معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

كأنها ظرف للفعل متصلة بالفعل ، ومن رفع جعل الواو للاسم ، ورفعه بعائد ذكره ؛ كما قال الشاعر :

إن لم اشف النفوس من حىّ بكر

وعدىّ تطاه جرب الجمال (١)

فلا تكاد العرب تنصب مثل (عدىّ) فى معناه ؛ لأن الواو لا يصلح نقلها إلى الفعل ؛ ألا ترى أنك لا تقول (٢) : وتطأ عديّا جرب الجمال. فإذا رأيت الواو تحسن فى الاسم جعلت الرفع وجه الكلام. وإذا رأيت الواو يحسن فى الفعل جعلت النصب وجه الكلام. وإذا رأيت ما قبل الفعل يحسن للفعل والاسم جعلت الرفع والنصب سواء ، ولم يغلّب واحد على صاحبه ؛ مثل قول الشاعر (٣) :

إذا ابن أبى موسى بلالا أتيته

فقام بفأس بين وصليك جازر

فالرفع (٤) والنصب فى هذا سواء.

وأمّا قول الله عزوجل : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (٥) فوجه الكلام فيه الرفع ؛ لأن أمّا تحسن فى الاسم ولا تكون مع الفعل.

__________________

(١) قبله :

ثكلتنى عند الثنية أمي

وأتاها نعىّ عمىّ وخالى

ويريد بعدىّ المهلهل. والشعر فى الأغانى طبع الدار ٥ / ٥٨.

(٢) وذلك أن هذه جملة حالية ، وإذا كان صدرها مضارعا لا تدخل عليها الواو.

(٣) هو ذو الرمة. وهذا من قصيدة فى مدح بلال بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعرىّ أمير البصرة وقاضيها. وقبل البيت الشاهد :

أقول لها إذ شمر السير واستوت

بها البيد واستنت عليها الحرائر

وهو يخاطب ناقته. وتشمير السير الارتفاع به والسير فيه ، والحرائر جمع الحرور وهى ريح السموم ، يدعو على ناقته أن تذبح إذا بلغته الممدوح لأنه يغنيه عنها بحبائه. وانظر ديوان ذى الرمة ٢٥٣ والخزانة ١ / ٤٥٠.

(٤) من البين أنه على الرفع يقرأ «بلال». وهو ما فى الديوان. ويقول صاحب الخزانة : «وقد رأيته مرفوعا فى نسختين صحيحتين من إيضاح الشعر لأبى علىّ الفارسىّ إحداهما بخط أبى الفتح عثمان ابن جنىّ».

(٥) آية ١٧ سورة فصلت.

٢٤١

وأمّا قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (١) فوجه الكلام فيه الرفع ؛ لأنه غير موقّت فرفع كما يرفع الجزاء ، كقولك : من سرق فاقطعوا يده. وكذلك قوله (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) (٢) معناه والله أعلم من (قال الشعر) (٣) اتبعه الغاوون. ولو نصبت قوله (والسارق والسارقة) بالفعل كان صوابا.

وقوله (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (٤) العرب فى (كل) تختار الرفع ، وقع الفعل على راجع الذكر أو لم يقع. وسمعت العرب تقول (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) بالرفع وقد رجع ذكره. وأنشدونى (٥) فيما لم يقع الفعل على راجع ذكره :

فقالوا تعرّفها المنازل من منى

وما كلّ من يغشى منى أنا عارف (٦)

ألفنا ديارا لم تكن من ديارنا

ومن يتألّف بالكرامة يألف

فلم يقع (عارف) على كلّ ؛ وذلك أن فى (كل) تأويل : وما من أحد يغشى منى أنا عارف ، ولو نصبت لكان صوابا ، وما سمعته إلا رفعا. وقال الآخر :

قد علقت أمّ الخيار تدّعى

علىّ ذنبا كلّه لم أصنع (٧)

رفعا ، وأنشدنيه بعض بنى أسد نصبا.

__________________

(١) آية ٣٨ سورة المائدة.

(٢) آية ٢٢٤ سورة الشعراء.

(٣) كذا فى ج. وفى ش : «قرأ الشعراء» والشعراء محرفة عن الشعر.

(٤) آية ١٣ سورة الإسراء.

(٥) كذا فى ج. وفى ش : «أنشدنى».

(٦) انظر ص ١٣٩ من هذا الجزء.

(٧) انظر ص ١٤٠ من هذا الجزء.

٢٤٢

وقوله (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) فمن رفع جعل (كل) اسما فرفعه باللام فى لله كقوله (١) (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (٢) ومن نصب (كله) جعله من نعت (٣) الأمر.

