معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

ومن رفع (الميتة) جعل (يكون) فعلا لها ، اكتفى بيكون بلا فعل (١). وكذلك (يكون) (٢) فى كل الاستثناء لا تحتاج إلى فعل ، ألا ترى أنك تقول : ذهب الناس إلا أن يكون أخاك ، وأخوك. وإنما استغنت كان ويكون عن الفعل كما استغنى ما بعد إلا عن فعل يكون للاسم. فلما قيل : قام الناس إلا زيدا وإلا زيد فنصب بلا فعل ورفع بلا فعل صلحت كان تامة. ومن نصب : قال كان من عادة كان عند العرب مرفوع ومنصوب ، فأضمروا فى كان اسما مجهولا ، وصيّروا الذي بعده فعلا لذلك المجهول. وذلك جائز فى كان ، وليس ، ولم يزل ، وفى أظنّ وأخواتها : أن تقول (أظنه زيد أخوك (٣) و) أظنّه فيها زيد. ويجوز فى إنّ وأخواتها ؛ كقول الله تبارك وتعالى : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) (٤) وكقوله : (إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٥) فتذكّر الهاء وتوحّدها ، ولا يجوز تثنيتها ولا جمعها مع جمع ولا غيره. وتأنيثها مع المؤنث وتذكيرها مع المؤنث جائز ؛ فتقول : إنها ذاهبة جاريتك ، وإنه ذاهبة جاريتك.

فإن قلت : كيف جاز التأنيث مع الأنثى ، ولم تجز التثنية مع الاثنين؟

قلت : لأن العرب إنما ذهبت إلى تأنيث الفعل وتذكيره ، فلما جاز (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ وَأَخَذَتِ) جاز التأنيث ، والتذكير. ولما لم يجز : قاما أخواك ولا قاموا قومك ، لم يجز تثنيتها ولا جمعها.

فإن قلت : أتجيز تثنيتها فى قول من قال : ذهبا أخواك؟ قلت : لا ، من قبل أنّ الفعل واحد ، والألف التي فيها كأنها تدلّ على صاحبى الفعل ، والواو فى الجمع

__________________

(١) أي خبر. يريد : جعلها تامة.

(٢) جعل (يكون) فى الآية استثناء ، وجعل ضميرها الضمير المجهول ، وهو ما يسمى ضمير الشأن. وهذا مذهب كوفى. والبصريون يجعلون الضمير فى «يكون» للمطعوم ، ونحوه مما يفهم من المقام.

(٣) سقط ما بين القوسين فى ج.

(٤) آية ١٦ سورة لقمان.

(٥) آية ٩ سورة النمل.

٣٦١

تدل على أصحاب الفعل ، فلم يستقم أن يكنى عن فعل واسم فى عقدة ، فالفعل واحد أبدا ؛ لأن الذي فيه من الزيادات أسماء.

وتقول فى مسألتين منه يستدلّ بهما على غيرهما : إنها أسد جاريتك ، فأنثت لأن الأسد فعل (١) للجارية ، ولو جعلت الجارية فعلا (٢) للأسد ولمثله من المذكر لم يجز إلا تذكير الهاء. وكذلك كل اسم مذكّر شبهته بمؤنث فذكّر فيه الهاء ، وكل مؤنث شبهته بمذكر ففيه تذكير الهاء وتأنيثها ؛ فهذه واحدة. ومتى ما ذكّرت فعل مؤنث فقلت : قام جاريتك ، أو طال صلاتك ، (ثم (٣) أدخلت عليه إنه) لم يجز إلا تذكيرها ، فتقول : إنه طال صلاتك ؛ فذكّرتها (٤) لتذكير الفعل ، لا يجوز أن تؤنث وقد ذكّر الفعل.

وإذا رأيت الاسم مرفوعا بالمحالّ ـ مثل عندك ، وفوقك ، وفيها ـ فأنّث وذكّر فى المؤنث ولا تؤنث فى المذكر. وذلك أن الصفة لا يقدر فيها على التأنيث كما يقدر (فى (٥) قام) جاريتك على أن تقول : قامت جاريتك. فلذلك كان فى الصفات الإجراء (٦) على الأصل.

وإذا أخليت كان باسم واحد جاز أن ترفعه (٧) وتجعل له الفعل. وإن شئت أضمرت فيه مجهولا ونصبت ما بعده فقلت : إذا كان غدا فأتنا. وتقول : اذهب فليس (٨) إلا أباك ، وأبوك. فمن رفع أضمر أحدا ؛ كأنه قال : ليس أحد

__________________

(١) أي خبر عنها. وذلك يجعل «جاريتك» مبتدأ مؤخرا ، و «أسد» خبر مقدّم.

(٢) بأن تكون خبرا عن «أسد» ويكون القصد مسبب ية الأسد بالجارية.

(٣) ثبت ما بين القوسين فى ش ، وسقط فى ج.

(٤) كذا فى ش. وفى ج : «ذكرتها».

(٥) كذا فى ج. وفى ش : «مقام».

