معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

وقوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) يقول : ما سوى ذلكم.

وقوله : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) (١) يريد : سواه.

وقوله : (أَنْ تَبْتَغُوا) يكون موضعها رفعا ؛ يكون تفسيرا ل (ما) ، وإن شئت كانت خفضا ، يريد : أحل الله لكم ماوراء ذلكم لأن تبتغوا. وإذا فقدت الخافض كانت نصبا.

وقوله : (مُحْصِنِينَ) يقول : أن تبتغوا الحلال غير الزنا. والمسافحة الزنا.

وقوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ...) (٢٥) يقول : إنما يرخص لكم فى تزويج الإماء إذا خاف أحدكم أن يفجر. ثم قال : وأن تتركوا تزويجهن أفضل.

وقوله : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ...) (٢٦)

وقال فى موضع آخر (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) والعرب تجعل اللام التي على معنى كى فى موضع أن فى أردت وأمرت. فتقول : أردت أن تذهب ، وأردت لتذهب ، وأمرتك أن تقوم ، وأمرتك لتقوم ؛ قال الله تبارك وتعالى (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) وقال فى موضع آخر (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) (٣) وقال (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) (٤) و (أَنْ يُطْفِؤُا) (٥) وإنما صلحت اللام فى موضع أن فى (أمرتك) (٦) وأردت لأنهما يطلبان المستقبل ولا يصلحان مع الماضي ؛ ألا ترى أنك تقول : أمرتك أن تقوم ، ولا يصلح أمرتك أن قمت. فلما رأوا (أن) فى غير

__________________

(١) آية ٩١ سورة البقرة.

(٢). ٧١ سورة الأنعام.

(٣) آية ١٤ سورة الأنعام.

(٤) آية ٨ سورة الصف.

(٥) آية ٣٢ سورة التوبة.

(٦) كذا فى ش ، ج. وفى الخزانة ٣ / ٥٨٦ : «أمرت».

٢٦١

هذين تكون للماضى والمستقبل استوثقوا لمعنى الاستقبال بكى وباللام التي فى معنى كى. وربما جمعوا (١) بين ثلاثهن ؛ أنشدنى أبو ثروان :

أردت لكيما لا ترى لى عثرة

ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل (٢)

فجمع (بين (٣) اللام وبين كى) وقال الله تبارك وتعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) (٤) وقال الآخر فى الجمع بينهن :

أردت لكيما أن تطير بقربتى

فتتركها شنّا ببيداء بلقع (٥)

وإنما جمعوا بينهنّ لا تفاقهنّ فى المعنى واختلاف لفظهن ؛ كما قال رؤبة :

بغير لا عصف ولا اصطراف (٦)

وربما جمعوا بين ما ولا وإن التي على معنى الجحد ؛ أنشدنى الكسائي فى بعض البيوت : (لا ما إن رأيت مثلك) فجمع بين ثلاثة أحرف.

وربما جعلت العرب اللام مكان (أن) فيما أشبه (أردت وأمرت) مما يطلب المستقبل ؛ أنشدنى الأنفىّ (٧) من بنى أنف الناقة من بنى سعد :

__________________

(١) كذا فى ش. وفى ج : «رجعوا».

(٢) ورد هذا البيت فى شواهد الهمع ٢ / ٥. وفيه : «ترانى عشيرتى» فى مكان : «ترى لى عثرة». وفى الخزانة فى الموطن السابق : «لكيما أن» فى مكان : «لكيما». وفى التذييل لأبى حيان : «أرادت» فى مكان «أردت».

(٣) فى الخزانة : «بين اللام وكى وأن». والجمع بين الثلاثة يأتى فى البيت الآتي.

(٤) آية ٢٣ سورة الحديد.

(٥) الشنّ : القربة البالية. والبلقع : القفر. وانظر الخزانة ٣ / ٥٨٥.

(٦) قبله :

قد يطلب المال الهدان الجافي

والهدان : الأحمق الثقيل فى الحرب. والعصف : الكسب. والاصطراف : افتعال من الصرف وهو التقلب والتصرف فى ابتغاء الكسب.

(٧) فى الخزانة ٣ / ٥٨٦ : «أبو الجرّاح الأنفى». وأنف الناقة من تميم.

٢٦٢

ألم تسأل الأنفىّ يوم يسوقنى

ويزعم أنى مبطل القول كاذبه

أحاول إعناتى بما قال أم رجا

ليضحك منى أو ليضحك صاحبه

والكلام : رجا أن يضحك منى. ولا يجوز : ظننت لتقوم. وذلك أن (أن) التي تدخل مع الظنّ تكون مع الماضي من الفعل. فتقول : أظن (أن قد) (١) قام زيد ، ومع المستقبل ، فتقول : أظنّ أن سيقوم زيد ، ومع الأسماء فتقول : أظنّ أنك قائم. فلم تجعل اللام فى موضعها ولا كى فى موضعها إذ لم تطلب المستقبل وحده. وكلما رأيت (أن) تصلح مع المستقبل والماضي فلا تدخلنّ عليها كى ولا اللام.

