معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

وقوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ...) (٣)

(ما) فى موضع رفع بما لم يسمّ فاعله.

(وَالْمُنْخَنِقَةُ) : ما اختنقت فماتت ولم تدرك.

(وَالْمَوْقُوذَةُ) : المضروبة حتى تموت ولم تذكّ.

(وَالْمُتَرَدِّيَةُ) : ما تردّى من فوق جبل أو بئر (١) ، فلم تدرك ذكاته.

(وَالنَّطِيحَةُ) : ما نطحت حتى تموت. كل ذلك محرّم إذا لم تدرك ذكاته.

وقوله : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) نصب ورفع.

(وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) : ذبح للأوثان. و (ما ذبح) فى موضع رفع (٢) لا غير.

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا) رفع بما لم يسمّ فاعله. والاستقسام : أنّ سهاما كانت تكون فى الكعبة ، فى بعضها : أمرنى ربى ، (وفى موضعها : نهانى ربى (٣)) فكان أحدهم إذا أراد سفرا أخرج سهمين فأجالهما ، فإن خرج الذي فيه (أمرنى ربى) خرج. وإن خرج الذي فيه (نهانى ربى) قعد وأمسك عن الخروج.

قال الله تبارك وتعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ) والكلام منقطع عند الفسق ، و (الْيَوْمَ) منصوب ب (يئس) لا بالفسق.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) نصب (اليوم) ب (أحلّ).

وقوله : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) مثل قوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) يقول : غير معتمد لإثم. نصبت (غير) لأنها حال ل (من) ، وهى خارجة من الاسم الذي فى (اضطرّ).

__________________

(١) كذا فى ش ، ج. والمناسب : «فى بئر».

(٢) أي بالعطف على «الميتة».

(٣) سقط ما بين القوسين فى ج. وقوله : «فى موضعها» كذا. والمناسب : فى بعضها.

٣٠١

وقوله : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ...) (٤) يعنى الكلاب. و (مُكَلِّبِينَ) نصب على الحال خارجة من (لكم) ، يعنى بمكلّبين :

الرجال أصحاب الكلاب ، يقال للواحد : مكلّب وكلّاب. وموضع (ما) رفع.

وقوله : (تعلّمونهنّ) : تؤدّبونهن ألّا يأكلن صيدهنّ.

ثم قال تبارك وتعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ممّا لم يأكلن منه ، فإن أكل فليس بحلال ؛ لأنه إنما أمسك على نفسه.

وقوله : (وَأَرْجُلَكُمْ ...) (٦)

مردودة على الوجوه (١). قال الفراء : وحدّثنى قيس (٢) بن الربيع عن عاصم (٣) عن زرّ عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ (وأرجلكم) مقدّم (٤) ومؤخر. قال الفراء : وحدّثنى محمد (٥) بن أبان القريشي عن أبى (٦) إسحاق الهمدانىّ عن رجل عن علىّ أنه قال : نزل (٧) الكتاب بالمسح ، والسنّة الغسل. قال الفراء : وحدّثنى أبو شهاب (٨) عن رجل عن

__________________

(١) فى ش ، ج «الوجه». يريد أنها معطوفة على «وجوهكم».

(٢ ، ٣) قيس بن الربيع الأسدى الكوفىّ. مات سنة ١٦٥. وعاصم هو ابن بهدلة الكوفىّ أحد القراء السبعة. مات سنة ١٢٩. وزرّهو ابن حبيش. وهو كوفىّ أيضا. مات سنة ٨٢ ه‍. وانظر الخلاصة.

(٤) يريد عطف «أرجلكم» على «وجوهكم» وفيه تقديم «وامسحوا برءوسكم» وتأخير «أرجلكم» وهو ذكر للوجه السابق.

(٥) مات سنة ١٣٩

(٦) هو عمرو بن عبد الله السبيعىّ. مات سنة ١٢٧

(٧) أي على قراءة «أرجلكم» بالخفض. وهى قراءة ابن كثير وحمزة وأبى عمرو.

(٨) أبو شهاب : هو عبد ربه بن نافع الكنانىّ الحناط الكوفي نزيل المدائن. روى عن الأعمش وغيره وكان ثقة. توفى سنة ١٧١ وهو أبو شهاب الأصغر. وأبو شهاب الأكبر هو موسى بن نافع الأسدى الحناط روى عن سعيد بن جبير وعطاء وغيرهما وثقه أبو نعيم ، وقال أحمد : إنه منكر الحديث. توفى حوالى سنة ١٥٠ (خلاصة تذهيب الكمال).

٣٠٢

الشعبىّ قال : نزل جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمسح على محمد صلى الله عليهما وعلى جميع الأنبياء. قال الفراء : السنة الغسل.

وقوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) كناية عن خلوة الرجل إذا أراد الحاجة.

وقوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ...) (٨) لو لم تكن (هو) فى الكلام كانت (أقرب) نصبا. يكنى عن الفعل فى هذا الموضع بهو وبذلك ؛ تصلحان جميعا. قال فى موضع آخر (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) (١) وفى الصفّ (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢) فلو لم تكن (هو) ولا (ذلك) فى الكلام كانت نصبا ؛ كقوله (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) (٣).

