك لا تقول : لأضربن أيهم قام (بالرفع) لأنه فعل مؤثر لا يجوز إلغاؤه فلا يجوز تعليقه.

وقال الفرّاء : «أي» يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله ، وإنما يرفعها أو ينصبها ما بعدها كقوله تعالى : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) فرفع ، وقوله : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) ـ

٤٦

الفعل الذي قبلها من العلم وأشباهه ؛ لأنك تجد الفعل غير واقع على أىّ فى المعنى ؛ ألا ترى أنك إذا قلت : اذهب فاعلم أيّهما قام أنك تسأل غيرهما عن حالهما فتجد الفعل واقعا على الذي أعلمك ، كما أنك تقول : سل أيّهم قام ، والمعنى : سل الناس أيّهم قام. ولو أوقعت الفعل على (أَيَّ) فقلت : اسأل أيّهم قام لكنت كانك تضمر أيّا مرّة أخرى ؛ لأنك تقول : سل زيدا أيّهم قام ، فإذا أوقعت الفعل على زيد فقد جاءت «أى» بعده. فكذلك «أى» إذا أوقعت عليها الفعل خرجت من معنى الاستفهام ، وذلك إن أردته ، جائز ، تقول : لأضربنّ أيّهم يقول ذاك ؛ لأنّ الضرب لا يقع على [اسم ثم يأتى بعد ذلك استفهام ، وذلك لأن الضرب لا يقع على (١)] اثنين ، وأنت تقول فى المسألة : سل عبد الله عن كذا ، كأنك قلت : سله عن كذا ، ولا يجوز ضربت عبد الله كذا وكذا إلا أن تريد صفة الضرب ، فأما الأسماء فلا. وقول الله : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٢) من نصب أيّا أوقع عليها النزع وليس باستفهام ، كأنه قال : ثم لنستخرجن العاتي الذي هو أشد. وفيها وجهان من الرفع ؛ أحدهما أن تجعل الفعل مكتفيا بمن فى الوقوع عليها ، كما تقول : قد قتلنا من كل قوم ، وأصبنا (٣) من كل طعام ، ثم تستأنف أيّا فترفعها بالذي بعدها ، كما قال جلّ وعزّ : (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ

__________________

ـ فنصب ، وقال الفراء أيضا : «أي» إذا أوقعت الفعل المتقدّم عليها خرجت من معنى الاستفهام ، وذلك إن أردته جائز ، يقولون : لأضربن أيهم يقول ذلك (بالنصب). وقال الكسائي : تقول لأضربن أيهم فى الدار (بالنصب) ولا تقول : ضربت أيهم فى الدار ، ففرق بين الواقع والمنتظر. والكوفيون يجرون «أيا» مجرى من وما فى الاستفهام والجزاء ، فإذا وقع عليها الفعل وهى بمعنى الذي نصبوها لا محالة ، فيقولون : اضرب أيهم أقبح ، وأكرم أيهم هو أفضل. وحكى أنهم قرءوا بالنصب فى الآية (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا).

(١) ما بين المربعين ساقط فى أ.

(٢) آية ٦٩ سورة مريم.

(٣) فى ج ، ش : وأكلنا.

٤٧

أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) (١) أي ينظرون أيّهم أقرب (٢). ومثله (يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) (٣). وأما الوجه ، الآخر فإن فى قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) لننزعن من الذين تشايعوا على هذا ، ينظرون بالتشايع أيهم أشدّ وأخبث ، وأيهم أشدّ على الرحمن عتيّا ، والشيعة (٤) ويتشايعون سواء فى المعنى. وفيه (٥) وجه ثالث من الرفع أن تجعل (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) بالنداء ؛ أي لننادين (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) وليس هذا الوجه يريدون. ومثله مما تعرفه به قوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) (٦) فقال بعض المفسرين (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) : ألم يعلم ، والمعنى ـ والله أعلم ـ أ فلم ييأسوا علما بأن الله لو شاء لهدى الناس جميعا. وكذلك (لَنَنْزِعَنَّ) يقول يريد ننزعهم بالنداء.

وقوله : (مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها ...) (٧١) غير مهموز ؛ يقول : ليس فيها لون غير الصّفرة. وقال بعضهم : هى صفراء حتى ظلفها وقرنها أصفران.

وقوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ...) (٧٢)

يقال : إنه ضرب بالفخذ اليمنى ، وبعضهم يقول : ضرب بالذّنب.

ثم قال الله عزوجل : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) معناه والله أعلم (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) فيحيا (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) أي اعتبروا ولا تجحدوا بالبعث ، وأضمر

__________________

(١) آية ٥٧ سورة الإسراء.

(٢) «أيهم أقرب» ابتداء وخبر فى موضع نصب بالفعل المضمر الذي دل عليه الكلام ؛ التقدير : ينظرون أيهم أقرب. ولا يعمل الفعل فى لفظ أي لأنها استفهام.

(٣) آية ٤٤ سورة آل عمران.

(٤) فى الأصول : «التشيعة» ويبدو أن ما أثبت هو الصواب.

(٥) فى ج ، ش : «وفيها».

(٦) آية ٣١ سورة الرعد.

٤٨

فيحيا ، كما قال : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (١) والمعنى ـ والله أعلم ـ فضرب البحر فانفلق.

وقوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ ...) (٧٣) تذكير (مِنْهُ) على وجهين ؛ إن شئت ذهبت به ـ يعنى (مِنْهُ) (٢) ـ إلى أن البعض حجر ، وذلك مذكر ، وإن شئت جعلت البعض جمعا فى المعنى فذكّرته بتذكير بعض ، كما تقول للنسوة : ضربنى بعضكنّ ، وإن شئت أنثته هاهنا بتأنيث المعنى كما قرأت القرّاء : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ) (٣) «ومن تقنت» بالياء والتاء ، على المعنى ، وهى فى قراءة أبىّ : «وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منها الأنهار».

وقوله : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ ...) (٧٨) فالأمانىّ على وجهين فى المعنى ، ووجهين فى العربية ؛ فأما فى العربية فإنّ من العرب من يخفّف الياء فيقول : (إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ) ومنهم من يشدّد ، وهو أجود الوجهين. وكذلك ما كان مثل أمنيّة ، ومثل أضحيّة ، وأغنيّة ، ففى جمعه وجهان : التخفيف والتشديد ، وإنما تشدّد لأنك تريد الأفاعيل ، فتكون مشدّدة لاجتماع الياء من جمع (٤) الفعل والياء الأصلية. وإن خفّفت (٥) حذفت ياء الجمع فخففت الياء الأصلية ، وهو كما يقال : القراقير (٦) والقراقر ، (فمن قال الأمانى بالتخفيف) (٧) فهو الذي يقول القراقر ، ومن شدّد الأمانى فهو الذي يقول القراقير. والأمنيّة فى المعنى التلاوة ، كقول الله عزوجل : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (٨) أي فى تلاوته ، والأمانىّ أيضا أن يفتعل

__________________

(١) آية ٦٣ سورة الشعراء.

(٢) يعنى «منه» ليست فى ج ، ش ، ويبدو أنها تفسير لعبارة المؤلف من المستملي.

(٣) آية ٣١ سورة الأحزاب. و «يقنت» حملا على لفظ «من» وبالتاء من فوق حملا على المعنى.

(٤) فى أ : «جميع» يريد الحادثة فى صيغة الأفاعيل.

(٥) فى ج ، ش : «وإذا خففت ...».

(٦) قراقير وقراقر جمع قرقور بالضم وهى السفينة العظيمة الطويلة.

(٧) فى أ : «فمن خفف الأمانى».

(٨) آية ٥٢ سورة الحج.

٤٩

الرجل الأحاديث المفتعلة ؛ قال بعض العرب لابن دأب (١) وهو يحدّث الناس (٢) : أ هذا شىء رويته أم شىء تمنّيته؟ يريد افتعلته ، وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم ليست من كتاب الله (٣). وهذا أبين الوجهين.

وقوله : (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ...) (٨٠) يقال (٤) : كيف جاز فى الكلام : لآتينك أياما معدودة ، ولم يبين عددها؟ وذلك أنهم نووا الأيام التي عبدوا فيها العجل ، فقالوا : لن نعذّب فى النار إلا تلك الأربعين الليلة التي عبدنا فيها العجل. فقالوا : لن نعذّب فى النار إلا تلك الأربعين الليلة التي عبدنا فيها العجل. فلما كان معناها مؤقّتا معلوما عندهم وصفوه بمعدودة ومعدودات ، فقال الله : قل يا محمد : هل عندكم من الله عهد بهذا الذي قلتم (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

وقوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ ...) (٥) (٧٦) هذا من قول اليهود لبعضهم ؛ أي لا تحدّثوا المسلمين بأنكم تجدون صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التوراة وأنتم لا تؤمنون به ، فتكون لهم الحجة عليكم. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قال الله : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) هذا جوابهم من قول الله.

