معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

وقوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) (٥)

عن الذين أجلهم خمسون ليلة. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ومعنى الأشهر الحرم : المحرّم وحده. وجاز أن يقول : الأشهر الحرم للمحرم وحده لأنه متّصل بذي الحجة وذى القعدة وهما حرام ؛ كأنه قال : فإذا انسلخت الثلاثة.

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) (٤)

استثناء فى موضع نصب. وهم قوم من بنى كنانة كان قد بقي من أجلهم تسعة أشهر.

قال الله تبارك وتعالى : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) ؛ يقول : لا تحطّوهم إلى الأربعة.

وقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٥)

فى الأشهر الحرم وغيرها فى الحلّ والحرم.

وقوله : (وَاحْصُرُوهُمْ) وحصرهم أن يمنعوا من البيت الحرام.

وقوله : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) يقول : على طرقهم إلى البيت ؛ فقام رجل من الناس حين قرئت (براءة) فقال : يا ابن أبى طالب ، فمن أراد منا أن يلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بعض الأمر بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد؟ قال علىّ : بلى ، لأن الله تبارك وتعالى قد أنزل :

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (٦)

يقول : ردّه إلى موضعه ومأمنه.

٤٢١

وقوله : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) فى موضع جزم وإن فرق بين الجازم والمجزوم ب (أحد). وذلك سهل فى (إن) خاصّة دون حروف الجزاء ؛ لأنها شرط وليست باسم ، ولها عودة إلى الفتح فتلقى الاسم والفعل وتدور فى الكلام فلا تعمل ، فلم يحفلوا أن يفرقوا بينها وبين المجزوم بالمرفوع والمنصوب. فأما المنصوب فمثل قولك : إن أخاك ضربت ظلمت. والمرفوع مثل قوله : (إِنِ) (١) (امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ولو حوّلت (هلك) إلى (إن يهلك) لجزمته ، وقال الشاعر (٢) :

فان أنت تفعل فللفاعلي

ن أنت المجيزين تلك الغمارا

ومن فرق بين الجزاء وما جزم بمرفوع أو منصوب لم يفرق بين جواب الجزاء وبين ما ينصب بتقدمة المنصوب أو المرفوع ؛ تقول : إن عبد الله يقم يقم أبوه ، ولا يجوز أبوه يقم ، ولا أن تجعل مكان الأب منصوبا بجواب الجزاء. فخطأ أن تقول : إن تأتنى زيدا تضرب. وكان الكسائىّ يجيز تقدمة النصب فى جواب الجزاء ، ولا يجوّز تقدمة المرفوع ، ويحتجّ بأن الفعل إذا كان للأول عاد فى الفعل راجع ذكر الأول ، فلم يستقم إلغاء الأوّل. وأجازه فى النصب ؛ لأن المنصوب لم يعد ذكره فيما نصبه ، فقال : كأن المنصوب لم يكن فى الكلام. وليس ذلك كما قال ؛ لأن الجزاء له جواب بالفاء. فإن لم يستقبل بالفاء استقبل بجزم مثله ولم يلق باسم ،

__________________

(١). ١٧٦ سورة النساء.

(٢) هو الكميت بن زيد من قصيدته فى مدح أبان بن الوليد بن عبد الملك بن مروان. يقول : إن تفعل هذه المكارم فأنت منسوب للفاعلين الأجواد. والغمار جمع الغمرة وهى الشدة. و «المجيزين» وصف من أجاز بمعنى جاز.

٤٢٢

إلا أن يضمر فى ذلك الاسم الفاء. فإذا أضمرت الفاء ارتفع الجواب فى منصوب الأسماء ومرفوعها لا غير. واحتجّ بقول الشاعر (١) :

وللخيل أيّام فمن يصطبر لها

ويعرف لها أيامها الخير تعقب

فجعل (الخير) منصوبا ب (تعقب). (والخير) فى هذا الموضع نعت للايام ؛ كأنه قال : ويعرف لها أيامها الصالحة تعقب. ولو أراد أن يجعل (الخير) منصوبا ب (تعقب) لرفع (تعقب) لأنه يريد : فالخير تعقبه.

وقوله : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ) (٧)

على التعجب ؛ كما تقول : كيف يستبقى مثلك ؛ أي لا ينبغى أن يستبقى. وهو فى قراءة عبد الله (كيف يكون للمشركين عهد عند الله ولا ذمة) فجاز دخول (لا) مع الواو لأن معنى أوّل الكلمة جحد ، وإذا استفهمت بشىء من حروف الاستفهام فلك أن تدعه استفهاما ، ولك أن تنوى به الجحد. من ذلك قولك : هل أنت إلّا كواحد منّا؟! ومعناه : ما أنت إلا واحد منا ، وكذلك تقول : هل أنت بذاهب؟ فتدخل الباء كما تقول : ما أنت بذاهب. وقال الشاعر :

يقول إذا اقلولى عليها وأقردت

ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم (٢)

وقال الشاعر :

فاذهب فأىّ فتى فى الناس أحرزه

من يومه ظلم دعج ولا جبل (٣)

__________________

(١) هو طفيل الغنوي. والبيت من قصيدة عدتها ٧٦ بيتا ، فالها فى غارة له على طيء أكثرها فى وصف الخيل. يقول : إن الخيل تنفع فى الغارات والدفاع عن الذمار وتبلى البلاء الحسن ، فمن يعرف هذا لها ويصبر على العناية بها أعقبته الخير ودفعت عنه الضير. وأنظر الخزانة ٣ / ٦٤٢

(٢ ، ٣) انظر ص ١٦٤ من هذا الجزء.

