معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

اللام. فردّ أن على أن مثلها يصلح فى موقع اللام ؛ ألا ترى أنه قال فى موضع (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) (١) وفى موضع (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا) (٢).

وقوله : (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) (٦٥)

فإن أهل نجران قالوا : كان إبراهيم نصرانيّا على ديننا ، وقالت اليهود : كان يهوديا على ديننا ، فأكذبهم الله فقال (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد إبراهيم بدهر طويل ، ثم عيّرهم أيضا.

فقال : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ) (٦٦)

إلى آخر الآية. ثم بيّن ذلك.

فقال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) (٦٧)

إلى آخر الآية.

وقوله : (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (٧٠)

يقول : تشهدون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفاته فى كتابكم. فذلك قوله : (تشهدون).

وقوله : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) (٧١)

لو أنك قلت فى الكلام : لم تقوم وتقعد يا رجل؟ على الصرف (٣) لجاز ، فلو نصبت (وتكتموا) كان صوابا.

__________________

(١) آية ٨ سورة الصف.

(٢) آية ٣٢ سورة التوبة.

(٣) الصرف هنا ألا يقصد الثاني بالاستفهام ، فإنه إن قصد ذلك كان العطف ، وكان حكم الثاني حكم الأوّل ، ولم ينصب. والنصب عند البصريين بأن مضمرة بعد واو المعية. وانظر ص ٣٤ من هذا الجزء.

٢٢١

وقوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) (٧٢)

يعنى صلاة الصبح (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) يعنى صلاة الظهر. هذا قالته اليهود لمّا صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ؛ فقالت اليهود : صلّوا مع محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الصبح ، فإذا كانت الظهر فصلّوا إلى قبلتكم لتشكّكوا أصحاب محمد فى قبلتهم ؛ لأنكم عندهم أعلم منهم فيرجعوا إلى قبلتكم.

فأما قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) (٧٣)

فإنه يقال : إنها من قول اليهود. يقول : ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم. واللام بمنزلة قوله : (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) (١) المعنى : ردفكم.

وقوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) (٧٣)

يقول : لا تصدّقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. أوقعت (تُؤْمِنُوا) على (أَنْ يُؤْتى) كأنه قال : ولا تؤمنوا أن يعطى أحد مثل ما أعطيتم ، فهذا وجه.

ويقال : قد انقطع كلام اليهود عند قوله (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ، ثم صار الكلام من قوله قل يا محمد إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتى أهل الإسلام ، وجاءت (أن) لأنّ فى قوله (قُلْ إِنَّ الْهُدى) مثل قوله : إن البيان بيان الله ، فقد بيّن أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتى أهل الإسلام. وصلحت (أحد)

__________________

(١) آية ٧٢ سورة النمل.

٢٢٢

لأن معنى أن معنى لا كما قال تبارك وتعالى (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (١) معناه : لا تضلّون. وقال تبارك وتعالى (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) (٢) أن تصلح فى موضع لا.

وقوله (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) فى معنى حتّى وفى معنى إلّا ؛ كما تقول فى الكلام : تعلّق به أبدا أو يعطيك حقّك ، فتصلح حتّى وإلّا فى موضع أو.

وقوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) (٧٥)

كان الأعمش وعاصم يجزمان الهاء فى يؤدّه ، و (نُوَلِّهِ) (٣) (ما تَوَلَّى) ، و (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) (٤) ، و (خَيْراً يَرَهُ) ، و (شَرًّا) (٥) (يَرَهُ). وفيه لهما مذهبان ؛ أمّا أحدهما فإن القوم ظنّوا أن الجزم فى الهاء ، وإنما هو فيما قبل الهاء. فهذا وإن كان توهّما ، خطأ. وأمّا الآخر فإن من العرب من يجزم الهاء إذا تحرّك ما قبلها ؛ فيقول ضربته ضربا شديدا ، أو يترك الهاء إذ سكّنها وأصلها الرفع بمنزلة رأيتهم وأنتم ؛ ألا ترى أن الميم سكنت وأصلها الرفع. ومن العرب من يحرّك الهاء حركة بلا واو ، فيقول ضربته (بلا واو) ضربا شديدا. والوجه الأكثر أن توصل بواو ؛ فيقال كلمتهو كلاما ، على هذا البناء ، وقد قال الشاعر فى حذف الواو :

أنا ابن كلاب وابن أوس فمن يكن

قناعه مغطيّا فإنّى لمجتلى (٦)

__________________

(١) آخر آية فى سورة النساء.

(٢) آيتا ٢٠٠ ، ٢٠١ سورة الشعراء.

(٣) آية ١١٥ سورة النساء.

(٤) آية ١١١ سورة الأعراف.

(٥) آيتا ٧ ، ٨ سورة الزلزلة.

(٦) فى ج : «معطيا» وهو تصحيف عما أثبتناه.