(٦) كذا فى ج. وفى ش : «للإجراء».

(٧) كذا فى ج. وفى ش : «تعرفه».

(٨) سقط هذا الحرف فى ش.

٣٦٢

إلا أبوك ، ومن نصب أضمر الاسم المجهول فنصب ؛ لأن المجهول معرفة فلذلك نصبت. ومن قال : إذا كان غدوة فأتنا لم يجز له أن يقول : إذا غدوة كان فأتنا ، كذلك الاسم المجهول لا يتقدمه منصوبه. وإذا قرنت بالنكرة فى كان صفة فقلت : إن كان بينهم شرّ فلا تقربهم ، رفعت. وإن بدأت بالشر وأخرت الصفة كان الوجه الرفع فقلت : إن كان شر بينهم فلا تقربهم ، ويجوز النصب. قال وأنشدنى بعضهم :

فعينىّ هلّا تبكيان عفاقا

إذا كان طعنا بينهم وعناقا (١)

فإذا أفردت النكرة بكان اعتدل النصب والرفع. وإذا أفردت المعرفة بكان كان الوجه النصب ؛ يقولون : لو كان إلا ظله لخاب ظله. فهذه على ما وصفت لك.

وقوله : (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) (١٤٦) حرّم عليهم الثّرب (٢) ، وشحوم الكلى.

ثم قال : (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) و (ما) فى موضع نصب بالفعل بالاستثناء. و (الحوايا) فى موضع رفع ، تردّها على الظهور : إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا ، وهى المباعر (٣) وبنات (٤) اللبن. والنصب على أن تريد (أو شحوم الحوايا) فتحذف الشحوم وتكتفى بالحوايا ؛ كما قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، يريد : واسأل أهل القرية.

وقوله : (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) وهى الألية. و (ما) فى موضع نصب.

__________________

(١) انظر ص ١٨٦ من هذا الجزء.

(٢) هو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش.

(٣) واحدها مبعر ومبعر بفتح الميم وكسرها. وهو حيث يجتمع البعر من الأمعاء.

(٤) بنات اللبن : ما صغر من الأمعاء. وانظر اللسان (هو).

٣٦٣

وقوله : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (١٥١)

إن شئت جعلت (لا تشركوا) نهيا أدخلت عليه (أن). وإن شئت جعلته خبرا و (تشركوا) فى موضع نصب ؛ كقولك : أمرتك ألّا تذهب (نصب) إلى زيد ، وأن لا تذهب (جزم) وإن شئت جعلت ما نسقته على (ألّا تشركوا به) بعضه جزما ونصبا بعضه ؛ كما قال : (قُلْ (١) إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَ) ، فنصب أوله ونهى عن آخره ؛ كما قال الشاعر :

حجّ وأوصى بسليمى الأعبدا

ألّا ترى ولا تكلم أحدا

ولا تمشّ بفضاء بعدا فنوى الخبر فى أوّله ونهى فى آخره. قال : والجزم فى هذه الآية أحبّ إلىّ لقوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ). فجعلت أوّله نهيا لقوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ).

وقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) (١٥٣)

تكسر (٢) إنّ إذا نويت الاستئناف ، وتفتحها من وقوع (أتل) عليها. وإن شئت جعلتها خفضا ، تريد (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) و (أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ).

وقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) يعنى اليهودية والنصرانية. يقول : لا تتبعوها فتضلوا.

__________________

(١) آية ١٤ سورة الأنعام.

(٢) وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف.

٣٦٤

وقوله : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) (١٥٤)

تماما على المحسن. ويكون المحسن فى مذهب جمع ؛ كما قال : (إِنَّ الْإِنْسانَ) (١) (لَفِي خُسْرٍ). وفى قراءة عبد الله تماما على الذين أحسنوا تصديقا لذلك. وإن شئت جعلت (الذي) على معنى (٢) (ما) تريد : تماما على ما أحسن موسى ، فيكون المعنى : تماما على إحسانه. ويكون (أحسن) مرفوعا (٣) ؛ تريد على الذي هو أحسن ، وتنصب (أحسن) هاهنا تنوى بها (٤) الخفض ؛ لأن العرب تقول : مررت بالذي هو خير منك ، وشرّ منك ، ولا يقولون : مررت بالذي قائم ؛ لأن (خيرا منك) كالمعرفة ؛ إذ لم تدخل فيه الألف واللام. وكذلك يقولون : مررت بالذي أخيك ، وبالذي مثلك ، إذا جعلوا صلة الذي معرفة أو نكرة لا تدخلها الألف واللام جعلوها تابعة للذى ؛ أنشدنى الكسائىّ :

إن الزّبيرىّ الذي مثل الحلم

مشّى بأسلابك فى أهل العلم (٥)

وقوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) (١٥٥)

جعلت مباركا من نعت الكتاب فرفعته. ولو نصبته على الخروج (٦) من الهاء فى (أنزلناه) كان صوابا.

__________________

(١) آية ٢ سورة العصر.

(٢) يريد أن تكون مصدرية.