٤٢٣

فقال : ولا جبل ، للجحد وأوّله استفهام ونيّته الجحد ؛ معناه ليس يحرزه من يومه شىء. وزعم الكسائي أنه سمع العرب تقول : أين كنت لتنجو منى ، فهذه اللام إنما تدخل ل (ما) التي يراد بها الجحد ؛ كقوله : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) (١) ، (وَما كُنَّا (٢) لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ).

وقوله : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) (٨)

اكتفى ب (كيف) ولا فعل معها ؛ لأن المعنى فيها قد تقدّم فى قوله : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) وإذا أعيد الحرف وقد مضى معناه استجازوا حذف الفعل ؛ كما قال الشاعر (٣) :

وخبرتمانى أنما الموت فى القرى

فكيف وهذى هضبة وكثيب

وقال الحطيئة :

فكيف ولم أعلمهم خذلوكم

على معظم ولا أديمكم قدّوا (٤)

__________________

(١) آية ١١١ سورة الأنعام.

(٢) آية ٤٣ سورة الأعراف.

(٣) هو كعب بن سعد الغنوي من قصيدة يرثى فيها أخاه أبا المغوار ، وقد ذكره فى قوله :

وداع دعا : يا من يجيب إلى الندى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

فقلت : ادع أخرى وارفع الصوت جهرة

لعل أبى المغوار منك قريب

يقول : إن الناس تعتقد أن فى الريف الوباء والمرض ، وفى البادية الصحة وطيب الهواء ، وقد مات أخوه وهو فى حر البادية بين هضبة وقليب ، أي بئر لا نهر يجرى فى القرى. وورد الشطر الثاني فى اللسان (الألف اللينة) :

فكيف وهاتا روضة وكثيب

(٤) من قصيدته فى مدح بنى شماس بن لأى من بنى سعد. والمعظم بفتح الظاء وكسرها : الأمر العظيم. يقول : إن بنى شماس يقومون بنصرة عشيرتهم ، ومع ذلك يحسدهم قومهم. وقدّ الأديم : شقه. يقول : لا يقدح فى عرضكم ولا يفسد أمركم.

٤٢٤

وقال آخر :

فهل إلى عيش يا نصاب وهل

فأفرد الثانية لأنه يريد بها مثل معنى الأوّل.

وقوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) (١١)

ثم قال : (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) معناه : فهم إخوانكم. يرتفع مثل هذا من الكلام بأن يضمر له اسمه مكنّيا عنه. ومثله (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (١) أي فهم إخوانكم. وفى قراءة أبىّ إن تعذّبهم فعبادك (٢) أي فهم عبادك.

وقوله : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) (١٢)

يقول : رءوس الكفر (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) : لا عهود لهم. وقرأ الحسن (٣) (لا إيمان لهم) يريد أنهم كفرة لا إسلام لهم. وقد يكون معنى الحسن على : لا أمان لهم ، أي لا تؤمنوهم ؛ فيكون مصدر قولك : آمنته إيمانا ؛ تريد أمانا.

وقوله : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١٣)

ذلك أن خزاعة كانوا حلفاء للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت الديل بن بكر حلفاء لبنى عبد شمس ، فاقتتلت الديل وخزاعة ، فأعانت قريش الديل على خزاعة ، فذلك قوله : (بَدَؤُكُمْ) أي قاتلوا (٤) حلفاءكم.

__________________

(١) آية ٥ سورة الأحزاب.

(٢) آية ١١٨ سورة المائدة. وفى قراءتنا : «إن تعذبهم فإنهم عبادك».

(٣) وهى قراءة ابن عامر أيضا.

(٤) كذا فى أ. وفى ش. ج : «قاتلوكم».

٤٢٥

وقوله : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) (١٤)

ثم جزم ثلاثة أفاعيل بعده يجوز فى كلهن النصب والجزم والرفع.

ورفع قوله : (وَيَتُوبُ اللهُ) لأن معناه ليس من شروط الجزاء ؛ إنما هو استئناف ؛ كقولك للرجل : ايتني أعطك ، وأحبّك بعد ، وأكرمك ، استئناف ليس بشرط للجزاء. ومثله قول الله تبارك وتعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) (١) تمّ الجزاء هاهنا ، ثمّ استأنف فقال : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ).

وقوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ) (١٦)

من الاستفهام الذي يتوسّط فى الكلام فيجعل ب (أم) ليفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ الذي لم يتّصل بكلام. ولو أريد به الابتداء لكان إمّا بالألف وإما ب (هل) كقوله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) (٢) وأشباهه.