والبيت فى اللسان (غطى). ومغطيا : مستورا ؛ من قولهم : غطى الشيء : ستره وعلاه.

٢٢٣

وأمّا إذا سكن ما قبل الهاء فإنهم يختارون حذف الواو من الهاء ؛ فيقولون : دعه يذهب ، ومنه ، وعنه. ولا يكادون يقولون : منهو ولا عنهو ، فيصلون بواو إذا سكن ما قبلها ؛ وذلك أنهم لا يقدرون على تسكين الهاء وقبلها حرف ساكن ، فلمّا صارت متحرّكة لا يجوز تسكينها اكتفوا بحركتها من الواو.

وقوله (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) يقول : ما دمت له متقاضيا. والتفسير فى ذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا بايعهم أهل الإسلام أدّى بعضهم الأمانة ، وقال بعضهم : ليس للأمّيّين ـ وهم العرب ـ حرمة كحرمة أهل ديننا ، فأخبر الله ـ تبارك وتعالى ـ أنّ فيهم أمانة وخيانة ؛ فقال تبارك وتعالى (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) فى استحلالهم الذهاب بحقوق المسلمين.

وقوله : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (٧٩)

تقرأ : تعلّمون و (١) تعلمون ، وجاء فى التفسير : بقراءتكم الكتب وعلمكم بها. فكان الوجه (تعلمون) وقرأ الكسائىّ وحمزة (تعلّمون) لأن العالم يقع عليه يعلّم ويعلم.

وقوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ ...) (٨٠)

أكثر القراء على نصبها ؛ يردونها على (أن يؤتيه الله) : ولا أن يأمركم. وهى فى قراءة عبد الله (ولن يأمركم) فهذا دليل على انقطاعها من النسق وأنها مستأنفة ، فلمّا وقعت (لا) فى موقع (لن) رفعت كما قال تبارك وتعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً

__________________

(١) فالتشديد قراءة ابن عامر وأهل الكوفة. والتخفيف قراءة أبى عمرو وأهل المدينة. وانظر القرطبى ٤ / ١٢٣

٢٢٤

وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ) (١) (الْجَحِيمِ) وهى فى قراءة عبد الله (ولن تسأل) وفى قراءة أبىّ (وما تسأل عن أصحاب الجحيم).

وقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) (٨١)

ولما آتيتكم ، قرأها يحيى بن وثّاب بكسر اللام ؛ يريد أخذ الميثاق للذين آتاهم ، ثم جعل قوله (لتؤمننّ به) من الأخذ (٢) ؛ كما تقول : أخذت ميثاقك لتعملنّ ؛ لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. ومن نصب اللام فى (لما) جعل اللام لا ما زائدة ؛ إذ أوقعت على جزاء (٣) صيّر على جهة فعل وصيّر جواب الجزاء باللام وبإن وبلا وبما ، فكأنّ اللام يمين ؛ إذ صارت تلقى بجواب اليمين. وهو وجه الكلام.

وقوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) (٨٣)

أسلم أهل السموات طوعا. وأما أهل الأرض فإنهم لمّا كانت السّنّة فيهم أن يقاتلوا إن لم يسلموا أسلموا طوعا وكرها.

وقوله : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) (٩١)

نصبت الذهب لأنه مفسّر لا يأتى مثله إلا نكرة ، فخرج نصبه كنصب قولك : عندى عشرون درهما ، ولك خيرهما كبشا. ومثله قوله (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) (٤)

__________________

(١) آية ١١٩ سورة البقرة.

(٢) يريد أنه جواب القسم الذي تضمنه قوله : أخذ الله ميثاق النبيين ؛ إذ كان ذلك فى معنى القسم.

(٣) يريد أن (ما) فى (لما) على هذا شرطية ، واللام موطئة للقسم ، ولذلك أجيبت بما يجاب به القسم فى قوله : لتؤمنن به.

(٤) آية ٩٥ سورة المائدة.

٢٢٥

وإنما ينصب على خروجه من المقدار الذي تراه قد ذكر قبله ، مثل ملء الأرض ، أو عدل ذلك ، فالعدل مقدار معروف ، وملء الأرض مقدار معروف ، فانصب ما أتاك على هذا المثال ما أضيف إلى شىء له قدر ؛ كقولك : عندى قدر قفيز (١) دقيقا ، وقدر حملة تبنا ، وقدر رطلين عسلا ، فهذه مقادير معروفة يخرج الذي بعدها مفسّرا ؛ لأنك ترى التفسير خارجا من الوصف يدلّ على جنس المقدار من أىّ شىء هو ؛ كما أنك إذا قلت : عندى عشرون فقد أخبرت عن عدد مجهول قد تمّ خبره ، وجهل جنسه وبقي تفسيره ، فصار هذا مفسّرا عنه ، فلذلك نصب. ولو رفعته على الائتناف لجاز ؛ كما تقول : عندى عشرون ، ثم تقول بعد : رجال ، كذلك لو قلت : ملء الأرض ، ثم قلت : ذهب ، تخبر على غير اتّصال.

وقوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) الواو هاهنا قد يستغنى عنها ، فلو قيل ملء الأرض ذهبا لو افتدى به كان صوابا. وهو بمنزلة قوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٢) فالواو هاهنا كأن لها فعلا مضمرا (٣) بعدها.

وقوله : (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ ...) (٩٣)

يذكر فى التفسير أنه أصابه عرق النسا فجعل على نفسه إن برأ أن يحرّم أحبّ الطعام والشراب إليه ، فلمّا برأ حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها ، وكان (٤) أحبّ الطعام والشراب إليه.

__________________

(١) القفيز : مكيال للحبوب.

(٢) آية ٧٥ سورة الأنعام.

(٣) أي كأنّ الأصل : ولو افتدى به فلن يقبل منه ؛ فحذف الجواب للدليل عليه من الكلام السابق. وكذلك قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) : فالتقدير وليكون من الموقنين أريناه ملكوت السموات والأرض.

(٤) كذا فى ش ، ج. يريد : كان كل منهما. وقد يكون الأصل : «كانا».

٢٢٦

وقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ...) (٩٦)

يقول : إنّ أوّل مسجد وضع للناس (للّذى ببكّة) وإنما سمّيت بكّة لازدحام الناس بها ؛ يقال : بكّ الناس بعضهم بعضا : إذا ازدحموا.

وقوله : (هُدىً) موضع نصب متبعة للمبارك. ويقال إنما قيل : مباركا لأنه مغفرة للذنوب.

وقوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ ...) (٩٧)

يقال : الآيات المقام والحجر والحطيم ، وقرأ ابن عباس «فيه آية بيّنة» جعل المقام هو الآية لا غير.

وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ) يقول : من قال ليس علىّ حجّ فإنما يجحد بالكفر فرضه لا يتركه (١).

وقوله : (مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً ...) (٩٩)

يريد السبيل فأنّثها ، والمعنى تبغون لها. وكذلك (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) (٢) : يبغون لكم الفتنة. والعرب يقولون : ابغني خادما فارها ، يريدون : ابتغه لى ، فإذا أرادوا : ابتغ معى (٣) وأعنّى على طلبه قالوا أبغنى (ففتحوا الألف الأولى من بغيت ، والثانية من أبغيت) (٤) وكذلك يقولون : المسنى (٥) نارا وألمسنى ، واحلبنى وأحلبنى ، واحملني (٦) وأحملنى ،

__________________

(١) كذا فى ش ، ج. وكأنّ فى الكلام سقطا ، والأصل : إذ لو آمن به لا يتركه.

(٢) آية ٤٧ سورة التوبة.

(٣) فى ح : «معنى» وفى ش : «معنا» والأنسب ما أثبت.

(٤) كذا ترى ما بين القوسين فى ش ؛ ج. ولم يستقم لنا وجه هذه العبارة. وقد يكون الأصل : فكسروا الألف من ابغني الأولى وفتحوها من أبغنى الثانية.

(٥) كذا ، والظاهر أن ما هنا تحريف عن : اقبسنى نارا ، وأقبسنى.

(٦) فاحلبنى معناها : احلب لى ، وأحلبنى : أعنّى على الحلب. وانظر اللسان (عكم).

٢٢٧

واعكمنى وأعكمنى (١) ؛ فقوله : احلبنى يريد : احلب لى ؛ أي اكفنى الحلب ، وأحلبنى : أعنّى عليه ، وبقيته على مثل هذا.

وقوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً ...) (١٠٣)

الكلام العربىّ هكذا بالباء ، وربما طرحت العرب الباء فقالوا : اعتصمت بك واعتصمتك ؛ قال بعضهم :

إذا أنت جازيت الإخاء بمثله

وآسيتنى ثم اعتصمت حباليا

فألقى الباء. وهو كقولك : تعلّقت زيدا ، وتعلقت بزيد. وأنشد بعضهم :

تعلّقت هندا ناشئا ذات مئزر

وأنت وقد قارفت (٢) لم تدر ما الحلم

وقوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ...) (١٠٦)

لم يذكّر الفعل أحد من القرّاء كما قيل (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) (٣) وقوله (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) (٤) وإنما سهل التذكير فى هذين لأن معهما جحدا ، والمعنى فيه : لا يحلّ لك أحد من النساء ، ولن ينال الله شىء من لحومها ، فذهب بالتذكير إلى المعنى ، والوجوه ليس ذلك فيها ، ولو ذكّر فعل الوجوه كما تقول : قام القوم لجاز ذلك.

وقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) يقال : (أمّا) لا بدّ لها من الفاء جوابا فأين هى؟ فيقال : إنها كانت مع قول مضمر ، فلمّا سقط القول سقطت الفاء معه ، والمعنى ـ والله أعلم ـ فأمّا الذين اسودّت وجوههم فيقال : أكفرتم ،

__________________

(١) العكم : شدّ المتاع بثوب. فمعنى اعكمنى : شدّ لى المتاع ، ومعنى أعكمنى : أعنّى على العكم.

(٢) «ناشئا» هو حال من «هندا» وتراه من غير علم التأنيث. والناشئ : الذي جاوز حدّ الصغر. وقوله : «وقد قارفت» حال مقدّمة ، والأصل : وأنت لم تدر ما الحلم وقد قارفت أي قاربت الحلم. يقال : قارف الشيء : قاربه.

(٣) آية ٣٧ سورة الحج.

(٤) آية ٥٢ سورة الأحزاب.

٢٢٨

فسقطت الفاء مع (فيقال). والقول قد يضمر. ومنه فى كتاب الله شىء كثير ؛ من ذلك قوله (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) (١) وقوله (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) (٢) وفى قراءة عبد الله «ويقولان ربّنا».

وقوله : (تِلْكَ آياتُ اللهِ ...) (١٠٨)

يريد (٣) : هذه آيات الله. وقد فسّر شأنها فى أوّل البقرة.

وقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ...) (١١٠)

فى التأويل : فى اللوح المحفوظ. ومعناه أنتم خير أمّة ؛ كقوله (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) (٤) ، و (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) (٥) فإضمار كان فى مثل هذا وإظهارها سواء.

وقوله : (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ...) (١١١)

مجزوم ؛ لأنه جواب للجزاء (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) مرفوع على الائتناف ، ولأن رءوس الآيات بالنون ، فذلك مما يقوّى الرفع ؛ كما قال (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٦) فرفع ، وقال تبارك وتعالى (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) (٧).

__________________

(١) آية ١٢ سورة السجدة.

(٢) آية ١٢٧ سورة البقرة.

(٣) يريد أنه وضع إشارة البعيد فى مكان إشارة القريب. والمسوّغ لهذا أن المشار إليه كلام ، يجوز أن يراعى فيه انقضاؤه فيكون بعيدا. وانظر ص ١٠ من هذا الجزء.

(٤) آية ٨٦ سورة الأعراف.

(٥) آية ٢٦ سورة الأنفال.

(٦) آية ٣٦ سورة المرسلات.

(٧) آية ٣٦ سورة فاطر.

٢٢٩

وقوله : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ ...) (١١٢) يقول : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ؛ فأضمر ذلك ، وقال الشاعر (١) :

رأتنى بحبليها فصدّت مخافة

وفى الحبل روعاء الفؤاد فروق

أراد : أقبلت بحبليها ، وقال الآخر (٢) :

حنتنى حانيات الدهر حتى

كأنى خاتل أدنو لصيد

قريب الخطو يحسب من رآنى

ولست مقيّدا أنى بقيد

يريد : مقيّدا بقيد.

وقوله : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ...) (١١٣) ذكر أمّة ولم يذكر بعدها أخرى ، والكلام مبنىّ على أخرى يراد ؛ لأن سواء لا بدّ لها من اثنين فما زاد.

ورفع الأمة على وجهين ؛ أحدهما أنك تكرّه على سواء كأنك قلت : لا تستوى أمة صالحة وأخرى كافرة منها أمّة كذا وأمّة كذا ، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان فى الكلام دليل عليه ، قال الشاعر (٣) :

عصيت إليها القلب إنى لأمرها

سميع فما أدرى أرشد طلابها

__________________

(١) هو حميد بن ثور. والبيت من قصيدة له فى ديوانه المطبوع فى الدار ص ٣٥. وهو فى وصف ناقته. يقال ناقة روعاء الفؤاد : حديدته ذكيته. وفروق : خائفة : كأنه يريد أنه جاء بالحبال التي يشد بها عليها الرحل للسفر فارتاعت لما هى بسبيله من عناء السير.

(٢) هو أبو الطمحان القينى حنظلة بن الشرقىّ ، وكان من المعمرين. و «حابل» أي ينصب الحبالة للصيد. وهى آلة الصيد. والرواية المشهورة «خاتل» من الختل وهو المخادعة. وانظر اللسان (ختل) وكتاب المعمرين لأبى حاتم ٤٧.

(٣) هو أبو ذؤيب الهذلىّ. والرواية المعروفة : «عصانى إليها القلب». وانظر ديوان الهذليين (الدار) ١ / ٧٢.