(٣) وبه قرأ يحيى بن يعمر وابن أبى إسحق كما فى القرطبي.

(٤) سقط فى ش. والخفض على أنه نعت للذى.

(٥) الحلم واحده حلمة ، وهى الصغيرة من القردان أو دودة تقع فى الجلد فتأكله. يريد أن هذا الرجل الضعيف ابترك ثيابك وسلبك.

(٦) يريد أن يكون حالا.

٣٦٥

وقوله : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) (١٥٦)

(أن) فى موضع نصب من مكانين. أحدهما : أنزلناه لئلا تقولوا إنما أنزل. والآخر من قوله : واتقوا أن تقولوا ، (لا) يصلح فى موضع (أن) هاهنا كقوله : (يُبَيِّنُ) (١) (اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) يصلح فيه لا تضلون كما قال : (سَلَكْناهُ) (٢) (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ).

وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) (١٥٨)

لقبض أرواحهم : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) : القيامة (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) : طلوع الشمس من مغربها.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) (١٥٩)

قرأها علىّ (٣) (فارقوا) ، وقال : والله ما فرّقوه ولكن فارقوه. وهم اليهود والنصارى. وقرأها الناس (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) وكلّ وجه.

وقوله : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) يقول من قتالهم فى شىء ، ثم نسختها : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٤).

وقوله : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١٦٠)

من خفض يريد : فله عشر حسنات أمثالها. ولو قال هاهنا : فله عشر مثلها ؛ يريد عشر حسنات مثلها كان صوابا. ومن قال :

__________________

(١) آية ١٧٦ سورة النساء.

(٢) آيتا ٢٠٠ ، ٢٠١ سورة الشعراء.

(٣) وهى قراءة حمزة والكسائي.

(٤) آية ٥ سورة التوبة.

.

٣٦٦

عشر أمثالها جعلهنّ من نعت العشر. و (مثل) يجوز توحيده : أن تقول فى مثله من الكلام : هم مثلكم ، وأمثالكم ؛ قال الله تبارك وتعالى : (إِنَّكُمْ) (١) (إِذاً مِثْلُهُمْ) فوحّد ، وقال : (ثُمَ) (٢) (لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) فجمع. ولو قلت : عشر أمثالها (٣) كما تقول (٤) : عندى خمسة أثواب لجاز.

وقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) : بلا إله إلا الله ، والسيئة : الشّرك.

وقوله : (دِيناً قِيَماً) (١٦١)

و (٥) «قيّما». حدّثنا (٦) محمد قال حدّثنا الفراء قال حدّثنى عمرو بن أبى المقدام عن رجل عن عمران بن حذيفة قال : رآنى أبى حذيفة راكعا قد صوّبت رأسى ، قال ارفع رأسك ، دينا قيما. (دينا قيما) منصوب على المصدر. و (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) كذلك.

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (١٦٥)

جعلت أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلائف كل الأمم (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) فى الرزق (ليبلوكم) بذلك (فيما آتاكم).

__________________

(١) آية ١٤٠ سورة النساء.

(٢) آية ٣٨ سورة محمد.

(٣) أي بالرفع. وقد قرأ بذلك الحسن وسعيد بن جبير والأعمش.

(٤) سقط فى ج.

(٥) الأولى قراءة الكوفيين وابن عامر. والثانية قراءة الباقين.

(٦) هو محمد بن الجهم السمري راوى الكتاب.

٣٦٧

سورة الأعراف

قلت : (١) أرأيت ما يأتى بعد حروف الهجاء مرفوعا ؛ مثل قوله : (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ومثل قوله : (الم (٢) تَنْزِيلُ الْكِتابِ) ، وقوله : (الر (٣) كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) وأشباه ذلك بم رفعت الكتاب فى هؤلاء الأحرف؟

قلت : رفعته بحروف الهجاء التي قبله ؛ كأنك قلت : الألف واللام والميم والصاد من حروف المقطّع كتاب أنزل إليك مجموعا. فإن قلت : كأنك قد جعلت الألف واللام والميم والصاد يؤدّين عن جميع حروف المعجم ، وهو ثلاثة أحرف أو أربعة؟ قلت : نعم ، كما أنك تقول : ا ب ت ث ثمانية وعشرون حرفا ، فتكتفى بأربعة أحرف من ثمانية وعشرين. فإن قلت : إن ألف ب ت ث قد صارت كالاسم لحروف الهجاء ؛ كما تقول : قرأت الحمد ، فصارت اسما لفاتحة الكتاب. قلت : إن الذي تقول ليقع فى الوهم ، ولكنك قد تقول : ابني فى ا ب ت ث ، ولو قلت فى حاط لجاز ولعلمت بأنه يريد : ابني فى الحروف المقطّعة. فلما اكتفى بغير أوّلها علمنا أن أوّلها ليس لها باسم وإن كان أوّلها آثر فى الذكر من سائرها. فإن قلت : فكيف جاءت حروف (المص) (وكهيعص) مختلفة ثم أنزلا (٤) منزل با تا ثا وهنّ متواليات؟ قلت : إذا ذكرن متواليات دللن على أ ب ت ث

__________________

(١) كذا فى ش ، ج. يريد أن سائلا معينا وجه إليه هذا السؤال. وقد يكون الأصل : «فإن قلت» كما هو الشائع فى مثل هذا.