وقوله : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) والوليجة : البطانة من المشركين يتّخذونهم فيفشون إليهم أسرارهم ، ويعلمونهم أمورهم. فنهوا عن ذلك.

وقوله : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) (١٧)

وهو يعنى المسجد الحرام وحده. وقرأها مجاهد (٣) وعطاء بن أبى رباح : (مسجد الله). وربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع ، وبالجمع إلى الواحد ؛ ألا ترى الرجل على البرذون فتقول : قد أخذت فى ركوب البراذين ، وترى الرجل كثير الدراهم

__________________

(١) آية ٢٤ سورة الشورى. وقد رسم «يمح» دون واو فى المصحف مع نيتها ، وقد دل على هذا قوله : «ويحق» بالرفع.

(٢) أوّل سورة الإنسان.

(٣) وقرأها كذلك أيضا ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب.

٤٢٦

فتقول : إنه (١) لكثير الدرهم. فأدّى الجماع عن الواحد ، والواحد عن الجمع. وكذلك قول العرب : عليه أخلاق نعلين وأخلاق ثوب ؛ أنشدنى أبو الجرّاح العقيلىّ :

جاء الشتاء وقميصى أخلاق

شراذم يضحك منه التوّاق (٢)

وقوله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) (١٩) ولم يقل : سقاة الحاجّ وعامرى ... كمن آمن ، فهذا مثل قوله : (وَلكِنَ) (٣) (الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) يكون المصدر يكفى من الأسماء ، والأسماء من المصدر إذا كان المعنى مستدلّا عليه بهما ؛ أنشدنى الكسائىّ :

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى

ولكنما الفتيان كلّ فتى ندى

فجعل خبر الفتيان (أن). وهو كما تقول : إنما السخاء حاتم ، وإنما الشعر زهير.

وقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا) (٢٠)

ثم قال : (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) فموضع الذين رفع بقوله : «أعظم درجة». ولو لم يكن فيه (أعظم) جاز أن يكون مردودا بالخفض على قوله (كمن آمن). والعرب تردّ الاسم إذا كان معرفة على (من) يريدون التكرير (٤). ولا يكون نعتا لأن (من) قد تكون معرفة ، ونكرة ، ومجهولة ، ولا تكون نعتا ؛ كما أن (الذي) قد يكون نعتا

__________________

(١) سقط فى ش ، ج. وثبت فى أ.

(٢) ثوب أخلاق : بال. والتوّاق : ابن الراجز. ويروى النوّاق بالنون. وانظر اللسان (توق) والخزانة فى الشاهد الرابع والثلاثين.

(٣) آية ١٧٧ سورة البقرة.

(٤) أي أن يكون بدلا من «من».

٤٢٧

للأسماء ؛ فتقول : مررت بأخيك الذي قام ، ولا تقول : مررت بأخيك من قام. فلمّا لم تكن نعتا لغيرها من المعرفة لم تكن المعرفة نعتا لها ؛ كقول الشاعر (١) :

لسنا كمن جعلت إياد دارها

تكريت تنظر حبّها أن تحصدا

إنما أراد تكرير الكاف على إياد ؛ كأنه قال : لسنا كإياد.

وقوله : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) (٢٥) نصبت المواطن لأن كلّ جمع كانت فيه ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان فهو لا يجرى (٢) ؛ مثل صوامع ، ومساجد ، وقناديل ، وتماثيل ، ومحاريب. وهذه الياء بعد الألف لا يعتدّ بها ؛ لأنها قد تدخل فيما ليست هى منه ، وتخرج ممّا هى منه ، فلم يعتدّوا بها ؛ (٣) إذ لم تثبت كما ثبت غيرها. وإنما منعهم من إجرائه أنه مثال لم يأت عليه شىء من الأسماء المفردة ، وأنه غاية للجماع ؛ إذا انتهى الجماع إليه فينبغى له ألّا يجمع. فذلك أيضا منعه من الانصراف ؛ ألا ترى أنك لا تقول : دراهمات ، ولا دنانيرات ، ولا مساجدات. وربّما اضطرّ إليه الشاعر فجمعه. وليس يوجد فى الكلام ما يجوز فى الشعر. قال الشاعر :

فهنّ يجمعن حدائداتها (٤)

فهذا من المرفوض إلا فى الشعر.

ونعت (المواطن) إذا لم يكن معتلّا جرى. فلذلك قال : (كثيرة).

__________________

(١) هو الأعشى. وإياد قبيلة كبيرة من معدّ كانوا نزلوا العراق واشتغلوا بالزرع. وتكريت : بلدة بين بغداد والموصل. وقوله : «تحصدا» المعروف : يحصدا. والحب جنس للحبة يصح تذكيره وتأنيثه. وانظر الخصائص (الدار) ج ٢ ص ٤٠٢.

(٢) إجراء الاسم عند الكوفيين صرفه وتنوينه ، وعدم إجرائه منع صرفه.

(٣) فى ا : «إذا».

(٤) فى القرطبي :

فهنّ يعلكن حدائداتها

ونسبه فى اللسان (حدد) إلى الأحمر. وهو فى وصف الخيل.