وقوله : (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ...) (٣٠)

وتقرأ : نصليه (٢) ، وهما لغتان ، وقد قرئتا ، من صليت وأصليت. وكأنّ صليت : تصليه على النار ، وكأنّ أصليت : جعلته يصلاها.

وقوله : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٣١)

ومدخلا (٣) ، وكذلك : (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) (٤) وإدخال صدق. ومن قال : مدخلا ومخرجا ومنزلا فكأنه بناه (٥) على : أدخلنى دخول صدق

__________________

(١) كذا فى الخزانة ، وفى الطبرىّ. وفى ش : «أقدم». وفى ج : «أن تقدم» وكل هذا تحريف.

(٢) هى قراءة الأعمش والنخعىّ على ما فى البحر ٣ / ٢٣٣ ، وقراءة حميد بن قيس ، على ما فى القرطبي ٥ / ٢٥٣.

(٣) وهى قراءة نافع وأبى جعفر. والضم قراءة أبى عمرو وأكثر الكوفيين.

(٤) آية ٨٠ سورة الإسراء.

(٥) يريد أنه مصدر جاء على الفعل الثلاثي المفهوم من الرباعي.

٢٦٣

وأخرجنى خروج صدق. وقد يكون إذا كان مفتوحا أن يراد به المنزل بعينه ؛ كما قال : (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) (١) ولو فتحت الميم كانت كالدار والبيت. وربما فتحت العرب الميم منه ، ولا يقال فى الفعل منه إلا أفعلت. من ذلك قوله :

بمصبح الحمد وحيث يمسى (٢)

وقال الآخر (٣) :

الحمد لله ممسانا ومصبحنا

بالخير صبّحنا ربى ومسّانا

وأنشدنى المفضّل.

وأعددت للحرب وثّابة

جواد المحثّة والمرود (٤)

فهذا مما لا يبنى على فعلت ، وإنما يبنى على أرودت. فلمّا ظهرت الواو فى المرود (٥) ظهرت فى المرود كما قالوا : مصبح وبناؤه أصبحت لا غير.

وقوله : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) (٣٢)

ليس هذا بنهي محرّم ؛ إنما هو من الله أدب. وإنما قالت أم سلمة وغيرها : ليتنا كنا رجالا فجاهدنا وغزونا وكان لنا مثل أجر الرجال ، فأنزل الله تبارك وتعالى

__________________

(١) آية ٢٩ سورة المؤمنون.

(٢) «يمسى» كذا فى ش ، ج ، واللسان (صبح). وفى الطبري : «نمسى».

(٣) هو أمية بن أبى الصلت. وانظر الخزانة ١ / ١٢٠.

(٤) هذا من قصيدة لامرئ القيس. ويريد بالوثابة فرسا. وجواد المحثة أي سريعة إذا استحثثتها فى السير. وكذلك هى جواد عند المرود ، أي عند الرفق بها ، فهى جواد فى كل أحوالها. والمرود من أرود فى السير إذا رفق ولم يعنف. وقد روى بضم الميم وفتحها وانظر اللسان (رود).

(٥) كذا فى ش ، ج. يريد أن المرود ـ بضم الميم ـ المبنى على أرود صحت الواو فيه حملا على فعله ، فصحت أيضا فى المرود ـ بفتح الميم ـ لحمله على المضموم. وقد يكون : «أرود».

٢٦٤

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ) وقد جاء (١) : لا يتمنين أحدكم مال أخيه ، ولكن ليقل : اللهمّ ارزقني ، اللهمّ أعطنى.

وقوله : (فَالصَّالِحاتُ) (٣٤)

وفى قراءة عبد الله فالصوالح قوانت (٢) تصلح فواعل وفاعلات فى جمع فاعلة.

وقوله : (بِما حَفِظَ اللهُ) القراءة بالرفع. ومعناه : حافظات لغيب أزواجهن بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج. وبعضهم يقرأ (بِما حَفِظَ اللهُ) فنصبه على أن يجعل الفعل واقعا ؛ كأنك قلت : حافظات للغيب بالذي يحفظ الله ؛ كما تقول : بما أرضى الله ، فتجعل الفعل لما ، فيكون فى مذهب مصدر. ولست أشتهيه ؛ لأنه ليس بفعل لفاعل معروف ، وإنما هو كالمصدر.

وقوله : (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) يقول : لا تبغوا عليهن عللا.