وقوله : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ ...) (٨٥)

إن شئت جعلت (هُوَ) كناية عن الإخراج (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) أي وهو محرّم عليكم ؛ يريد : إخراجهم محرّم عليكم ، ثم أعاد الإخراج

__________________

(١) ابن دأب : أبو الوليد عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب المدني ، كان يضع الشعر وأحاديث السمر وكلاما ينسب إلى العرب ، فسقط ، وذهبت روايته. وتوفى سنة ١٧١ ه‍.

(٢) زيادة فى أ.

(٣) فى ج ، ش : «من كتب الله».

(٤) فى أ : «فقال».

(٥) يلاحظ أن هذه الآية والتي تليها ليست على الترتيب من الآية السابقة.

٥٠

مرة أخرى تكريرا على (هُوَ) لمّا حال (بين (١) الإخراج وبين (هُوَ) كلام) ، فكان رفع الإخراج بالتكرير على (هُوَ) وإن شئت جعلت (هُوَ) عمادا ورفعت الإخراج بمحرم (٢) ؛ كما قال الله جل وعزّ : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) (٣) فالمعنى ـ والله أعلم ـ ليس بمزحزحه من العذاب التّعمير ؛ فإن قلت : إن العرب إنما تجعل العماد فى الظّنّ لأنّه ناصب ، وفى «كان» و «ليس» لأنهما يرفعان ، وفى «إن» وأخواتها لأنهن ينصبن ، ولا ينبغى للواو وهى لا تنصب ولا ترفع ولا تخفض أن يكون لها عماد ، قلت : لم يوضع العماد على أن يكون لنصب أو لرفع أو لخفض ، إنما وضع فى كل موضع يبتدأ فيه بالاسم قبل الفعل ، فإذا رأيت الواو فى موضع تطلب الاسم دون الفعل صلح فى ذلك العماد ؛ كقولك : أتيت زيدا وأبوه قائم ، فقبيح أن تقول : أتيت زيدا وقائم أبوه ، وأتيت زيدا ويقوم أبوه ؛ لأنّ الواو تطلب الأب ، فلما بدأت بالفعل وإنما تطلب الواو الاسم أدخلوا لها «هو» لأنّه اسم. قال الفرّاء (٤) : سمعت بعض العرب يقول : كان مرّة وهو ينفع النّاس أحسابهم (٥). وأنشدنى بعض العرب :

__________________

(١) فى ش ، ج : «بينهما كلام».

(٢) مراده بالعماد الضمير المسمى عند البصريين ضمير فصل ، وسمى ضمير فصل لأنه فصل بين المبتدأ والخبر أو بين الخبر والنعت. ويسميه الكوفيون عمادا لأنه يعتمد عليه فى الفائدة إذ به يتبين أن الثاني خبر لا تابع. وبعض الكوفيين يسميه دعامة ؛ لأنه يدعم به الكلام أي يقوى به ويؤكد.

وقد قال النحاس : وزعم الفراء أن «هو» عماد ، وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له ؛ لأن العماد لا يكون فى أوّل الكلام.

(٣) آية ٩٦ من سورة البقرة.

(٤) «قال الفراء» : ساقط من أ.

(٥) هكذا المثال فى جميع الأصول.

٥١

فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته

على العيس فى آباطها عرق يبس (١)

بأنّ السّلامىّ الذي بضريّة

أمير الحمى قد باع حقّى بنى عبس (٢)

بثوب ودينار وشاة ودرهم

فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس

فجعل مع «هل» العماد وهى لا ترفع ولا تنصب ؛ لأن هل تطلب الأسماء أكثر من طلبها فاعلا (٣) ؛ قال : وكذلك «ما» و «أما» ، تقول : ما هو بذاهب أحد ، وأمّا هو فذاهب زيد ، لقبح أمّا ذاهب فزيد.

وقوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ...) (٨١)

وضعت (بَلى) لكل إقرار فى أوّله جحد ، ووضعت «نعم» للاستفهام الذي لا جحد فيه ، ف (بَلى) بمنزلة «نعم» إلا أنها لا تكون إلّا لما فى أوّله جحد ؛ قال الله تبارك وتعالى : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ) (٤) ف (بَلى) لا تصلح فى هذا الموضع. وأما الجحد فقوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) (٥) ولا تصلح هاهنا «نعم» أداة ؛ وذلك أن الاستفهام يحتاج إلى جواب ب «نعم» و «لا» ما لم يكن فيه جحد ، فإذا دخل الجحد فى الاستفهام لم يستقم أن تقول (٦) فيه «نعم» فتكون كأنك مقرّ بالجحد وبالفعل الذي بعده ؛ ألا ترى أنّك لو قلت لقائل قال لك : أما لك مال؟ فلو قلت «نعم» كنت مقرّا بالكلمة بطرح الاستفهام وحده ، كأنك قلت «نعم» مالى مال ، فأرادوا أن يرجعوا عن الجحد ويقرّوا بما

__________________

(١) عرق يبس : جاف.

(٢) السلامى : نسبة إلى سلام : موضع بنجد. وضرية : قرية قديمة فى طريق مكة من البصرة من نجد ، أو أرض بنجد ينزلها حاج البصرة. وفى البيت إقواء ؛ لأن روىّ قافية البيت الأوّل والثالث مرفوع والثاني مجرور.

(٣) كذا. والوجه : فعلا ، وعذره أن الفاعل حليف الفعل ورديفه. وفى الأصول : «فاعل» وكأن وجهه أن كلا يطلب الآخر ، فهل تطلب الفاعل ، والفاعل يطلبها ، ولا يطلبها الاسم.

(٤) آية ٤٤ سورة الأعراف.

(٥) آية ٨ ، ٩ سورة الملك.

(٦) «أن تقول» : ساقط من ج ، ش.

٥٢

بعده فاختاروا (بَلى) (١) لأنّ أصلها كان رجوعا محضا عن الجحد إذا قالوا : ما قال عبد الله بل زيد ، فكانت «بل» كلمة عطف ورجوع لا يصلح الوقوف عليها ، فزادوا فيها ألفا يصلح فيها الوقوف عليه ، ويكون رجوعا عن الجحد فقط ، وإقرارا بالفعل الذي بعد الجحد ، فقالوا : (بَلى) ، فدلّت (٢) على معنى الإقرار والإنعام ، ودل لفظ «بل» على الرجوع عن الجحد فقط.

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ...) (٨٣) رفعت (تَعْبُدُونَ) لأنّ دخول «أن» يصلح فيها ، فلمّا حذف الناصب رفعت ، كما قال الله : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) (٣) (قرأ الآية) (٤) وكما قال : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٥) وفى قراءة عبد الله «ولا تمنن أن تستكثر» فهذا وجه من الرفع ، فلما لم تأت بالناصب رفعت. وفى قراءة أبىّ : «وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل لا تعبدوا» ومعناها الجزم بالنهى ، وليست بجواب لليمين. ألا ترى أنه قد قال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) (٦) فأمروا ، والأمر لا يكون جوابا لليمين ؛ لا يكون فى الكلام أن تقول : والله قم ، ولا أن تقول : والله لا تقم. ويدلّ على أنه نهى وجزم أنه قال : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) كما تقول : افعلوا ولا تفعلوا ، أو لا تفعلوا وافعلوا. وإن شئت جعلت

__________________

(١) هذا على رأى من يقول : إن أصل «بلى». «بل» والألف فى آخرها زائدة للوقف ، فلذا كانت للرجوع بعد النفي ، كما كانت للرجوع عند الجحد فى : ما قام زيد بل عمرو ، وقال قوم : إن «بلى» أصل الألف.

(٢) أي الألف.

(٣) آية ٦٤ سورة الزمر.

(٤) أي قرأ الفرّاء الآية كلها ، وهذا من المستملي. وسقط هذا فى ش ، ج.

(٥) آية ٦ سورة المدثر.

(٦) آية ٦٣ من سورة البقرة.