٤٢٨

وقوله : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) وحنين واد بين مكة والطائف. وجرى (حنين) لأنه اسم لمذكّر. وإذا سمّيت ماء أو واديا أو جبلا باسم مذكّر لا علّة فيه أجريته. من ذلك حنين ، وبدر ، وأحد ، وحراء ، وثبير ، ودابق (١) ، وواسط (٢). وإنما سمّى واسطا بالقصر الذي بناه الحجّاج بين الكوفة والبصرة. ولو أراد البلدة أو اسما مؤنّثا لقال :

واسطة. وربما جعلت العرب واسط وحنين وبدر ، اسما لبلدته التي هو بها فلا يجرونه ؛ وأنشدنى بعضهم :

نصروا نبيّهم وشدّوا أزره

بحنين يوم تواكل الأبطال (٣)

وقال الآخر (٤) :

ألسنا أكرم الثّقلين رجلا

وأعظمه ببطن حراء نارا

فجعل حراء اسما للبلدة التي هو بها ، فكان مذكرا يسمى به مؤنّث فلم يجر.

وقال آخر :

لقد ضاع قوم قلّدوك أمورهم

بدابق إذ قيل العدوّ قريب

رأوا جسدا ضخما فقالوا مقاتل

ولم يعلموا أن الفؤاد نخيب (٥)

ولو أردت ببدر البلدة لجاز أن تقول مررت ببدر يا هذا.

__________________

(١) دابق : قرية قرب حلب.

(٢) بلد بين البصرة والكوفة بناه الحجاج.

(٣) البيت لحسان بن ثابت.

(٤) هو جرير كما فى معجم البلدان. ولم نجده فى ديوانه. وقوله : «رجلا» فهو بتسكين الجيم مخفف رجل بضمها. والأقرب أن يكون : رحلا بالحاء المهملة أي منزلا. ويروى : «طرا».

(٥) «جسدا» فى معجم البلدان لياقوت : «رجلا». و «نخيب» : جبان من النخب ـ بسكون الخاء ـ وهو الجبن.

٤٢٩

وقوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (٢٨)

لا تكاد العرب تقول : نجس إلا وقبلها رجس. فإذا أفردوها قالوا : نجس لا غير ؛ ولا يجمع ولا يؤنث. وهو مثل دنف (١). ولو أنّث هو ومثله كان صوابا ؛ كما قالوا : هى : ضيفته وضيفه ، وهى أخته سوغه (٢) وسوغته ، وزوجه وزوجته.

وقوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ). قال يومئذ رجل من المسلمين : والله لا نغلب ، وكره ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان المسلمون يؤمئذ عشرة آلاف ، وقال بعض الناس : اثنى عشر ألفا ، فهزموا هزيمة شديدة.

وهو قوله : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) والباء هاهنا بمنزلة فى ؛ كما تقول : ضاقت عليكم الأرض فى رحبها وبرحبها. حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرّاء ، قال : وحدّثنى المفضل عن أبى إسحاق قال قلت للبراء (٣) بن عازب : يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين؟ قال : نعم والله حتى ما بقي معه منا إلا رجلان : أبو سفيان (٤) بن الحرث آخذا بلجامه ، والعباس بن عبد المطلب عند ركابه آخذا بثفره (٥). قال فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال لهم يوم بدر : شاهت الوجوه ،

أنا النبىّ لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

قال : فمنحنا الله أكتافهم.

__________________

(١) هو فى الأصل المرض الملازم ، ويوصف به.

(٢) أي ولدت على أثره ولم يكن بينهما ولد.

(٣) هو من فضلاء الأوس. شهد أحدا والمشاهد. ونزل الكوفة ، توفى سنة ٧١ أو ٧٢.

(٤) هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) المروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فى هذا اليوم راكبا بغلة. فقوله : آخذا بثفره أي بثفر مركوبه. والثفر : السير فى مؤخر السرج. والذي فى سيرة ابن هشام أن الذي كان آخذا بالثفر أبو سفيان. فأما العباس فكان آخذا بحكمة البغلة. والحكمة ـ بالتحريك ـ طرفا اللجام.

٤٣٠

وقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) (٢٨)

يعنى فقرا. وذلك لمّا نزلت : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) خاف أهل مكة أن تنقطع عنهم الميرة والتجارة. فأنزل الله عزوجل : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً). فذكروا أن تبالة (١) وجرش أخصبتا ، فأغناهم الله بهما وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.

وقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) (٣٠)

قرأها الثقات (٢) بالتنوين وبطرح التنوين. والوجه أن ينوّن لأن الكلام ناقص (وابن) فى موضع خبر لعزير. فوجه العمل فى ذلك أن تنوّن ما رأيت الكلام محتاجا إلى ابن. فإذا اكتفى دون بن ، فوجه الكلام ألا ينون. وذلك مع ظهور اسم أبى الرجل أو كنيته. فإذا جاوزت ذلك فأضفت (ابن) إلى مكنىّ عنه ؛ مثل ابنك ، وابنه ، أو قلت : ابن الرجل ، أو ابن الصالح ، أدخلت النون فى التامّ منه والناقص. وذلك أن حذف النون إنما كان فى الموضع الذي يجرى فى الكلام كثيرا ، فيستخفّ طرحها فى الموضع الذي يستعمل. وقد ترى الرجل يذكر بالنسب إلى أبيه كثيرا فيقال : من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان ، فلا يجرى كثيرا بغير ذلك. وربما حذفت النون وإن لم يتمم الكلام لسكون الباء من ابن ، ويستثقل النون إذ كانت ساكنة لقيت ساكنا ، فحذفت استثقالا لتحريكها. قال : من ذلك قراءة القرّاء : (عزيز ابن الله). وأنشدنى بعضهم :

لتجدّنى بالأمير برّا

وبالقناة مدعسا مكرّا (٣)

إذا غطيف السلمىّ فرّا

__________________

(١) تبالة : بلدة من أرض تهامة فى طريق اليمن. وجرش مخلاف أي إقليم من مخاليف اليمن.

(٢) قرأ بالتنوين من العشرة عاصم والكسائي ويعقوب ، وقرأ الباقون بطرح التنوين.

(٣) المدعس : المطاعن. والمكر : الذي يكر فى الحرب ولا يفر.

٤٣١

وقد سمعت كثيرا من القراء الفصحاء يقرءون : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ). فيحذفون النون من (أحد). وقال آخر (١) :

كيف نومى على الفراش ولمّا

تشمل الشام غارة شعواء

تذهل الشيخ عن بنيه وتبدى

عن خدام العقيلة العذراء

أراد : عن خدام ، فحذف النون للساكن إذ استقبلتها. وربما أدخلوا النون فى التمام مع ذكر الأب ؛ أنشدنى بعضهم :

جارية من قيس ابن ثعلبة

كأنها حلية سيف مذهبه (٢)

وقال آخر (٣) :

وإلا يكن مال يثاب فإنه

سيأتى ثنائى زيدا ابن مهلهل

وكان سبب قول اليهود : عزير ابن الله أن بخت نصّر قتل كلّ من كان يقرأ التوراة ، فأتى بعزير فاستصغره فتركه. فلمّا أحياه الله أتته اليهود ، فأملى عليهم التوراة عن ظهر لسانه. ثم إن رجلا من اليهود قال : إن أبى ذكر أن التوراة مدفونة فى بستان له ، فاستخرجت وقو بل بها ما أملى عزيز فلم يغادر منها حرفا. فقالت اليهود : ما جمع الله التوراة فى صدر عزير وهو غلام إلا وهو ابنه ـ تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا ـ.

__________________

(١) هو عبيد الله بن قيس الرقيات من قصيدة يمدح فيها مصعب بن الزبير ويفتخر بقريش. ويريد بالغارة على الشام الغارة على عبد الملك بن مروان. وقوله : «خدام العقيلة». فى الديوان : «براها العقيلة» والخدام جمع الخدمة وهى الخلخال. والبرى جمع البرة ـ فى وزان كرة ـ الخلخال أيضا.

(٢) هذا مطلع أرجوزة للأغلب العجلى. وأراد بجارية امرأة اسمها كلبة كان يهاجيها ؛ وانظر الخزانة ١ / ٣٣٢

(٣) هو الحطيئة يمدح زيد الخيل الطائىّ.

٤٣٢

وقوله : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ). وذكر أن رجلا دخل فى النصارى وكان خبيثا منكرا فلبّس عليهم ، وقال : هو هو. وقال : هو ابنه ، وقال : هو ثالث ثلاثة. فقال الله تبارك وتعالى فى قولهم ثالث ثلاثة : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فى قولهم : اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.

وقوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (٣١)

قال : لم يعبدوهم ، ولكن أطاعوهم فكانت كالربوبية.

وقوله : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (٣٢)

دخلت (إلّا) لأن فى أبيت طرفا من الجحد ؛ ألا ترى أن (أبيت) كقولك : لم أفعل ، ولا أفعل ، فكأنه بمنزلة قولك : ما ذهب إلا زيد. ولو لا الجحد إذا ظهر أو أتى الفعل محتملا لضميره (١) لم تجز دخول إلّا ؛ كما أنك لا تقول : ضربت إلا أخاك ، ولا ذهب إلا أخوك. وكذلك قال الشاعر (٢) :

وهل لى أمّ غيرها إن تركتها

أبى الله إلا أن أكون لها ابنما

وقال الآخر :

إيادا وأنمارها الغالبين

إلّا صدودا وإلا ازورارا

أراد : غلبوا إلا صدودا وإلا ازورارا ، وقال الآخر :

واعتلّ إلا كل فرع معرق

مثلك لا يعرف بالتلهوق (٣)

__________________

(١) أي لمعناه. فكأن أبى ونحوه متضمن لمعنى لا فهو محتمل لهذا الحرف المضمر.

(٢) هو المتلمس. والبيت من قصيدة له يرد فيها على من عيره أمه ، مطلعها :

تعيرنى أمي رجال ولا أرى

أخا كرم إلا بأن يتكرما

وهى فى مختارات ابن الشجري.

