معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

فى القرب والبعد ذكّروا وأنّثوا. وذلك أن القريب فى المعنى وإن كان مرفوعا فكأنه فى تأويل : هى من مكان قريب. فجعل القريب خلفا من المكان ؛ كما قال الله تبارك وتعالى : (وَما) (١) (هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) وقال : (وَما (٢) يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) ولو أنّث ذلك فبنى على بعدت منك فهى بعيدة وقربت فهى قريبة كان صوابا حسنا. وقال عروة (٣) :

عشيّة لا عفراء منك قريبة

فتدنو ولا عفراء منك بعيد

ومن قال بالرفع وذكّر لم يجمع قريبا [ولم] (٤) يثنّه. ومن قال : إنّ عفراء منك قريبة أو بعيدة ثنّى وجمع.

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) نشرا (٥٧)

والنشر من الرياح : الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب. فقرأ بذلك أصحاب عبد الله. وقرأ غيرهم (بُشْراً) حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرّاء قال حدثنى قيس بن الربيع الأسدىّ عن أبى إسحاق (٥) الهمداني عن أبى (٦) عبد الرحمن السلمىّ عن علىّ أنه قرأ (بشرا) يريد بشيرة ، و (بشرا) كقول الله تبارك وتعالى : (يُرْسِلَ الرِّياحَ (٧) مُبَشِّراتٍ).

__________________

(١) آية ٧٣ سورة هود.

(٢) آية ٦٣ سورة الأحزاب.

(٣) هو عروة بن حزام العذرى. والبيت ورد فى اللآلى ٤٠١ مع بيت آخر هكذا :

عشية لا عفراء منك بعيدة

فتسلو ولا عفراء منك قريب

وإنى لتغشانى لذكراك فترة

لها بين جلدى والعظام دبيب

ويرى أن ما أورده المؤلف رواية فى البيت غير ما ورد فى اللآلى. وفى الأغانى (الساسى) ٢٠ / ١٥٦ ستة أبيات على روى الباء يترجح أن تكون من قصيدة بيت الشاهد على ما روى فى اللآلى.

(٤) سقط ما بين القوسين فى ش ، ج. والسياق يقتضيه.

(٥) هو عمرو بن عبد الله السبيعىّ أحد أعلام النابعين ، توفى سنة ١٢٧

(٦) هو عبد الله بن حبيب المقري الكوفىّ ، من ثقات التابعين ، مات سنة ٨٥.

(٧) آية ٤٦ سورة الروم.

٣٨١

وقوله : (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) جواب (١) لأنزلنا فأخرجنا به. يقال : إن الناس يموتون وجميع الخلق فى النفخة الأولى. وبينها وبين الآخرة أربعون سنة. ويبعث الله المطر فيمطر أربعين يوما كمنىّ الرجال ، فينبتون فى قبورهم ؛ كما ينبتون فى بطون أمّهاتهم. فذلك قوله : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) كما أخرجنا الثمار من الأرض الميتة.

وقوله : (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) (٥٨)

قراءة (٢) العامة ؛ وقرأ بعض (٣) أهل المدينة : نكدا ؛ يريد : لا يخرج إلا فى نكد. والنكد والنكد مثل الدنف والدنف. قال : وما أبعد أن يكون فيها نكد ، ولم أسمعها ، ولكنى سمعت حذر وحذر وأشر وأشر وعجل وعجل.

وقوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (٥٩)

تجعل (٤) (غير) نعتا للإله. وقد يرفع : يجعل تابعا للتاويل فى إله ؛ ألا ترى أن الإله لو نزعت منه (من) كان رفعا. وقد قرى بالوجهين جميعا.

وبعض بنى أسد وقضاعة إذا كانت (غير) فى معنى (إلا) نصبوها ، تمّ الكلام قبلها أو لم يتم. فيقولون : ما جاءنى غيرك ، وما أتانى أحد غيرك. قال : وأنشدنى المفضّل :

__________________

(١) يريد قوله تعالى : كذلك نخرج الموتى ، جعله جوابا لإنزال الماء فى الأرض المجدبة وترتب النبات وحياة الأرض عليه. كأنه يقول : إن كان من أمرنا أن ننزل الماء فنحيى به الأرض الجدبة فكذلك أمرنا أن نخرج الموتى ونحييهم إذ الأمران متساويان.

(٢) يريد : بكسر الكاف.

(٣) هو أبو جعفر.

(٤) هذا على كسر «غير» وهى قراءة الكسائي وأبى جعفر.

٣٨٢

لم يمنع الشرب منها غير ان هتفت

حمامة من سحوق ذات أوقال (١)

فهذا نصب وله الفعل والكلام ناقص. وقال الآخر :

لا عيب فيها غير شهلة عينها

كذاك عتاق الطير شهلا عيونها (٢)

فهذا نصب والكلام تامّ قبله.

وقوله : (أَوَعَجِبْتُمْ) (٦٣) هذه واو نسق أدخلت عليه ألف الاستفهام ؛ كما تدخلها على الفاء ، فتقول : أفعجبتم ، وليست بأو ، ولو أريد بها أو لسكّنت الواو.