٢٣٠

ولم يقل : أم غىّ ، ولا : أم لا ؛ لأن الكلام معروف المعنى. وقال الآخر :

أراك فلا أدرى أهمّ هممته

وذو الهمّ قدما خاشع متضائل

وقال الآخر (١) :

وما أدرى إذا يمّمت وجها

أريد الخير أيّهما يلينى

أالخير الذي أنا أبتغيه

أم الشرّ الذي لا يأتلينى

ومنه قول الله تبارك وتعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) (٢) ولم يذكر الذي هو ضدّه ؛ لأنّ قوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٣) دليل على ما أضمر من ذلك.

وقوله : (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) السجود فى هذا الموضع اسم للصلاة لا للسجود ؛ لأن التلاوة لا تكون فى السجود ولا فى الركوع.

وقوله تعالى : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) (١١٨)

وفى قراءة عبد الله «وقد بدا البغضاء من أفواههم» ذكّر لأنّ البغضاء مصدر ، والمصدر إذا كان مؤنّثا جاز تذكير فعله إذا تقدّم ؛ مثل (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (٤) و (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (٥) وأشباه ذلك.

وقوله : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ) (١١٩)

العرب إذا جاءت إلى اسم مكنىّ قد وصف بهذا وهاذان وهؤلاء فرّقوا بين (ها) وبين (ذا) وجعلوا المكنى بينهما ، وذلك فى جهة التقريب (٦) لا فى غيرها ،

__________________

(١) هو المثقب العبدىّ. وانظر الخزانة ٤ / ٤٢٩ ، وشرح ابن الأنبارى للمفضليات ٥٧٤.

(٢) آية ٩ سورة الزمر.

(٣) الآية السابقة.

(٤) آية ٦٧ سورة هود.

(٥) آية ١٥٧ سورة الأنعام.

(٦) يراد بالتقريب أن يكون محط الخبر هو مفيد الحدث من فعل أو وصف. ففى قولك هأنت ذا تغضب تقريب. والتقريب عندهم مما يكون فيه رفع ونصب ككان الناقصة. وانظر ص ١٢ من هذا الجزء.

٢٣١

فيقولون : أين أنت؟ فيقول القائل : هأنذا ، ولا يكادون يقولون : هذا أنا ، وكذلك التثنية والجمع ، ومنه (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) وربما أعادوا (ها) فوصلوها بذا وهذان وهؤلاء ؛ فيقولون : ها أنت هذا ، وها أنتم هؤلاء ، وقال الله تبارك وتعالى فى النساء : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ) (١).

فإذا كان الكلام على غير تقريب أو كان مع اسم ظاهر جعلوا (ها) موصولة بذا ، فيقولون : هذا هو ، وهذان هما ، إذا كان على خبر يكتفى كلّ واحد بصاحبه بلا فعل ، والتقريب لا بدّ فيه من فعل لنقصانه ، وأحبوا أن يفرقوا بذلك بين معنى التقريب وبين معنى الاسم الصحيح.

وقوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) (١٢٠)

إن شئت جعلت جزما وإن كانت مرفوعة ، تكون كقولك للرجل : مدّ يا هذا ، ولو نصبتها أو خفضتها كان صوابا ؛ لأن من العرب من يقول مدّ يا هذا ، والنصب فى العربية أهيؤها (٢) ، وإن شئت جعلته رفعا وجعلت (لا) على مذهب ليس فرفعت وأنت مضمر للفاء ؛ كما قال الشاعر (٣) :

فإن كان لا يرضيك حتى تردّنى

إلى قطرىّ لا إخالك راضيا

وقد قرأ بعض القراء «لا يضركم» تجعله من الضير ، وزعم الكسائي أنه سمع بعض أهل العالية يقول : لا ينفعنى ذلك وما يضورنى ، فلو قرئت «لا يضركم» على هذه اللغة كان صوابا.

__________________

(١) آية ١٠٩

(٢) أي أحسنها ، وهو اسم تفضيل لقولهم : هيىء للحسن فى كل شىء. وأصله حسن الهيئة.

(٣) هو سوّار بن المضرب السعدي التميمىّ. وكان هرب من الحجاج لما عزم عليه فى محاربة الخوارج وزعيمهم قطرىّ بن الفجاءة. وموطن الشاهد : «لا إخالك» إذ جاء مرفوعا مع وقوعه فى جواب إن.

٢٣٢

وقوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) (١٢١) وفى قراءة عبد الله «تبوّى للمؤمنين مقاعد للقتال» والعرب تفعل ذلك ، فيقولون : ردفك وردف لك. قال الفرّاء قال الكسائىّ : سمعت بعض العرب يقول : نقدت لها مائة ، يريدون نقدتها مائة ، لامرأة تزوّجها. وأنشدنى الكسائىّ :

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

والكلام باللام ؛ كما قال الله تبارك وتعالى : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) (١) و (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (٢) وأنشدنى :

أستغفر الله من جدّى ومن لعبى

وزرى وكلّ امرئ لا بدّ متّزر (٣)

يريد لوزرى. ووزري حين ألقيت اللام فى موضع نصب ، وأنشدنى الكسائىّ :

إن أجز علقمة بن سعد سعيه

لا تلقنى أجزى بسعى واحد

لأحبنى حبّ الصبىّ وضمّنى

ضمّ الهدىّ (٤) إلى الكريم الماجد

وإنما قال (لأحبنى) لأنه جعل جواب إن إذ كانت جزاء كجواب لو.