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ ...) (١٥٦)

كان ينبغى فى العربية أن يقال : وقالوا لإخوانهم إذ ضربوا فى الأرض ؛ لأنه ماض ؛ كما تقول : ضربتك إذ قمت ، ولا تقول ضربتك إذا قمت. وذلك جائز ، والذي فى كتاب الله عربىّ حسن ؛ لأن القول وإن كان ماضيا فى اللفظ فهو فى معنى الاستقبال ؛ لأن (الذين) يذهب (٤) بها إلى معنى الجزاء من من وما. فأنت تقول للرجل : أحبب من أحبّك ، وأحبب كلّ رجل أحبّك ، فيكون (٥) الفعل ماضيا وهو يصلح للمستقبل ؛ إذ كان أصحابه غير موقّتين ، فلو وقّته لم يجز. من ذلك أن تقول : لأضربن هذا الذي ضربك إذ سلّمت عليك ، لأنك قد وقّته فسقط عنه مذهب الجزاء. وتقول : لا تضرب إلا الذي ضربك إذ سلمت عليه ، فتقول (إذا) لأنك لم توقته. وكذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٦) فقال

__________________

(١) يريد أن رفع «كله» فى الآية على أنه مبتدأ خبره ما بعده يشبه ما فى الآية التالية ؛ إذ رفع (وجوههم) على أنه مبتدأ خبره (مسودة). ويصح فى العربية نصب (وجوههم) على أنه بدل من الموصول.

(٢) آية ٦٠ سورة الزمر.

(٣) يجعله البصريون توكيدا ، كما هو معروف.

(٤) يريد أن اسم الموصول إذا كانت صلته عامة أشبه الجزاء إذ كان يشترك فى الموصولية مع من وما : يأتيان موصولين كالذى ، ويكونان للجزاء ، والماضي فى حيز الجزاء للمستقبل ، فإذا جاءت إذ فى حيز الذي كان للاستقبال.

(٥) كذا فى ج. وفى ش : «فيقول».

(٦) آية ٢٥ سورة الحج.

٢٤٣

(وَيَصُدُّونَ) فردّها على (كفروا) لأنها غير موقّتة ، وكذلك قوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) (١) المعنى : إلا الذين يتوبون من قبل أن تقدروا عليهم. والله أعلم. وكذلك قوله (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) (٢) معناه : إلا من يتوب ويعمل صالحا. وقال الشاعر :

فإنى لآتيكم تشكّر ما مضى

من الأمر واستيجاب ما كان فى غد (٣)

يريد به المستقبل : لذلك قال (كان فى غد) ولو كان ماضيا لقال : ما كان فى أمس ، ولم يجز ما كان فى غد. وأمّا قول الكميت :

ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها

فيما مضى أحد إذا لم يعشق

فمن ذلك ؛ إنما أراد : لم يذقها فيما مضى ولن يذوقها فيما يستقبل إذا كان لم يعشق. وتقول : ما هلك امرؤ عرف قدره ، فلو أدخلت فى هذا (إذا) كانت أجود من (إذ) ؛ لأنك لم تخبر بذلك عن واحد فيكون بإذا ، وإنما جعلته كالدأب فجرى الماضي والمستقبل. ومن ذلك أن يقول الرجل للرجل : كنت صابرا إذا ضربتك ؛ لأن المعنى : كنت كلّما ضربت تصبر. فإذا قلت : كنت صابرا إذ ضربت ، فإنما أخبرت عن صبره فى ضرب واحد.

وقوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ...) (١٥٩)

العرب تجعل (ما) صلة فى المعرفة والنكرة واحدا.

قال الله (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) (٤) والمعنى فبنقضهم ، و (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) (٥) والمعنى : عن قليل. والله أعلم. وربما جعلوه اسما وهى فى مذهب

__________________

(١) آية ٣٤ سورة المائدة.

(٢) آية ٦٠ سورة مريم.

(٣) انظر ص ١٨٠ من هذا الجزء.

(٤) آية ١٥٥ سورة النساء ، ١٣ سورة المائدة.

(٥) آية ٤٠ سورة المؤمنين.

٢٤٤

الصلة ؛ فيجوز فيما بعدها الرفع على أنه صلة ، والخفض على إتباع الصلة لما قبلها ؛ كقول الشاعر :

فكفى بنا فضلا على من غيرنا

حبّ النبىّ محمد إيانا (١)

وترفع (غير) إذا جعلت صلة بإضمار (هو) ، وتخفض على الاتباع لمن ، وقال الفرزدق :

إنى وإياك إن بلّغن أرحلنا

كمن بواديه بعد المحل ممطور (٢)

فهذا مع النكرات ، فإذا كانت الصلة معرفة آثروا الرفع ، من ذلك (فَبِما نَقْضِهِمْ) لم يقرأه أحد برفع ولم نسمعه. ولو قيل جاز. وأنشدونا بيت عدىّ (٣) :

لم أر مثل الفتيان فى غير ال

أيام ينسون ما عواقبها

والمعنى : ينسون عواقبها صلة لما. وهو مما أكرهه ؛ لأن قائله يلزمه أن يقول : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) (٤) فأكرهه لذلك ولا أردّه. وقد جاء ، وقد وجّهه بعض النحويين إلى : ينسون أىّ شىء (٥) عواقبها ، وهو جائز ، والوجه الأوّل أحبّ إلىّ. والقرّاء لا تقرأ بكل ما يجوز فى العربية ، فلا يقبحنّ عندك تشنيع مشنّع مما لم يقرأه القرّاء مما يجوز.