وقوله : (يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ...) (١٩) معناه : كى لا تقولوا : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ) مثل ما قال (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (٤).

وقوله : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ...) (٢٠)

يعنى السبعين الذين اختارهم موسى ليذهبوا معه إلى الجبل ، سمّاهم أنبياء لهذا.

(وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) يقول : أحدكم فى بيته ملك ، لا يدخل عليه إلا بإذن.

(وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ظلّلكم بالغمام الأبيض ، وأنزل عليكم المنّ والسّلوى.

__________________

(١) آية ١٢ سورة المجادلة.

(٢) آية ١١

(٣) آية ١٧١ سورة النساء.

(٤) آية ١٧٦ سورة النساء.

٣٠٣

وقوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ...) (٢١)

ذكر أن الأرض المقدّسة دمشق وفلسطون (١) وبعض الأردنّ (مشدّدة النون).

وقوله : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ...) (٢٤)

فقال (أنت) ولو ألقيت (أنت) فقيل : اذهب وربك فقاتلا كان صوابا ؛ لأنه فى إحدى القراءتين إنه يراكم وقبيله بغير (هو) وهى بهو (٢) و (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) أكثر فى كلام العرب. وذلك أنّ المردود على الاسم المرفوع إذا أضمر يكره ؛ لأن المرفوع خفىّ فى الفعل ، وليس كالمنصوب ؛ لأنّ المنصوب يظهر ؛ فتقول ضربته وضربتك ، وتقول فى المرفوع : قام وقاما ، فلا ترى اسما (٣) منفصلا فى الأصل من الفعل ، فلذلك أوثر إظهاره ، وقد قال الله تبارك وتعالى (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) (٤) ولم يقل (نحن) وكلّ صواب.

وإذا فرقت بين الاسم المعطوف بشىء قد وقع عليه الفعل حسن بعض الحسن. من ذلك قولك : ضربت زيدا وأنت. ولو لم يكن زيد لقلت : قمت أنا وأنت ، وقمت وأنت قليل. ولو كانت (إنا هاهنا قاعدين) (٥) كان صوابا.

__________________

(١) تراه عامله فى الإعراب كجمع المذكر السالم. وهو أحد الوجهين فيه. والوجه الآخر أن يلزم الياء والنون كغسلين.

(٢) كذا فى ج. وفى ش : «هو». يريد أن قراءة الآية السابقة (إنه يراكم هو وقبيله) أكثر لما فيها من الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه الذي هو ضمير الرفع ، وكذلك الفصل فى الآية بعده.

(٣) سقط فى ش.

(٤) آية ٦٧ سورة النمل.

(٥) ذلك أن يكون الظرف (هاهنا) خبر إن و (قاعدين) حال من الضمير المستتر فى متعلق الخبر أو من اسم إن وهو ضمير المتكلمين.

٣٠٤

وقوله : (أَرْبَعِينَ سَنَةً ...) (٢٦)

منصوبة بالتحريم (١). ولو قطعت الكلام فنصبتها بقوله (يتيهون) كان صوابا. ومثله فى الكلام أن تقول : لأعطينّك ثوبا ترضى ، تنصب الثوب بالإعطاء ، ولو نصبته بالرضا تقطعه من الكلام من (لأعطينك) كان صوابا.

وقوله : (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ...) (٢٧)

ولم يقل : قال الذي لم يتقبل منه (لأقتلنّك) لأن المعنى يدلّ على أن الذي لم يتقبّل منه هو القائل لحسده لأخيه : لأقتلنك. ومثله فى الكلام أن تقول : إذا اجتمع السفيه والحليم حمد ، تنوى بالحمد الحليم ، وإذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت ، وأنت تنوى : أعنت المظلوم ، للمعنى الذي لا يشكل. ولو قلت : مرّبى رجل وامرأة فأعنت ، وأنت تريد أحدهما لم يجز حتى يبيّن ؛ لأنهما ليس فيهما علامة تستدلّ بها على موضع المعونة ، إلا أن تريد : فأعنتهما جميعا.

وقوله : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ...) (٣٠)

يريد : فتابعته.

وقوله : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ...) (٣٢)

جواب لقتل ابن آدم صاحبه.

وقوله : (وَمَنْ أَحْياها) يقول : عفا عنها ، والإحياء هاهنا العفو.

__________________

(١) قال العكبري (أربعين سنة) ظرف لمحرمة ، فالتحريم على هذا مقدّر ، وجملة (يتيهون فى الأرض) حال من الضمير المجرور ـ وقيل هى ظرف ل «يتيهون» فالتحريم على هذا غير مؤقت.

٣٠٥

وقوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ ...) (٣٣)

(أن) فى موضع رفع.

فإذا أصاب الرجل الدم والمال وأخاف السبيل صلب ، وإذا أصاب القتل ولم يصب المال قتل ، وإذا أصاب المال ولم يصب القتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى «من خلاف» ويصلح مكان (من) على ، والباء ، واللام.