وقوله : (أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ) يقال فى التفسير : مع رجل. وهو فى الكلام كقولك : جاءنا الخير على وجهك ، وهدينا الخير على لسانك ، ومع وجهك ، يجوزان جميعا.

وقوله : (قالَ الْمَلَأُ) (٦٦)

هم الرجال لا يكون فيهم امرأة. وكذلك القوم ، والنفر والرّهط.

وقوله : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) (٦٥)

وقوله : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) (٧٣)

منصوب بضمير أرسلنا. ولو رفع إذ فقد الفعل كان صوابا ؛ كما قال : (فَبَشَّرْناها (٣) بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) وقال أيضا : (فَأَخْرَجْنا (٤) بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها)

__________________

(١) هو من قصيدة لأبى قيس بن الأسلت الأنصاري. وهو فى وصف ناقته. وسحوق يريد شجرة سحوقا أي طويلة. وأوقال جمع وقل وهو المقل أي الدوم إذا يبس. يريد أن الناقة كانت تشرب فلما سمعت صوت حمامة نفرت وكفت عن الشرب. يريد أنها يخامرها فزع من حدّة نفسها. وذلك محمود فيها. وقوله : من سحوق ، كذا فى ش ، ج ، يريد أن سماعها الحمامة من قبل الشجرة وجهتها. والمعروف : فى غصون.

(٢) الشهلة فى العين أن يشوب سوادها زرقة. وقوله : شهلا فى اللسان (شهل) : «شهل».

(٣) آية ٧١ سورة هود وقد قرأ «يعقوب» بالنصب وحفص وابن عامر وحمزة ، وقرأ الباقون بالرفع

(٤) آية ٢٧ سورة فاطر.

٣٨٣

ثم قال : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ) فالوجه هاهنا الرفع ؛ لأن الجبال لا تتبع النبات ولا الثمار. ولو نصبتها على إضمار : جعلنا لكم (من الجبال جددا بيضا) كما قال الله تبارك وتعالى : (خَتَمَ (١) اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) أضمر لها جعل إذا نصبت ؛ كما قال : (وَخَتَمَ (٢) عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) والرفع فى غشاوة الوجه. وقوله : (وَمِنَ (٣) النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) ولم يقل : ألوانهم ، ولا ألوانها. وذلك لمكان (من) والعرب تضمر من فتكتفى بمن من من ، فيقولون : منا من يقول ذلك ومنا لا يقوله. ولو جمع على التأويل كان صوابا مثل قول ذى الرمّة :

فظلّوا ومنهم دمعه سابق له

وآخر يثنى دمعة العين بالمهل (٤)

وقوله : (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا.

وقوله : (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) (٦٨)

يقول : قد كنت فيكم أمينا قبل أن أبعث. ويقال : أمين على الرسالة.

وقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) (٧٨)

والرجفة هى الزلزلة. والصاعقة هى النار. يقال : أحرقتهم.

وقوله : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) يقول : رمادا جاثما.

__________________

(١) آية ٧ سورة البقرة.

(٢) آية ٢٣ سورة الجاثية.

(٣) آية ٢٨ سورة فاطر.

(٤) المهل : التؤدة والسكينة. وفى الديوان ٤٨٥ : «بالهمل». وكأنها الصحيحة لقوله بعد :

وهل هملان العين راجع ما مضى

من الوجد أو مدنيك يا ميّ من أهلى

٣٨٤

وقوله : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) (٧٩)

يقال : إنه لم يعذب أمّة ونبيّها فيها حتى يخرج عنها.

وقوله : (أَخْرِجُوهُمْ) (٨٢)

يعنى لوطا أخرجوه وابنتيه.

وقوله : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) يقولون : يرغبون عن أعمال قوم لوط ويتنزهون عنها.

وقوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) (٨٥)

وإصلاحها بعثة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر بالحلال وينهى عن الحرام. فذلك صلاحها. وفسادها العمل ـ قبل أن يبعث النبىّ ـ بالمعاصي (١).

وقول شعيب : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) لم يكن له آية إلا النبوّة. وكان لثمود الناقة ، ولعيسى إحياء الموتى وشبهه.

وقوله : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) (٨٦)

كانوا يقعدون لمن آمن بالنبيّ على طرقهم يتوعّدونهم بالقتل. وهو الإيعاد والوعيد. إذا كان مبهما فهو بألف ، فإذا أوقعته فقلت : وعدتك خيرا أو شرا كان بغير ألف ؛ كما قال تبارك وتعالى : (النَّارُ (٢) وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

وقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا) (٨٩)

يريد : اقض بيننا ، وأهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتّاح.

__________________

(١) وهذا متعلق بقوله : «العمل» كما لا يخفى.

(٢) آية ٧٢ سورة الحج.