٥٣

(لا تَعْبُدُونَ) جوابا لليمين ؛ لأنّ أخذ الميثاق يمين ، فتقول : لا يعبدون ، ولا تعبدون ، والمعنى واحد. وإنّما جاز أن تقول لا يعبدون ولا تعبدون وهم غيّب كما قال : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) سيغلبون» (١) و (سَتُغْلَبُونَ) بالياء والتاء ؛ «سيغلبون» بالياء على لفظ الغيب ، والتّاء على المعنى ؛ لأنّه إذا أتاهم أو لقيهم صاروا مخاطبين (٢). وكذلك قولك : استحلفت عبد الله ليقومنّ ؛ لغيبته ، واستحلفته لتقومنّ (لأنى) (٣) قد كنت خاطبته. ويجوز فى هذا استحلفت عبد الله لأقومنّ ؛ أي قلت له : احلف لأقومنّ ، كقولك : قل لأقومنّ (٤). فإذا قلت : استحلفت فأوقعت فعلك على مستحلف جاز فعله أن يكون بالياء والتاء والألف ، وإذا كان هو حالفا وليس معه مستحلف كان بالياء وبالألف ولم يكن بالتاء ؛ من ذلك حلف عبد الله ليقومنّ فلم يقم ، وحلف عبد الله لأقومنّ ؛ لأنّه كقولك قال لأقومنّ ، ولم يجز بالتّاء ؛ لأنّه لا يكون مخاطبا لنفسه ؛ لأنّ التاء لا تكون إلّا لرجل تخاطبه ، فلما لم يكن مستحلف سقط الخطاب. وقوله : (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) (٥) فيها ثلاثة أوجه : «لتبيّتنّه» و «ليبيّتنّه» و (لَنُبَيِّتَنَّهُ) بالتاء والياء والنون. إذا جعلت (تَقاسَمُوا) على وجه فعلوا (٦) ، فإذا جعلتها فى موضع جزم (٧) قلت : تقاسموا لتبيتنه ولنبيتنه ، ولم يجز بالياء ، ألا ترى أنّك تقول للرجل : أحلف لتقومنّ ، أو احلف لأقومنّ ، كما تقول : قل لأقومنّ. ولا يجوز أن تقول للرّجل احلف ليقومنّ ، فيصير كأنّه لآخر ، فهذا ما فى اليمين.

__________________

(١) آية ١٢ سورة آل عمران.

(٢) فى أ : «الذي تلقاهم به فصاروا مخاطبين».

(٣) كذا فى الأصول ، وفى الطبري : «لأنك» ولكل وجه.

(٤) وجدت العبارة الآتية بهامش نسخة (أ) ولم يشر إلى موضعها : «ولا يجوز احلف لأقومنّ ، ولكن احلف لتقومنّ ، وقل لأقومنّ».

(٥) آية ٤٩ سورة النمل.

(٦) أي فعلا ماضيا فى معنى الحال كأنه قال : قالوا متقاسمين بالله.

(٧) أي فعل أمر ؛ أي قال بعضهم لبعض احلفوا.

٥٤

وقوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ ...) (٨٩)

[إن شئت] رفعت المصدّق ونويت أن يكون نعتا للكتاب لأنّه نكرة ، ولو نصبته على أن تجعل المصدّق فعلا للكتاب لكان صوابا (١). وفى قراءة عبد الله فى آل عمران : «ثمّ جاءكم رسول مصدّقا» (٢) فجعله فعلا. وإذا كانت النكرة قد وصلت بشىء سوى نعتها ثم جاء النّعت ، فالنّصب على الفعل أمكن منه إذا كانت نكرة غير موصولة ، وذلك لأنّ صلة النكرة تصير كالموقّتة لها ، ألا ترى أنك إذا قلت : مررت برجل فى دارك ، أو بعبد لك فى دارك ، فكأنّك قلت : بعبدك أو بساس دابّتك ، فقس على هذا ؛ وقد قال بعض الشعراء :

لو كان حىّ ناجيا لنجا

من يومه المزلّم الأعصم (٣)

فنصب ولم يصل النّكرة بشىء وهو جائز. فأما قوله : (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا) (٤) فإنّ نصب اللّسان على وجهين ؛ أحدهما أن تضمر شيئا يقع عليه المصدّق ، كأنك قلت : وهذا يصدّق التوراة والإنجيل (لِساناً عَرَبِيًّا) (لأنّ التوراة والإنجيل لم يكونا عربيّين) (٥) فصار اللسان العربىّ (٦) مفسّرا. وأما الوجه الآخر فعلى ما فسّرت (٧)

__________________

(١) يريد المؤلف أنه حال من كتاب ، وجاز ذلك لأنه قد تخصص بالوصف فقرب من المعرفة.