__________________

(١) انظر ص ٢١ من هذا الجزء.

(٢) من قصيدة له يمدح فيها يزيد بن عبد الملك ابن مروان. فقوله «وإياك» خطاب ليزيد. أي إن بلغتك الإبل أرحلنا وأوصلتنا إليك عمنا الخير وفارقنا البؤس كمن مطر واديه بعد المحل. وانظر كتاب سيبويه ١ / ٢٦٩.

(٣) أي عدى بن زيد. وبعد البيت الشاهد :

يرون إخوانهم ومصرعهم

وكيف تعتاقهم مخالبها

وغير الأيام صروفها وحوادثها المتغيرة. وانظر الخزانة ٢ / ٢١ ، وأمالى ابن الشجري ١ / ٧٤.

(٤) آية ٢٨ سورة القصص.

(٥) يريد أن بعض النحويين جعل (ما) فى بيت عدىّ استفهامية لا موصولا ، فعواقبها خبر (ما) وليست صلة. وهو غير ما أسلفه.

٢٤٥

وقوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ...) (١٦١)

يقرأ بعض أهل المدينة أن يغلّ ؛ يريدون (١) أن يخان. وقرأه أصحاب عبد الله كذلك : أن يغلّ ؛ يريدون (٢) أن يسرّق أو يخوّن. وذلك جائز وإن لم يقل : يغلّل فيكون مثل (٣) قوله : (فَإِنَّهُمْ لا) يكذّبونك ـ و (يُكَذِّبُونَكَ) (٤) وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمىّ «أن يغل» ، وذلك أنهم ظنّوا يوم أحد أن لن تقسم لهم الغنائم كما فعل يوم بدر. ومعناه : أن يتّهم ويقال قد غلّ.

وقوله : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ ...) (١٦٣)

يقول : هم فى الفضل مختلفون : بعضهم أرفع من بعض.

وقوله : (وَيُزَكِّيهِمْ ...) (١٦٤) :

يأخذ منهم الزكاة ؛ كما قال تبارك وتعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (٥).

وقوله : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ...) (١٦٥)

يقول : تركتم ما أمرتم به وطلبتم الغنيمة ، وتركتم مراكزكم ، فمن قبلكم جاءكم الشرّ.

وقوله : (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) (١٦٧)

يقول : كثّروا ، فإنكم إذا كثّرتم دفعتم القوم بكثرتكم.

__________________

(١) فهو مجهول غله أي خانه.

(٢) فيغل على هذا مجهول أغله أي نسبه إلى الغلول وهو الخيانة أو السرقة ، فيغل : يسرق أي ينسب إلى السرقة ، أو يخوّن أي ينسب إلى الخيانة.

(٣) يريد أن أغل وغلل فى تواردهما على معنى النسبة إلى الغلول مثل كذب وأكذب فى التوارد على معنى النسبة إلى الكذب ؛ كما جاءت القراءتان بهما فى الآية.

(٤) آية ٣٢ سورة الأنعام.

(٥) آية ١٠٣ سورة التوبة.

٢٤٦

وقوله : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١٦٩)

وقوله : (فَرِحِينَ ...) (١٧٠) [لو كانت رفعا على «بل أحياء فرحون» لجاز. ونصبها على الانقطاع من الهاء فى «ربهم». وإن شئت يرزقون فرحين] (١) (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) من إخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة للذى رأوا من ثواب الله فهم يستبشرون بهم.

وقوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم «ولا حزن» (٢).

وقوله : (وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٧١)

تقرأ بالفتح والكسر. من فتحها جعلها خفضا متبعة للنعمة. ومن كسرها استأنف. وهى قراءة عبد الله «والله لا يضيع» فهذه حجّة لمن كسر.

وقوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ...) (١٧٣)

و (الناس) فى هذا الموضع واحد ، وهو نعيم بن مسعود الأشجعىّ. بعثه أبو سفيان وأصحابه فقالوا : شبّط محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو خوّفه حتى لا يلقانا ببدر الصغرى ، وكانت ميعادا بينهم (٣) يوم أحد. فأتاهم نعيم فقال : قد أتوكم فى بلدتكم فصنعوا بكم ما صنعوا ، فكيف بكم إذا وردتم عليهم فى بلدتهم وهم أكثر وأنتم أقلّ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى :

__________________

(١) سقط فى ش.