ونفيه أن يقال : من قتله فدمه هدر (١). فهذا النفي.

وقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ...) (٣٨)

مرفوعان بما عاد من ذكرهما. والنصب فيهما جائز ؛ كما يجوز أزيد ضربته ، وأزيدا ضربته. وإنما تختار العرب الرفع فى «السارق والسارقة» لأنهما [غير] (٢) موقّتين ، فوجّها توجيه الجزاء ؛ كقولك : من سرق فاقطعوا يده ، ف (من) لا يكون إلا رفعا ، ولو أردت سارقا بعينه أو سارقة بعينها كان النصب وجه الكلام. ومثله (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) (٣) وفى قراءة عبد الله «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما».

وإنما قال (أيديهما) لأنّ كل (٤) شىء موحّد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا جمع. فقيل : قد هشمت رءوسهما ، وملأت ظهورهما وبطونهما ضربا. ومثله (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (٥).

__________________

(١) فى اللسان (نفى) بعده : «أي لا يطالب قاتله بدمه».

(٢) سقط فى ش.

(٣) آية ١٦ سورة النساء.

(٤) كذا فى ج. وفى ش : «لكل».

(٥) آية ٤ سورة التحريم.

٣٠٦

وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين فى الإنسان : اليدين والرجلين والعينين. فلما جرى (١) أكثره على هذا ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب التثنية. وقد يجوز تثنيتهما ؛ قال أبو ذؤيب :

فتخالسا نفسيهما بنوافذ

كنوافذ العبط التي لا ترقع (٢)

وقد يجوز هذا فيما ليس من خلق الإنسان. وذلك أن تقول للرجلين : خليّتما نساءكما ، وأنت تريد امرأتين ، وخرقتما قمصكما.

وإنما ذكرت ذلك لأن من النحويين من كان لا يجيزه إلّا فى خلق الإنسان ، وكلّ سواء. وقد يجوز أن تقول فى الكلام : السارق والسارقة فاقطعوا يمينهما (٣) ؛ لأن المعنى : اليمين من كل واحد منهما ؛ كما قال الشاعر :

كلوا فى نصف بطنكم تعيشوا

فإنّ زمانكم زمن خميص (٤)

__________________

(١) يريد أن الجوارح لما كثر فيها التثنية غلبت هذه الجوارح على المفردة ، فدخلت الأخيرة فى باب الأولى. فإذا أضيف اثنان من المفردة الى اثنين فكأنما أضفت أربعة ، فجمع اللفظ لذلك.

(٢) هذا من عينيته المشهورة التي يرثى بها بنيه. وهى فى المفصليات. وهو فى وصف فارسين يتنازلان. و «تخالسا نفسيهما» : رام كل منهما اختلاس نفس صاحبه وابتهاز الفرصة فيه. والنوافذ : الطعنات النافذة. والعبط : جمع العبيط ، وهو ما يشق ، من العبط أي الشق. وفى أمالى ابن الشجري ١ / ١٢ : «أراد : بطعنات نوافذ. والعبط جمع العبيط ، وهو البعير الذي ينحر لغير داء». وانظر شرح المفضّليات لابن الأنبارى ٨٨٣ ، وديوان الهذليين (الدار) ١ / ٢٠

(٣) كذا فى ج. وفى ش : «يدهما».

(٤) ويروى :

كلوا فى بعض بطنكم تعفوا

والخميص : الجائع طوى بطنه على غير زاد. وانظر الكتاب ١ / ١٠٨ ، والخزانة ٣ / ٣٧٩.

٣٠٧

وقال الآخر (١) :

الواردون وتيم فى ذرى سبأ

قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس

من قال : (ذرى) (٢) جعل سبأ جيلا ، ومن قال : (ذرى) أراد موضعا.

ويجوز فى الكلام أن تقول : ائتني برأس شاتين ، ورأس شاة. فإذا قلت :

برأس شاة فإنما أردت رأسى هذا الجنس ، وإذا قلت برأس شاتين فإنك تريد به الرأس من كل شاة ؛ قال الشاعر فى غير ذلك :

كأنه وجه تركيّين قد غضبا

مستهدف لطعان غير تذبيب (٣)

وقوله : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ...) (٤١)

إن شئت رفعت قوله «سمّاعون للكذب» بمن ولم تجعل (من) فى المعنى متصلة بما قبلها ، كما قال الله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) (٤) وإن شئت كان

__________________

(١) هو جرير. وهو من قصيدة فى هجاء تيم بن قيس من بكر بن وائل. والرواية فى الديوان ٣٢٥ :