٣٨٥

وقوله : (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) (١٠٠)

ثم قال : (وَنَطْبَعُ) ولم يقل : وطبعنا ، ونطبع منقطعة عن جواب لو ؛ يدلّك على ذلك قوله : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ؛ ألا ترى أنه لا يجوز فى الكلام : لو سألتنى لأعطيتك فأنت غنىّ ، حتى تقول : لو سألتنى لأعطيتك فاستغنيت. ولو استقام المعنى فى قوله : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أن يتصل بما قبله جاز أن تردّ يفعل على فعل فى جواب لو ؛ كما قال الله عزوجل : (وَلَوْ) (١) (يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ) فنذر مردودة على (لقضى) وفيها النون. وسهّل ذلك أنّ العرب لا تقول : وذرت ، ولا ودعت ، إنما يقال بالياء والألف والنون والتاء ، فأوثرت على فعلت إذا جازت ؛ قال الله تبارك وتعالى : (تَبارَكَ) (٢) (الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) ثم قال : (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) فإذا أتاك جواب لو آثرت فيه (فعل (٣) على يفعل) وإن قلته ينفعل جاز ، وعطف فعل على يفعل ويفعل على فعل جائز ، لأن التأويل كتأويل الجزاء.

وقوله : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ) (١٠٥)

ويقرأ (٤) : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ). وفى قراءة عبد الله : حقيق بأن لا أقول على الله فهذه حجة من (٥) قرأ (على) ولم يضف. والعرب تجعل الباء فى موضع على ؛ رميت على القوس ، وبالقوس ، وجئت على حال حسنة وبحال حسنة.

__________________

(١) آية ١١ سورة يونس.

(٢) آية ١٠ سورة الفرقان.

(٣) سقط ما بين القوسين فى ج ، وثبت فى ش.

(٤) وهى قراءة نافع.

(٥) وهم أصحاب القراءة الأولى. وقوله : «ولم يضف» أي لم يجرّ بها ياء المتكلم كما فى قراءة نافع. وحروف الجر تسمى حروف الإضافة.

٣٨٦

وقوله : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ) (١٠٧)

هو الذكر ؛ وهو أعظم الحيّات.

وقوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) (١١٠)

فقوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) من (١) الملأ (فَما ذا تَأْمُرُونَ) من كلام فرعون. جاز ذلك على كلامهم إياه ، كأنه لم يحك وهو حكاية. فلو صرّحت بالحكاية لقلت : يريد أن يخرجكم من أرضكم ، فقال : فماذا تأمرون. ويحتمل القياس أن تقول على هذا المذهب : قلت لجاريتك قومى فإنى قائمة (تريد (٢) : فقالت : إنى قائمة) وقلّما أتى مثله فى شعر أو غيره ، قال عنترة :

الشاتمى عرضى ولم أشتمهما

والناذرين إذا لقيتهما دمى (٣)

فهذا شبيه بذلك ؛ لأنه حكاية وقد صار كالمتصل على غير حكاية ؛ ألا ترى أنه أراد : الناذرين إذا لقينا عنترة لنقتلنّه (٤) ، فقال : إذا لقيتهما ، فأخبر عن نفسه ، وإنما ذكراه غائبا. ومعنى لقيتهما : لقيانى.

__________________

(١) أي صادر منهم إذ كان من كلامهم.

(٢) ثبت ما بين القوسين فى ش ، وسقط فى ج.

(٣) البيت من معلقته. وكان قتل ضمضما المري أبا الحصين وهرم ، فكانا ينالانه بالسب ، ويتوعدانه بالقتل. وقبل البيت :

ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر

للحرب دائرة على ابني ضمضم

وبعده : إن يفعلا فلقد تركت أباهما

جزر السباع وكل نسر قشعم

(٤) فى ش ، ج : «لقتلته». وهو محرف عما أثبتنا.

٣٨٧

وقوله : (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) (١١١)

جاء التفسير : احبسهما عندك ولا تقتلهما ، والإرجاء تأخير الأمر. وقد جزم الهاء حمزة والأعمش (١). وهى لغة للعرب : يقفون على الهاء المكنى عنها فى الوصل إذا تحرك ما قبلها ؛ أنشدنى بعضهم :

أنحى علّى الدهر رجلا ويدا

يقسم لا يصلح إلا أفسدا

فيصلح اليوم ويفسده غدا

وكذلك بهاء التأنيث ؛ فيقولون : هذه طلحه قد أقبلت ، جزم ؛ أنشدنى بعضهم :

لما رأى أن لادعه ولا شبع

مال إلى أرطاة حقف فاضطجع (٢)

وانشدنى القنانىّ :

لست إذا لزعبله إن لم أغيّر

بكلتي إن لم أساو بالطول (٣)

بكلتي : طريقتى. كأنه (٤) قال : إن لم أغيّر بكلتي حتى أساوى. فهذه لامرأة : امرأة طولى و [نساء (٥)] طول.

__________________

(١) وهى أيضا قراءة حفص.

(٢) هذا من رجز. وقبله :

يا رب أبّاز من العفر صدع

تقبض الذئب إليه فاجتمع

يصف ظبيا أراده الذئب أن يفترسه فنجا منه. والأباز من وصف الظبى وهو الوثاب فعّال من أبز أي وثب. والعفر من الظباء ما يعلو بياضه حمرة. والصدع من الحيوان : الشاب القوىّ. وتقبض : جمع قوائمه ليثب على الظبى. والأرطاة شجرة يدبغ بقرظها. والحقف : المعوج من الرمل.