وقوله : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) جاء التفسير أن معنى تخافون : تعلمون. وهى كالظن ؛ لأن الظانّ كالشاكّ والخائف قد يرجو. فلذلك ضارع الخوف الظنّ والعلم ؛ ألا ترى أنك تقول للخبر يبلغك : أما والله لقد خفت ذاك ، وتقول : ظننت ذلك ، فيكون معناهما واحدا. ولذلك قال الشاعر :

ولا تدفننّى بالفلاة فإننى

أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها (٣)

وقال الآخر :

أتانى كلام عن نصيب يقوله

وما خفت يا سلّام أنك عائبى

__________________

(١) أي فى الأثر. وقد نسب القرطبي قريبا من هذا الأثر إلى الكلبي ، ولم نقف عليه فى الحديث.

(٢) فى القرطبي زيادة : «حوافظ».

(٣) انظر ص ١٤٦ من هذا الجزء. وانظر أيضا الخزانة ٣ / ٥٥٠.

٢٦٥

كأنه قال : وما ظننت أنك عائبى. ونقلنا فى الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أمرت بالسواك حتى خفت لأدردن. كقولك : حتى ظننت لأدردن (١).

وقوله : (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) (٣٥)

يقول : حكما من أهل الرجل وحكما من أهل المرأة ليعلما من أيهما جاء النشوز. فينبغى للحكم (٢) أن يأتى الرجل فينتظر ما عنده هل يهوى المرأة ، فإن قال : لا والله مالى فيها حاجة ، علم أن النشوز جاء من قبله. ويقول حكم المرأة لها مثل ذلك ، ثم يعلماهما (٣) جميعا على قدر ذلك ، فيأتيا الزوج فيقولا : أنت ظالم أنت ظالم اتق الله ، إن (٤) كان ظالما. فذلك قوله (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) إذا فعلا هذا الفعل.

وقوله : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٣٦)

أمرهم بالإحسان إلى الوالدين. ومثله (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٥) ولو رفع الإحسان (٦) بالباء (٧) إذ لم يظهر الفعل كان صوابا ؛ كما ـ تقول فى الكلام : أحسن إلى أخيك ، وإلى المسيء الإساءة.

__________________

(١) انظر الموطن السابق.

(٢) سقط فى ش.

(٣) فى ش ، ج : «يعلمهما» والوجه ما أثبت.

(٤) كذا فى ش ، ج. وفى ا : «إذ».

(٥) آية ٢٣ سورة الإسراء.

(٦) ثبت فى أ ، ج. وسقط فى ش.

(٧) يريد أن يكون «إحسان» بالرفع مبتدأ خبره (بالوالدين). وقد قرأ بالرفع ابن أبى عيلة ؛ كما فى القرطبي.

٢٦٦

(وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) بالخفض. وفى بعض (مصاحف (١) أهل الكوفة وعتق المصاحف) ذا القربى مكتوبة بالألف. فينبغى لمن قرأها على الألف أن ينصب والجار ذا القربى فيكون مثل قوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) يضمر (٢) فعلا يكون النصب به.

(وَالْجارِ الْجُنُبِ) : الجار الذي ليس بينك وبينه قرابة (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) : الرفيق (وَابْنِ السَّبِيلِ) : الضيف.

وقوله : (فَساءَ قَرِيناً) (٣٨)

بمنزلة قولك : نعم رجلا ، وبئس رجلا. وكذلك (وَساءَتْ مَصِيراً) (٣) و (كَبُرَ مَقْتاً) (٤) وبناء نعم وبئس ونحوهما أن ينصبا ما وليهما من النكرات ، وأن يرفعا ما يليهما من معرفة غير موقّتة وما أضيف إلى تلك المعرفة. وما أضيف إلى نكرة كان فيه الرفع والنصب.

فإذا مضى الكلام بمذكر قد جعل خبره مؤنثا مثل : الدار منزل صدق ، قلت : نعمت منزلا ، كما قال (وساءت مصيرا) (٥) وقال (حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (٦) ولو قيل : وساء مصيرا ، وحسن مرتفقا ، لكان صوابا ؛ كما تقول : بئس المنزل النار ، ونعم المنزل الجنة. فالتذكير والتأنيث على هذا ؛ ويجوز : نعمت المنزل دارك ، وتؤنث فعل المنزل لما كان وصفا للدار. وكذلك تقول : نعم الدار منزلك ، فتذكّر فعل الدار إذ كانت وصفا للمنزل. وقال ذو الرمّة :

__________________

(١) فى أ بدل ما بين القوسين : «المصاحف».

(٢) نحو أخص ، أو أكرموا.

(٣) آية ٩٧ سورة النساء.

(٤) آية ٣ سورة الصف.

(٥) آية ٩٧ سورة النساء.

(٦) آية ٣١ سورة الكهف.