(٢) أوّل سورة السجدة.

(٣) أوّل سورة هود.

(٤) أي مجموعنا (المص) و (كهيعص). والأنسب بالسياق : «أنزلن».

٣٦٨

بعينها مقطّعة ، وإذا لم يأتين متواليات دللن على الكلام المتصل لا على المقطّع. أنشدنى الحارثىّ :

تعلمت باجاد وآل مزامر

وسوّدت أثوابى ولست بكاتب (١)

وأنشدنى بعض بنى أسد :

لمّا رأيت أمرها فى حطّى

وفنكت فى كذب ولط (٢)

أخذت منها بقرون شمط

ولم يزل ضربى لها ومعطى

حتى على الرأس دم يغطى

فاكتفى بحطى من أبى جاد ، ولو قال قائل : الصبى فى هوّز أو كلمن ، لكفى ذلك من أبى جاد.

وقد قال الكسائىّ : رفعت (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وأشباهه من المرفوع بعد الهجاء بإضمار (هذا) أو (ذلك) وهو وجه. وكأنه إذا أضمر (هذا) أو (ذلك) أضمر لحروف الهجاء ما يرفعها قبلها ؛ لأنها لا تكون إلا ولها موضع.

قال : أفرأيت ما جاء منها ليس بعده (٣) ما يرافعه ؛ مثل قوله : حم. عسق ، ويس ، وق ، وص ، مما يقلّ أو يكثر ، ما موضعه إذ لم يكن بعده مرافع؟ قلت :

__________________

(١) مرامر هو ابن مرة أو ابن مروة. وهو من أهل الأنبار ، من أوّل من كتب بالعربية. ويريد بآله حروف الهجاء لأنه اشتهر بتعليمها ، أو لأنه سمى أولاده الثمانية بأسماء جملها ، فسمى أحدهم أبجد وهكذا الباقي. وانظر اللسان فى مرر.

(٢) كأنه يتحدّث عن امرأة لا يرضى خلقها ، حاول إصلاحها فلم تنقد له ولم تتقدّم ، كأنها تستمر فى أوّل وسائل تعلمها ، كالصبى لا يعدو فى تعلمه حروف الهجاء. وفنكت فى الكذب : لجت فيه وتمادت. واللط : ستر الخبر وكتمه. والمعط : الشدّ والجذب. والقرون الشمط : يريد خصل شعر رأسها المختلط فيه السواد والبياض ، يريد أنها جاوزت عهد الشباب. وقوله : على الرأس ، فعلى جارة. ويضح أن يقرأ : علا الرأس ، فيكون (علا) فعلا و (الرأس) مفعول.

(٣) فى ش ، ج : «قبله». وظاهر أنه سهو من الناسخ.

٣٦٩

قبله ضمير (١) يرفعه ، بمنزلة قول الله تبارك وتعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) (٢) المعنى والله أعلم : هذه براءة من الله. وكذلك (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) (٣) وكذلك كل حرف مرفوع مع القول ما ترى معه ما يرفعه فقبله اسم مضمر يرفعه ؛ مثل قوله : (وَلا تَقُولُوا) (٤) (ثَلاثَةٌ انْتَهُوا) المعنى والله أعلم : لا تقولوا هم ثلاثة ، يعنى الآلهة ، وكذلك قوله : (سَيَقُولُونَ) (٥) (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ) المعنى والله أعلم : سيقولون هم ثلاثة.

وقد قيل فى (كهيعص) : إنه مفسّر لأسماء الله. فقيل : الكاف من كريم ، والهاء من هاد ، والعين والياء من عليم ، والصاد من صدوق. فإن يك كذلك (فالذكر) مرفوع بضمير لا ب (كهيعص). وقد قيل فى (طه) إنه : يا رجل ، فإن يك كذلك فليس يحتاج إلى مرافع ؛ لأن المنادى يرفع بالنداء ؛ وكذلك (يس) جاء فيها يا إنسان ، وبعضهم : يا رجل ، والتفسير فيها كالتفسير فى طه.

وقوله : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) (٢)

يقول : لا يضيق صدرك بالقرآن بأن يكذبوك ، وكما قال الله تبارك وتعالى : (فَلَعَلَّكَ) (٦) (باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا). وقد قيل : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) : شك.

(لِتُنْذِرَ بِهِ) مؤخر ، ومعناه : المص كتاب أنزل إليك لتنذر به فلا يكن فى صدرك حرج منه.

(وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) فى موضع نصب ورفع. إن شئت رفعتها على الردّ على الكتاب ؛ كأنك قلت : كتاب حقّ وذكرى للمؤمنين ؛ والنصب يراد به : لتنذر وتذكّر به المؤمنين.

__________________

(١) يريد مبتدأ محذوفا.