(٢) كذا فى ش. وفى ج : «ولا يحزنون».

(٣) كذا فى ج ، وفى ش : «يومهم».

٢٤٧

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ ...) (١٧٥)

يقول : يخوّفكم بأوليائه «فلا تخافوهم» ومثل ذلك قوله : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (١) معناه : لينذركم يوم التلاق. وقوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) (٢) المعنى : لينذركم بأسا شديدا ؛ البأس لا ينذر ، وإنما ينذر به.

وقوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ...) (١٧٨)

ومن قرأ «ولا تحسبن» قال «إنما» وقد قرأها بعضهم «ولا تحسبن الذين كفرا أنما» بالتاء والفتح على التكرير : لا تحسبنهم لا تحسبن أنما نملى لهم ، وهو كقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ) (٣) على التكرير : هل ينظرون إلا أن تأتيهم.

وقوله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ...) (١٧٩)

قال المشركون للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مالك تزعم أن الرجل منا فى النار ، فإذا صبأ إليك وأسلم قلت : هو فى الجنة ، فأعلمنا من ذا يأتيك منّا قبل أن يأتيك حتّى نعرفهم ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) على ما تقولون أيها المشركون (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) ثم قال : لم يكن الله ليعلمكم ذلك فيطلعكم على غيبه.

وقوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ ...) (١٨٠)

[يقال (٤) : إنما (هُوَ) هاهنا عماد ، فأين اسم هذا العماد؟ قيل : هو مضمر ، معناه : فلا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم] فاكتفى بذكر يبخلون من البخل ؛

__________________

(١) آية ١٥ سورة غافر.

(٢) آية ٢ سورة الكهف.

(٣) آية ١٨ سورة محمد.

(٤) سقط فى ش.

٢٤٨

كما تقول فى الكلام : قدم فلان فسررت به ، وأنت تريد : سررت بقدومه ، وقال الشاعر :

إذا نهى السفيه جرى إليه

وخالف ، والسفيه إلى خلاف (١)

يريد : إلى السفه. وهو كثير فى الكلام.

وقوله : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ). يقال : هى الزكاة ، يأتى الذي منعها يوم القيامة قد طوّق شجاعا أقرع بفيه زبيبتان (٢) يلدع خدّيه ، يقول : أنا الزكاة التي منعتنى.

وقوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). المعنى : يميت الله أهل السموات وأهل الأرض ويبقى وحده ، فذلك ميراثه تبارك وتعالى : أنه يبقى ويفنى كل شىء.

وقوله : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا ...) (١٨١)

وقرىء «سيكتب ما قالوا» قرأها حمزة اعتبارا ؛ لأنها فى مصحف عبد الله.

وقوله : (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ...) (١٨٣) كان هذا. والقربان نار لها حفيف وصوت شديد كانت تنزل على بعض الأنبياء.

فلمّا قالوا ذلك للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله تبارك وتعالى (قُلْ) يا محمد (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) وبالقربان الذي قلتم (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

__________________

(١) انظر ص ١٠٤ من هذا الجزء.

(٢) هما النكتتان السوداوان فوق عين الحية ؛ وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه. والشجاع : الحية الذكر أو الذي يقوم على ذنبه ويواثب الراجل والفارس. والأقرع : هو الذي تمرّط جلد رأسه لطول عمره وكثرة سمه.

٢٤٩

وقوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ...) (١٨٨)

يقول : بما فعلوا ؛ كما قال : (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) (١) وكقوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) (٢) وفى قراءة عبد الله «فمن (٣) أتى فاحشة فعله». وقوله : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) قالوا : نحن أهل العلم الأوّل والصلاة الأولى ، فيقولون ذلك ولا يقرّون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذلك قوله : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا).

وقوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ). يقول : ببعيد من العذاب. (قال (٤) قال الفراء : من زعم أن أو فى هذه الآية على غير معنى بل فقد افترى على الله ؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يشكّ ، ومنه قول الله تبارك وتعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ).)

وقوله : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) يقول القائل : كيف عطف بعلى على الأسماء؟ فيقال : إنها فى معنى الأسماء ألا ترى أن قوله : (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) : ونياما ، وكذلك عطف الأسماء على مثلها فى موضع آخر ، فقال : «دعانا لجنبه» ، يقول : مضطجعا «أو قاعدا أو قائما» فلجنبه ، وعلى جنبه سواء.

وقوله : (يُنادِي لِلْإِيمانِ). كما قال : (الَّذِي هَدانا لِهذا) (٥) و (أَوْحى لَها) (٦) يريد إليها ، وهدانا إلى هذا.

__________________

(١) آية ٢٧ سورة مريم.

(٢) آية ١٦ سورة النساء.

(٣) كذا فى الأصول.

ولم يتبين لنا موطن هذه القراءة.

(٤) ثبت ما بين القوسين فى الأصول. ولأوجه له هنا.