(٣) زعبلة : اسم أبيها. وقد فسر البكلة بالطريقة. ويقول ابن برى ـ كما فى اللسان : بكل ـ : «هذا البيت من مسدس الرجز جاء على التمام».

(٤) الأولى : «كأنها» ، لجان الشعر لامرأة ، كما يذكر.

(٥) زيادة يقتضيها السياق.

٣٨٨

وقوله : (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) (١١٥)

أدخل (أن) فى (إما) لأنها فى موضع أمر بالاختيار. فهى فى موضع نصب فى قول القائل : اختر ذا أو ذا ؛ ألا ترى أن الأمر بالاختيار قد صلح فى موضع إمّا.

فإن قلت : إن (أو) فى المعنى بمنزلة (إمّا وإمّا) فهل يجوز أن يقول يا زيد أن تقوم أو تقعد؟ قلت : لا يجوز ذلك ؛ لأن أول الاسمين فى (أو) يكون خبرا يجوز السكوت عليه ، ثم تستدرك الشكّ فى الاسم الآخر ، فتمضى الكلام على الخبر ؛ ألا ترى أنك تقبول : قام أخوك ، وتسكت ، وإن بدا لك قلت : أو أبوك ، فأدخلت الشكّ ، والاسم الأول مكتف يصلح السكوت عليه. وليس يجوز أن تقول : ضربت إمّا عبد الله وتسكت. فلمّا آذنت (إمّا) بالتخيير من أول الكلام أحدثت لها أن. ولو وقعت إمّا وإمّا مع فعلين قد وصلا باسم معرفة أو نكرة ولم يصلح الأمر بالتمييز فى موقع إمّا لم يحدث فيها أن ؛ كقول الله تبارك وتعالى : (وَآخَرُونَ (١) مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) ألا ترى أن الأمر لا يصلح هاهنا ، فلذلك لم يكن فيه أن. ولو جعلت (أن) فى مذهب (كى) وصيّرتها صلة ل (مرجون) يريد أرجئوا أن يعذبوا أو يتاب عليهم ، صلح ذلك فى كل فعل تامّ ، ولا يصلح فى كان وأخواتها ولا فى ظننت وأخواتها. من ذلك أن تقول آتيك إما أن تعطى وإما أن تمنع. وخطأ أن تقول : أظنك إما أن تعطى وإما أن تمنع ، ولا أصبحت إما أن تعطى وإما أن تمنع. ولا تدخلنّ (٢) (أو) على (إما) ولا (إما) على (أو). وربما فعلت العرب ذلك لتآخيهما فى المعنى على التوهّم ؛ فيقولون : عبد الله إما جالس أو ناهض ،

__________________

(١) آية ١٠٦ سورة التوبة.

(٢) يريد : لا تجعل أحد الحرفين فى الموضع الذي يصلح له الآخر.

٣٨٩

ويقولون : عبد الله يقوم وإما يقعد. وفى قراءة أبىّ : وإنا (١) وإيّاكم لإمّا على هدى أو فى ضلال فوضع أو فى موضع إما. وقال الشاعر :

فقلت لهن امشين إمّا نلاقه

كما قال أو نشف النفوس فنعذرا (٢)

وقال آخر (٣) :

فكيف بنفس كلما قلت أشرفت

على البرء من دهماء هيض اندمالها

تهاض بدار قد تقادم عهدها

وإمّا بأموات ألمّ خيالها

فوضع (وإمّا) فى موضع (أو). وهو على التوهم إذا طالت الكلمة بعض الطول أو فرقت بينهما بشىء هنالك يجوز التوهم ؛ كما تقول : أنت ضارب زيد ظالما وأخاه ؛ حين فرقت بينهما ب (ظالم) جاز نصب الأخ وما قبله مخفوض. ومثله (يا ذَا) (٤) (الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) وكذلك قوله (إِمَّا) (٥) (أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى).

وقوله : (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (١١٧)

و (تَلْقَفُ) (٦). يقال لقفت (٧) الشيء فأنا ألقفه لقفا ، يجعلون مصدره لقفانا. وهى فى التفسير : تبتلع.

__________________

(١) آية ٢٤ سورة سبأ. وفى قراءتنا : «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين».

(٢) «نلاقه» مجزوم فى جواب الأمر ، وكذا المعطوف عليه «نشف». وترى فى البيت أن : «أو» خلفت «إما».

(٣) هو الفرزدق. والشعر مطلع قصيدة طويلة يمدح فيها سليمان بن عبد الملك ويهجو الحجاج. وقوله : من دهماء أي من حب هذه المرأة. ويقال : هاض العظم : كسره بعد الجبر.

(٤) آية ٨٦ سورة الكهف.

(٥) آية ٦٥ سورة طه.

(٦) والأولى ـ أي سكون اللام وتخفيف القاف ـ قراءة حفص عن عاصم. والثانية قراءة الباقين.

(٧) كذا فى ج. وفى ش «تلقفت».