(٢) آية ١ سورة التوبة.

(٣) آية ١ سورة النور.

(٤) آية ١٧١ سورة النساء.

(٥) آية ٢٢ سورة الكهف.

(٦) آية ٦ سورة الكهف.

٣٧٠

وقوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) (٣)

وإنما خاطب (١) النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده لأن ما أنذر به فقد أنذرت به أمته ؛ كما قال : (يا أَيُّهَا) (٢) (النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) فخاطبه ، ثم جعل الفعل للجميع ، وأنت قد تقول للرجل : ويحك أما تتقون الله ، تذهب إليه وإلى أهل بيته أو عشيرته. وقد يكون قوله : (اتبعوا) محكيا من قوله (لتنذر به) لأن الإنذار قول ، فكأنه قيل له : لتقول لهم اتبعوا ؛ كما قال الله تبارك وتعالى : (يُوصِيكُمُ (٣) اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لأن الوصية قول.

ومثله : (يا أَيُّهَا (٤) النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ). ثم قال : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ) (٥) فجمع.

وقوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها) (٤)

يقال : إنما أتاها البأس من قبل الإهلاك ، فكيف تقدم الهلاك؟ قلت : لأن الهلاك والبأس يقعان معا ؛ كما تقول : أعطيتنى فأحسنت ، فلم يكن الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله : إنما وقعا معا ، فاستجيز ذلك. وإن شئت كان المعنى : وكم من قرية أهلكناها فكان مجىء البأس قبل الإهلاك ، فأضمرت كان. وإنما جاز ذلك على شبيه بهذا المعنى ، ولا يكون فى الشروط التي خلفتها (٦) بمقدّم معروف أن يقدم المؤخر أو يؤخر المقدم ؛ مثل قولك : ضربته فبكى ، وأعطيته

__________________

(١) يريد أن الخطاب فى هذا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو الموجه إليه الكلام من قبل فى قوله : كتاب أنزل إليك ، وكان وجه الخطاب على هذا : اتبع ما أنزل إليك من ربك ، ويذكر المؤلف أنه ذهب بالخطاب إلى الرسول وأمّته.

(٢) أول سورة الطلاق.

(٣) آية ١١ سورة النساء.

(٤) أول سورة التحريم.

(٥) آية ٢ سورة التحريم.

(٦) أي وقعت مكانها. ولو كان «خالفتها» كان المعنى أظهر.

٣٧١

فاستغنى ، إلا أن تدع الحروف فى مواضعها. وقوله : (أهلكناها فجاءها) قد يكونان خبرا بالواو : أهلكناها وجاءها البأس بياتا.

وقوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤)

ردّ الفعل إلى أهل القرية وقد قال فى أولها (أهلكناها) ولم يقل : أهلكناهم فجاءهم ، ولو قيل ، كان صوابا. ولم يقل : قائلة ، ولو قيل لكان صوابا.

وقوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) واو (١) مضمرة. المعنى أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو وهم قائلون ، فاستثقلوا نسقا على نسق ، ولو قيل لكان جائزا ؛ كما تقول فى الكلام : أتيتنى واليا ، أو وأنا معزول ، وإن قلت : أو أنا معزول ، فأنت مضمو للواو.

وقوله : (فَما كانَ دَعْواهُمْ) (٥)

الدعوى فى موضع نصب لكان. ومرفوع كان قوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا) فأن فى موضع رفع. وهو الوجه فى أكثر القرآن : أن تكون أن إذا كان معها فعل ، أن تجعل مرفوعة والفعل منصوبا ؛ مثل قوله : (فَكانَ (٢) عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) و (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا (٣) أَنْ قالُوا). ولو جعلت الدعوى مرفوعة (وأن) فى موضع نصب كان صوابا ؛ كما قال الله تبارك وتعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا) (٤) وهى فى إحدى (٥) القراءتين : ليس البر بأن تولوا.

__________________

(١) يريد : فيه واو ... أو هنا واو.

(٢) آية ١٧ سورة الحشر.

(٣) آية ٢٥ سورة الجاثية.

(٤) آية ٧٧ سورة البقرة.

(٥) نسبها فى البحر ٢ / ٢ إلى مصحف أبى وابن مسعود.

٣٧٢

وقوله : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) (٨)

وإن (١) شئت رفعت الوزن بالحقّ ، وهو وجه الكلام. وإن شئت رفعت الوزن بيومئذ ، كأنك قلت : الوزن فى يوم القيامة حقّا ، فتنصب الحقّ وإن كانت فيه ألف ولام ؛ كما قال : (فَالْحَقُ (٢) وَالْحَقَّ أَقُولُ) الأولى منصوبة (٣) بغير (٤) أقول. والثانية بأقول.

وقوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ) ولم يقل (فذلك) فيوحّد لتوحيد من ، ولو وحّد لكان صوابا. و (من) تذهب بها إلى الواحد وإلى الجمع. وهو كثير.