(٣) التلهوق : التملق. ويقال أيضا للتكلف.

٤٣٣

فأدخل (إلا) لأن الاعتلال فى المنع كالإباء. ولو أراد علّة صحيحة لم تدخل إلا ؛ لأنها ليس فيها معنى جحد. والعرب تقول : أعوذ بالله إلا منك ومن مثلك ؛ لأن الاستعاذة كقولك : اللهم لا تفعل ذا بي.

وقوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) (٣٤)

ولم يقل : ينفقونهما. فإن شئت وجّهت الذهب والفضة إلى الكنوز فكان توحيدها من ذلك. وإن شئت اكتفيت بذكر أحدهما من صاحبه ؛ كما قال : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) (١) فجعله للتجارة ، وقوله : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) (٢) فجعله ـ والله أعلم ـ للإثم ، وقال الشاعر (٣) فى مثل ذلك :

نحن بما عندنا وأنت بما عن

دك راض والرأى مختلف

ولم يقل : راضون ، وقال الآخر :

إنى ضمنت لمن أتانى ما جنى

وأبى وكان وكنت غير غدور

ولم يقل : غدورين ، وذلك لاتفاق المعنى يكتفى بذكر الواحد. وقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (٤) إن شئت جعلته من ذلك : مما اكتفى ببعضه من بعض ، وإن شئت جعلت الله تبارك وتعالى فى هذا الموضع ذكر لتعظيمه ، والمعنى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ كما قال : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) (٥) ألا ترى أنك قد تقول لعبدك (٦) : قد أعتقك الله وأعتقتك ، فبدأت بالله تبارك وتعالى تفويضا إليه وتعظيما له ، وإنما يقصد قصد نفسه.

__________________

(١) آية ١١ سورة الجمعة.

(٢) آية ١١٢ سورة النساء.

(٣) هو قيس بن الخطيم.

(٤) آية ٦٢ سورة التوبة.

(٥) آية ٣٧ سورة الأحزاب.

(٦) كذا فى أ. وفى ش ، ج : «لعبد».

٤٣٤

وقوله : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (٣٦)

جاء التفسير : فى الاثني عشر. وجاء (فيهن) : فى الأشهر الحرم ؛ وهو أشبه بالصواب ـ والله أعلم ـ ليتبين بالنهى فيها عظم حرمتها ؛ كما قال : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) (١) ثم قال : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فعظّمت ، ولم يرخص فى غيرها بترك المحافظة. ويدلّك على أنه للأربعة ـ والله أعلم ـ قوله : (فيهن) ولم يقل (فيها). وكذلك كلام العرب لما بين الثلاثة إلى العشرة تقول : لثلاث ليال خلون ، وثلاثة أيام خلون إلى العشرة ، فإذا جزت العشرة قالوا : خلت ، ومضت. ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة (هنّ) و (هؤلاء) فإذا جزت العشرة قالوا (هى ، وهذه) إرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير. ويجوز فى كل واحد ما جاز فى صاحبه ؛ أنشدنى أبو القمقام الفقعسىّ :

أصبحن فى قرح وفى دارتها

سبع ليال غير معلوفاتها (٢)

ولم يقل : معلوفاتهن وهى سبع ، وكل ذلك صواب ، إلا أن المؤثر ما فسّرت لك. ومثله : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) (٣) فذكّر الفعل لقلّة النسوة ووقوع (هؤلاء) عليهن كما يقع على الرجال. ومنه قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) (٤) ولم يقل : انسلخت ، وكلّ صواب. وقال الله تبارك وتعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ) (٥) لقلّتهن ولم يقل (تلك) ولو قيلت كان صوابا.

__________________

(١) آية ٢٣٨ سورة البقرة.

(٢) قرح : سوق وادي القرى ، وهو واد بين المدينة والشام. وقوله : «أصبحن» فى اللسان (قرح) : «حبسن».

(٣) آية ٣٠ سورة يوسف.

(٤) آية ٥ سورة التوبة.

(٥) آية ٣٦ سورة الإسراء.

٤٣٥

وقوله : (الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) (٣٦)

يقول : جميعا. والكافّة لا تكون مذكّرة ولا مجموعة على عدد الرجال فتقول : كافّين ، أو كافّات للنسوة ، ولكنها (كافّة) بالهاء والتوحيد (١) فى كل جهة ؛ لأنها وإن كانت على لفظ (فاعلة) فإنها فى مذهب مصدر ؛ مثل الخاصّة ، والعاقبة ، والعافية. ولذلك لم تدخل فيها العرب الألف واللام لأنها آخر الكلام مع معنى المصدر. وهى فى مذهب قولك : قاموا معا وقاموا جميعا ؛ ألا ترى أن الألف واللام قد رفضت فى قولك : قاموا معا ، وقاموا جميعا ، كما رفضوها فى أجمعين وأكتعين وكلهم إذ كانت فى ذلك المعنى. فإن قلت : فإن العرب قد تدخل الألف واللام فى الجميع ، فينبغى لها أن تدخل فى كافة وما أشبهها ، قلت : لأن الجميع على مذهبين ، أحدهما مصدر ، والآخر اسم ، فهو الذي شبّه عليك. فإذا أردت الجميع الذي فى معنى الاسم جمعته وأدخلت فيه الألف واللام ؛ مثل قوله : (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) (٢) ، وقوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٣) وأما الذي فى معنى معا وكافّة فقولك للرجلين : قاما جميعا ، وللقوم : قاموا جميعا ، وللنسوة : قمن جميعا ، فهذا فى معنى كلّ وأجمعين ، فلا تدخله ألفا ولا ما كما لم تدخل فى أجمعين.