٢٦٧

أو حرّة عيطل ثبجاء مجفرة

دعائم الزّور نعمت زورق البلد (١)

ويجوز أن تذكر الرجلين فتقول بئسا رجلين ، وبئس رجلين ، وللقوم : نعم قوما ونعموا قوما. وكذلك الجمع من (٢) المؤنث. وإنما وحّدوا الفعل وقد جاء بعد الأسماء لأن بئس ونعم دلالة على مدح أو ذمّ لم يرد منهما مذهب الفعل ، مثل قاما وقعدا. فهذا فى بئس ونعم مطرد كثير. وربما قيل فى غيرهما مما هو فى معنى بئس ونعم. وقال بعض العرب : قلت أبياتا جاد أبياتا ، فوحّد فعل البيوت. وكان الكسائىّ يقول : أضمر (٣) حاد بهن أبياتا ، وليس هاهنا مضمر إنما هو الفعل وما فيه.

وقوله : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤) إنما وحد الرفيق وهو صفة لجمع لأن الرفيق والبريد والرسول تذهب به العرب إلى الواحد وإلى الجمع. فلذلك قال (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) ولا يجوز فى مثله من الكلام أن تقول : حسن أولئك رجلا ، ولا قبح أولئك رجلا ، إنما يجوز أن توحد صفة الجمع إذا كان اسما مأخوذا من فعل ولم يكن اسما مصرحا ؛ مثل رجل وامرأة ، ألا ترى أن الشاعر قال :

وإذا هم طعموا فألأم طاعم

وإذا هم جاعوا فشرّ جياع (٥)

__________________

(١) هذا من قصيدة له فى مدح بلال بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعري. ويريد بالحرة ناقة كريمة. والثبجاء : الضخمة الثبج ـ بالتحريك ـ وهو الصدر ، يريد أنها عظيمة الجوف ، والعيطل : الطويلة العنق. والمجفرة : العظيمة الجنب الواسعة الجوف. وأراد بدعائم الزور قوائمها. وهو منصوب من «مجفرة» على التشبيه بالمفعول به. والبلد : المفازة. جعلها زورقا وسفينة على التشبيه كما يقال : الإيل سفن الصحراء. وانظر الخزانة ٤ / ١١٩.

(٢) كذا فى أ ، ح. وفى ش : «بين».

(٣) يريد أن الفاعل عنده محذوف وهو (بهن) والباء زائدة. والفراء يرى أن الفاعل ضمير مستتر فى الفعل.

(٤) آية ٦٩ سورة النساء.

(٥) انظر ص ٣٣ من هذا الجزء.

٢٦٨

وقوله : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) (١) كذلك ، وقد رفعها بعضهم ولم يجعل قبلها ضميرا تكون الكلمة خارجة من ذلك المضمر. فإذا نصبت فهى (٢) خارجة من قوله (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أي كبرت هذه كلمة.

وقوله : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ...) (٤٠)

ينصب الحسنة ويضمر فى (تك) اسم مرفوع. وإن شئت رفعت (٣) الحسنة ولم تضمر شيئا. وهو مثل قوله (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (٤)

وقوله : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ...) (٤٢)

(وتسوى) (٥) ومعناه : لو يسوون بالتراب. وإنما تمنّوا ذلك لأن الوحوش وسائر الدواب يوم القيامة يقال لها (٦) : كونى ترابا ، ثم يحيا أهل الجنة ، فإذا رأى ذلك الكافرون (٧) قال بعضهم لبعض : تعالوا فلنقل إذا سئلنا : والله ما كنا مشركين ،

__________________

(١) آية ٥ سورة الكهف.

(٢) يريد أن فاعل «كبرت» ضمير تقديره (هى) يعود على المقالة المفهومة من قوله : «قالوا اتخذ الله ولدا» والبصريون يجعلون الفاعل ضميرا يعود على التمييز «كلمة».

(٣) وهى قراءة الحسن والحرميين : نافع وابن كثير ، كما فى البحر ٣ / ٢٥١.

(٤) آية ٢٨٠ سورة البقرة.

(٥) يحتمل أن يريد : (تسوى) بفتح التاء وتشديد السين والواو ، وهى قراءة نافع وابن عامر وأن يريد (تسوى) بفتح التاء والسين مخففة وشد الواو ، وهى قراءة حمزة والكسائي. وهذا الوجه أقرب ؛ لأنهما كوفيان كالفراء ، فهما أقرب إلى ما يريد.

(٦) ثبت فى أ ، ج. وسقط فى ش.

(٧) كذا فى ش ، ج ، وفى أ : «الكافر».

٢٦٩

فإذا سئلوا فقالوها (١) ختم على أفواههم وأذن لجوارحهم فشهدت عليهم. فهنالك يودّون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا. فكتمان الحديث هاهنا فى التمني (٢). ويقال : إنما المعنى : يومئذ (٣) لا يكتمون الله حديثا ويودون لو تسوى بهم الأرض.

وقوله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ...) (٤٣)

نزلت فى نفر من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شربوا وحضروا الصلاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل تحريم الخمر. فأنزل الله تبارك وتعالى (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن صلّوها فى رحالكم.