وقوله : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) (١٠)

لا تهمز ؛ لأنها ـ يعنى الواحدة ـ مفعلة ، الياء من الفعل ، فلذلك لم تهمز ، إنما يهمز من هذا ما كانت الياء فيه زائدة ؛ مثل مدينة ومدائن ، وقبيلة وقبائل لما كانت الياء لا يعرف لها أصل ثم قارفتها (٥) ألف مجهولة أيضا همزت ، ومثل معايش من الواو مما لا يهمز لو جمعت ، معونة قلت : (معاون) أو منارة قلت مناور. وذلك أن الواو ترجع إلى أصلها ؛ لسكون الألف قبلها. وربما همزت العرب هذا وشبهه ، يتوهمون أنها فعيلة لشبهها بوزنها فى اللفظ وعدّة الحروف ؛

__________________

(١) ثبتت الواو فى ش ، ج. والأولى حذفها.

(٢) آية ٨٤ سورة ص.

(٣) أي فى غير قراءة عاصم وحمزة وخلف. أما هؤلاء فقراءتهم بالرفع.

(٤) أي على أنه توكيد للجملة ، كما تقول أنت أخى حقا. ويقول أبو حيان فى رده فى البحر ٧ / ٤١١ : «وهذا المصدر الجائى توكيدا لمضمون الجملة لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة. وذلك مخصوص بالجملة التي جزءاها معرفتان جامدتان جمودا محضا».

(٥) فى ش ، ط : «فارقتها» وقد رأينا أنه مصحف عما أثبتنا. والقراف المخالطة.

٣٧٣

كما جمعوا مسيل الماء أمسلة ، شبّه بفعيل وهو مفعل. وقد همزت العرب المصائب وواحدتها مصيبة ؛ شبهت بفعيلة لكثرتها فى الكلام.

وقوله : (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) (١٢)

المعنى ـ والله أعلم ـ ما منعك أن تسجد. و (أن) فى هذا الموضع تصحبها لا ، وتكون (لا) صلة. كذلك تفعل بما كان فى أوّله جحد. و (١) ربما أعادوا على خبره جحدا للاستيثاق من الجحد والتوكيد له ؛ كما قالوا :

ما إن رأينا مثلهن لمعشر

سود الرءوس فوالج وفيول (٢)

و (ما) جحد و (إن) جحد فجمعتا للتوكيد. ومثله : (وَما (٣) يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ). ومثله : (وَحَرامٌ (٤) عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ). ومثله : (لِئَلَّا (٥) يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ) إلا أن معنى الجحد الساقط فى لئلا من أوّلها لا من آخرها ؛ المعنى : ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون. وقوله : (ما مَنَعَكَ) (ما) فى موضع رفع. ولو وضع لمثلها من الكلام جواب مصحح كان رفعا ، وقلت : منعنى منك أنك بخيل. وهو مما ذكر جوابه على غير بناء أوله ، فقال : (أنا خير منه) ولم يقل : منعنى من السجود أنى خير منه ؛ كما تقول فى الكلام : كيف بتّ البارحة؟ فيقول : صالح ، فيرفع ؛ أو تقول : أنا بخير ، فتستدلّ به على معنى الجواب ، ولو صحح الجواب لقال صالحا ، أي بتّ صالحا.

__________________

(١) الأظهر فى المعنى حذف الواو.

(٢) الفوالج جمع الفالج بكسر اللام ، وهو البعير ذو السنامين ، والفيول جمع الفيل للحيوان المعروف.

(٣) آية ١٠٩ سورة الأنعام.

(٤) آية ٩٥ سورة الأنبياء.

(٥) آية ٢٩ سورة الحديد.

٣٧٤

وقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ) (١٦)

المعنى ـ والله أعلم ـ : لأقعدن لهم على طريقهم أو فى طريقهم. وإلقاء الصفة (١) من هذا جائز ؛ كما قال : قعدت لك وجه الطريق ، وعلى وجه الطريق ؛ لأن الطريق صفة فى المعنى ، فاحتمل ما يحتمله اليوم والليلة والعام إذا قيل : آتيك غدا أو آتيك فى غد.

وقوله : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) (٢٦)

«ورياشا» (٢). فإن شئت جعلت رياش جميعا واحده الريش ، وإن شئت جعلت الرياش مصدرا فى معنى الريش كما يقال لبس ولباس ؛ قال الشاعر (٣) :

فلما كشفن الّلبس عنه مسحنه

بأطراف طفل زان غيلا موشما

وقوله : (وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى) و «لباس (٤) التقوى» يرفع بقوله : ولباس التقوى خير ، ويجعل (ذلك) من نعته. وهى فى قراءة أبىّ وعبد الله جميعا : ولباس التقوى خير. وفى قراءتنا (ذلك خير) فنصب اللباس أحب إلىّ ؛ لأنه تابع الريش (٥) ، (ذلك خير) فرفع خير بذلك.

__________________

(١) يريد بها الكوفيون الظرف.

(٢) هذه القراءة نسبها أبو عبيد إلى الحسن. وفى القرطبي نسبتها إلى عاصم من رواية المفضل الضبي وإلى أبى عمرو من رواية الحسين الجعفي.