وقوله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) (٣٧)

كانت العرب فى الجاهلية إذا أرادوا الصدر عن منّى قام (٤) رجل من بنى كنانة يقال له (نعيم بن ثعلبة) وكان رئيس الموسم ، فيقول : أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يردّ لى قضاء. فيقولون : صدقت ، أنسئنا شهرا ، يريدون : أخّر عنّا حرمة المحرم

__________________

(١) كذا فى ش ، ج. وفى أ : «على».

(٢) آية ٥٦ سورة الشعراء.

(٣) آية ٤٥ سورة القمر.

(٤) كذا فى أ. وفى ش ، ج : «قدم».

٤٣٦

واجعلها فى صفر ، وأحلّ المحرم ، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذاك توالى ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها ، وإنما كان معاشهم من الإغارة ، فيفعل ذلك عاما ، ثم يرجع إلى المحرم فيحرّمه ويحلّ صفرا ، فذلك الإنساء. تقول إذا أخرت الرجل بدينه : أنسأته ، فإذا زدت فى الأجل زيادة يقع عليها تأخير قلت : قد نسأت فى أيامك وفى أجلك ، وكذلك تقول للرجل : نسأ الله فى أجلك ؛ لأن الأجل مزيد فيه. ولذلك قيل للّبن (نسأته) لزيادة الماء فيه ، ونسئت المرأة إذا حبلت أي جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء فى اللبن ، وللناقة : نسأتها ، أي زجرتها ليزداد سيرها. والنسيء المصدر ، ويكون المنسوء مثل القتيل والمقتول.

وقوله : (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قرأها ابن مسعود (١) (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقرأها زيد بن ثابت (٢) (يضلّ) يجعل الفعل لهم ، وقرأ الحسن البصري (٣) (يضلّ به الذين كفروا) ، كأنه جعل الفعل لهم يضلّون به الناس وينسئونه لهم.

وقوله : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ) يقول : لا يخرجون من تحريم أربعة.

وقوله : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ) (٣٨)

معناه والله أعلم : (تثاقلتم) فإذا وصلتها العرب بكلام أدغموا التاء فى الثاء ؛ لأنها مناسبة لها ، ويحدثون ألفا لم يكن ؛ ليبنوا الحرف على الإدغام فى الابتداء والوصل. وكأن إحداثهم الألف ليقع بها الابتداء ، ولو حذفت لأظهروا التاء لأنها مبتدأة ،

__________________

(١) وكذلك قرأها حفص وحمزة والكسائي وخلف.

(٢) وقرأها كذلك الحرميان نافع وابن كثير وأبو عمرو.

(٣) قرأها كذلك يعقوب.

٤٣٧

والمبتدأ لا يكون إلا متحركا. وكذلك قوله : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) (١) ، وقوله : (وَازَّيَّنَتْ) (٢) المعنى ـ والله أعلم ـ : تزينت ، و (قالُوا اطَّيَّرْنا) (٣) معناه : تطيرنا. والعرب تقول : (حتى إذا اداركوا) تجمع بين ساكنين : بين التاء من تداركوا وبين الألف من إذا. وبذلك كان يأخذ أبو عمرو (٤) بن العلاء ويردّ الوجه الأوّل ، وأنشدنى الكسائي :

تولى الضجيع إذا ما استافها (٥) خصرا

عذب المذاق إذا ما اتّابع القبل

وقوله : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) (٤٠) فأوقع (جعل) على الكلمة ، ثم قال : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) على الاستئناف ، ولم ترد بالفعل. وكلمة الذين كفروا الشرك بالله ، وكلمة الله قول (لا إله إلا الله). ويجوز (وكلمة (٦) الله هى العليا) ولست أستحبّ ذلك لظهور الله تبارك وتعالى ؛ لأنه لو نصبها ـ والفعل فعله ـ كان أجود الكلام أن يقال : «وكلمته هى العليا» ؛ ألا ترى أنك تقول : قد أعتق أبوك غلامه ، ولا يكادون يقولون : أعتق أبوك غلام أبيك. وقال الشاعر فى إجازة ذلك :

متى تأت زيدا قاعدا عند حوضه

لتهدم ظلما حوض زيد تقارع

فذكر زيدا مرّتين ولم يكن عنه فى الثانية ، والكناية وجه الكلام.

__________________

(١) آية ٣٨ سورة الأعراف.

(٢) آية ٢٤ سورة يونس.

(٣) آية ٤٧ سورة النمل.

