معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

أنها كالصلة ؛ إذ سكنت وهى فى آخر الحروف (١) واستثقلت فحذفت. ومن أتمّها فهو البناء والأصل. ويفعلون ذلك فى الياء وإن لم يكن قبلها نون ؛ فيقولون هذا غلامى قد جاء ، وغلام قد جاء ؛ قال الله تبارك وتعالى (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ) (٢) فى غير نداء بحذف الياء. وأكثر ما تحذف بالإضافة فى النداء ؛ لأن النداء مستعمل كثير فى الكلام فحذف فى غير نداء. وقال إبراهيم (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) (٣) بغير ياء ، وقال فى سورة الملك (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤) و (٥) (نَذِيرِ) وذلك أنهن رءوس الآيات ، لم يكن فى الآيات قبلهن ياء ثانية فأجرين على ما قبلهن ؛ إذا كان ذلك من كلام العرب.

ويفعلون ذلك فى الياء الأصلية ؛ فيقولون : هذا قاض ورام وداع بغير ياء ، لا يثبتون الياء فى شىء من فاعل. فإذا أدخلوا فيه الألف واللام قالوا بالوجهين ؛ فأثبتوا الياء وحذفوها. وقال الله (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) (٦) فى كل القرآن بغير ياء. وقال فى الأعراف (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) (٧) وكذلك قال (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) (٨) و (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) (٩). وأحبّ ذلك إلىّ أن أثبت الياء فى الألف واللام ؛ لأن طرحها فى قاض ومفتر وما أشبهه بما أتاها من مقارنة نون (١٠) الإعراب وهى ساكنة والياء ساكنة ، فلم يستقم جمع بين ساكنين ، فحذفت الياء لسكونها. فإذا أدخلت الألف واللام لم يجز إدخال النون ، فلذلك أحببت إثبات الياء. ومن حذفها فهو يرى هذه العلّة : قال : وجدت الحرف بغير ياء قبل أن تكون فيه الألف واللام ، فكرهت إذ دخلت أن أزيد فيه ما لم يكن. وكلّ صواب.

__________________

(١) كذا فى ش. وفى ح : «الحرف».

(٢) آية ١٧ سورة الزمر.

(٣) آية ٤٠ سورة إبراهيم.

(٤) آية ١٨.

(٥) آية ١٧.

(٦) آية ٩٧ سورة الإسراء ، وفيها : ومن يهد بالواو ، آية ١٧ سورة الكهف.

(٧) آية ١٧٨.

(٨) آية ٤١ سورة ق.

(٩) آية ١٨٦ سورة البقرة.

(١٠) يريد التنوين ، وجعله نون الإعراب لأنه يدخل فى المعرب وينكب عن المبنىّ.

٢٠١

وقوله (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) وهو استفهام ومعناه أمر. ومثله قول الله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (١) استفهام وتأويله : انتهوا. وكذلك قوله (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) (٢) وهل تستطيع ربّك (٣) إنما [هو] (٤) مسألة. أو لا ترى أنك تقول للرجل : هل أنت كافّ عنا؟ معناه : اكفف ، تقول للرجل : أين أين؟ : أقم ولا تبرح. فلذلك جوزى فى الاستفهام كما جوزى فى الأمر. وفى قراءة عبد الله «هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. آمنوا» (٥) ففسّر (هل أدلكم) بالأمر. وفى قراءتنا على الخبر. فالمجازاة فى قراءتنا على قوله (هل أدلكم) والمجازاة فى قراءة عبد الله على الأمر ؛ لأنه هو التفسير.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ) (٢١)

تقرأ : ويقتلون (٦) ، وهى فى قراءة عبد الله وقاتلوا فلذلك قرأها من قرأها (يقاتلون) ، وقد قرأ بها الكسائىّ دهرا يقاتلون ثم رجع ، وأحسبه رآها فى بعض مصاحف عبد الله وقتلوا بغير الألف فتركها ورجع إلى قراءة العامّة ؛ إذ وافق الكتاب فى معنى قراءة العامّة.

وقوله : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) (٢٥)

قيلت باللام. و (فى) قد تصلح فى موضعها ؛ تقول فى الكلام : جمعوا ليوم الخميس. وكأنّ اللام لفعل مضمر فى الخميس ؛ كأنهم جمعوا لما يكون يوم الخميس.

__________________

(١) آية ٩١ سورة المائدة.

(٢) آية ١١٢ سورة المائدة.

(٣) هذه قراءة الكسائي ، بنصب «ربك» أي هل تستطيع سؤال ربك.

(٤) زيادة اقتضاها السياق ، وهى فى تفسير الطبري.

(٥) آيتا ١٠ ، ١١ سورة الصف.

(٦) أي الثانية فى الآية.

٢٠٢

وإذا قلت : جمعوا فى يوم الخميس لم تضمر فعلا. وفى قوله : (جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي للحساب والجزاء.

وقوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) (٢٦)

(اللهُمَ) كلمة تنصبها العرب. وقد قال بعض (١) النحويين : إنما نصبت إذ زيدت فيها الميمان لأنها لا تنادى بيا ؛ كما تقول : يا زيد ، ويا عبد الله ، فجعلت الميم فيها خلفا من يا. وقد أنشدنى (٢) بعضهم :

وما عليك أن تقولى كلّما

صلّيت أو سبّحت يا اللهمّ ما

اردد علينا شيخنا مسلما (٣)

ولم نجد العرب زادت مثل هذه الميم فى نواقص الأسماء إلا مخفّفة ؛ مثل الفم وابنم وهم (٤) ، ونرى أنها كانت كلمة ضمّ إليها ؛ امّ ، تريد : يا الله امّنا بخير ، فكثرت فى الكلام فاختلطت (٥). فالرفعة التي فى الهاء من همزة أمّ لما تركت (٦) انتقلت إلى ما قبلها. ونرى أن قول العرب : (هلمّ إلينا) مثلها ؛ إنما كانت (هل) فضمّ إليها أمّ فتركت على نصبها. ومن العرب من يقول إذا طرح الميم : يا الله اغفر لى ، ويا الله

__________________

(١) هو الخليل. وانظر سيبويه ١ / ٣١٠

(٢) يريد الردّ على الرأى السابق. وذلك أن الميم المشدّدة لو كانت خلفا من حرف النداء لما جمع بينهما فى هذا الرجز. ويجعل أصحاب هذا الرأى الرجز من الشاذ الذي لا يعوّل عليه.

(٣) «يا اللهم ما» زيدت (ما) بعد اللهم. وقد ذكر ذلك الرضى فى شرح الكافية فى مبحث المنادى. والشيخ هنا الأب أو الزوج. وانظر الخزانة ١ / ٣٥٨

(٤) كأنه يريد هم الضمير ، وأصلها هوم إذ هى جمع هو فحذفت الواو وزيدت الميم للجمعية ؛ وإن كان هذا الرأى يعزى إلى البصريين. وانظر شرح الرضى للكافية فى مبحث الضمائر.

(٥) أي امتزجت بما قبلها ، وهو لفظ الجلالة. وفى الطبري : «فاختلطت به».

(٦) أي الهمزة ، يريد حذفها للتخفيف بعد نقل حركتها إلى ما قبلها.

٢٠٣

اغفر لى ، فيهمزون ألفها ويحذفونها. فمن حذفها فهو على السبيل ؛ لأنها ألف ولام مثل الحارث من الأسماء. ومن همزها توهّم أنها من الحرف إذ كانت لا تسقط منه ؛ أنشدنى بعضهم :

مبارك هوّ ومن سمّاه

على اسمك اللهمّ يا الله

وقد كثرت (اللهم) فى الكلام حتى خفّفت ميمها فى بعض اللغات ؛ أنشدنى بعضهم :

كحلفة من أبى رياح

يسمعها اللهم الكبار (١)

وإنشاد العامّة : لاهه الكبار. وأنشدنى الكسائىّ :

يسمعها الله والله كبار

وقوله تبارك وتعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ). (إذا (٢) رأيت من تشاء مع من تريد من تشاء أن تنزعه منه). والعرب تكتفى بما ظهر فى أوّل الكلام ممّا ينبغى أن يظهر بعد شئت. فيقولون : خذ ما شئت ، وكن فيما شئت. ومعناه فيما شئت أن تكون فيه. فيحذف الفعل بعدها ؛ قال تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٣) وقال تبارك وتعالى (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٤) والمعنى ـ والله أعلم ـ : فى أىّ صورة شاء أن

__________________

(١) هذا من قصيدة للأعشى أوّلها :

ألم تروا إرما وعادا

أودى بها الليل والنهار

وقبل البيت :

أقسمتم حلفا جهارا

أن نحن ما عندنا عرار

وأبو رياح رجل من بنى ضبيعة قتل رجلا فسألوه أن يحلف أو يدفع الدية فحلف ثم قتل فضربته العرب مثلا لما لا يغنى من الحلف. وانظر الخزانة ١ / ٣٤٥ ، والصبح المنير ١٩٣. وقوله : والله كبار يقرأ لفظ الجلالة باختلاس فتحة اللام وسكون الهاء ، وكبار مبالغة الكبير.

(٢) كذا فى ش ؛ ج. ولم يستقم وجه المعنى فيه. وكأن الأصل : أن تؤتيه إياه. (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أن تنزعه منه.

(٣) آية ٤٠ سورة فصلت.

(٤) آية ٨ سورة الانفطار.

٢٠٤

يركّبك ركّبك. ومنه قوله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ) (١) وكذلك الجزاء كله ؛ إن شئت فقم ، وإن شئت فلا تقم ؛ المعنى : إن شئت أن تقوم فقم ، وإن شئت ألّا تقوم فلا تقم. وقال الله (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٢) فهذا بيّن أنّ المشيئة واقعة على الإيمان والكفر ، وهما متروكان. ولذلك قالت العرب : (أيّها شئت فلك) فرفعوا أيّا لأنهم أرادوا أيّها شئت أن يكون لك فهو لك. وقالوا (بأيّهم شئت فمرّ) وهم يريدون : بأيّهم شئت أن تمرّ فمرّ.

وقوله : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ...) (٢٧)

جاء التفسير أنه نقصان الليل يولج فى النهار ، وكذلك النهار يولج (٣) فى الليل ، حتى يتناهى طول هذا وقصر هذا.

وقوله (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ذكر عن ابن عباس أنها البيضة : ميتة يخرج منها الفرخ حيّا ، والنطفة : ميتة يخرج منها الولد.

وقوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ ...) (٢٨)

نهى ، ويجزم فى ذلك. ولو رفع على الخبر (٤) كما قرأ من قرأ : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) (٥).

وقوله (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) هى أكثر كلام العرب ، وقرأه القرّاء. وذكر عن الحسن ومجاهد أنهما قرءا «تقيّة» وكلّ صواب.

__________________

(١) آية ٣٩ سورة الكهف.