(٣) هو حميد بن ثور الهلالي. والبيت من ميمبته الطويلة. وهو يصف فرسا خدمته جوارى الحي. فقوله : كشفن أي الجواري. وقوله : عنه أي عن الفرس. ولبسه : ما عليه من الجل والسرج. وقوله بأطراف طفل أي بأطراف بنان ناعم. وقوله : غيلا يريد ساعدا أو معصما ممتلئا ، موشما أي مزينا بالوشم ، يريد بنان الجواري.

(٤) أي بالنصب. وهو قراءة نافع وابن عامر والكسائي. والضم قراءة الباقين.

(٥) كذا فى ش. وفى ج : «الرياش».

٣٧٥

وقوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩)

يقول : بدأكم فى الخلق شقيا وسعيدا ، فكذلك تعودون على الشقاء والسعادة :

وقوله : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) (٣٠)

ونصب الفريق بتعودون ، وهى فى قراءة أبىّ : تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حقّ عليهم الضلالة. ولو كانا رفعا كان صوابا ؛ كما قال تبارك وتعالى : كان (١) لكم آية فى فئتين التقتا فئة تقاتل فى سبيل الله وأخرى كافرةو «فئة» (٢) ومثله : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٣). وقد يكون الفريق منصوبا بوقوع «هدى» عليه ؛ ويكون الثاني منصوبا بما (٤) وقع على عائد ذكره من الفعل ؛ كقوله : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٥).

وقوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (٢٩)

يقول : إذا أدركتك الصلاة وأنت عند مسجد فصلّ فيه ، ولا تقولن : آتى مسجد قومى. فإن كان فى غير وقت الصلاة صليت حيث شئت.

وقوله : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٣٢)

__________________

(١) آية ١٣ سورة آل عمران.

(٢) يريد رفع فئة فى الآية ونصبها. ويجوز فى الآية أيضا خفض فئة بدلا من «فئتين». وانظر ص ١٩٢ من هذا الجزء.

(٣) آية ٧ سورة الشورى.

(٤) يريد النصب على الاشتغال. والعامل هنا يقدر فى معنى المذكور أي أضل.

(٥) آية ٣١ سورة الإنسان.

٣٧٦

نصبت خالصة على القطع (١) وجعلت الخبر فى اللام التي فى الذين ، والخالصة ليست بقطع من اللام (٢) ، ولكنها قطع من لام أخرى مضمرة. والمعنى ـ والله أعلم ـ : قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا ؛ يقول : مشتركة ، وهى لهم فى الآخرة خالصة. ولو رفعتها كان صوابا ، تردّها (٣) على موضع الصفة التي رفعت لأن تلك فى موضع رفع. ومثله فى الكلام قوله : إنا بخير كثير (٤) صيدنا. ومثله قول الله عزوجل : (إِنَ) (٥) (الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً.). المعنى : خلق هلوعا ، ثم فسر حال الهلوع بلا نصب ؛ لأنه نصب فى أوّل الكلام. ولو رفع لجاز ؛ إلا أن رفعه على الاستئناف لأنه ليس معه صفة ترفعه. وإنما نزلت هذه الآية أن قبائل من العرب فى الجاهلية كانوا لا يأكلون أيام حجهم إلا القوت ، ولا يأكلون اللحم والدسم ، فكانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال نهارا والنساء ليلا ، وكانت المرأة تلبس شيئا شبيها بالحوف (٦) ليواريها بعض المواراة ؛ ولذلك قالت العامرية :

اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا أحله

قال المسلمون : يا رسول الله ، نحن أحق بالاجتهاد لربنا ، فأرادوا أن يفعلوا كفعل أهل الجاهلية ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) يعنى اللباس. (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) حتى يبلغ بكم ذلكم تحريم ما أحللت لكم ، والإسراف هاهنا الغلوّ فى الدين.

__________________

(١) أي على الحال.

(٢) يريد أنها ليست حالا من الجار والمجرور فى «للذين آمنوا فى الحياة الدنيا» بل يقدر جار ومجرور آخر هو خبر بعد خبر أي لهم خالصة يوم القيامة ، إذ كان هذا حكما لهم فى حال غير الحال الأولى.

(٣) يريد أن تكون خبرا ثانيا.

(٤) كذا فى ش. وفى ج : «وكثير». وعلى النسخة الأخيرة يحتمل أن يكون شطر رجز.

(٥) آيات ١٩ ، ٢٠ ، ٢١ سورة المعارج.

(٦) هو جلد يشقق كهيئة الإزار يلبسه الصبيان والحائض.

٣٧٧

وقوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) (٣٣)

(والإثم) ما دون الحدّ (والبغي) الاستطالة على الناس.

وقوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) (٣٧)

يقال : ينالهم ما قضى الله عليهم فى الكتاب من سواد الوجوه وزرقة الأعين. وهو قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (١) ويقال هو ما ينالهم فى الدنيا من العذاب دون عذاب الآخرة ، فيكون من قوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) (٢) (مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ).