وقوله : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) (١٢٢)

وفى قراءة عبد الله «والله وليّهم» رجع بهما إلى الجمع ؛ كما قال الله عزوجل : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) (٥) وكما قال : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (٦).

__________________

(١) آية ٢٩ سورة يوسف.

(٢) آية ١٣٥ سورة آل عمران.

(٣) متزر من اتزر : ارتكب الوزر وهو الإثم. وقوله من جدى ومن لعبى : الأشبه : فى جدى وفى لعبى.

(٤) الهدىّ : العروس تزف الى زوجها.

(٥) آية ١٩ سورة الحج.

(٦) آية ٩ سورة الحجرات.

٢٣٣

وقوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) (١٢٨)

فى نصيبه وجهان ؛ إن شئت جعلته معطوفا على قوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أي (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) وإن شئت جعلت نصبه على مذهب حتّى ؛ كما تقول : لا أزال ملازمك أو تعطينى ، أو إلا أن تعطينى حقىّ.

وقوله : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ...) (١٣٥)

يقال [ما قبل (١) إلا] معرفة ، وإنما يرفع ما بعد إلا بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد ؛ كقولك : ما عندى أحد إلا أبوك ، فإن معنى قوله : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) ما يغفر الذنوب أحد إلا الله ، فجعل على المعنى. وهو فى القرآن فى غير موضع.

وقوله : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ...) (١٤٠)

وقرح. وأكثر القرّاء على فتح القاف. وقد قرأ أصحاب عبد الله : قرح ، وكأنّ القرح ألم الجراحات ، وكأنّ القرح الجراح بأعيانها. وهو فى ذاته مثل قوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) (٢) ووجدكم (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) (٣) وجهدهم ، و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٤) [ووسعها].

وقوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) يعلم المؤمن من غيره ، والصابر من غيره. وهذا فى مذهب أىّ ومن ؛ كما قال : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) (٥) فإذا جعلت

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق. وهذا ذكر اعتراض على رفع المستثنى ، جوابه قوله بعد : «فإن معنى قوله ...».

(٢) آية ٦ سورة الطلاق. والضمّ قراءة الجمهور ، والفتح قراءة الحسن والأعرج ، كما فى البحر.

(٣) آية ٧٩ سورة التوبة.

(٤) آية ٢٨٦ سورة البقرة.

(٥) آية ١٢ سورة الكهف.

٢٣٤

مكان أىّ من الذي أو ألفا ولا ما نصبت بما يقع عليه ؛ كما قال الله تبارك : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (١) وجاز ذلك لأن فى «الذي» وفى الألف واللام تأويل من وأىّ ؛ إذ كانا فى معنى انفصال من الفعل.

فإذا وضعت مكانهما اسما لا فعل فيه لم يحتمل هذا المعنى. فلا يجوز أن تقول : قد سألت فعلمت عبد الله ، إلا أن تريد علمت ما هو. ولو جعلت مع عبد الله اسما فيه دلالة على أىّ جاز ذلك ؛ كقولك : إنما سألت لأعلم عبد الله من زيد ، أي لأعرف ذا من ذا. وقول الله تبارك وتعالى : (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) (٢) يكون : لم تعلموا مكانهم ، ويكون لم تعلموا ما هم أكفار أم مسلمون. والله أعلم بتأويله.

وقوله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) (١٤١)

يريد : يمحّص الله الذنوب عن الذين آمنوا ، (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) : ينقصهم ويفنيهم.

وقوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢) خفض الحسن «ويعلم الصابرين» يريد الجزم. والقرّاء بعد تنصبه. وهو الذي يسمّيه النحويّون الصرف ؛ كقولك : «لم آته وأكرمه إلا استخفّ بي» والصرف أن يجتمع الفعلان بالواو أو ثم أو الفاء أو أو ، وفى أوّله جحد أو استفهام ، ثم ترى ذلك الجحد أو الاستفهام ممتنعا أن يكّر فى العطف ، فذلك الصرف. ويجوز فيه الإتباع ؛ لأنه نسق فى اللفظ ؛ وينصب ؛ إذ كان ممتنعا أن يحدث فيهما ما أحدث

__________________

(١) آية ٣ سورة العنكبوت.

(٢) آية ٤٥ سورة الفتح.

٢٣٥

فى أوّله ؛ ألا ترى أنك تقول : لست لأبى إن لم أقتلك أو إن لم تسبقنى فى الأرض.