وفى ج ، ش : «لأنه نعت للكتاب وهما جميعا نكرتان كان صوابا».

(٢) «مصدقا» بالنصب قراءة شاذة ، وحسن نصبه على الحال من النكرة كونها فى قوّة المعرفة من حيث أريد بها شخص معين ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) البيت من قصيدة طويلة للمرقش الأكبر ، وهو عوف بن سعد بن مالك شاعر جاهلى قالها فى مرثية عم له. والمزلم : الوعل ، وزلمتا العنز زنمتاها ، والزلمة تكون للمعز فى حلوقها متعلقة كالقرط ، وإن كانت فى الأذن فهى زنمة. والأعصم من الظباء والوعول ما فى ذراعيه أو فى أحدهما بياض.

(٤) آية ١٢ سورة الأحقاف.

(٥) فى أ : «لأن التوراة لم تكن عربية ، ولا الإنجيل».

(٦) سقط فى أ.

(٧) فى ج. وش : «وصفت».

٥٥

لك ، لما وصلت الكتاب بالمصدّق أخرجت «لسانا» ممّا فى «مصدّق» من الرّاجع من ذكره (١). ولو كان اللّسان مرفوعا لكان صوابا ؛ على أنه نعت وإن طال.

وقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ...) (٩٠) معناه ـ والله أعلم ـ باعوا به أنفسهم. وللعرب فى شروا واشتروا مذهبان ، فالأكثر منهما أن يكون شروا : باعوا ، واشتروا : ابتاعوا ، وربّما جعلوهما جميعا فى معنى باعوا ، وكذلك البيع ؛ يقال : بعت الثوب. على معنى أخرجته من يدى ، وبعته : اشتريته ، وهذه اللّغة فى تميم وربيعة. سمعت أبا ثروان يقول لرجل : بع لى تمرا بدرهم. يريد اشتر لى ؛ وأنشدنى بعض ربيعة (٢) :

ويأتيك بالأخبار من لم تبع له

بتاتا ولم تضرب له وقت موعد

على معنى لم تشتر له بتاتا ؛ قال الفرّاء : والبتات الزاد. وقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا) «أن يكفروا» فى موضع خفض ورفع ؛ فأما الخفض فأن تردّه على الهاء التي فى «به» على التكرير على كلامين (٣) كأنّك قلت اشتروا أنفسهم بالكفر (٤). وأما الرفع فأن يكون مكرورا أيضا على موضع «ما» التي تلى «بئس (٥)». ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك بئس الرجل عبد الله ، وكان الكسائىّ يقول ذلك (٦) قال الفراء : وبئس لا يليها مرفوع موقّت ولا منصوب موقّت ، ولها

__________________

(١) يريد أن (لسانا) حال من المضمر الذي فى مصدق.

(٢) البيت لطرفة من معلقته.

(٣) فى نسخة (أ) على كلامهم.

(٤) يريد أن المصدر من أن والفعل فى محل جر بدل من الهاء فى «به» والبدل على نية تكرار العامل.

(٥) وجه الرفع أن يكون المصدر فى محل رفع على أنه المخصوص بالذم ، وفى الآية أعاريب أخرى فى كتب التفسير.

(٦) الكسائي يقول : «ما» و «اشتروا» بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه ، والتقدير : بئس اشتراؤهم أن يكفروا. وهذا مردود فإن «نعم» و «بئس» لا يدخلان على اسم معين معروف ، والشراء قد تعرف بإضافته إلى الضمير.