(٢) آية ٢٩ سورة الكهف.

(٣) فى ج : «فيه» والوجه ما أثبت.

(٤) والمعنى : لا ينبغى أن يكون ذلك. وجواب لو محذوف ، أي لجاز.

(٥) آية ٢٣٣ سورة البقرة.

٢٠٥

وقوله : (يَعْلَمْهُ اللهُ ...) (٢٩)

جزم على الجزاء. (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) رفع على الاستئناف ؛ كما قال الله فى سورة براءة (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ) (١) فجزم الأفاعيل ، ثم قال (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) رفعا على الائتناف (٢). وكذلك قوله (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) (٣) ثم قال (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) ويمح فى نيّة رفع مستأنفة وإن لم تكن فيها واو ؛ حذفت منها الواو كما حذفت فى قوله (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (٤). وإذا عطفت على جواب الجزاء جاز الرفع والنصب والجزم. وأمّا قوله (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ) (٥) وتقرأ جزما على العطف ومسكّنة تشبه الجزم وهى فى نية رفع تدغم الراء من يغفر عند اللام ، والباء من يعذب عند الميم ؛ كما يقال (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) (٦) وكما قرأ الحسن (شَهْرُ رَمَضانَ) (٧).

وقوله : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ...) (٣٠)

ما فى مذهب الذي. ولا يكون جزاء لأن (تجد) قد وقعت على ما.

وقوله (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) فإنك تردّه أيضا على (ما) فتجعل (عملت) صلة لها فى مذهب رفع لقوله (تودّ لو أنّ بينها) ولو استأنفتها فلم توقع عليها (تجد) جاز الجزاء ؛ تجعل (عملت) مجزومة. (٨) ويقول فى تودّ : تودّ بالنصب وتودّ. ولو كان التضعيف

__________________

(١) آية ١٤ سورة التوبة.

(٢) يقال : ائتنف الشيء واستأنفه ، ومعناهما واحد.

(٣) آية ٢٤ سورة الشورى.

(٤) آية ١٨ سورة العلق.

(٥) آية ٢٨٤ سورة البقرة.

(٦) آية ١ سورة الماعون.

(٧) آية ١٨٥ سورة البقرة.

(٨) أي على أن ما جازمة يكون تودّ بالفتح ، حرك بذلك للتخلص من الساكنين ، وأوثر الفتح للخفة ، ويجوز الكسر على أصل التخلص. وهذا على لغة الإدغام ، ويجوز الفك فيقال : تودد ، كما هو معروف.

٢٠٦

ظاهرا لجاز تودد. وهى فى قراءة عبد الله وما عملت من سوء ودّت فهذا دليل (١) على الجزم ، ولم أسمع أحدا من القراء قرأها جزما.

وقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ...) (٣٣)

يقال اصطفى دينهم على جميع الأديان ؛ لأنهم كانوا مسلمين ، ومثله مما أضمر فيه شىء فألقى قوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) (٢).

ثم قال (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) فنصب الذرّية على جهتين ؛ إحداهما أن تجعل الذرّية قطعا من الأسماء قبلها لأنهن معرفة. وإن شئت نصبت على التكرير ، اصطفى ذرّية بعضها من بعض ، ولو استأنفت فرفعت كان صوابا.

وقوله : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ...) (٣٥)

لبيت المقدس : لأ أشغله بغيره.

وقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ...) (٣٦)

قد يكون من إخبار مريم فيكون (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) يسكن العين ، وقرأ بها (٣) بعض القراء ، ويكون من قول الله تبارك وتعالى ، فتجزم التاء ؛ لأنه خبر عن أنثى غائبة.

__________________

(١) وجه الدلالة أن جعل ما شرطية يصرف الماضي عن المضىّ الذي لا يستقيم هنا.

(٢) آية ٨٢ سورة يوسف.

(٣) هى قراءة أبى بكر وابن عامر كما فى القرطبي.

٢٠٧

وقوله : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ...) (٣٧)

من شدّد جعل زكرياء فى موضع نصب ؛ كقولك : ضمّنها زكرياء ، ومن خفّف الفاء جعل زكرياء فى موضع رفع. وفى زكريا ثلاث لغات : القصر فى ألفه ، فلا يستبين فيها رفع ولا نصب ولا خفض ، وتمدّ ألفه فتنصب وترفع بلا نون ؛ لأنه لا يجرى (١) ، وكثير من كلام العرب أن تحذف المدّة والياء (٢) الساكنة فيقال : هذا زكرىّ قد حاء فيجرى ؛ لأنه يشبه المنسوب من أسماء العرب.

وقوله : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ...) (٣٨)

الذرّية جمع ، وقد تكون فى معنى واحد. فهذا من ذلك ؛ لأنه قد قال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) (٣) ولم يقل أولياء. وإنما قيل «طيبة» ولم يقل طيبا لأن الطيبة أخرجت على لفظ الذرّية فأنث لتأنيثها ، ولو قيل ذرّية طيبا كان صوابا.

ومثله من كلام العرب قول الشاعر :

أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ذاك الكمال

فقال (أخرى) لتأنيث اسم الخليفة ، والوجه أن تقول : ولده آخر. وقال آخر.

فما تزدرى من حيّة جبليّة

سكات إذا ما عضّ ليس بأدردا (٤)

__________________

(١) الإجراء فى اصطلاح الكوفيين الصرف.