وكذلك يقولون : لا يسعنى شىء ويضيق عنك ، ولا تكرّ (لا) فى يضيق. فهذا تفسير (١) الصرف.

وقوله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣)

معناه : رأيتم أسباب الموت. وهذا يوم أحد ؛ يعنى السيف وأشباهه من السلاح.

وقوله : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ...) (١٤٤)

كلّ استفهام دخل على جزاء (٢) فمعناه أن يكون فى جوابه خبر يقوم (٣) بنفسه ، والجزاء شرط لذلك الخبر ، فهو على هذا ، وإنما جزمته ومعناه الرفع لمجيئه بعد الجزاء ؛ كقول الشاعر (٤) :

حلفت له إن تدلج اللّيل لا يزل

أمامك بيت من بيوتى سائر

ف (لا يزل) فى موضع رفع ؛ إلا أنه جزم لمجيئه بعد الجزاء وصار كالجواب. فلو كان «أفإن مات أو قتل تنقلبون» جاز فيه الجزم والرفع. ومثله (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (٥) المعنى : أنهم الخالدون إن مت. وقوله : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) (٦) لو تأخرت فقلت فى الكلام : (فكيف إن كفرتم تتقون) جاز الرفع والجزم فى تتقون.

__________________

(١) انظر ص ٣٤ من هذا الجزء.

(٢) يريد بالجزاء أداة الشرط.

(٣) كذا فى ج. وفى ش : «تقوم».

(٤) انظر ص ٦٩ من هذا الجزء.

(٥) آية ٣٤ سورة الأنبياء.

(٦) آية ١٧ سورة المزمل.

٢٣٦

وقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ...) (١٤٦)

والربّيون الألوف.

تقرأ : قتل وقاتل. فمن أراد قتل جعل قوله : (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ) للباقين ، ومن قال : قاتل جعل الوهن للمقاتلين. وإنما ذكر هذا لأنهم قالوا يوم أحد : قتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففشلوا ، ونافق بعضهم ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ، وأنزل : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ).

ومعنى وكأين : وكم.

وقد قال بعض المفسرين : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ) يريد (١) : و «معه ربيون» والفعل واقع على النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : فلم يرجعوا عن دينهم ولم يهنوا بعد قتله. وهو وجه حسن.

وقوله : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ...) (١٤٧)

نصبت القول بكان ، وجعلت أن فى موضع رفع. ومثله فى القرآن كثير. والوجه أن تجعل (أن) فى موضع الرفع ؛ ولو رفع (٢) القول وأشباهه وجعل النصب فى «أن» كان صوابا.

وقوله : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ ...) (١٥٠)

رفع على الخبر ، ولو نصبته (٣) : (بل أطيعوا الله مولاكم) كان وجها حسنا.

__________________

(١) يريد أن نائب الفاعل لقتل هو ضمير النبىّ. وجملة «معه ربيون كثير» حالية.

(٢) بل قرأ بذلك حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، كما فى البحر ٣ / ٧٥.

(٣) نسبت هذه القراءة إلى الحسن البصري ، كما فى البحر ٣ / ٧٦.

٢٣٧

وقوله : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ ...) (١٥٢)

يقال : إنه مقدّم ومؤخر ؛ معناه : «حتى إذا تنازعتم فى الأمر فشلتم». فهذه الواو معناها السقوط : كما يقال : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ) (١) معناه : ناديناه. وهو فى (حَتَّى إِذا) و «فلمّا أن» (٢) مقول ، لم يأت فى غير هذين. قال الله تبارك وتعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (٣) ثم قال : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) (٤) معناه : اقترب ، وقال تبارك وتعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) (٥) وفى موضع آخر : (فُتِحَتْ) (٦) وقال الشاعر :

حتى إذا قملت بطونكم

ورأيتم أبناءكم شبّوا

وقلبتم ظهر المجنّ لنا

إن اللئيم العاجز الخبّ (٧)

الخبّ (٨) : الغدّار ، والخبّ : الغدر. وأمّا قوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) (٩) وقوله : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) (١٠) فإنه كلام واحد جوابه فيما بعده ، كأنه يقول : «فيومئذ يلاقى حسابه». وقد قال بعض من روى عن قتادة من البصريّين إذا السّماء انشقّت. أذنت لربها وحقّت ولست أشتهى ذلك ؛ لأنها فى مذهب (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (١١) و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (١٢) فجواب هذا بعده (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٣) و (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (١٤).

__________________

(١) آيتا ١٠٣ ، ١٠٤ من الصافات.

(٢) فى الطبري «فلما» وهذا أولى ؛ لأن الآية السابقة ليس فيها (أن). ولكنه يريد تعيين لما الحينية التي يأتى بعدها أن ، احترازا من لما الجازمة أو التي بمعنى إلا.