٥٦

وجهان ؛ فإذا وصلتها بنكرة قد تكون معرفة بحدوث ألف ولام فيها نصبت تلك النكرة ، كقولك : بئس رجلا عمرو ، ونعم رجلا عمرو ، وإذا أوليتها معرفة فلتكن غير موقّتة ، فى سبيل النكرة ، ألا ترى أنك ترفع فتقول : نعم الرجل عمرو (١) ، وبئس الرجل عمرو (٢) ، فإن أضفت النكرة إلى نكرة رفعت ونصبت ، كقولك : نعم غلام سفر زيد ، وغلام سفر زيد وإن أضفت إلى المعرفة شيئا رفعت ، فقلت : نعم سائس الخيل زيد ، ولا يجوز النّصب إلا أن يضطرّ إليه شاعر ، لأنهم حين أضافوا إلى النكرة رفعوا ، فهم إذا أضافوا إلى المعرفة أحرى ألّا ينصبوا. وإذا أوليت نعم وبئس من النكرات ما لا يكون معرفة مثل «مثل» و «أى» كان الكلام فاسدا ؛ خطأ أن تقول : نعم مثلك زيد ، ونعم أىّ رجل زيد ؛ لأن هذين لا يكونان مفسّرين (٣) ، ألا ترى أنك لا تقول : [لله] (٤) درّك من أىّ رجل ، كما تقول : لله درّك من رجل ، ولا يصلح أن تولى نعم وبئس «الذى» ولا «من» ولا «ما» إلا أن تنوى بهما الاكتفاء (٥) دون أن يأتى بعد ذلك اسم مرفوع (٦). من ذلك قولك : بئسما صنعت ، فهذه مكتفية ، وساء ما صنعت. ولا يجوز ساء ما صنيعك. وقد أجازه الكسائي فى كتابه على هذا المذهب. قال الفراء : ولا نعرف ما جهته ، وقال (٧) : أرادت العرب أن تجعل «ما» بمنزلة الرجل حرفا تامّا ، ثم أضمروا لصنعت «ما» كأنّه قال : بئسما ما صنعت ، فهذا قوله وأنا لا أجيزه. فإذا جعلت «نعم» (صلة لما) (٨) بمنزلة قولك «كلما» و «إنما» كانت بمنزلة «حبّذا» فرفعت بها الأسماء ؛ من ذلك قول الله عزوجل : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) رفعت (هِيَ) ب «نعما» ولا تأنيث فى «نعم»

__________________

(١ ، ٢) فى أ : «عبد الله».

(٣) لاشتراط النحاة فى فاعل نعم وبئس أن يكون غير متوغل فى الإبهام ؛ بخلاف نحو «غير» و «مثل» و «أي».

(٤) زيادة يقتضيها المثال.

(٥) أي الاستغناء عن المخصوص. وهذا إذا كان هذان اللفظان موصولين بما يوصل به الذي.

(٦) أي مخصوص.

(٧) أي الكسائىّ.

(٨) كذا فى الأصول. والوجه فى العبارة : «موصولة بما» أو «جعلت ما صلة نعم» كما سيأتى له. وقد ركب الفراء متن التسامح فى هذا.

٥٧

ولا تثنية إذا جعلت «ما» صلة لها فتصير «ما» مع «نعم» بمنزلة «ذا» من (١) «حبّذا» ألا ترى أنّ «حبذا» لا يدخلها تأنيث ولا جمع. ولو جعلت «ما» على جهة الحشو (٢) كما تقول : عما قليل آتيك ، جاز فيه التأنيث والجمع ، فقلت : بئسما رجلين أنتما ، وبئست ما جارية جاريتك. وسمعت العرب تقول فى «نعم» المكتفية بما : بئسما (٣) تزويج ولا مهر ، فيرفعون التزويج ب (بِئْسَمَا).

وقوله : (بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ...) (٩٠)

موضع «أن» جزاء ، وكان الكسائي يقول فى «أن» : هى فى موضع خفض ، وإنما هى جزاء (٤).

إذا كان الجزاء لم يقع عليه شىء قبله (وكان) (٥) ينوى بها الاستقبال كسرت «إن» وجزمت بها فقلت : أكرمك إن تأتنى. فإن كانت ماضية قلت : أكرمك أن تأتينى. وأبين من ذلك ان تقول : أكرمك أن أتيتنى ؛ كذلك قال الشاعر :

أ تجزع أن بان الخليط المودّع

وحبل الصّفا من عزّة المتقطّع

يريد أ تجزع بأن ، أو لأن كان ذلك. ولو أراد الاستقبال ومحض الجزاء لكسر «إن» وجزم بها ، كقول الله جلّ ثناؤه : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) (٦) فقرأها القرّاء بالكسر ، ولو قرئت بفتح «أن» على معنى [إذ لم يؤمنوا (٧)] ولأن لم يؤمنوا ، ومن أن لم يؤمنوا [لكان صوابا] (٨) وتأويل «أن» فى موضع نصب ، لأنها إنما كانت (٩) أداة بمنزلة «إذ» فهى فى موضع نصب إذا ألقيت الخافض وتمّ

__________________

(١) فى ش ، ج : «مع».