(٢) لم تحذف الياء الساكنة فى الصورة التي أثبتها وفيها ياء مشدّدة تشبه ياء النسب. وقد اشتبه عليه الأمر بلغة رابعة ، وهى تخفيف الياء فيكون منقوصا ، ويقال : هذا زكر بتنوين الراء مكسورة. وانظر اللسان.

(٣) آية ٥ سورة مريم.

(٤) «جبلية» يقال للحية ابنة الجبل ، فلذلك قال : جبلية. و «سكات» : لا يشعر به الملسوع حتى يلسعه. وأدرد : صفة من الدرد ، وهو ذهاب الأسنان ، ومؤنثه درداء. وانظر اللسان فى (سكت).

٢٠٨

فقال : جبليّة ، فأنّث لتأنيث اسم الحيّة ، ثم ذكّر إذ قال : إذا ما عضّ ولم يقل : عضّت. فذهب إلى تذكير المعنى. وقال الآخر (١) :

تجوب بنا الفلاة إلى سعيد

إذا ما الشّاة فى الأرطاة قالا

ولا يجوز هذا النحو إلا فى الاسم الذي لا يقع عليه فلان ؛ مثل (٢) الدابّة والذرّية والخليفة ؛ فإذا سميت رجلا بشىء من ذلك فكان فى معنى فلان لم يجز تأنيث فعله ولا نعته. فتقول فى ذلك : حدّثنا المغيرة الضّبىّ ، ولا يجوز الضّبيّة. ولا يجوز أن تقول : حدّثتنا ؛ لأنه فى معنى فلان وليس فى معنى فلانة. وأمّا قوله (٣) :

وعنترة الفلحاء جاء ملّأما

كأنّه فند من عماية أسود

فإنه قال : الفلحاء (٤) فنعته بشفته. قال : وسمعت أبا ثروان يقول لرجل من ضبّة وكان عظيم العينين : هذا عينان قد جاء ، جعله كالنعت له. وقال بعض الأعراب لرجل أقصم (٥) الثنيّة : قد جاءتكم القصماء ، ذهب إلى سنّه.

__________________

(١) هو الفرزدق. والشاة هنا الثور الوحشىّ. والأرطاة شجرة عظيمة. وقال من القيلولة. وانظر اللسان (شوه).

(٢) فى ج : «من».

(٣) هو شريح بن بجير الثعلبىّ ، كان وقع بينه وبين بنى فزارة وعبس حرب فأعانه قومه. وقبل البيت :

ولو أن قومى قوم سوء أذلة

لأخرجنى عوف بن عمرو وعصيد

وعوف وعصيد من فزارة ، وعنترة من عبس. و «ملأما» : لابسا اللأمة وهى الدرع. والفند : القطعة العظيمة الشخص من الجبل. وعماية : جبل عظيم بنجد. وقوله (كأنه) يقرأ باختلاس ضم الهاء.

وفى ج ، ش : «كأنك» فإن صح هذا كان من باب الالتفات من الغيبة إلى الحطاب. وانظر اللسان (فلح).

(٤) هو وصف المؤنث من الفلح ، وهو الشق فى الشفة السفلى ، فأما الشق فى الشفة العليا فهو العلم.

(٥) هو وصف من القصم ، وهو تكسر الثنية من النصف.

٢٠٩

وقوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ...) (٣٩)

يقرأ بالتذكير والتأنيث (١). وكذلك فعل الملائكة وما أشبههم من الجمع : يؤنّث ويذكّر. وقرأت القراء يعرج الملائكة (٢) ، و (تَعْرُجُ) و (تَتَوَفَّاهُمُ) (٣) ـ و ـ يتوفاهم الملائكة» وكلّ صواب. فمن ذكّر ذهب إلى معنى التذكير ، ومن أنّث فلتأنيث الاسم ، وأن الجماعة من الرجال والنساء وغيرهم يقع عليه (٤) التأنيث. والملائكة فى هذا الموضع جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده. وذلك جائز فى العربيّة : أن يخبر عن الواحد بمذهب الجمع ؛ كما تقول فى الكلام : خرج فلان فى السفن ، وإنما خرج فى سفينة واحدة ، وخرج على البغال ، وإنما ركب بغلا واحدا. وتقول : ممّن سمعت هذا الخبر؟ فيقول : من الناس ، وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) (٥) ، (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) (٦) ومعناهما والله أعلم واحد : وذلك جائز فيما لم يقصد فيه قصد واحد بعينه.

وقوله (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ) تقرأ بالكسر. والنصب فيها أجود فى العربيّة. فمن فتح (أنّ) أوقع النداء عليها ؛ كأنه قال : نادوه بذلك أن الله يبشرك. ومن كسر قال : النداء (٧) فى مذهب القول ، والقول حكاية. فاكسر إنّ بمعنى الحكاية. وفى قراءة عبد الله فناداه الملائكة وهو قائم يصلّى فى المحراب يا زكريا إن الله يبشرك فإذا أوقع النداء على منادى ظاهر مثل (يا زَكَرِيَّا) وأشباهه كسرت (إن) لأن الحكاية تخلص ، إذا كان ما فيه (يا) ينادى بها ، لا يخلص إليها رفع ولا نصب ؛ ألا ترى أنك تقول : يا زيد إنك قائم ، ولا يجوز يا زيد أنك قائم. وإذا قلت :

__________________

(١) قرأ العامة : «فنادته الملائكة» ، بالتأنيث ، وقرأ حمزة والكسائي : «فناداه الملائكة».

(٢) آية ٤ سورة المعارج.

(٣) آية ٢٨ سورة النحل.