(٣) آية ٩٦ سورة الأنبياء.

(٤) آية ٩٧ سورة الأنبياء.

(٥) آية ٧٣ سورة الزمر.

(٦) آية ٧١ سورة الزمر.

(٧) انظر فى البيتين ص ١٠٧ من هذا الجزء.

(٨) وقد ورد فى الوصف الكسر.

(٩) آيتا ١ ، ٢ سورة الانشقاق.

(١٠) آية ٣ من السورة السابقة.

(١١) أول سورة التكوير. ويريد بمذهب سورتى التكوير والانفطار ورود الجملة الثانية بعد (إذا) مقرونة بواو العطف.

(١٢) أول سورة الانفطار.

(١٣) آية ١٤ سورة التكوير.

(١٤) آية ٥ سورة الانفطار.

٢٣٨

وقوله : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ ...) (١٥٣)

الإصعاد فى ابتداء الأسفار والمخارج. تقول : أصعدنا من مكة ومن بغداد إلى خراسان ، وشبيه ذلك. فإذا صعدت على السلم أو الدّرجة ونحوهما قلت : صعدت ، ولم تقل أصعدت. وقرأ الحسن البصرىّ : «إذ تصعدون ولا تلوون» جعل الصعود فى الجبل كالصعود فى السلم.

وقوله : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) ومن العرب من يقول : أخراتكم ، ولا يجوز فى القرآن ؛ لزيادة التاء فيها على كتاب المصاحف ؛ وقال الشاعر :

ويتّقى السيف بأخراته

من دون كفّ الجار والمعصم (١)

وقوله : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) الإثابة هاهنا [فى] معنى عقاب ، ولكنه كما قال الشاعر (٢) :

أخاف زيادا أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة سمرا

وقد يقول الرجل الذي قد اجترم إليك : لئن أتيتنى لأثيبنّك ثوابك ، معناه : لأعاقبنّك ، وربما أنكره من لا يعرف مذاهب العربية. وقد قال الله تبارك وتعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣) والبشارة إنما تكون فى الخير ، فقد قيل ذاك فى الشرّ.

__________________

(١) ورد فى اللسان (أخر) دون عزو.

(٢) هو الفرزدق. وزياد هو ابن أبيه ، كان توعد الفرزدق ثم أظهر الرضا عنه وأنه سيحبوه إن قصده ، فلم يركن لذلك الفرزدق. والأداهم جمع أدهم وهو القيد. والمحدرجة : السياط ، وهو وصف من حدرجه إذا أحكم فتله. وسوط محدرج : مغار محكم الفتل.

(٣) آية ٢١ سورة آل عمران ، ٣٤ سورة التوبة.

٢٣٩

ومعنى قوله (غمّا بغمّ) ما أصابهم يوم أحد من الهزيمة والقتل ، ثم أشرف عليهم خالد بن الوليد (١) بخيله فخافوه ، وغمّهم ذلك.

وقوله : (وَلا ما أَصابَكُمْ) (ما) فى موضع خفض على (ما فاتَكُمْ) أي ولا على ما أصابكم.

وقوله : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ ...) (١٥٤)

تقرأ بالتاء (٢) فتكون للأمنة ؛ وبالياء فيكون للنعاس ، مثل قوله (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) (٣) وتغلى ، إذا كانت (تغلى) فهى الشجرة ، وإذا كانت (يغلى) فهو للمهل.

وقوله : (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) ترفع الطائفة بقوله (أهمتهم) بما (٤) رجع من ذكرها ، وإن شئت رفعتها (٥) بقوله (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) ولو كانت نصبا لكان صوابا ؛ مثل قوله فى الأعراف : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) (٦).

وإذا رأيت (٧) اسما فى أوّله كلام وفى آخره فعل قد وقع على راجع ذكره جاز فى الاسم الرفع والنصب. فمن ذلك قوله : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) (٨) وقوله : (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) (٩) يكون نصبا ورفعا. فمن نصب جعل الواو

__________________

(١) أي وأبو سفيان كما فى القرطبي. وعند الطبري أن ذلك كان من إشراف أبى سفيان وعلوّه الجبل.

(٢) أي تغشى.

(٣) آية ٤٥ سورة الدخان.

(٤) يريد أن «طائفة» مبتدأ خبره جملة «أهمتهم» ورافع المبتدأ عندهم فى مثل هذا ما يعود على المبتدإ من الضمير.

(٥) يريد على هذا الوجه أن تكون جملة «أهمتهم أنفسهم» صفة «طائفة» فأما الخبر فهو جملة : «يظنون».

(٦) آية ٣٠.

(٧) يريد ما يعرف فى النحو بحدّ الاشتغال.

(٨) آية ٤٧ سورة الذاريات.

(٩) آية ٤٨ من السورة السابقة.

٢٤٠