٣٩٠

وقوله : (فَوَقَعَ الْحَقُ) (١١٨)

معناه : أن السحرة قالوا : لو كان ما صنع موسى سحرا لعادت حبالنا وعصيّنا إلى حالها الأولى ، ولكنها فقدت. فذلك قوله (فوقع الحق) : فتبين الحق من السحر.

وقوله : (آمَنْتُمْ بِهِ) (١٢٣)

يقول : صدّقتموه. ومن قال : آمنتم له يقول : جعلتم له الذي أراد.

وقوله : (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ) (١٢٤)

مشدّدة ، و (لأصلبنّكم) بالتخفيف قرأها بعض (١) أهل مكة. وهو مثل قولك : قتلت القوم وقتّلتهم ؛ إذا فشا القتل جاز التشديد.

وقوله : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (١٢٧)

لك فى (ويذرك) النصب على الصرف ؛ لأنها فى قراءة أبىّ (أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض وقد تركوك أن يعبدوك) فهذا معنى الصرف. والرفع لمن أتبع آخر الكلام أوّله ؛ كما قال الله عزوجل (مَنْ (٢) ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ) بالرفع (٣). وقرأ ابن عباس (وإلا هتك) وفسّرها : ويذرك وعبادتك ؛ وقال : كان فرعون يعبد ولا يعبد.

وقوله : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) (١٢٩)

قال : فأمّا الأذى الأوّل فقتله الأبناء واستحياؤه النساء. ثم لمّا قالوا له : أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض قال : أعيد على أبنائهم القتل وأستحيى النساء كما كان فعل. وهو أذى بعد مجىء موسى.

__________________

(١) هو ابن محيصن.

(٢) آية ٢٤٥ سورة البقرة.

(٣) هو قراءة غير ابن عامر وعاصم ويعقوب. أما هؤلاء فقراءتهم النصب.

٣٩١

وقوله : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) (١٣٠)

أخذهم بالسنين : القحط والجدوبة عاما بعد عام.

وقوله : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ) (١٣١)

والحسنة هاهنا الخفض (١).

وقوله : (لَنا هذِهِ) يقولون : نستحقّها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) يعنى الجدوبة (يَطَّيَّرُوا) يتشاءموا (بِمُوسى) كما تشاءمت اليهود بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، فقالوا : غلت أسعارنا وقلّت أمطارنا مذ أتانا.

وقوله : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) (١٣٣)

أرسل الله عليهم السماء سبتا (٢) فلم تقلع ليلا ونهارا ، فضاقت بهم الأرض من تهدّم بيوتهم وشغلهم عن ضياعهم ، فسألوه أن يرفع عنهم ، فرفع فلم يتوبوا ، فأرسل الله عليهم (الجراد) فأكل ما أنبتت (٣) الأرض فى تلك السنة. وذاك أنهم رأوا من غبّ ذلك المطر خصبا لم يروا مثله قطّ ، فقالوا : إنما كان هذا رحمة لنا ولم يكن عذابا. وضاقوا بالجراد فكان قدر ذراع فى الأرض ، فسألوه أن يكشف عنهم ويؤمنوا ، فكشف (٤) الله عنهم وبقي لهم ما يأكلون ، فطغوا به وقالوا (لن نؤمن لك) فأرسل الله عليهم (القمل) وهو الدّبى (٥) الذي لا أجنحة له ، فأكل كلّ ما كان أبقى الجراد ، فلم يؤمنوا فأرسل الله (الضفادع) فكان أحدهم يصبح وهو على فراشه متراكب ، فضاقوا بذلك ، فلمّا كشف عنهم لم يؤمنوا ، فأرسل الله عليهم

__________________

(١) كذا فى ش ، وفى ج : «الخصب». ومعناهما واحد.

(٢) أي أسبوعا من السبت إلى السبت.

(٣) كذا فى ج. وفى ش : «أنبت».

(٤) كذا فى ش. وفى ج : «فكشفه».

(٥) الدبى : الجراد قبل أن يطير ، واحدة دباة.

٣٩٢

(الدم) فتحوّلت عيونهم وأنهارهم دما حتى موّتت الأبكار ، فضاقوا بذلك وسألوه أن يكشفه عنهم فيؤمنوا ، فلم يفعلوا ، وكان العذاب يمكث عليهم سبتا ، وبين العذاب إلى العذاب شهر ، فذلك قوله (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) ثم وعد الله موسى أن يغرق فرعون ، فسار موسى من مصر ليلا. وبلغ ذلك فرعون فأتبعه ـ يقال فى ألف ألف ومائة ألف سوى كتيبته التي هو فيها ، ومجنّبتيه (١) ـ فأدركهم هو وأصحابه مع طلوع الشمس. فضرب موسى البحر بعصاه فانفرج له فيه اثنا عشر طريقا. فلمّا خرجوا تبعه فرعون وأصحابه فى طريقه ، فلما كان أوّلهم يهمّ بالخروج وآخرهم فى البحر أطبقه الله تبارك وتعالى عليهم فغرّقهم. ثم سأل موسى أصحابه أن يخرج فرعون ليعاينوه ، فأخرج هو وأصحابه ، فأخذوا من الأمتعة والسلاح ما اتخذوا به العجل.