تدعوك تيم وتيم فى قرى سبأ

قد عض أعناقهم جلد الجواميس

(٢) الذرى ـ بالفتح ـ : الكنّ وما يستتر به. وتقول : أنا فى ذرى فلان أي فى ظله وحمايته ، فإذا أريد بسبأ القبيلة المعروفة قرئ «ذرى سبأ» بالفتح أي أن تيما يحتمون بسبأ ويمتنعون بها ، ولا عصمة لهم من أنفسهم. والذرى ـ بالضم ـ جمع الذروة. وذروة الشيء : أعلاه. وعلى هذه القراءة يكون سبأ اسما للمدينة المعروفة أي أن تيما فى أعالى هذه المدينة. وقد قرأ البغدادىّ «جبلا» واحد الجبال فضبط الأوّل بالضم والثاني بالفتح ، والأشبه بالصواب ما جرينا عليه من قراءته : «جيلا» بالجيم المكسورة والياء المثناة الساكنة. وانظر الخزانة ٣ / ٣٧١

(٣) هكذا أنشده الفرّاء «تذبيب» وتابعه ابن الشجري فى أماليه ١ / ١٢ ، وقال : «ذب فلان عن فلان : دفع عنه. وذبب فى الطعن والدفع إذا لم يبالغ فيهما» وهذا يوافق ما فى اللسان : «ويقال طعان غير تذبيب إذا بولغ فيه». وقال البغدادي فى الخزانة ٣ / ٣٧٢ : «والبيت الشاهد قافيته رائية لا بائية» وأورد البيت فيه «غير منجحر» فى مكان «غير تذبيب» وهو من قصيدة للفرزدق يهجو بها جريرا ، أوّلها :

ما تأمرون عباد الله أسألكم

بشاعر حوله درجان مختمر

(٤) آية ٣٢ سورة فاطر.

٣٠٨

المعنى : لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من هؤلاء ولا «من الذين هادوا» فترفع حينئذ (سمّاعون) على الاستئناف ، فيكون مثل قوله (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) (١) ثم قال تبارك وتعالى : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) ولو قيل : سماعين ، وطوّافين لكان صوابا ؛ كما قال : (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا) (٢) وكما قال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٣) ثم قال : (آخِذِينَ) (٤) ، و (فاكِهِينَ) (٥) ، و (مُتَّكِئِينَ») (٦) والنصب أكثر. وقد قال أيضا فى الرفع : (كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى) (٧) فرفع (٨) (نزّاعة) على الاستئناف ، وهى نكرة من صفة معرفة. وكذلك قوله : (لا) (٩) (تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ) وفى قراءة أبىّ «إنها (١٠) لإحدى الكبر نذير للبشر» بغير ألف. فما أتاك من مثل هذا فى الكلام نصبته ورفعته. ونصبه على القطع وعلى الحال. وإذا حسن فيه المدح أو الذمّ فهو وجه ثالث. ويصلح إذا نصبته على الشتم أو المدح أن تنصب معرفته كما نصبت نكرته. وكذلك قوله «سمّاعون للكذب أكّالون للسّحت» على ما ذكرت لك.

وقوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ...) (٤٥)

تنصب (النفس) بوقوع (أنّ) عليها. وأنت فى قوله (والعين بالعين والأنف بالأنف) إلى قوله (والجروح قصاص) بالخيار. إن شئت رفعت ، وإن شئت

__________________

(١) آية ٥٨ سورة النور.

(٢) آية ٦١ سورة الأحزاب.

(٣) آية ١٥ سورة الذاريات.

(٤) آية ١٦ سورة الذاريات.

(٥) آية ١٨ سورة الطور وهى بعد قوله : «إن المتقين فى جنات ونعيم» وكأن الأمر اشتبه على المؤلف.

(٦) آية ٢٠ سورة الطور.

(٧) آيتا ١٥ ، ١٦ سورة المعارج.

(٨) وقرأ حفص من السبعة وبعض القرّاء من غيرهم بالنصب.

(٩) آيتا ٢٨ ، ٢٩ سورة المدّثر.

(١٠) آيتا ٣٥ ، ٣٦ سورة المدّثر.

٣٠٩

نصبت. وقد نصب حمزة ورفع الكسائىّ. قال الفراء : وحدّثنى إبراهيم (١) بن محمد ابن أبى يحيى عن أبان (٢) بن أبى عياش عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (والعين بالعين) رفعا. قال الفرّاء : فإذا رفعت العين أتبع الكلام العين ، وإن نصبنه فجائز. وقد كان بعضهم ينصب كله ، فإذا انتهى إلى (والجروح قصاص) رفع. وكل صواب ، إلا أن الرفع والنصب فى عطوف إنّ وأنّ إنما يسهلان إذا كان مع الأسماء أفاعيل ؛ مثل قوله (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها) (٣) كان النصب سهلا ؛ لأنّ بعد الساعة خبرها. ومثله (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٤) ومثله (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (٥) فإذا لم يكن بعد الاسم الثاني خبر رفعته ، كقوله عزوجل (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (٦) وكقوله (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (٧) وكذلك تقول : إنّ أخاك قائم وزيد ، رفعت (زيد) بإتباعه الاسم المضمر فى قائم. فابن على هذا.

وقوله (٨) : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى ...) (٦٩)

فإن رفع (الصابئين) على أنه عطف على (الذين) ، و (الذين) حرف على جهة واحدة (٩) فى رفعه ونصبه وخفضه ، فلمّا كان إعرابه واحدا وكان نصب (إنّ) نصبا

__________________

(١) يروى عنه الشافعي والثورىّ. مات سنة ١٨٤.