(٤) إنما روى هذا الوجه عن أبى عمرو عصمة الفقيمي. وليس ممن تعتبر روايته. وانظر تفسير القرطبي ٧ / ٢٠٤

(٥) استافها. شمها. والخصر : البارد. يريد ريقها.

(٦) وقد قرأ بهذا يعقوب والحسن والأعمش فى رواية المطوّعى.

٤٣٨

وقوله : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) (٤١)

يقول (١) : لينفر منكم ذو العيال والميسرة ، فهؤلاء الثقال. والخفاف : ذوو العسرة وقلّة العيال. ويقال : (انْفِرُوا خِفافاً) : نشاطا (وثقالا) وإن ثقل عليكم الخروج.

وقوله : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) (٤٧)

الإيضاع : السير بين القوم. وكتبت (٢) بلام ألف وألف بعد ذلك ، ولم يكتب فى القرآن لها نظير. و (٣) ذلك أنهم لا يكادون يستمرون فى الكتاب على جهة واحدة ؛ ألا ترى أنهم كتبوا (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٤) بغير ياء ، (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) (٥) بالياء ، وهو من سوء هجاء الأوّلين. ولا أوضعوا مجتمع عليه فى المصاحف. وأما قوله : أو لا أذبحنّه (٦) فقد كتبت بالألف وبغير الألف. وقد كان ينبغى للألف أن تحذف من كله ؛ لأنها لام زيدت على ألف ؛ كقوله : لأخوك خير من أبيك ؛ ألا ترى أنه لا ينبغى ان تكتب بألف بعد لام ألف. وأما قوله

__________________

(١) سقط فى ش ، ج. وثبت فى أ.

(٢) هذا على ما فى أكثر المصاحف. وقد كتبت فى بعضها واحدة ، وطبع المصحف على هذا الوجه. فقوله بعد : «ولأوضعوا مجتمع عليه فى المصاحف» غير المروي عن أصحاب الرسم. والإجماع على «لأ اذبجنه» فتراه انعكس عليه الأمر : وفى المقنع ٤٧ : «وقال نصير : اختلفت المصاحف فى الذي فى التوبة ، واتفقت على الذي فى النمل».

(٣) قال فى الكشاف : زيدت ألف فى الكتابة لأن الفتحة كانت تكتب ألفا فى الخط العربي ، والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن ، وقد بقي من ذلك الألف أثر فى الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحتها ألفا أخرى ، ونحوها : أو لا أذبحنه فى سورة النمل ، ولا آتوها فى الأحزاب ولا رابع لها فى القرآن.

(٤) آية ٥ سورة القمر.

(٥) آية ١٠١ سورة يونس.

(٦) آية ٢١ سورة النمل.

٤٣٩

(لا انفصام لها) (١) فتكتب بالألف ؛ لأن (لا) فى (انفصام) تبرئة ، والألف من (انفصام) خفيفة. والعرب تقول : أوضع الراكب ؛ ووضعت الناقة فى سيرها. وربما قالوا للراكب وضع ؛ قال الشاعر :

إنى إذا ما كان يوم ذو فزع

ألفيتنى محتملا بذي أضع (٢)

وقوله : (يبغونكم الفتنة) المعنى : يبغونها لكم. ولو أعانوهم على بغائها لقلت : أبغيتك الفتنة. وهو مثل قولك : أحلبنى واحلبنى.

وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) (٤٩) وذلك لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجدّ (٣) بن قيس : هل لك فى جلاد بنى الأصفر؟ ـ يعنى الروم ـ وهى غزوة تبوك ، فقال جدّ : لا ، بل تأذن لى ، فأتخلف ؛ فإنى رجل كلف بالنساء أخاف فتنة بنات الأصفر. وإنما سمى الأصفر لأن حبشيا (٤) غلب على ناحية الروم وكان له بنات قد أخذن من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفرا لعسا (٥). فقال الله تبارك وتعالى (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) فى التخلف عنك (٦). وقد عذل المسلمون فى غزوة تبوك وثقل عليهم الخروج لبعد الشقة (٧) ، وكان أيضا زمان عسرة وأدرك الثمار وطاب الظل ، فأحبّوا الإقامة ، فوبّخهم الله.

__________________

(١) آية ٢٥٦ سورة البقرة.

(٢) محتملا على صيغة اسم المفعول من احتمل إذا غضب واستخفه الغضب. وقوله : بذي كأنه يريد : بذي الناقة أو بذي الفرس. وقد يكون المراد : محتملا رحلى ـ على صيغة اسم الفاعل ـ بالبعير الذي أضعه. فذى هنا موصول على لغة الطائيين.

(٣) كان سيد بنى سلمة من الأنصار. وكان ممن يرمى بالنفاق ومات فى خلافة عثمان.

(٤) فى ا : «جيشا».

(٥) جمع لعساء. وهى التي فى لونها سواد ، وتكون مشربة بحمرة.

(٦) كذا فى أ. وفى ش ، ج : «عندك».

(٧) كذا فى ش ، ج. وفى ا : «المشقة».

٤٤٠