وقوله : (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) (١٤٨)

كان جسدا مجوّفا. وجاء فى التفسير أنه خار مرة واحدة.

وقوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) (١٤٩)

من الندامة. ويقال : أسقط لغة. و (سقط فى أيديهم) أكثر وأجود. قالوا لئن لم ترحمنا ربّنا نصب (٢) بالدعاء (لئن لم ترحمنا ربنا) ويقرأ (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) والنصب أحبّ إلىّ ؛ لأنها فى مصحف عبد الله (قالوا ربّنا لئن لم ترحمنا).

وقوله : (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) (١٥٠)

تقول : عجلت الشيء : سبقته ، وأعجلته استحثثته (٣).

__________________

(١) تثنية مجنبة. وهى فرقة من الجيش ، تكون فى إحدى جانبيه ، وللجيش مجنبتان : اليمنى واليسرى.

(٢) وهى قراءة حمزة والكسائىّ وخلف.

(٣) فى ش ، ج : «استحيته» وهو مصحف عما أثبتنا.

٣٩٣

وقوله : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) ذكر أنهما كانا لوحين. وجاز أن يقال الألواح للاثنين كما قال (فَإِنْ (١) كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) وهما أخوان وكما قال (إِنْ تَتُوبا (٢) إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) وهما قلبان.

وقوله تبارك وتعالى : (قالَ ابْنَ أُمَ) يقرأ (ابن أمّ ، وأمّ) بالنصب والخفض (٣) ، وذلك أنه كثر فى الكلام فحذفت العرب منه الياء. ولا يكادون يحذفون الياء إلا من الاسم المنادى يضيفه المنادى إلى نفسه ، إلّا قولهم : يا ابن عمّ ويا ابن أمّ. وذلك أنه يكثر استعمالهما فى كلامهم. فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا الياء فقالوا : يا ابن أبى ، ويا ابن أخى ، ويا ابن خالتى ، فأثبتوا الياء. ولذلك قالوا : يا ابن أمّ ، ويا ابن عمّ فنصبوا كما تنصب المفرد فى بعض الحالات ، فيقال : حسرتا ، ويا ويلتا ، فكأنهم قالوا : يا أمّاه ، ويا عمّاه. ولم يقولوا ذلك فى أخ ، ولو قيل كان صوابا. وكان هارون أخاه لأبيه وأمّه. وإنما قال له (يا ابن أم) ليستعطفه عليه.

وقوله : (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) من أشمت ، حدّثنا محمد قال حدّثنا الفراء قال حدّثنا سفيان بن عبينة عن رجل ـ أظنه الأعرج (٤) ـ عن مجاهد أنه قرأ (فلا تشمت بي) ولم يسمعها من العرب ، فقال الكسائىّ : ما أدرى لعلهم أرادوا (فلا تشمت بي الأعداء) فإن تكن صحيحة فلها نظائر ، العرب تقول فرغت : وفرغت. فمن قال فرغت قال : أنا أفرغ ، ومن قال فرغت قال أنا أفرغ ، وركنت وركنت وشملهم شر ، وشملهم ، فى كثير من الكلام. و (الأعداء) رفع لأن الفعل لهم ، لمن قال : تشمت أو تشمت.

__________________

(١) آية ١١ سورة النساء.

(٢) آية ٤ سورة التحريم.

(٣) الخفض أي كسر الميم قراءة ابن عامر وأبى بكر عن عاصم وحمزة والكسائىّ وخلف. والنصب قراءة الباقين.

(٤) هو حميد بن قيس المكىّ القارئ توفى سنة ١٣٠ ه‍.

٣٩٤

وقوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) (١٥٥) وجاء التفسير : اختار منهم سبعين رجلا. وإنما استجيز وقوع الفعل عليهم إذ طرحت (من) لأنه مأخوذ من قولك : هؤلاء خير القوم ، وخير من القوم. فلما جازت الإضافة مكان (من) ولم يتغير المعنى استجازوا أن يقولوا : اخترتكم رجلا ، واخترت منكم رجلا.

وقد قال الشاعر (١) :

فقلت له اخترها قلوصا سمينة

ونابا علينا مثل نابك فى الحيا

فقام إليها حبتر بسلاحه

فلله عينا حبتر أيّما فتى

وقال الراجز (٢) :

تحت الذي اختار له الله الشجر

وقوله : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) وذلك أن الله تبارك وتعالى أرسل على الذين معه ـ وهم سبعون ـ الرجفة ، فاحترقوا ، فظنّ موسى أنهم أهلكوا باتخاذ أصحابهم العجل ، فقال : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ، وإنما أهلكوا بمسألتهم موسى (أرنا الله جهرة).