ثم قال (وَلا جُنُباً) أي لا تقربوها جنبا (حَتَّى تَغْتَسِلُوا).

ثم استثنى فقال (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) يقول : إلا أن تكونوا مسافرين لا تقدرون على الماء ثم قال (فَتَيَمَّمُوا) والتيمم : أن تقصد الصعد الطيّب حيث كان. وليس التيمم إلا ضربة للوجه وضربة لليدين للجنب وغير الجنب.

وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا ...) (٤٤)

(أَلَمْ تَرَ) فى عامة القرآن : ألم تخبر. وقد يكون فى العربية : أما ترى ، أما تعلم.

__________________

(١) كذا فى ش ، ج. وفى أ : «قالوها».

(٢) أي داخل فى المتمنى ، إذ هو معطوف على : «لو تسوى بهم الأرض» الذي هو معمول الودادة.

(٣) يريد أن هذه الجملة مستأنفة وليست متعلقا للودادة. وقد أخر فى التفسير الجملة الأولى عن هذه ليبين عن استقلالها ، وأنها ليست من تابع الأولى.

٢٧٠

وقوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ ...) (٤٦)

إن شئت جعلتها متصلة بقوله (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، من الذين هادوا يحرفون الكلم) وإن شئت كانت (١) منقطعة منها مستأنفة ، ويكون المعنى : من الذين هادوا من يحرفون الكلم. وذلك من كلام العرب : أن يضمروا (من) فى مبتدأ الكلام. فيقولون : منّا يقول ذلك ، ومنا لا يقوله. وذلك أن (من) بعض لما هى منه ، فلذلك أدّت عن المعنى المتروك ؛ قال الله تبارك وتعالى : (وَما (٢) مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) وقال (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (٣) وقال ذو الرمة :

فظلّوا ومنهم دمعه سابق له

وآخر يثنى دمعة العين بالهمل (٤)

يريد : منهم من دمعه سابق. ولا يجوز إضمار (من) فى شىء من الصفات إلا على المعنى (٥) الذي نبأتك به ، وقد قالها الشاعر فى (فى) ولست أشتهيها ، قال (٦) :

لو قلت ما فى قومها لم تأثم

يفضلها فى حسب وميسم (٧)

ويروى أيضا (تيثم) لغة. وإنما جاز ذلك فى (فى) لأنك تجد معنى (من) أنه بعض ما أضيفت إليه ؛ ألا ترى أنك تقول ؛ فينا صالحون وفينا دون ذلك ، فكأنك قلت : منا ، ولا يجوز أن تقول : فى الدار يقول ذلك ؛ وأنت تريد فى الدار من يقول ذلك ، إنما يجوز إذا أضفت (فى) إلى جنس المتروك.

__________________

(١) كذا فى أ ، ج ، وفى ش : «كان».

(٢) آية ١٦٤ سورة الصافات.

(٣) آية ٧١ سورة مريم.

(٤) قبله :

بكيت على مىّ بها إذ عرفتها

وهجتالهوى حتى بكى القوم من أجلى

وانظر الديوان ٤٨٥

(٥) كذا فى أ. وفى ش ، ج : «هذا».

(٦) أي حكيم بن معية. وانظر الخزانة ٢ / ٣١١.

(٧) «تأثم» كذا فى ا ، ش. وفى ج : «تألم».

٢٧١

وقوله : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) يعنى : ويقولون (وراعنا) يوجهونها إلى شتم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فذلك اللىّ.

وقوله : (وأقوم) أي أعدل.

وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ...) (٤٧)

فيه قولان ؛ أحدهما : أن يحوّل الوجه إلى القفا ، والآخر : أن يجعل الوجه منبتا للشعر كما كان وجه القرد كذلك. فهو ردّه على دبره ؛ لأن منابت شعر الآدميين فى أدبارهم ، (وهذا) (١) أشبه بالصواب لقوله (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) يقول : أو نسلخهم (٢) قردة.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ...) (٤٨)

فإن شئت جعلتها (٣) فى مذهب خفض ثم تلقى الخافض فتنصبها ؛ يكون فى مذهب جزاء ؛ كأنك قلت : إن الله لا يغفر ذنبا مع شرك ولا عن شرك.

وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ...) (٤٩)

جاءت اليهود بأولادها إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا (٤) : هل لهؤلاء ذنوب؟ قال : لا ، قالوا : فإنا مثلهم ما عملناه بالليل كفّر عنا بالنهار ، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل. فذلك تزكيتهم أنفسهم.

__________________

(١) كذا فى ش ، ج. وفى أ : «فهذا».

(٢) لسلخ : كشط الجلد عن الحيوان ، فسلخهم إزالة إهابهم الآدمي ومظهرهم البشرى. وجعلهم قردة. ولعل هذا محرف عن : «نمسخهم».