(٥) آية ٤٣ سورة الأعراف.

(٦) آية ٥ سورة الزلزلة.

٢٥٠

وقوله : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) (١٩٦) كانت اليهود تضرب فى الأرض فتصيب الأموال ، فقال الله عزوجل : لا يغرّنك ذلك.

وقوله : (مَتاعٌ قَلِيلٌ ...) (١٩٧) فى الدنيا.

وقوله : (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ ...) (١٩٨) و (ثوابا) (١) خارجان من المعنى : لهم ذلك نزلا وثوابا ، مفسّرا ؛ كما تقول : هو لك هبة وبيعا وصدقة.

وقوله : (خاشِعِينَ لِلَّهِ ...) (١٩٩) معناه : يؤمنون به خاشعين (٢).

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا ...) (٢٠٠) مع نبيكم على الجهاد (وصابروا) عدوّكم فلا يكوننّ أصبر منكم.

__________________

(١) أي فى قوله تعالى (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) فى الآية ١٩٥ من هذه السورة.

(٢) أي إنه حال من فاعل «يؤمن».

٢٥١

ومن سورة النساء

وقوله تبارك وتعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ...) (١)

قال (واحدة) لأن النفس مؤنثة ، فقال : واحدة لتأنيث النفس ، وهو [يعنى] (١) آدم ، ولو كانت (من نفس واحد) لكان صوابا ، يذهب إلى تذكير الرجل (٢).

وقوله : (وَبَثَّ مِنْهُما) العرب تقول : بثّ الله الخلق : أي نشرهم. وقال فى موضع آخر : (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) (٣) ومن العرب من يقول : أبثّ الله الخلق. ويقولون : بثثتك ما فى نفسى ، وأبثثتك.

وقوله : (الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) فنصب الأرحام ؛ يريد واتقوا الأرحام أن تقطعوها. قال : حدّثنا الفرّاء قال : حدّثنى شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم (٤) أنه خفض الأرحام ، قال : هو كقولهم : بالله (٥) والرحم ؛ وفيه قبح ؛ لأن العرب لا تردّ مخفوضا على مخفوض وقد كنى عنه ، وقد قال الشاعر (٦) فى جوازه (٧) :

__________________

(١) ثبت فى ج ، وسقط فى ش.

(٢) وهى قراءة إبراهيم بن أبى عبلة ؛ كما فى القرطبي.

(٣) آية ٤ سورة القارعة.

(٤) هو أبو عمران إبراهيم بن يزيد النخعىّ الكوفىّ. توفى سنة ٩٦ ه‍. وقراءة الخفض قراءة حمزة وقتادة والأعمش أيضا.

(٥) يريد أن «الأرحام» معطوف على الضمير فى «به».

(٦) هو مسكين الدارمىّ. وانظر العينىّ على هامش الخزانة ٤ / ١٦٤.

(٧) كذا فى ج ، وفى ش : «جوابه» وهو تحريف.

٢٥٢

نعلّق فى مثل السّوارى سيوفنا

وما بينها والكعب غوط نفانف (١)

وإنما يجوز هذا فى الشعر لضيقه.

وقرأ بعضهم (٢) (تَسائَلُونَ بِهِ) يريد : تتساءلون به ، فأدغم التاء عند السين.

وقوله : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ...) (٢)

يقول : لا تأكلوا أموال اليتامى بدل أموالكم ، وأموالهم عليكم حرام ، وأموالكم حلال.

وقوله : (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) الحوب : الإثم العظم. ورأيت بنى أسد يقولون الحائب : القاتل ، وقد حاب يحوب. وقرأ الحسن (إنه كان حوبا كبيرا) وقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ...) (٣)

واليتامى فى هذا الموضع أصحاب الأموال ، فيقول القائل : ما عدل الكلام من أموال اليتامى إلى النكاح؟ فيقال : إنهم تركوا مخالطة اليتامى تحرّجا ، فأنزل الله تبارك وتعالى : فإن كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فاحرجوا (٣) من جمعكم (٤) بين النساء ثم لا تعدلون بينهن ، (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) يعنى الواحدة إلى الأربع. فقال تبارك وتعالى : (ما طابَ لَكُمْ) ولم يقل : من طاب. وذلك أنه ذهب

__________________

(١) السواري جمع السارية وهى الأسطوانة. والغوط : المطمئن من الأرض ، والنفانف جمع النفنف وهو الهواء بين الشيئين. والبيت كناية عن طول قامتهم.

(٢) هم السبعة عدا عاصما وحمزة والكسائىّ.

(٣) الحرج : الضيق والقلق. والمراد به الكف عما يوجبه.

(٤) كذا فى ج. وفى ش : «جمعهم».