__________________

(١) هو الراعي النميرىّ. والشعر من قصيدة له يصف فيها أنه نزل به قوم ليلا فى سنة مجدبة وكانت إبله بعيدة عنه ، فنحر ناقة من رواحلهم ، وجاءت إبله فى الغدوة فأعطى رب الناقة ناقة مثلها ، وزاده أخرى. والبيت الثاني فى الشعر قبل الأوّل ؛ إذ يذكر فيه أن حبترا نحر ناقة الضيف بعد أن أومأ إليه الراعي بذلك سرا لئلا يشعر صاحبها به. فأما البيت الأوّل فهو فى وصف ما حدث حين جاءت إبله فى صبح تلك الليلة. والقلوص : الفتية من الإبل. والناب : المسنة ، والحيا : الشحم والسمن. وحبرّ ابن أخيه أو غلامه. وقوله : «ونابا» فى الحماسة وغيرها : «وناب».

(٢) هو العجاج. والرجز من أرجوزته الطويلة فى مدح عمر بن عبيد الله بن معمر.

٣٩٥

وقوله (ثم اتخذوا (١) العجل) ليس بمردود على قوله (فأخذتهم الصاعقة) ثم اتخذوا ؛ هذا مردود على فعلهم الأوّل. وفيه وجه آخر : أن تجعل (ثم) خبرا مستأنفا. وقد تستأنف العرب بثم والفعل الذي بعدها قد مضى قبل الفعل الأوّل ؛ من ذلك أن تقول للرجل : قد أعطيتك ألفا ثم أعطيتك قبل ذلك مالا ؛ فتكون (ثم) عطفا على خبر المخبر ؛ كأنه قال : أخبرك أنى زرتك اليوم ، ثم أخبرك أنى زرتك أمس.

وأمّا قول الله عزوجل (خَلَقَكُمْ (٢) مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) فإن فيه هذا الوجه ؛ لئلا يقول القائل : كيف قال : خلقكم ثم جعل منها زوجها والزوج مخلوق (٣) قبل الولد؟ فهذا الوجه المفسّر يدخل فيه هذا المعنى. وإن شئت جعلت (ثم) مردودة على الواحدة ؛ أراد ـ والله أعلم ـ خلقكم من نفس وحدها ثم جعل منها زوجها ، فيكون (ثم) بعد خلقه آدم وحده. فهذا ما فى ثم. وخلقة ثمّ أن يكون آخر. وكذلك الفاء. فأمّا الواو فإنك إن شئت جعلت الآخر هو الأوّل والأوّل الآخر. فإذا قلت : زرت عبد الله وزيدا ، فأيّهما شئت كان هو المبتدأ بالزيادة ، وإذا قلت : زرت عبد الله ثم زيدا ، أو زرت عبد الله فزيدا كان الأوّل قبل الآخر ، إلا أن تريد بالآخر أن يكون مردودا على خبر المخبر فتجعله أوّلا.

__________________

(١) يريد قوله تعالى فى الآية ١٥٣ من سورة النساء : (يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات) فإن ظاهر الآية أن اتخاذ العجل بعد أن أخذتهم الصاعقة لسؤال الرؤية ، والواقع أن اتخاذ العجل سابق على هذا. فعنى المؤلف بتأويل الظاهر.

(٢) آية ٦ سورة الزمر.

(٣) الأولى : مخلوقة ؛ فإن المراد بالزوج حوّاء.

٣٩٦

وقوله : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) (١٦٠)

فقال : اثنتي عشرة والسبط ذكر لأن بعده (١) أمم ، فذهب التأنيث إلى الأمم. ولو كان (اثنى عشر) لتذكير السبط كان جائزا.

وقوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) (١٣٧)

فتنصب مشارق ومغارب تريد : فى مشارق الأرض وفى مغاربها ، وتوقع (٢) (وأورشا) على قوله (الَّتِي بارَكْنا) (٣) (فِيها). ولو جعلت (وأورثنا) واقعة على المشارق والمغارب لأنهم قد أورثوها وتجعل (التي) من نعت المشارق والمغارب فيكون نصبا (٤) ، وإن شئت جعلت (التي) نعتا للأرض فيكون خفضا.

وقوله : (وَما ظَلَمُونا) يقول : وما نقصونا شيئا بما فعلوا ، ولكن نقصوا أنفسهم. والعرب تقول : ظلمت سقاءك إذا سقيته (٥) قبل أن يمخض ويخرج زبده. ويقال ظلم الوادي إذا بلغ الماء منه موضعا لم يكن ناله فيما خلا ؛ أنشدنى بعضهم :

يكاد يطلع ظلما ثم يمنعه

عن الشواهق فالوادى به شرق (٦)

ويقال : إنه لأظلم من حيّة ؛ لأنها تأتى الجحر ولم تحفره فتسكنه. ويقولون : ما ظلمك أن تفعل ، يريدون : ما منعك أن تفعل ، والأرض المظلومة : التي لم ينلها

__________________

(١) كذا فى الأصول ا ؛ ش ، ج. والأعرب : «أمما».

(٢) كذا فى ا. وفى ش ، ج : «ترفع» وهو تصحيف.

(٣) أي الأرض التي باركنا فيها.

(٤) جواب لو محذوف ، أي لجاز.

(٥) أي سقيت ما فيه من اللين ضيفا ونحوه.