(٣) يريد «أن يشرك» أي المصدر المؤول فيها. والوجه الظاهر أنه مفعول «لا يغفر».

(٤) كذا فى ج ، ش. وفى ا : «فقال».

٢٧٢

وقوله : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) الفتيل هو ما فتلت بين إصبعيك من الوسخ ، ويقال : هو الذي فى بطن النواة.

وقوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ...) (٥١) فأما الجبت فحيىّ بن أخطب. والطاغوت كعب بن الأشرف.

وقوله : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (٥٣)

النقير : النقطة فى ظهر النواة. و (إذا) إذا استؤنف بها الكلام نصبت الفعل الذي فى أوله الياء أو التاء أو النون أو الألف ؛ فيقال : إذا أضربك ، إذا أجزيك. فإذا كان فيها فاء أو واو أو ثمّ أو (أو) حرف من حروف النسق ، فإن شئت كان معناها معنى الاستئناف فنصبت بها أيضا. وإن شئت جعلت الفاء أو الواو إذا كانتا منها منقولتين (١) عنها إلى غيرها. والمعنى فى قوله (وإذا لا يؤتون) على : فلا يؤتون الناس نقيرا إذا. ويدلك على ذلك أنه فى المعنى ـ والله أعلم ـ جواب لجزاء مضمر ، كأنك قلت : ولئن كان لهم ، أو ولو كان لهم نصيب لا يؤتون الناس إذا نقيرا. وهى فى قراءة عبد الله منصوبة فإذا لا يؤتوا الناس نقيرا وإذا رأيت الكلام تامّا مثل قولك : هل أنت قائم؟ ثم قلت : فإذا أضربك ، نصبت بإذا ونصبت بجواب الفاء ونويت النقل. وكذلك الأمر والنهى يصلح فى إذا وجهان : النصب بها ونقلها (٢). ولو شئت رفعت بالفعل إذا نويت النقل فقلت :

__________________

(١) يريد بنقل حرف العطف عن «إذا» تقديره مقرونا بالفعل بعدها ، وتقدير «إذا» فى آخر الجملة ـ وبذلك تتأخر عن الصدر فتلغى.

(٢) يكون النصب بوقوع تقدير النقل فى الجواب بعد الفا.

٢٧٣

إيته فإذا يكرمك ، تريد فهو يكرمك إذا ، ولا تجعلها جوابها. وإذا كان قبلها جزاء وهى له جواب قلت : إن تأتنى إذا أكرمك. وإن شئت : إذا أكرمك وأكرمك ؛ فمن جزم أراد أكرمك إذا. ومن نصب نوى فى إذا فاء تكون جوابا فنصب الفعل بإذا. ومن رفع جعل إذا منقولة إلى آخر الكلام ؛ كأنه قال : فأكرمك إذا (١). وإذا رأيت فى جواب إذا اللام فقد أضمرت لها (لئن) أو يمينا أو (لو). من ذلك قوله عزوجل (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) (٢) والمعنى ـ والله أعلم ـ : لو كان [معه] (٣) فيهما إله لذهب كل إله بما خلق. ومثله (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) (٤) ومعناه : لو فعلت لا تخذوك. وكذلك قوله (كِدْتَ تَرْكَنُ) (٥) ثم قال : (إِذاً لَأَذَقْناكَ) ، معناه لو ركنت لأذقناك إذا. وإذا أوقعت (إذا) على يفعل وقبله اسم بطلت فلم تنصب ؛ فقلت : أنا إذا أضربك. وإذا كانت فى أوّل الكلام (إن) نصبت يفعل ورفعت ؛ فقلت : إنى إذا أو ذيك. والرفع جائز ؛ أنشدنى بعض العرب :

لا تتركنّى فيهم شطيرا

إنى إذا أهلك أو أطيرا (٦)

__________________

(١) هذا خلاف مذهب البصريين فليس عندهم إلا الجزم.

(٢) آية ٩١ سورة المؤمنون.

(٣) زيادة يقتضيها السياق.

(٤) آية ٧٣ سورة الإسراء.

(٥) آية ٧٤ من السورة السابقة.

(٦) الشطير : الغريب. وانظر الخزانة ٣ ـ ٥٧٤.

٢٧٤

وقوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ...) (٥٤) هذه اليهود حسدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثرة النساء ، فقالوا : هذا يزعم أنه نبىّ وليس له هم إلا النساء.

فأنزل الله تبارك وتعالى (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) وفى آل إبراهيم سليمان بن داود ، وكان له تسعمائة امرأة ، ولداود مائة امرأة.

فلما تليت عليهم هذه الآية كذّب بعضهم وصدّق بعضهم.

وهو قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ...) (٥٥)

بالنبإ عن سليمان وداود (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) بالتكذيب والإعراض.

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ...) (٧١)

يقول : عصبا (١). يقول إذا دعيتم إلى السرايا ، أو دعيتم لتنفروا جميعا.

وقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ...) (٧٢)

اللام التي فى (من) دخلت لمكان (إنّ) كما تقول : إنّ فيها لأخاك. ودخلت اللام فى (ليبطّئنّ) وهى صلة لمن على إضمار شبيه باليمين ؛ كما تقول فى الكلام : هذا الذي ليقومنّ ، وأرى رجلا ليفعلنّ ما يريد. واللام فى النكرات إذا وصلت أسهل دخولا منها فى من وما والذي ؛ لأن الوقوف عليهن لا يمكن.

__________________

(١) هذا تفسير «ثبات». وواحده ثبة.

٢٧٥

والمذهب فى الرجل والذي واحد إذا احتاجا إلى صلة. وقوله : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) (١) من ذلك ، دخلت اللام فى (ما) لمكان إنّ ، ودخلت فى الصلة كما دخلت فى ليبطئن. ولا يجوز ذلك فى عبد الله ، وزيد أن تقول : إن أخاك ليقومنّ ؛ لأن الأخ وزيدا لا يحتاجان إلى صلة ، ولا تصلح اللام أن تدخل فى خبرهما وهو متأخر ؛ لأن اليمين إذا وقعت بين الاسم والخبر بطل جوابها ؛ كما تقول : زيد والله يكرمك ، ولا تقول زيد والله ليكرمك.

وقوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ...) (٧٣) العرب تنصب ما أجابت بالفاء فى ليت ؛ لأنها تمنّ ، وفى التمني معنى يسّرنى أن تفعل فأفعل. فهذا نصب كأنه منسوق ؛ كقولك فى الكلام : وددت أن أقوم فيتبعنى الناس. وجواب صحيح يكون لجحد ينوى فى التمنّى ؛ لأنّ ما تمنّى مما قد مضى فكأنه مجحود ؛ ألا ترى أن قوله (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) فالمعنى : أكن معهم فأفوز. وقوله فى الأنعام (يا لَيْتَنا) (٢) (نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ) هى فى قراءة عبد الله بالفاء نردّ فلا نكذب بآيات ربّنا فمن قرأها كذلك جاز النصب على الجواب ، والرفع على الاستئناف (٣) ، أي فلسنا نكذب. وفى قراءتنا بالواو. فالرفع فى قراءتنا أجود من النصب ، والنصب (٤) جائز على الصرف ؛ كقولك : لا يسعنى شىء ويضيق عنك.

وقوله : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ...) (٧٥)

و (المستضعفين) فى موضع خفض.

__________________

(١) آية ١١١ سورة هود. والقراءة التي أوردها لمؤلف بتشديد (إن) وتخفيف ميم (لما) قراءة أبى عمرو والكسائىّ.

(٢) آية ٢٧.

(٣) وهى قراءة نافع وأبى عمرو وابن كثير والكسائي.

(٤) وهى قراءة حمزة ، وحفص عن عاصم.

٢٧٦

وقوله : (الظَّالِمِ أَهْلُها) خفض (الظالم) لأنه نعت للأهل ، فلما أعاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها ؛ كما تقول : مررت بالرجل الواسعة داره ، وكما تقول : مررت برجل حسنة عينه. وفى قراءة عبد الله : «أخرجنا من القرية التي كانت ظالمة». ومثله مما نسب الظلم إلى القرية وإنما الظلم لأهلها فى غير موضع من التنزيل. من ذلك (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) (١) ومنه قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) (٢) معناه : سل أهل القرية.

وقوله : (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ...) (٧٨)

يشدّد ما كان من جمع ؛ مثل قولك : مررت بثياب مصبّغة وأكبش مذبّحة. فجاز التشديد لأن الفعل متفرق (٣) فى جمع. فإذا أفردت الواحد من ذلك فإن كان الفعل يتردّد فى الواحد ويكثر جاز فيه التشديد والتخفيف ؛ مثل قولك : مررت برجل مشجّج ، وبثوب ممزّق ؛ جاز التشديد ؛ لأن الفعل قد تردد فيه وكثر. وتقول : مررت بكبش مذبوح ، ولا تقل مذبح (٤) لأن الذبح لا يتردّد كتردّد التخرق ، وقوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٥) يجوز فيه التشديد ؛ لأن التشييد (٦) بناء فهو يتطاول ويتردّد. يقاس على هذا ما ورد.

__________________

(١) من ذلك آية ٤ سورة الأعراف.

(٢) آية ٨٢ سورة يوسف.

(٣) كذا فى أ ، ح. وفى ش : «مفرق».

(٤) كذا فى ا. وفى ش : «تقول».

(٥) آية ٤٥ سورة الحج.

(٦) فى ا ، ح ، وش : «التشديد» وهو تحريف عما أثبت.