(٢) يريد بالحشو أنها زائدة غير كافة عن العمل.

(٣) يريد رفع التزويج ببئس ، و «ما» لا موضع لها لتركيبها مع بئس تركيب «ذا» مع «حب».

(٤) فى ش ، ج بعد هذا زيادة : «فى قول الفراء».

(٥) فى أ : «فكان».

(٦) آية ٦ سورة الكهف.

(٧) ساقط من أ.

(٨) زيادة تقتضيها العبارة.

(٩) فى ج ، ش : «إنما أداة إلخ». وكتب فى ش فوق السطر «هى» بين «إنما» و «أداة».

٥٨

ما قبلها ، فإذا جعلت لها الفعل أو أوقعته عليها أو أحدثت لها خافضا فهى فى موضع ما يصيبها من الرفع والنصب والخفض (١).

وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ...) (٨٩)

وقبلها (وَلَمَّا) وليس للأولى جواب ، فإن الأولى صار جوابها كأنه فى الفاء التي فى الثانية ، وصارت (كَفَرُوا بِهِ) كافية من جوابهما جميعا. ومثله فى الكلام : ما هو إلّا أن أتانى عبد الله فلما قعد أوسعت له وأكرمته. ومثله قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) فى البقرة (٢) (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) فى «طه» (٣) اكتفى بجواب واحد لهما جميعا (٤) (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فى البقرة (فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) فى «طه». وصارت الفاء فى قوله (فَمَنْ تَبِعَ) كأنها جواب ل «فإما» ، ألا ترى أنّ الواو لا تصلح فى موضع الفاء ، فذلك دليل على أن الفاء جواب وليست بنسق (٥).

وقوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) (٨٨)

يقول القائل : هل كان لهم قليل من الإيمان أو كثير؟ ففيه وجهان من العربية : أحدهما ـ ألّا يكونوا آمنوا قليلا ولا كثيرا. ومثله مما تقوله العرب بالقلّة على أن ينفوا الفعل كلّه قولهم : قلّ ما رأيت مثل هذا قطّ. وحكى الكسائي عن العرب : مررت ببلاد قلّ ما تنبت إلّا البصل والكرّاث. أي ما تنبت

__________________

(١) راجع الطبري فى تفسير قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) سورة «الزخرف» ففيه الكلام على فتح همزة «إن» وكسرها.

(٢) آية ٣٨ من السورة المذكورة.

(٣) آية ١٢٣ من السورة المذكورة.

(٤) زيادة فى أ.

(٥) فى جواب «لما» وجه آخر انظره فى تفسير الطبري.

٥٩

إلّا هذين. وكذلك قول العرب : ما أكاد أبرح منزلى ؛ وليس يبرحه وقد يكون أن يبرحه قليلا. والوجه الآخر ـ أن يكونوا يصدقون بالشيء قليلا ويكفرون بما سواه : بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكونون كافرين ؛ وذلك أنه يقال : من خلقكم؟ ومن رزقكم؟ فيقولون : الله تبارك وتعالى ، ويكفرون بما سواه : بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبآيات الله ، فذلك قوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ). وكذلك قال المفسرون فى قول الله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١) على هذا التفسير.

وقوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ...) (٩٠)

لا يكون باؤ مفردة حتى توصل بالباء. فيقال : باء بإثم يبوء بوءا. وقوله (بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) أن الله غضب على اليهود فى قولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) (٢). ثم غضب عليهم فى تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دخل المدينة ، فذلك قوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ).

وقوله : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ ...) (٩١)

يريد سواه ، وذلك كثير فى العربية أن يتكلّم الرجل بالكلام الحسن فيقول السّامع : ليس وراء هذا الكلام شىء ، أي ليس عنده شىء سواه.

وقوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ ...) (٩١)

يقول القائل : إنما (تَقْتُلُونَ) للمستقبل فكيف قال : (مِنْ قَبْلُ)؟ ونحن لا نجيز فى الكلام أنا أضربك أمس ، وذلك جائز إذا أردت بتفعلون الماضي ،

__________________

(١) آية ١٠٦ سورة يوسف.

(٢). ٦٤ سورة المائدة.

٦٠