(٢) كانت وفاته سنة ١٤٠ ه‍.

(٣) آية ٣٢ سورة الجاثية. وقد قرأ حمزة بالنصب والباقون بالرفع.

(٤) آية ١٢٨ سورة الأعراف. وقد قرأ بالنصب ابن مسعود.

(٥) آية ١٩ سورة الجاثية.

(٦) آية ٣ سورة التوبة.

(٧) آية ٤ سورة التحريم.

(٨) هذه الآية فصلت بين أجزاء الآية ٤٥. وقد تكرر مثل هذا فى الكتاب.

(٩) يريد أنه مبنىّ غير معرب فلا يتغير آخره.

٣١٠

ضعيفا ـ وضعفه أنه يقع على (الاسم (١) ولا يقع على) خبره ـ جاز رفع الصابئين. ولا أستحبّ أن أقول : إنّ عبد الله وزيد قائمان لتبيّن الإعراب فى عبد الله. وقد كان الكسائىّ يجيزه لضعف إنّ. وقد أنشدونا هذا البيت رفعا ونصبا :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنى وقيّارا بها لغريب (٢)

وقيّار. ليس هذا بحجّة للكسائىّ فى إجازته (إنّ عمرا وزيد قائمان) لأن قيارا قد عطف على اسم مكنىّ عنه ، والمكنى لا إعراب له فسهل ذلك (فيه (٣) كما سهل) فى (الذين) إذا عطفت عليه (الصابئون) وهذا أقوى فى الجواز من (الصابئون) لأنّ المكنى لا يتبين فيه الرفع فى حال ، و (الذين) قد يقال : اللذون فيرفع فى حال. وأنشدنى بعضهم :

وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم

بغاة ما حيينا فى شقاق (٤)

وقال الآخر :

يا ليتنى وأنت يا لميس

ببلد ليس به أنيس

وأنشدنى بعضهم :

يا ليتنى وهما نخلو بمنزلة

حتى يرى بعضنا بعضا ونأتلف

__________________

(١) سقط ما بين القوسين فى ج.

(٢) من أبيات لضابئ بن الحارث البرجمىّ قالها فى سجنه فى المدينة على عهد عثمان رضى الله عنه.

أخذ لقذفه المحصنات. وقيار اسم فرسه. وفى نوادر أبى زيد أنه اسم جمله. وانظر الخزانة ٤ / ٣٢٣ والكتاب ١ / ٨.

(٣) سقط ما بين القوسين فى ح.

(٤) هو لبشر بن خازم الأسدى. وقبله :

فإذ جزت نواصى آل بدر

فأدّوها وأسرى فى الوثاق

وانظر الخزانة : / ٣١٥ ، والكتاب ١ / ٢٩٠.

٣١١

قال الكسائىّ : أرفع (الصابئون) على إتباعه الاسم الذي فى هادوا ، ويجعله (١) من قوله (إنا هدنا إليك) (٢) لا من (٣) اليهودية. وجاء التفسير بغير ذلك ؛ لأنه وصف الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ثم ذكر اليهود والنصارى فقال : من آمن منهم فله كذا ، فجعلهم يهودا ونصارى.

وقوله (٤) : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ...) (٤٥)

كنى (عن (٥) [الفعل] بهو) وهى فى الفعل الذي يجرى منه فعل ويفعل ، كما تقول :

قد قدمت القافلة ففرحت به ، تريد : بقدومها.

وقوله (كفّارة له) يعنى : للجارح والجاني ، وأجر للمجروح.

وقوله : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً ...) (٤٦)

ثم قال (ومصدّقا) فإن شئت جعل (مصدّقا) من صفة عيسى ، وإن شئت من صفة الإنجيل.

وقوله (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) متبع للمصدّق فى نصبه ، ولو رفعته على أن تتبعهما قوله (فيه هدى ونور) كان صوابا.

وقوله : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ ...) (٤٧)

قرأها حمزة وغيره نصبا (٦) ، وجعلت اللام فى جهة كى. وقرئت (وليحكم) جزما على أنها لام أمر.

__________________

(١) فى الخزانة ٤ / ٣٣٤ : «بجعله».

(٢) آية ١٥٦ سورة الأعراف.

(٣) يريد أن «هادوا» فى قوله : «والذين هادوا» بمعنى تابوا ورجعوا إلى الحق ، كما فى آية الأعراف ، وليس معنى «الذين هادوا» الذين كانوا على دين اليهودية. والذين هادوا بالمعنى الأوّل يدخل فيه بعض الصابئين فيصح العطف ، بخلافه على المعنى الثاني.

(٤) تقدم بعض هذه الآية قبل الآية السابقة.

(٥) فى الأصول : «عن ألهو» والظاهر أنه مغير عما أثبتنا.

(٦) فالميم عنده مفتوحة. وقد كسر اللام.

٣١٢

وقوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ ...) (٤٩)

دليل على أنّ قوله (وليحكم) جزم. لأنه كلام معطوف بعضه على بعض.

وقوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) (٥٣)

مستأنفة فى رفع. ولو نصبت (١) على الردّ على قوله (فعسى الله أن يأتى بالفتح أو أمر من عنده) (٢) كان صوابا. وهى فى مصاحف أهل المدينة (يقول (٣) الذين آمنوا) بغير واو.

وقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ...) (٥٤)

خفض ، تجعلها لعتا (لقوم) ولو نصبت على القطع (٤) من أسمائهم فى (يحبهم ويحبونه) كان وجها. وفى قراءة عبد الله (أذلّة على المؤمنين غلظاء على الكافرين) أذلة : أي رحماء بهم.

وقوله : (وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ...) (٥٧)

وهى (٥) فى قراءة أبىّ (ومن الكفار) ، ومن نصبها ردّها على (الذين اتخذوا).

وقوله : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ...) (٥٩)

(أنّ) فى موضع نصب على قوله (هل تنقمون منا) إلا إيماننا وفسقكم. (أن) فى موضع مصدر ، ولو استأنفت (وإن أكثركم فاسقون) فكسرت (٦) لكان صوابا.

__________________

(١) والنصب قراءة أبى عمرو ويعقوب.

(٢) فى الآية السابقة ٥٢.

(٣) وقد قرأ بذلك ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ؛ كما فى الإتحاف.

(٤) يريد بذلك النصب على الحال. وقد صرح بذلك القرطبي ، ويريد بأسمائهم الضمير فى الفعلين.

(٥) يريد أن «الكفار» مجرور بالعطف على «الذين أوتوا الكتاب» المجرور بمن. ويذكر أن هذه القراءة يؤيدها قراءة أبىّ إذ صرّح بالجارّ. والجر على العطف قراءة أبى عمرو والكسائىّ ويعقوب. والنصب قراءة الباقين.

(٦) ثبت فى ج وسقط فى ش.

٣١٣

وقوله : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً ...) (٦٠)

نصبت (مثوبة) لأنها مفسّرة كقوله (أنا (١) أكثر منك مالا وأعزّ نفرا).

وقوله (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) (من) فى موضع خفض تردّها على (بشرّ) وإن شئت استأنفتها فرفعتها ؛ كما قال : (قُلْ) (٢) (أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ولو نصبت (من) على قولك : أنبئكم (من) كما تقول : أنبأتك خيرا ، وأنبأتك زيدا قائما (٣) ، والوجه الخفض. وقوله (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) على قوله (٤) : «وجعل منهم القردة [والخنازير] (٥) ومن عبد الطاغوت» وهى فى قراءة أبىّ وعبد الله (وعبدوا) على الجمع ، وكان أصحاب عبد الله يقرأون «وعبد الطاغوت» على فعل ، ويضيفونها إلى الطاغوت (٦) ، ويفسّرونها : خدمة الطاغوت. فأراد قوم هذا المعنى ، فرفعوا العين فقالوا : عبد الطاغوت ؛ مثل (٧) ثمار وثمر ، يكون جمع جمع. ولو قرأ قارئ (وعبد الطاغوت) كان صوابا جيّدا. يريد عبدة الطاغوت فيحذف الهاء لمكان الإضافة ؛ كما قال الشاعر :

قام ولاها فسقوها صرخدا (٨)

يريد : ولاتها. وأما قوله (وعبد الطاغوت) فإن تكن (٩) فيه لغة مثل حذر وحذر وعجل فهو وجه ، وإلا فإنه أراد ـ والله أعلم ـ قول الشاعر (١٠) :

__________________

(١) آية ٣٤ سورة الكهف.

(٢) آية ٧٢ سورة الحجّ.

(٣) حذف الجواب ، أي لكان صوابا وهذا يتكرر منه.

(٤) أي على حذف «من» الموصولة المعطوفة على «القردة».

(٥) زيادة فى اللسان (عبد).

(٦) وهذه قراءة حمزة.

(٧) يريد أن عبدا جمع عباد الذي هو جمع عبد. وفى اللسان : «قال الزجاج : هو جمع عبيد كرغيف ورغف».

(٨) أراد بالصرخد الخمر. وصرخد فى الأصل موضع ينسب إليه الشراب.

(٩) كذا فى ج.

وفى ش : «لم تكن» وفى اللسان : «قال الفرّاء : ولا أعلم له وجها إلا أن يكون عبد بمنزلة حذر وعجل» والظاهر أن هذا حكاية عما هنا بالمعنى.

(١٠) هو أوس بن حجر ، كما فى اللسان.

٣١٤

أبنى لبينى إنّ أمّكم

أمة وإن أباكم عبد (١)

وهذا فى الشعر يجوز لضرورة القوافي ، فأمّا فى القراءة فلا.

وقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ...) (٦٤)

أرادوا : ممسكة عن (٢) الإنفاق والإسباغ علينا. وهو كقوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (٣) فى الإنفاق.

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وفى حرف عبد الله بل يداه بسطان والعرب تقول : الق أخاك بوجه مبسوط ، وبوجه بسط.

وقوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ...) (٦)

يقول : من قطر السماء ونبات الأرض من ثمارها وغيرها. وقد يقال : إن هذا على وجه التوسعة ؛ كما تقول : هو فى خير من قرنه إلى قدمه.

وقوله : (فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ...) (٧١)

__________________

(١) قبله :

أبنى لبينى لست معترفا

ليكون ألأم منكم أحد

يريد أن «عبد» فى البيت حرك بضم الباء للوزن والأسل فيها السكون.

(٢) كذا فى ج. وفى ش : «على».

(٣) آية ٢٩ سورة الإسراء.

٣١٥

فقد يكون رفع الكثير من جهتين ؛ إحداهما أن تكرّ (١) الفعل عليها ؛ تريد : عمى وصمّ كثير منهم ، وإن شئت جعلت (عَمُوا وَصَمُّوا) فعلا للكثير ؛ كما قال الشاعر (٢) :

يلوموننى فى اشترائى النخي

ل أهلى فكلّهم ألوم

وهذا لمن قال : قاموا قومك. وإن شئت جعلت الكثير مصدرا فقلت أي ذلك كثير منهم (٣) ، وهذا وجه ثالث. ولو نصبت (٤) على هذا المعنى كان صوابا. ومثله قول الشاعر (٥).

وسوّد ماء المرد فاها فلونه

كلون النؤور وهى أدماء سارها

ومثله قول الله تبارك وتعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٦) إن شئت جعلت (وأسرّوا) فعلا لقوله «لاهية قلوبهم وأسرّوا النجوى» ثم تستأنف (الذين)

__________________

(١) يريد أن يكون بدلا من الفاعل فى (عموا وصموا).

(٢) هو أحيحة بن الجلاح. وكان قومه لاموه فى اشتراء النخل. وقوله : «اشترائى» كذا فى ش ، ج. ويروى : «اشتراء» وقوله : «ألوم» هكذا فى ش ، ج. ورواية البيت هكذا لم يلاحظ فيها الشعر الذي هذا البيت منه. وإلا فهو فيه : «يعذل» فإن قافيته لامية. وبعده :

وأهل الذي باع يلحونه

كما لحى البائع الأول

(٣) فيكون «كثير» خبر مبتدأ محذوف هو «ذلك» وهو العمى والصم. وبقدّره بعضهم : «العمى والصم».

(٤) وبه قرأ ابن أبى عبلة ؛ كما فى البحر ٣ / ٥٣٤.

(٥) هو أبو ذؤيب الهذلىّ. والبيت فى وصف ظبية. والمرد : الغض من ثمر الأراك ، والنئور : النيلج ، وهو دخان الشحم ، يعالج به الوشم فيخضر. وسارها أي سائرها. والأدماء من الأدمة ، وهى فى الظباء لون مشرب بياضا.

(٦) آية ٣ سورة الأنبياء.

٣١٦

بالرفع. وإن شئت جعلتها خفضا (إن (١) شئت) على نعت الناس فى قوله «اقترب للناس حسابهم» وإن شئت كانت رفعا كما يجوز (ذهبوا قومك).

وقوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ...) (٧٣) يكون مضافا. ولا يجوز التنوين فى (ثالث) فتنصب الثلاثة. وكذلك (٢) قلت : واحد من اثنين ، وواحد من ثلاثة ؛ ألا ترى أنه لا يكون ثانيا لنفسه ولا ثالثا لنفسه. فلو قلت : أنت ثالث اثنين لجاز أن تقول : أنت ثالث اثنين ، بالإضافة ، وبالتنوين ونصب الاثنين ؛ وكذلك لو قلت : أنت رابع ثلاثة جاز ذلك ؛ لأنه فعل واقع.

وقوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) لا يكون قوله (إله واحد) إلا رفعا ؛ لأن المعنى : ليس إله إلا إله واحد ، فرددت ما بعد (إلا) إلى المعنى ؛ ألا ترى أن (من) إذا فقدت من أوّل الكلام رفعت. وقد قال بعض الشعراء :

ما من حوىّ بين بدر وصاحة

ولا شعبة إلا شباع نسورها (٣)

فرأيت الكسائي قد أجاز خفضه وهو بعد إلا ، وأنزل (إلا) مع الجحود بمنزلة غير ، وليس ذلك بشىء ؛ لأنه أنزله بمنزلة قول الشاعر :

أبنى لبينى لستم بيد

إلا يد ليست لها عضد

__________________

(١) كذا فى ش ، ج. ويبدو أنها مزيدة فى النسخ.

(٢) كذا فى ش ، ج. وكأنه محرّف عن : «كأنك».

(٣) الحوىّ : واحد الحوايا. وهى حفائر ملتوية يملؤها المطر فيبقى فيها دهرا طويلا. والشعبة مسيل صغير. وبدر ماء مشهور بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء. وصاحة : هضاب حمر فى بلاد باهلة بقرب عقيق المدينة.

٣١٧

وهذا جائز ؛ لأن الباء قد تكون واقعة فى الجحد كالمعرفة والنكرة ، فيقول : ما أنت بقائم ، والقائم نكرة ، وما أنت بأخينا ، والأخ معرفة ، ولا يجوز أن تقول : ما قام من أخيك ، كما تقول ما قام من رجل.