٢٥٣

إلى الفعل (١) كما قال (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يريد : أو ملك أيمانكم. ولو قيل (٢) فى هذين (من) كان صوابا ، ولكن الوجه ما جاء به الكتاب. وأنت تقول فى الكلام : خذ من عبيدى ما شئت ، إذا أراد مشيئتك ، فإن قلت : من شئت ، فمعناه : خذ الذي تشاء.

وأما قوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) فإنها حروف لا تجرى (٣). وذلك أنهن مصروفات (٤) عن جهاتهنّ ؛ ألا ترى أنهنّ للثلاث والثلاثة ، وأنهن لا يضفن إلى ما يضاف إليه الثلاثة والثلاث. فكان لا متناعه من الاضافة كأنّ فيه الألف واللام. وامتنع من الألف واللام لأن فيه تأويل الإضافة ؛ كما كان بناء الثلاثة أن تضاف إلى جنسها ، فيقال : ثلاث نسوة ، وثلاثة رجال. وربما جعلوا مكان ثلاث ورباع مثلث ومربع ، فلا يجرى أيضا ؛ كما لم يجر ثلاث ورباع لأنه مصروف ، فيه من العلّة ما فى ثلاث ورباع. ومن جعلها نكرة وذهب بها إلى الأسماء أجراها. والعرب تقول : ادخلوا ثلاث ثلاث ، وثلاثا ثلاثا (٥). وقال الشاعر :

[وإنّ الغلام المستهام بذكره]

قتلنا به من بين مثنى وموحد

بأربعة منكم وآخر خامس

وساد مع الإظلام فى رمح معبد (٦)

__________________

(١) يريد الحدث والمعنى الذي فى طاب ، ولم يذهب إلى الذوات. ويقرب من هذا ما يذكر من ملاحظة الوصف. وحمل كلام الفرّاء على أن (ما) عنده مصدرية. ويبين عنه قوله : «يريد : أو ملك أيمانكم».

(٢) وهى قراءة إبراهيم بن أبى عبلة ؛ كما فى القرطبي.

(٣) الإجراء فى اصطلاح الكوفيين : صرف الاسم وتنوينه ، وعدم الإجراء : منعه من الصرف.

(٤) أي معدولات.

(٥) ثبت فى ج ، وسقط فى ش.

(٦) ساد : لغة فى سادس. ولم يرد الشطر الأول فى أصول الكتاب. وقد جاء فى شرح التسهيل لأبى حيان فى مبحث «ما لا ينصرف».

٢٥٤

فوجه الكلام ألّا تجرى وأن تجعل معرفة ؛ لأنها مصروفة ، والمصروف خلقته أن يترك (١) على هيئته ، مثل : لكع (٢) ولكاع. وكذلك قوله : (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (٣).

والواحد يقال فيه موحد وأحاد ووحاد ، ومثنى وثناء ؛ وأنشد بعضهم :

ترى النّعرات الزّرق تحت لبانه

أحاد ومثنى أصعقتها صواهله (٤)

وقوله : (فَواحِدَةً) تنصب على : فإن خفتم ألّا تعدلوا على الأربع فى الحبّ والجماع فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم لا وقت (٥) عليكم فيه. ولو قال : فواحدة ، بالرفع كان (٦) كما قال (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) كان صوابا على قولك : فواحدة (مقنع (٧) ، فواحدة) رضا.

وقوله : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) : ألّا تميلوا. وهو أيضا فى كلام العرب : قد عال يعول. وفى قراءة عبد الله : (ولا يعل أن يأتينى بهم جميعا) (٨) كأنه فى المعنى : ولا يشقّ عليه أن يأتينى بهم جميعا. والفقر يقال منه عال يعيل عيلة ؛ وقال الشاعر (٩) :

ولا يدرى الفقير متى غناه

ولا يدرى الغنىّ متى يعيل

__________________

(١) كذا فى ش. وفى ج : «يتركه».

(٢) لكع يقال للئيم ، ولكاع للئيمة ، وهما لا يقالان إلا فى النداء فى مقام السب. ولكع معدول عن ألكع ، ولكاع عن لكعاء.

(٣) آية ١ سورة فاطر.

(٤) البيت لتميم بن أبى بن مقبل. والنعرات جمع النعرة وهى ذبابة تسقط على الدواب فتؤذيها. والصواهل واحدها الصاهلة ، وهو مصدر على فاعلة بمعنى الصهيل. يريد أن صهيلة قتلها. وهو فى وصف فرس. وانظر اللسان (صهل).

(٥) أي لا حدّ لكم فى ملك اليمين.

(٦) هذه الجملة بدل من الجملة قبلها. وجواب الشرط فى قوله : «كان صوابا» أو هى الجواب ، والجملة الأخيرة بدل منها. والأظهر سقوط «كان».

(٧) ثبت ما بين القوسين فى ج ، وسقط فى ش.

(٨) أي فى قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) آية ٨٣ سورة يوسف.