وقوله : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) (٣٨)

يقول : التي سبقتها ، وهى أختها فى دينها لا فى النسب. وما كان من قوله : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) (٣) فليس بأخيهم فى دينهم ولكنه منهم.

وقوله : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ) (٤٠)

ولا يفتّح وتفتّح. وإنما يجوز التذكير والتأنيث فى الجمع لأنه يقع عليه التأنيث فيجوز فيه الوجهان ؛ كما قال : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) (٤) و «يشهد» فمن ذكّر قال : واحد الألسنة ذكر فأبنى على الواحد إذ كان الفعل يتوحد إذا تقدّم الأسماء المجموعة ، كما تقول ذهب القوم.

__________________

(١) آية ٦٠ سورة الزمر.

(٢) آية ٢١ سورة السجدة.

(٣) آية ٨٥ سورة الأعراف.

(٤) آية ٢٤ سورة النور. وقد قرأ بالياء حمزة والكسائي وخلف ، وقرأ الباقون بالتاء.

٣٧٨

وربما آثرت القراء أحد الوجهين ، أو يأتى ذلك فى الكتاب بوجه فيرى من لا يعلم أنه لا يجوز غيره وهو جائز. ومما آثروا من التأنيث قوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (١) فآثروا التأنيث. ومما آثروا فيه التذكير قوله : (لَنْ) (٢) (يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) والذي أتى فى الكتاب بأحد الوجهين قوله : (فُتِحَتْ) (٣) (أَبْوابُها) ولو أتى بالتذكير كان صوابا.

ومعنى قوله : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) : لا تصعد أعمالهم. ويقال : إن أعمال الفجار لا تصعد ولكنها مكتوبة فى صخرة تحبت الأرض ، وهى التي قال الله تبارك وتعالى : (كَلَّا (٤) إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ).

وقوله : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) الجمل هو زوج الناقة. وقد ذكر عن ابن عباس الجمّل يعنى الحبال (٥) المجموعة. ويقال الخياط والمخيط ويراد الإبرة. وفى قراءة عبد الله (المخيط) ومثله يأتى على هذين المثالين يقال : إزار ومئزر ، ولحاف وملحف ، وقناع ومقنع ، وقرام (٦) ومقرم.

وقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) (٤٨)

وذلك أنهم على سور بين الجنة والنار يقال له الأعراف ، يرون أهل الجنة فيعرفونهم ببياض وجوههم ، ويعرفون أهل النار بسواد وجوههم ، فذلك قوله :

__________________

(١) آية ١٠٦ سورة آل عمران. يريد أن القراء اختاروا التأنيث مع احتمال الرسم للتذكير ، كما أنهم فى الآيات التالية فى الحج آثروا التذكير مع احتمال الرسم للتأنيث. ولا يخفى أن القراءة مرجعها إلى التلقي.

(٢) آية ٣٧ سورة الحج.

(٣) آية ٧١ سورة الزمر.

(٤) آية ٧ سورة المطففين.

(٥) فى القرطبي : «وهو حبل السفينة الذي يقال له الفلس. وهو حبال مجموعة».

(٦) هو ثوب من صوف ملوّن يتخذ سترا.

٣٧٩

(يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ). وأصحاب الأعراف أقوام اعتدلت حسناتهم وسيئاتهم فقصّرت بهم الحسنات عن الجنّة ، ولم تبلغ بهم سيئاتهم النار ، كانوا موقوفين ثم أدخلهم الله الجنة بفضل رحمته.

وقوله : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً) (٥٢)

تنصب الهدى والرحمة على القطع من الهاء فى فصّلناه. وقد تنصبهما على الفعل (١). ولو خفضته على الإتباع للكتاب كان صوابا ؛ كما قال الله تبارك وتعالى : (وَهذا) (٢) (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) فجعله رفعا بإتباعه للكتاب.

وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) (٥٣)

الهاء فى تأويله للكتاب. يريد عاقبته وما وعد الله فيه.

وقوله : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ) ليس بمعطوف على (فيشفعوا) ، إنما المعنى ـ والله أعلم ـ : أو هل نردّ فنعمل غير الذي كنا نعمل. ولو نصبت (نردّ) على أن تجعل (أو) بمنزلة حتّى ، كأنه قال : فيشفعوا لنا أبدا حتى نرد فنعمل (٣) ، ولا نعلم قارئا (٤) قرأ به.

وقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦)

ذكرت قريبا لأنه ليس بقرابة فى النسب. قال : ورأيت العرب تؤنث القريبة فى النسب لا يختلفون فيها ، فإذا قالوا : دارك منّا قريب ، أو فلانة منك قريب

__________________

(١) كأنه يريد نصبه على أنه مفعول مطلق. أي هدينا به هدى ورحمنا به رحمة.

(٢) آية ٩٢ سورة الأنعام.

(٣) جواب لو محذوف ، أي لجاز.

(٤) قرأ به ابن أبى إسحق ، كما فى مختصر البديع ٤٤.

٣٨٠