(٤) الضمير يعود على الجماعة ، بتأويلها بالجمع. وهذا إن لم يكن الأصل : «عليها».

(٥) آية ٣٣ سورة الروم.

(٦) آية ٨ سورة الزمر.

(٧) فى ج ، ش : «فى النداء» والوجه ما أثبت.

٢١٠

ناديت زيدا أنه قائم فنصبت (زيدا) بالنداء جاز أن توقع النداء على (أنّ) كما أوقعته على زيد. ولم يجز أن تجعل إنّ مفتوحة إذا قلت يا زيد ؛ لأن زيدا لم يقع عليه نصب معروف. وقال فى طه : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) (١) فكسرت (إنى). ولو فتحت كان صوابا من الوجهين ؛ أحدهما أن تجعل النداء واقعا على (إنّ) خاصّة لا إضمار (٢) فيها ، فتكون (أنّ) فى موضع رفع. وإن شئت جعلت فى (نودى) اسم موسى مضمرا ، وكانت (أنّ) فى موضع نصب تريد : بأنى أنا ربك. فإذا خلعت الباء نصبته. فلو قيل فى الكلام : نودى أن يا زيد فجعلت (أن يا زيد) [هو المرفوع بالنداء] (٣) كان صوابا ؛ كما قال الله تبارك وتعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) (٤).

فهذا ما فى النداء إذا أوقعت (إن) قيل يا زيد ، كأنك قلت : نودى بهذا النداء إذا أوقعته على اسم بالفعل فتحت أن وكسرتها. وإذا ضممت إلى النداء الذي قد أصابه الفعل اسما منادى فلك أن تحدث (أن) معه فتقول ناديت أن يا زيد ، فلك أن تحذفها من (يا زيد) فتجعلها فى الفعل بعده ثم تنصبها. ويجوز الكسر على الحكاية.

ومما يقوّى مذهب من أجاز «إن الله يبشرك» بالكسر على الحكاية قوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) (٥) ولم يقل : أن ليقض علينا ربك. فهذا مذهب الحكاية. وقال فى موضع آخر (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا) (٦) ولم يقل : أفيضوا ، وهذا أمر وذلك أمر ؛ لتعلم أن الوجهين صواب.

__________________

(١) آيتا ١١ ، ١٢

(٢) أي أن كلمة «نودى» ليس فيها مضمر مرفوع هو نائب الفاعل ، وإنما المرفوع بها هو أنى ....

(٣) زيادة يقتضيها السياق.

(٤) آيتا ١٠٤ ـ ١٠٥ سورة والصافات.

(٥) آية ٧٧ سورة الزخرف.

(٦) آية ٥٠ سورة الأعراف.

٢١١

و «يبشرك» قرأها [بالتخفيف] (١) أصحاب عبد الله فى خمسة مواضع من القرآن : فى آل عمران حرفان (٢) ، وفى بنى (٣) إسرائيل ، وفى الكهف (٤) ، وفى مريم (٥). والتخفيف والتشديد صواب. وكأنّ المشدّد على بشارات البشراء ، وكأن التخفيف من وجهة الإفراح والسرور. وهذا شىء كان المشيخة يقولونه. وأنشدنى بعض العرب :

بشرت عيالى إذ رأيت صحيفة

أتتك من الحجّاج يتلى كتابها

وقد قال بعضهم : أبشرت ، ولعلّها لغة حجازيّة. وسمعت سفيان بن عيينة يذكرها يبشر (٦). وبشرت لغة سمعتها من عكل ، ورواها الكسائىّ عن غيرهم. وقال أبو ثروان :

بشرنى بوجه حسن. وأنشدنى الكسائىّ :

وإذا رأيت الباهشين إلى العلى

غبرا أكفّهم بقاع ممحل (٧)

فأعنهم وابشر بما بشروا به

وإذا هم نزلوا بضنك فانزل

وسائر القرآن يشدّد فى قول أصحاب عبد الله وغيرهم.

وقوله : (يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً) نصبت (مصدّقا) لأنه نكرة ، ويحيى معرفة.

وقوله : (بِكَلِمَةٍ) يعنى مصدّقا بعيسى.

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق. يريد بالتخفيف قراءة الفعل (يبشر) على وزن ينصر.

(٢) هما فى آيتي ٣٩ ، ٤٥.

(٣) فى آية ٩.

(٤) فى آية ٢.

(٥) فى آية ٩٧.

(٦) فى اللسان : «فليبشر».

(٧) هذا الشعر من قصيدة مفضلية لعبد قيس بن خفاف البرجمىّ ، يوصى فيها ابنه جبيلا. والباهش هو الفرح ، كما قال الضبىّ ، أو هو المتناول. وقوله : «وابشر بما بشروا به» فى رواية المفضليات : «وأيسر بما يسروا به» ، أي ادخل معهم فى الميسر ولا تكن بر ما تنكب عنهم ؛ فإن الدخول فى الميسر من شيمة الكرماء عندهم ؛ إذ كان ما يخرج منه يصرف لذوى الحاجات. وانظر شرح المفضليات لابن الأنبارى ص ٧٥٣.

٢١٢

وقوله : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا) مردودات على قوله : مصدّقا. ويقال : إن الحصور : الذي لا يأتى النساء.

وقوله : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) إذا أردت الاستقبال المحض نصبت (تكلّم) وجعلت (لا) على غير معنى ليس. وإذا أردت : آيتك أنك على هذه الحال ثلاثة أيام رفعت ، فقلت : أن لا تكلّم الناس ؛ ألا ترى أنه يحسن أن تقول : آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا. والرمز يكون بالشفتين والحاجبين والعينين. وأكثره فى الشفتين. كلّ ذلك رمز.