(٩) هذا هو أحيحة بن الجلاح الأوسىّ. وانظر اللسان (عيل). والبيت من قصيدة فى جمهرة أشعار العرب.

٢٥٥

وقوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) (٤)

يعنى أولياء النساء لا الأزواج : وذلك أنهم كانوا فى الجاهلية لا يعطون النساء من مهورهن شيئا ، فأنزل الله تعالى : أعطوهن صدقاتهن نحلة ، يقول : هبة وعطية.

وقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً). ولم يقل طبن. وذلك (١) أن المعنى ـ والله أعلم ـ : فإن طابت أنفسهن لكم عن شىء. فنقل الفعل من الأنفس إليهن فخرجت النفس مفسّرة ؛ كما قالوا : أنت حسن وجها ، والفعل فى الأصل للوجه ، فلمّا حوّل إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسّرا لموقع الفعل. ولذلك وحّد النفس. ولو جمعت لكان صوابا ؛ ومثله ضاق به ذراعى (٢) ، ثم تحول الفعل من الذراع إليك : فتقول (٣) قررت به عينا. قال الله تبارك وتعالى : (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) (٤). وقال : (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) (٥) ؛ وقال الشاعر (٦) :

إذا التّيّاز ذو العضلات قلنا

إليك إليك ضاق بها ذراعا (٧)

وإنما قيل : ذرعا وذراعا لأن المصدر والاسم فى هذا الموضع يدلّان على معنى واحد ، فلذلك كفى المصدر من الاسم.

وقوله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ...) (٥) السفهاء : النساء والصبيان (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) يقول التي بها تقومون قواما وقياما. وقرأ نافع المدني (قيما) والمعنى ـ والله أعلم ـ واحد.

__________________

(١) أي دون «نفسا».

(٢) كذا فى ح. وفى ش : «ذرعى».

(٣) يبدو أن هذا مرتب على كلام سقط فى النسخ. والأصل : «وتقول : قرت عينك ، ثم نحول الفعل».

(٤) آية ٢٦ سورة مريم.

(٥) آية ٧٧ سورة هود.

(٦) هو القطامي.

(٧) هذا فى أبيات يصف بكرة أحسن القيام عليها حتى قويت وعزت على القوى أن يركيها. والتياز الرجل القوى. وانظر اللسان (تيز).

٢٥٦

والعرب تقول فى جمع النساء (اللاتي) أكثر مما يقولون (التي) ، ويقولون (التي) ، ويقولون فى جمع الأموال وسائر الأشياء سوى النساء (التي) أكثر مما يقولون فيه (١) (اللاتي).

وقوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) (٦) يريد : فإن وجدتم. وفى قراءة عبد الله «فإن أحستم (٢) منهم رشدا».

(فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) يعنى الأوصياء واليتامى.

وقوله : (وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) (أن) فى موضع نصب. يقول : لا تبادروا كبرهم.

وقوله : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) هذا الوصىّ. يقول : يأكل قرضا.

وقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) (٧)

ثم قال الله تبارك وتعالى : (نَصِيباً مَفْرُوضاً). وإنما نصب النصيب المفروض وهو نعت للنكرة لأنه أخرجه مخرج المصدر. ولو كان اسما صحيحا لم ينصب. ولكنه بمنزلة قولك : لك علىّ حقّ حقّا ، ولا تقول : لك على حقّ درهما. ومثله عندى درهمان هبة مقبوضة. فالمفروض فى هذا الموضع بمنزلة قولك : فريضة وفرضا.

وقوله : (يُورَثُ كَلالَةً) (١٢)

الكلالة : ما خلا الولد والوالد.

وقوله : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) ولم يقل : ولهما ؛ وهذا جائز ؛ إذا جاء حرفان فى معنى (٣) واحد بأو أسندت التفسير إلى أيّهما شئت. وإن شئت ذكرتهما فيه

__________________

(١) فى ح ، ش : «فى» والوجه ما أثبت.

(٢) كذا فى ج. وفى ش : «أحسنتم» وهو محرف عن «أحسبتم». وهذا ما فى الطبري : «أحسيتم» أي أحسستم.

(٣) أي حكم.

٢٥٧

جميعا ؛ تقول فى الكلام : من كان له أخ أو أخت فليصله ، تذهب إلى الأخ (و) (١) فليصلها ، تذهب إلى الأخت. وإن قلت (فليصلهما) فذلك جائز.

وفى قراءتنا (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) (٢) وفى إحدى (٣) القراءتين فالله أولى بهم ذهب إلى الجماع لأنهما اثنان غير موقّتين. وفى قراءة عبد الله (والذين (٤) يفعلون منكم فآذوهما) فذهب إلى الجمع لأنهما اثنان غير موقتين ، وكذلك فى قراءته : (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما) (٥).

وقوله : (غَيْرَ مُضَارٍّ) يقول : يوصى بذلك غير مضارّ.