٢٧٧

وقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ...) (٧٨)

وذلك أن اليهود لمّا أتاهم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة قالوا : ما رأينا رجلا أعظم شؤما من هذا ؛ نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا. فقال الله تبارك وتعالى : إن أمطروا وأخصبوا قالوا (١) : هذه من عند الله ، وإن غلت أسعارهم قالوا : هذا من قبل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

يقول الله تبارك وتعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

وقوله : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) (فمال) كثرت فى الكلام ، حتى توهّموا أن اللام متصلة ب (ما) وأنها حرف فى بعضه. ولا تصال القراءة لا يجوز الوقف على اللام ؛ لأنها لام خافضة.

وقوله : (طاعَةٌ) (٨١)

الرفع على قولك : منّا طاعة ، أو أمرك طاعة. وكذلك (قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) (٢) معناه ـ والله أعلم ـ : قولوا : سمع وطاعة. وكذلك التي فى سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) (٣) ليست بمرتفعة ب (لهم). هى مرتفعة على الوجه الذي ذكرت لك. وذلك أنهم أنزل عليهم الأمر بالقتال فقالوا : سمع وطاعة ، فإذا فارقوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيّروا قولهم. فقال الله تبارك وتعالى (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) وقد يقول بعض النحويين : وذكر فيها القتال ،

__________________

(١) كذا فى أ. وفى ح ، ش : «فقالوا».

(٢) آية ٥٣ سورة النور.

(٣) آيتا ٢٠ ، ٢١.

٢٧٨

وذكرت (١) (طاعة) وليست فيها واو فيجوز هذا الوجه. ولو رددت الطاعة وجعلت كأنها تفسير للقتال جاز رفعها ونصبها ؛ أمّا النصب فعلى : ذكر فيها القتال بالطاعة أو على الطاعة. والرفع على : ذكر فيها القتال ذكر فيها طاعة.

وقوله : (بَيَّتَ طائِفَةٌ) القراءة أن تنصب التاء ، لأنها على جهة فعل. وفى قراءة عبد الله : «بيّت مبيّت منهم» غير الذي تقول. ومعناه : غيّروا ما قالوا وخالفوا. وقد جزمها حمزة وقرأها بيّت طائفة. جزمها لكثرة الحركات ، فلما سكنت التاء اندغمت فى الطاء.

وقوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ...) (٨٣)

هذا نزل فى سرايا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعثها ، فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقون إلى الاستخبار عن حال السرايا ، ثم أفشوه قبل أن يفشيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يحدّثه (٢) ، فقال (أَذاعُوا بِهِ) يقول أفشوه. ولو لم يفعلوا حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يخبر به لكان خيرا لهم ، أو ردّوه إلى أمراء (٣) السرايا. فذلك قوله (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

وقوله : (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) قال المفسرون معناه : لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلا. ويقال : أذاعوا به إلا قليلا. وهو أجود الوجهين ؛ لأن علم السرايا

__________________

(١) يريد فى هذا الوجه أن تكون «طاغة» عطفا على «القتال» فى قوله : «وذكر فيها القتال» وقد أفسد هذا بأنه ليس فى الآية عاطف.

(٢) أي يحدّث به. يقال : حدثه الحديث وحدثه به.

(٣) كذا فى أ. وفى ش ، ح : «أمر».

٢٧٩

إذا ظهر علمه المستنبط وغيره ، والإذاعة قد تكون فى بعضهم دون بعض. فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة.

وقوله : (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها ...) (٨٥)

الكفل : الحظّ. ومنه قوله : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) (١) معناه : نصيبين.

وقوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) المقيت : المقدّر والمقتدر ، كالذى يعطى كل رجل قوته. وجاء فى الحديث : كفى بالمرء (إثما) (٢) أن يضيع من يقيت ، ويقوت (٣).

وقوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ...) (٨٦)

أي زيدوا عليها ؛ كقول القائل : السلام عليكم ، فيقول : وعليكم ورحمة الله. فهذه الزيادة (أَوْ رُدُّوها) قيل هذا للمسلمين. وأمّا أهل الكتاب فلا يزادون على : وعليكم.

وقوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ...) (٨٨)

إنما كانوا تكلّموا فى قوم هاجروا إلى المدينة من مكة ، ثم ضجروا منها واستوخموها (٤) فرجعوا سرّا إلى مكة. فقال بعض المسلمين : إن لقيناهم قتلناهم وسلبناهم ، وقال بعض المسلمين : أتقتلون قوما على دينكم أن استوخموا المدينة ؛ فجعلهم الله منافقين ، فقال الله فما لكم مختلفين فى المنافقين. فذلك قوله (فئتين).

__________________

(١) آية ٢٨ سورة الحديد.

(٢) ثبت فى أ ، ج ، وسقط فى ش.

(٣) كذا فى أ ، ج ، وفى ش : «يقيت» بفتح الياء.

(٤) كذا فى ش ، ج. وفى أ : «استوخموا المدينة».

٢٨٠