وقوله : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ...) (٧٥)

وقع (١) عليها التصديق كما (٢) وقع على الأنبياء. وذلك لقول الله تبارك وتعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) (٣) (فَتَمَثَّلَ لَها) فلما كلّمها جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدّقته وقع عليها اسم الرسالة ، فكانت كالنبىّ.

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ...) (٨٢)

نزلت فيمن أسلم من النصارى. ويقال : هو النّجاشى وأصحابه. قال الفرّاء ويقال : النجاشي.

وقوله : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) (٨٧)

هم نفر من أصحاب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرادوا أن يرفضوا الدنيا ، ويجبّوا أنفسهم ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) أي لا تجبّوا أنفسكم.

وقوله : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ...) (٨٩)

فى حرف عبد الله : «ثلاثة أيام متتابعات» ولو نوّنت فى الصيام نصبت الثلاثة ؛ كما قال الله تبارك وتعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً) (٤) نصبت

__________________

(١) أي يقع عليها هذه الصفة لاتصافها بها أي أنها تصدّق.

(٢) كذا فى ج. وفى ش : «على».

(٣) آية ١٧ سورة مريم.

(٤) آيتا ١٤ ، ١٥ سورة البلد.

٣١٨

(يتيما) بإيقاع الإطعام عليه. ومثله قوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) (١) : تكفتهم (٢) أحياء وأمواتا. وكذلك قوله (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (٣) ولو نصبت (٤) (مثل) كانت صوابا. وهى فى قراءة عبد الله «فجزاؤه مثل ما قتل» وقرأها بعض أهل المدينة «فجزاء مثل ما قتل» وكلّ ذلك صواب.

وأما قوله (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) لو نوّنت فى الشهادة جاز النصب فى إعراب (الله) على : ولا نكتم الله شهادة. وأمّا من استفهم بالله فقال (الله) فإنما يخفض (الله) فى الإعراب كما يخفض القسم ، لا على إضافة الشهادة إليه.

وقوله : (الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...) (٩٠)

الميسر : القمار كلّه ، والأنصاب : الأوثان ، والأزلام : سهام كانت فى الكعبة يقتسمون بها فى أمورهم ، وواحدها زلم.

وقوله : (إِذا مَا اتَّقَوْا ...) (٩٣)

أي اتقوا شرب الخمر ، وآمنوا بتحريمها.

وقوله : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ ...) (٩٤)

فما نالته الأيدى فهو بيض النعام وفراخها ، وما نالت الرماح فهو سائر الوحش.

__________________

(١) آيتا ٢٥ ، ٢٦ سورة المرسلات.

(٢) أي تضمهم ، يقال : كعته أي ضمه وقبضه. والأرض تضم الأحياء على ظهرها فى دورهم ، والأموات فى بطنها فى قبورهم. ويبين من هذا أن (كفاتا) مصدر كفت. وحمله على الأرض بتأويل : ذات كفات. وانظر اللسان فى المادة.

(٣) آية ٩٥ سورة المائدة.

(٤) قرأ بذلك السلمىّ ؛ كما فى البحر ٤ / ١٩.

٣١٩

قوله : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ...) (٩٥)

يقول : من أصاب صيدا ناسيا لإحرامه معتمدا للصيد حكم عليه حاكمان عدلان فقيهان يسألانه : أقتلت قبل هذا صيدا؟ فإن قال : نعم ، لم يحكما عليه ، وقالا : ينتقم الله منك. وإن قال : لا ، حكما عليه ، فإن بلغ قيمة حكمها ثمن بدنة أو شاة حكما بذلك عليه (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) وإن لم يبلغ ثمن شاة حكما عليه بقيمة ما أصاب : دراهم ، ثمّ قوّماه طعاما ، وأطعمه المساكين لكل مسكين نصف صاع. فإن لم يجد حكما عليه أن يصوم يوما مكان كل نصف صاع.

وقوله : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) والعدل : ما عادل الشيء من غير جنسه ، والعدل المثل. وذلك أن تقول : عندى عدل غلامك وعدل شاتك إذا كان غلاما يعدل غلاما أو شاة تعدل شاة. فإذا أردت قيمته من غير جنسه نضبت العين. وربما قال بعض العرب : عدله. وكأنه منهم غلط لتقارب معنى العدل من العدل. وقد اجتمعوا على واحد الأعدال أنه عدل. ونصبك الصيام على التفسير ؛ كما تقول : عندى رطلان عسلا ، وملء بيت قتّا (١) ، وهو مما يفسّر للمبتدئ : أن ينظر إلى (من) فإذا حسنت فيه ثم ألقيت نصبت ؛ ألا ترى أنك تقول : عليه عدل ذلك من الصيام. وكذلك قول الله تبارك وتعالى (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) (٢).

__________________

(١) القت : الرطبة واليابسة من علف الدواب.

(٢) آية ٩١ سورة آل عمران.

٣٢٠