ونصب قوله وصية من قوله : (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) ـ (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مثل قولك : لك درهمان نفقة إلى أهلك ، وهو مثل قوله (نَصِيباً مَفْرُوضاً).

وقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ ...) (١٣)

معناه : هذه حدود الله.

وقوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ...) (١٥)

وفى قراءة عبد الله واللاتى يأتين بالفاحشة والعرب تقول : أتيت أمرا عظيما ، وأتيت بأمر عظيم ، وتكلمت كلاما قبيحا ، وبكلام قبيح. وقال فى مريم (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) (٦) و (جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (٧) ولو كانت فيه الباء لكان صوابا.

وقوله : فأمسكوهن فى البيوت كن يحبسن فى بيوت لهن إذا أتين (٨) الفاحشة حتى أنزل الله تبارك وتعالى :

__________________

(١) ثبت هذا الحرف فى ج. وسقط فى ش.

(٢) آية ١٣٥ سورة النساء.

(٣) هى قراءة أبى ؛ كما فى الطبري وأبى حيان.

(٤) هذا فى الآية ١٦ من هذه السورة.

(٥) هذا فى الآية ٣٨ من سورة المائدة.

(٦) آية ٢٧ سورة مريم.

(٧) آية ٨٩.

(٨) كذا فى ج. وفى ش : «أتيت» وهى محرفة عن «أتين».

٢٥٨

قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ..) (١٦)

فنسخت هذه الأولى.

وقوله : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ...) (١٧)

يقول : قبل الموت. فمن تاب فى صحّته أو فى مرضه قبل أن ينزل به الموت فتوبته مقبولة.

وقوله : (يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) لا يجهلون أنه ذنب ، ولكن لا يعلمون كنه ما فيه كعلم العالم.

وقوله : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ...) (١٨)

(الذين) فى موضع خفض. يقول : إن أسلم الكافر فى مرضه قبل أن ينزل به الموت كان مقبولا ، فإذا نزل به الموت فلا توبة.

وقوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ...) (١٩)

كان الرجل إذا مات عن امرأته وله ولد من غيرها وثب الولد فألقى ثوبه عليها ، فتزوّجها بغير مهر إلا مهر الأول ، ثم أضرّ بها ليرثها ما ورثت من أبيه ، فأنزل الله تبارك وتعالى (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَ) (تعضلوهن) فى موضع نصب بأن. وهى فى قراءة عبد الله (ولا أن تعضلوهنّ) ولو كانت جزما على النهى كان صوابا.

وقوله : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ...) (٢١)

الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها.

وقوله (مِيثاقاً غَلِيظاً) الغليظ الذي أخذنه قوله تبارك وتعالى (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

٢٥٩

وقوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ...) (٢٣)

أن فى موضع رفع ؛ كقولك : والجمع بين الأختين.

وقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ...) (٢٤)

المحصنات : العفائف. والمحصنات : ذوات الأزواج التي أحصنهنّ أزواجهن. والنصب (١) فى المحصنات أكثر. وقد روى علقمة (٢) : «المحصنات» بالكسر فى القرآن كله إلا قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) هذا الحرف الواحد ؛ لأنها ذات الزوج من سبايا المشركين. يقول : إذا كان لها فى زوج فى أرضها استبرأتها بحيضة وحلّت لك (٣).

وقوله (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) كقولك (٤) : كتابا من الله عليكم. وقد قال بعض أهل النحو : معناه (٥) : عليكم كتاب الله. والأوّل أشبه بالصواب. وقلّما تقول العرب : زيدا عليك ، أو زيدا دونك. وهو جائز كأنه منصوب بشىء مضمر قبله ، وقال الشاعر (٦) :

يا أيّها المائح دلوى دونكا

إنى رأيت الناس يحمدونكا (٧)

الدلو رفع ، كقولك : زيد فاضربوه. والعرب تقول : الليل فبادروا ، والليل فبادروا. وتنصب الدلو بمضمر فى الخلفة كأنك قلت : دونك دلوى دونك.

__________________

(١) يريد فتح الصاد.

(٢) هو علقمة بن قيس من أعلام التابعين. مات سنة ٦٢.

(٣) كذا فى ح. وفى ش : «ذلك» وهو خطأ.

(٤) يريد أنه منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لما قبله ؛ فإن معنى «حرمت عليكم» كتب عليكم.

(٥) يريد أن (على) فيه اسم فعل أمر ، و (عليكم) بمعنى الزموا. و (كتاب الله) معموله.

(٦) هو جاهلى من بنى أسيد بن عمرو بن تميم. وله قصة فى شرح التبريزي للحماسة ٢٧٠ من طبعة بن. وانظر الخزانة ٣ / ١٧.

(٧) المائح : اسم فاعل من الميح. وهو أن ينزل البئر فيملأ الدلو وذلك إذا قل ماؤها.

٢٦٠