وقوله : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ ...) (٤٥) مما ذكرت (١) لك فى قوله (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) قيل فيها (اسمه) بالتذكير للمعنى ، ولو أنّث كما قال (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) كان صوابا.

وقوله : (وجيها) قطعا (٢) من عيسى ، ولو خفضت على أن تكون نعتا للكلمة لأنها هى عيسى كان صوابا.

وقوله : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ...) (٤٦)

والكهل (٣) مردود على الوجيه. (ويكلّم الناس) ولو كان فى موضع (ويكلّم) ومكلما كان نصبا ، والعرب تجعل يفعل وفاعل إذا كانا فى عطوف مجتمعين فى الكلام ، قال الشاعر :

بتّ أعشّيها بعضب باتر

يقصد فى أسوقها وجائر (٤)

__________________

(١) انظر ص ٢٠٨ من هذا الجزء.

(٢) أي نصب على القطع. يريد أنه حال.

(٣) يريد أن «كهلا» معطوف على قوله : «وجيها» فى الآية السابقة.

(٤) الضمير فى «أعشيها» للإبل ، يريد أنه ينحرها للضيفان. ويروى : بات يعشيها : يقصد ...

وانظر الخزانة ٢ / ٣٤٥

٢١٣

وقال آخر :

من الذّريحيّات جعدا آركا

يقصر يمشى ويطول باركا (١)

كأنه قال : يقصر ماشيا فيطول باركا. فكذلك (فعل) إذا كانت فى موضع صلة لنكرة أتبعها (فاعل) وأتبعته. تقول فى الكلام : مررت بفتى ابن عشرين أو قد قارب ذلك ، ومررت بغلام قد احتلم أو محتلم ؛ قال الشاعر :

يا ليتنى علقت غير خارج

قبل الصباح ذات خلق بارج

أمّ الصبىّ قد حبا أو دارج (٢)

وقوله : (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ ...) (٤٩) يذهب إلى الطين (٣) ، وفى المائدة (فَتَنْفُخُ فِيها) (٤) ذهب إلى الهيئة ، فأنث لتأنيثها ، وفى إحدى القراءتين (فأنفخها) وفى قراءة عبد الله (فأنفخها) بغير فى ، وهو مما تقوله (٥) العرب : ربّ ليلة قد بتّ فيها وبتّها.

__________________

(١) قبله :

أرسلت فيها قطما لكالكا

يقول : أرسل فى إبله فحلا قطما ، وهو الصئول الهائج. والكالك : بضم اللام : الصلب الضخم. والذريحيات : الحمر ، يقال : أحمر ذريحىّ : شديد الحمرة. وآرك : يرعى الأراك أو يلزمه. وقوله : يقصر يمشى ... أي يقصر إذا مشى لانخفاض بطنه وتقاربه من الأرض ، فإذا برك رأيته طويلا لارتفاع سنامه ، أي أنه عظيم البطن ، فإذا قام قصر وإذا برك طال. وانظر اللسان (لكك).

(٢) «خارج» كذا بالخاء المعجمة هنا ، وفى اللسان (درج). والأقرب أنه (حارج) بالحاء المهملة أي آثم. و «بارج» أي ظاهر فى حسن. وقوله : «أم الصبى» المعروف فى الرواية «أم صبى». وعلقت : هويت وأحببت. ويقال : درج الصبى : مشى مشيا ضعيفا.

(٣) فى الطبري : «الطير» وكل صحيح.

(٤) آية ١١٠

(٥) من ذلك قول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير :

ومن ليلة قد بتها غير آثم

بساجية الحجلين ريانة القلب

الحجل : الخلخال ، والقلب : السوار. وانظر السمط ٦٩٢

٢١٤

ويقال فى الفعل أيضا :

ولقد أبيت على الطوى وأظلّه (١)

تلقى الصفات وإن اختلفت فى الأسماء والأفاعيل. وقال الشاعر :

إذا قالت حذام فأنصتوها

فإن القول ما قالت حذام (٢)

وقال الله تبارك وتعالى وهو أصدق قيلا : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣) يريد : كالوا لهم ، وقال الشاعر :

ما شقّ جيب ولا قامتك نائحة

ولا بكتك جياد عند أسلاب (٤)

وقوله : (وَما تَدَّخِرُونَ) هى تفتعلون من ذخرت ، وتقرأ (٥) (وما تدخرون) خفيفة على تفعلون ، وبعض العرب يقول : تدّخرون فيجعل الدال والذال يعتقبان فى تفتعلون من ذخرت ، وظلمت (٦) تقول : مظّلم ومطّلم ، ومذّكر ومدّكر ، وسمعت بعض بنى أسد يقول : قد اتّغر (٧) ، وهذه اللغة كثيرة فيهم خاصّة. وغيرهم : قد اثّغر.

فأمّا الذين يقولون : يدّخر ويدّكر ومدّكر فإنهم وجدوا التاء إذا سكنت واستقبلتها ذال دخلت التاء فى الذال فصارت ذالا ، فكرهوا أن تصير التاء ذالا فلا يعرف الافتعال من ذلك ، فنظروا إلى حرف يكون (٨) عدلا بينهما فى المقاربة ، فجعلوه مكان التاء ومكان الذال.