(٦) فى اللسان أن هذا فى وصف سيل. فقوله : يكاد يطلع أي السيل ، أي يكاد السيل يبلغ الشواهق أي الجبال المرتفعة ، ولكن الوادي يمنعه عنها فهو شرق بهذا السيل أي ضيق به كمن يغص بالماء.

٣٩٧

المطر ، وقال أبو الجراح : ما ظلمك أن تفيء ، لرجل شكا كثرة الأكل. ويقال (١) صعق الرجل وصعق إذا أخذته الصاعقة ، وسعد وسعد ورهصت الدابة ورهصت (٢).

وقوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) (١٦٣) والعرب تقول : يسبتون ويسبتون وسبت وأسبت. ومعنى اسبتوا : دخلوا فى السبت ، ومعنى يسبتون : يفعلون سبتهم. ومثله فى الكلام : قد أجمعنا ، أي مرّت بنا جمعة ، وجمّعنا : شهدنا الجمعة. قال وقال لى بعض العرب : أترانا (٣) أشهرنا مذ لم نلتق؟ أراد : مرّ بنا شهر.

(وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) منصوب بقوله : (لا تَأْتِيهِمْ).

وقوله : (قالُوا مَعْذِرَةً) (١٦٤)

إعذارا فعلنا ذلك. وأكثر كلام العرب أن ينصبوا المعذرة. وقد آثرت القراء رفعها. ونصبها جائز (٤). فمن رفع قال : هى معذرة كما قال : (إِلَّا ساعَةً (٥) مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ).

وقوله : (مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) (١٦٧) :

الجزية إلى يوم القيامة.

__________________

(١) كأن هذا أملاء على قوله تعالى فى الآية ١٤٣ من هذه السورة : «فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا» ، فأخر فى الكتابة إلى هذا الموضع. وكثيرا ما يحدث مثل هذا فى الكتاب ، فيذكر الشيء فى غير موضعه.

(٢) الرهص أن يصيب الحجر حافرا أو منسما فيذوى باطنه.

(٣) ثبت فى ش ، ج. وسقط فى ا.

(٤) بل قرأ به حفص عن عاصم وزيد بن على وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف.

(٥) آية ٣٥ سورة الأحقاف.

٣٩٨

وقوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) (١٦٩)

و (خَلْفٌ (١) أَضاعُوا الصَّلاةَ) أي قرن ، بجزم اللام. والخلف : ما استخلفته ، تقول : أعطاك الله خلفا مما ذهب لك ، وأنت خلف سوء ، سمعته من العرب.

وقوله : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) (١٧٠)

ويقرأ (يُمَسِّكُونَ (٢) بِالْكِتابِ) ومعناه : يأخذون بما فيه.

وقوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) (١٧١) رفع الجبل على عسكرهم فرسخا فى فرسخ. (نَتَقْنَا) : رفعنا. ويقال : امرأة منتاق إذا كانت كثيرة الولد.

وقوله : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) (١٧٦)

: ركن إليها وسكن. ولغة يقال : خلد إلى الأرض بغير ألف ، وهى قليلة.

ويقال للرجل إذا بقي سواد رأسه ولحيته : إنه مخلد ، وإذا لم تسقط أسنانه قيل : إنه لمخلد.

وقوله : (أَيَّانَ مُرْساها) (١٨٧)

المرسى فى موضع رفع.

(ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ثقل على أهل الأرض والسماء أن يعلموه (٣).

وقوله : (كَأَنَّكَ حَفِيٌ) كأنك حفىّ عنها مقدّم ومؤخر ؛ ومعناه يسألونك عنها كأنك حفىّ بها. ويقال فى التفسير كأنك حفىّ أي كأنك عالم بها.

__________________

(١) آية ٥٩ سورة مريم.

(٢) وهى قراءة أبى بكر عن عاصم.

(٣) كذا فى الأصول. والأولى : «يعلموها».

٣٩٩

وقوله : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) (١٨٨)

يقول : لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من السنة المخصبة ، ولعرفت الغلاء فاستعددت له فى الرخص. هذا قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) (١٨٩)

الماء خفيف على المرأة إذا حملت.

(فَمَرَّتْ بِهِ) فاستمرّت به : قامت به وقعدت.

(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) : دنت ولادتها ، أتاها إبليس فقال : ماذا فى بطنك؟ فقالت : لا أدرى. قال : فلعله بهيمة ، فما تصنعين لى إن دعوت الله لك حتى يجعله إنسانا؟ قالت : قل ، قال : تسمّينه باسمي. قالت : وما اسمك؟ قال : الحرث. فسمّته عبد الحارث ، ولم تعرفه أنه إبليس.

وقوله : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) (١٩٠)

إذ قالت : عبد الحارث ، ولا ينبغى أن يكون عبدا إلا لله. ويقرأ (١) : «شركا».

وقوله : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) (١٩١)

أراد الألهة ب (ما) ، ولم يقل : من ، ثم جعل فعلهم كفعل الرجال.

وقال : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ولا يملكون.

وقوله : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) (١٩٢)

فجعل الفعل للرجال.

__________________

(١) وهى قراءة نافع وأبى جعفر وأبى بكر عن عاصم.

٤٠٠