__________________

(١) هذا شطر بيت لعنترة. وعجزه :

حتى أنال به كريم المأكل

(٢) فقوله : أنصتوها أي أنصتوا إليها. والمشهور فى الرواية : فصدّقوها.

(٣) آية ٣ سورة المطففين.

(٤) فقوله : قامتك أي قامت عليك.

(٥) قرأ بهذا الزهري ومجاهد وأيوب السختياني.

(٦) كذا ، والتعاقب فيهما ليس بين الدال والذال ، كما هو واضح بل بين الظاء والطاء.

(٧) أي سقطت أسنانه الرواضع.

(٨) وهو الدال ، ففيها شبه بالتاء والذال.

٢١٥

وأمّا الذين غلّبوا الذال فأمضوا القياس ، ولم يلتفتوا إلى أنه حرف واحد ، فأدغموا تاء الافتعال عند الذال والتاء والطاء.

ولا تنكرنّ اختيارهم الحرف بين الحرفين ؛ فقد قالوا : ازدجر ومعناها : ازتجر ، فجعلوا الدال عدلا بين التاء والزاى. ولقد قال بعضهم : مزجّر ، فغلّب الزاى كما غلّب التاء. وسمعت بعض بنى عقيل يقول : عليك بأبوال الظباء فاصّعطها فإنها شفاء للطحل (١) ، فغلب الصاد على التاء ، وتاء الافتعال تصير مع الصاد والضاد طاء ، كذلك الفصيح من الكلام كما قال الله عزوجل : (فمن اضطرّ فى مخمصة) (٢) ومعناها افتعل من الضرر. وقال الله تبارك وتعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) (٣) فجعلوا التاء طاء فى الافتعال.

وقوله : (وَمُصَدِّقاً) (٥٠)

نصبت (مصدّقا) على فعل (جئت) ، كأنه قال : وجئتكم مصدّقا لما بين يدىّ من التوراة ، وليس نصبه بتابع لقوله (وجيها) لأنه لو كان كذلك لكان (ومصدّقا لما بين يديه).

وقوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) الواو فيها بمنزلة قوله (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٤).

وقوله : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) (٥٢)

يقول : وجد عيسى. والإحساس : الوجود ، تقول فى الكلام : هل أحسست أحدا.

وكذلك قوله (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) (٥).

__________________

(١) هو عظم الطحال. وهو مرض. وقوله : اصعطها : هو افتعال من الصعوط وهو لغة فى السعوط بإبدال السين صادا : وهو ما يستنشق فى الأنف.

(٢) آية ٣ سورة المائدة.

(٣) آية ١٣٢ سورة طه.

(٤) آية ٧٥ سورة الأنعام.

(٥) آية ٩٨ سورة مريم.

٢١٦

فإذا قلت : حسست ، بغير ألف فهى فى معنى الإفناء والقتل. من ذلك قول الله عزوجل (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) (١) والحسّ أيضا : العطف والرقّة ؛ كقول الكميت :

هل من بكى الدار راج أن تحسّ له

أو يبكى الدار ماء العبرة الخضل (٢)

وسمعت بعض (٣) العرب يقول : ما رأيت عقيليّا إلا حسست له ، وحسست لغة.

والعرب تقول : من أين حسيت هذا الخبر؟ يريدون : من أين تخبّرته؟ [وربما (٤) قالوا حسيت بالخبر وأحسيت به ، يبدلون من السين ياء] كقول أبى زبيد.

حسين به فهنّ إليه شوس (٥)

وقد تقول العرب ما أحست بهم أحدا ، فيحذفون (٦) السين الأولى ، وكذلك فى وددت ، ومسست وهممت ، قال : أنشدنى بعضهم :

هل ينفعنك اليوم إن همت بهمّ

كثرة ما تأتى وتعقاد الرتم (٧)

__________________

(١) آية ١٥٢ سورة آل عمران.

(٢) جاء فى اللسان (حسس).

(٣) هو أبو الجراح ، كما فى اللسان.

(٤) زيادة من اللسان.

(٥) هذا عجز بيت صدره :

خلا أن العتاق من المطايا

وهو من أبيات يصف فيها الأسد. وصف ركبا يسيرون والأسد يتبعهم فلم يشعر به إلا المطايا. والشوس واحده أشوس وشوسا ، من الشوس وهو النظر بمؤخر العين تكبرا أو تغيظا.

(٦) أي بعد إلقاء حركتها على الحاء.

(٧) ترى أن الفرّاء روى (همت) بسكون الميم وتاء المخاطبة. وأصله : هممت. والمعروف فى الرواية (همت) بتشديد الميم مفتوحة وتاء التأنيث الساكنة ، والحديث على هذه الرواية عن الزوجة ، وكان الرجل إذا أراد سفرا عقد غصنين ، فإذا عاد من سفره وألفى الغصنين معقودين وثق بامرأته وإلا اعتقد أنها خانته فى غيبته. والرتم جمع رتمة ، وهو خيط يعقد على الإصبع والخاتم للتذكر أو علامة على شىء ، واستعمله فى عقد الغصنين إذ كان علامة على أمر نواه. وانظر اللسان فى رتم. وفيه «توصى» بدل «تأتى».

٢١٧

وقوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) المفسّرون يقولون : من أنصارى مع الله ، وهو وجه حسن. وإنما يجوز أن تجعل (إلى) موضع (مع) إذا ضممت الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه ؛ كقول العرب : إن الذود إلى الذود إبل ؛ أي إذا ضممت الذود إلى الذود صارت إبلا. فإذا كان الشيء مع الشيء لم تصلح مكان مع إلى ، ألا ترى أنك تقول : قدم فلان ومعه مال كثير ، ولا تقول فى هذا الموضع : قدم فلان وإليه مال كثير. وكذلك تقول : قدم فلان إلى أهله ، ولا تقول : مع أهله ، ومنه قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (١) معناه : ولا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم.

والحواريّون كانوا خاصّة عيسى. وكذلك خاصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقع عليهم الحواريّون. وكان الزبير يقال له حوارىّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وربما جاء فى الحديث لأبى بكر وعمر وأشباههما حوارىّ. وجاء فى التفسير أنهم سمّوا حواريين لبياض ثيابهم (٢).

ومعنى قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (٥٤)

نزل هذا فى شأن عيسى إذ أرادوا قتله ، فدخل بيتا فيه كوّة (٣) وقد أيّده الله تبارك وتعالى بجبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرفعه إلى السماء من الكوّة ، ودخل عليه رجل منهم ليقتله ، فألقى الله على ذلك الرجل شبه عيسى بن مريم. فلمّا دخل البيت فلم يجد فيه عيسى خرج إليهم وهو يقول : ما فى البيت أحد ، فقتلوه وهم يرون أنه عيسى. فذلك قوله (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) والمكر من الله استدراج ، لا على مكر المخلوقين.

__________________

(١) آية ٢ سورة النساء.

(٢) من التحوير أي التبييض. ويقال لمن يغسل الثياب : يحوّرها إذ كان يزيل درنها ويعيدها إلى البياض.

(٣) بضم الكاف وفتحها ، وهى الثقب فى الحائط.

٢١٨

وقوله : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) (٥٥)

يقال : إن هذا مقدّم ومؤخّر. والمعنى فيه : إنى رافعك إلىّ ومطهّرك من الذين كفروا ومتوفّيك بعد إنزالى إيّاك فى الدنيا. فهذا وجه.

وقد يكون الكلام غير مقدّم ولا مؤخّر ؛ فيكون معنى متوفّيك : قابضك ؛ كما تقول : توفيت مالى من فلان : قبضته من فلان. فيكون التوفّى على أخذه ورفعه إليه من غير موت.

وقوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) (٥٩)

هذا لقول (١) النصارى إنه ابنه ؛ إذ لم يكن أب ، فأنزل الله تبارك وتعالى علوّا كبيرا (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) لا أب له ولا أم ، فهو أعجب أمرا من عيسى ، ثم قال : (خَلَقَهُ) لا أن قوله (خَلَقَهُ) صلة لآدم ؛ إنما تكون الصلات للنكرات ؛ كقولك : رجل خلقه من تراب ، وإنما فسّر أمر آدم حين ضرب به المثل فقال (خَلَقَهُ) على الانقطاع والتفسير ، ومثله قوله (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ) (٢) ثم قال (يَحْمِلُ أَسْفاراً) والأسفار : كتب العلم يحملها ولا يدرى ما فيها. وإن شئت جعلت (يَحْمِلُ) صلة للحمار ، كأنك قلت : كمثل حمار يحمل أسفارا ؛ لأن ما فيه الألف واللام قد يوصل فيقال (٣) : لا أمر إلا بالرجل يقول ذلك ، كقولك بالذي يقول ذلك. ولا يجوز فى زيد ولا عمرو أن يوصل كما يوصل الحرف فيه الألف واللام.

__________________

(١) أي ردّ لقولهم.

(٢) آية ٥ سورة الجمعة.

(٣) هذا على رأى الكوفيين. والبصريون يجعلون الجملة فى مثل هذا إذا أريد الجنس صفة ، لا صلة.

٢١٩

وقوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) (٦٠)

رفعته بإضمار (هو) ومثله فى البقرة (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) (١) أي هو الحق ، أو ذلك الحق فلا تمتر.

وقوله : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) (٦٤)

وهى فى قراءة عبد الله إلى كلمة عدل بيننا وبينكم وقد يقال فى معنى عدل سوى وسوى ، قال الله تبارك وتعالى فى سورة طه (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) (٢) وسوى ؛ يراد به عدل ونصف بيننا وبينك.

ثم قال (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) فأن فى موضع (٣) خفض على معنى : تعالوا إلى ألّا نعبد إلا الله. ولو أنك رفعت (ما نعبد) (٤) مع العطوف عليها على نية تعالوا نتعاقد لا (٥) نعبد إلا الله ؛ لأن معنى الكلمة القول ، كأنك حكيت تعالوا نقول لا نعبد إلا الله. ولو جزمت العطوف لصلح على التوهّم ؛ لأن الكلام مجزوم لو لم تكن فيه أن ؛ كما تقول : تعالوا لا نقل إلا خيرا.

ومثله مما يرد على التأويل (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَ) (٦) فصيّر (ولا تكونن) نهيا فى موضع جزم ، والأول منصوب ، ومثله (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (٧) فردّ أن على لام كى لأن (أن) تصلح فى موقع

__________________

(١) آية ١٤٧.

(٢) آية ٥٨.

(٣) أي على أن المصدر بدل من «كلمة».

(٤) يريد (لا نعبد). وإنما وضع فى التفسير (ما) موضع (لا) الواردة فى التلاوة ليحقق رفع الفعل ، فإنه لا ينتصب بعد ما.

(٥) فى الأصلين : «ألا» والوجه ما أثبت.

(٦) آية ١٤ سورة الأنعام.

(٧) آيتا ٧١ ـ ٧٢ سورة الأنعام.

٢٢٠