معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

لو ظهرت إنّ فى هذا الموضع لكان الوجه فتحها. وفى القياس أن تكسر ؛ لأن رفع الشجنين دليل على إرادة القول ، ويلزم من فتح أنّ لو ظهرت أن تقول : لى شجنين (١) شجنا بنجد.

فإذا رأيت القول قد وقع على شىء فى المعنى كانت أنّ مفتوحة. من ذلك أن تقول : قلت لك ما قلت أنك ظالم ؛ لأنّ ما فى موضع نصب. وكذلك قلت : زيد صالح أنه صالح ؛ لأن قولك (قلت زيد قائم) فى موضع نصب. فلو أردت أن تكون أنّ مردودة على الكلمة التي قبلها كسرت فقلت : قلت ما قلت : إن أباك قائم ، (وهى الكلمة التي قبلها) (٢) وإذا فتحت فهى سواها. قول الله تبارك وتعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا) (٣) وإنا ، قد قرئ بهما. فمن فتح نوى أن يجعل أنّ فى موضع خفض ، ويجعلها تفسيرا للطعام وسببه ؛ كأنه قال : إلى صبّنا الماء وإنباتنا ما أنبتنا. ومن كسر نوى الانقطاع (٤) من النظر عن إنّا ؛ كأنه قال : فلينظر الإنسان إلى طعامه ، ثم أخبر بالاستئناف.

وقوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ...) (٢٧٣)

ولا غير إلحاف. ومثله قولك فى الكلام : قلّما رأيت مثل هذا الرجل ؛ ولعلّك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه.

__________________

(١) ونصبه بقوله : «سأبدى».

(٢) يريد أن إن وجملتها على هذا هى الكلمة التي قبلها ، وهى (ما قلت). فإن فتحت ، فالمقول شىء آخر محذوف ، وأنّ فى موقع الجر أي قلت كذا لأن أباك قائم. هذا وفى الأصل : «والكلمة هى التي قبلها» ويبدو أنه مغير عما أثبتنا.

(٣) آية ٢٤ سورة عبس.

(٤) فى الأصل : «بالانقطاع» والوجه ما أثبت.

١٨١

وقوله : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا ...) (٢٧٥)

أي فى الدنيا (لا يَقُومُونَ) فى الآخرة (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) والمسّ : الجنون ، يقال رجل ممسوس.

وقوله : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ...) (٢٧٨)

يقول القائل : ما هذا الربا الذي له بقيّة ، فإن البقيّة لا تكون إلّا من شىء قد مضى؟ وذلك (١) أن ثقيفا كانت تربى على قوم من (٢) قريش ، فصولحوا على أن يكون ما لهم على قريش من الربا لا يحطّ ، وما على ثقيف من الربا موضوع عنهم. فلمّا حلّ الأجل على قريش ، وطلب منهم الحقّ نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فهذه تفسير البقيّة. وأمروا بأخذ رءوس الأموال فلم يجدوها متيسّرة ، فأبوا أن يحطّوا الربا ويؤخّروا رءوس الأموال ، فأنزل الله تبارك وتعالى :

[وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون].

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) من قريش (فَنَظِرَةٌ) يا ثقيف (إلى ميسرة) وكانوا محتاجين ، فقال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) برءوس الأموال (خَيْرٌ لَكُمْ).

__________________

(١) هذا أخذ فى الجواب.

(٢) هم بنو المغيرة من بنى مخزوم ، كانت عليهم ديون لبنى عمرو بن عمير من ثقيف.

١٨٢

وقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ...) (٢٨١)

حدّثنا محمد بن الجهم عن الفرّاء قال : حدّثنى أبو بكر (١) بن عيّاش عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس قال : آخر آية نزل بها جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) هذه ، ثم قال : ضعها فى (٢) رأس الثمانين والمائتين من البقرة.

وقوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ...) (٢٨٢)

هذا الأمر ليس بفريضة ، إنما هو أدب ورحمة من الله تبارك وتعالى. فإن كتب فحسن ، وإن لم يكتب فلا بأس. وهو مثل قوله (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (٣) أي فقد أبيح لكم الصيد. وكذلك قوله (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) (٤) ليس الانتشار والابتغاء بفريضة بعد الجمعة ، إنما هو إذن.

وقوله (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) أمر الكاتب ألّا يأبى لقلّة الكتّاب كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله (فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) فأمر الذي عليه الدين بأن يملّ لأنه المشهود عليه.

ثم قال (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) يعنى جاهلا (أَوْ ضَعِيفاً) صغيرا أو امرأة (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) يكون عييّا بالإملاء (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) يعنى صاحب الدين. فإن شئت جعلت الهاء للذى ولى الدين ، وإن شئت جعلتها للمطلوب. كلّ ذلك جائز.

__________________

(١) هو أحد الأعلام الثقات. مات سنة ١٩٣

(٢) رأى الآية آخر كلمة فيها. كالقافية فى البيت. فرأس آية ٢٨٠ هو (تَعْلَمُونَ) والمراد بالوضع فى هذه الكلمة الوضع عقبها. وبذلك تكون هذه الآية ٢٨١.

(٣) آية ٢ سورة المائدة.

(٤) آية ١٠ سورة الجمعة.

١٨٣

ثم قال تبارك وتعالى (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أي فليكن رجل وامرأتان ؛ فرفع بالردّ على الكون. وإن شئت قلت : فهو رجل وامرأتان. ولو كانا نصبا أي فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين (١). وأكثر ما أتى فى القرآن من هذا بالرفع ، فجرى هذا معه.

وقوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) بفتح أن ، وتكسر. فمن كسرها (٢) نوى بها الابتداء فجعلها منقطعة مما قبلها. ومن فتحها فهو أيضا على سبيل الجزاء إلا أنه نوى أن يكون (٣) فيه تقديم وتأخير. فصار الجزاء وجوابه كالكلمة الواحدة. ومعناه ـ والله أعلم ـ استشهدوا امرأتين مكان الرجل كيما تذكّر الذاكرة الناسية إن نسيت ؛ فلمّا تقدّم الجزاء اتّصل بما قبله ، وصار جوابه مردودا عليه. ومثله فى الكلام قولك : (إنه ليعجبنى أن يسأل السائل فيعطى) فالذى يعجبك الإعطاء إن يسأل ، ولا يعجبك المسألة ولا الافتقار. ومثله : استظهرت بخمسة أجمال أن يسقط مسلم فأحمله ، إنما استظهرت بها لتحمل الساقط ، لا لأن يسقط مسلم. فهذا دليل على التقديم والتأخير.

ومثله فى كتاب الله (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) (٤) ألا ترى أن المعنى : لو لا أن يقولوا إن أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم : هلّا أرسلت إلينا رسولا. فهذا مذهب بيّن.

__________________

(١) الجواب محذوف ، أي لجاز ، مثلا.

(٢) وهو حمزة. وفى هذه القراءة «فتذكر» بالرفع على الاستئناف.

(٣) وذلك أن الفتح على تقدير (لأن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) والأصل فى هذا : لأن تذكر إحداهما الأخرى إن تضل.

(٤) آية ٤٧ سورة القصص.

١٨٤

وقوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) إلى الحاكم.

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً) ترفع وتنصب (١). فإن شئت جعلت (تُدِيرُونَها) فى موضع (٢) نصب فيكون لكان مرفوع ومنصوب. وإن شئت جعلت (تُدِيرُونَها) فى موضع رفع (٣). وذلك أنه (٤) جائز فى النكرات أن تكون أفعالها تابعة لأسمائها ؛ لأنك تقول : إن كان أحد صالح ففلان ، ثم تلقى (أحدا) فتقول : إن كان صالح ففلان ، وهو غير موقّت (٥) فصلح نعته مكان اسمه ؛ إذ كانا جميعا غير معلومين ، ولم يصلح ذلك فى المعرفة ؛ لأن المعرفة موقّتة معلومة ، وفعلها (٦) غير موافق للفظها ولا لمعناها.

فإن قلت : فهل يجوز أن تقول : كان أخوك القاتل ، فترفع ؛ لأن الفعل معرفة والاسم معرفة فترفعا (٧) للاتفاق إذا كانا معرفة كما ارتفعا للاتفاق فى النكرة؟

قلت : لا يجوز ذلك من قبل أن نعت المعرفة دليل عليها إذا حصّلت (٨) ، ونعت النكرة متّصل بها كصلة الذي. وقد أنشدنى المفضّل الضّبىّ :

أفاطم إنى هالك فتبيّنى

ولا تجزعى كلّ النساء يئيم

ولا أنبأن بأنّ وجهك شانه

خموش وإن كان الحميم الحميم (٩)

__________________

(١) النصب قراءة عاصم ، وقرأ عامة القراء بالرفع.

(٢) أي على قراءة النصب إذ تكون الجملة صفة لتجارة المنصوبة خبرا ، واسمها مستتر أي المعاملة والتجارة.

(٣) أي على أن الجملة صفة لتجارة المرفوعة فاعلا لكان التامة.

(٤) سقط فى ج.

(٥) يريد بالموقت المعرفة.

(٦) يريد بالفعل هنا الصفة.

(٧) أي المعرفتان : وفى ح : «فترتفعا».

(٨) أي قومت. وفى ش ، ح : «جعلت» ويبدو أنه تحريف عما أثبتنا.

(٩) يقال خمشت المرأة وجهها إذا خدشته ، ويكون ذلك عند الحزن ، والحميم : القريب.

ينهاها عن الحزن ومظاهره على ميت ، وإن كان حميما لها قريبا.

١٨٥

فرفعهما. وإنما رفع الحميم الثاني لأنه تشديد (١) للأول. ولو لم يكن فى الكلام الحميم لرفع الأول. ومثله فى الكلام : ما كنا بشىء حين كنت ، تريد حين صرت وجئت ، فتكتفى (كان) بالاسم (٢).

ومما يرفع من النكرات قوله (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) وفى قراءة عبد الله وأبىّ «وإن كان ذا عسرة» فهما جائزان ؛ إذا نصبت أضمرت فى كان اسما ؛ كقول الشاعر (٣) :

لله قومى أىّ قوم لحرّة

إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا!

وقال آخر :

أ عينىّ هلّا تبكيان عفاقا (٤)

إذا كان (٥) طعنا بينهم وعناقا

وإنما احتاجوا إلى ضمير الاسم فى (كان) مع المنصوب ؛ لأن بنية (كان) على أن يكون لها مرفوع ومنصوب ، فوجدوا (كان) يحتمل صاحبا مرفوعا فأضمروه مجهولا. وقوله (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) (٦) فقد أظهرت الأسماء (٧). فلو قال : فإن كان نساء جاز الرفع (٨) والنصب. ومثله (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) (٩) ومثله (إِلَّا أَنْ

__________________

(١) أى توكيد له.

(٢) يريد بالاسم هنا فاعل كان التامة.

(٣) فى سيبويه ١ / ٢٢ عز ومثل هذا البيت إلى عمرو بن شأس. والبيت فيه :

بنى أسد هل تعلمون بلاءنا

إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا

وقوله : «إذا كان يوما» أى إذا كان هو أى يوم الواقعة أو يوم القتال ، مثلا.

(٤) عفاق اسم رجل. وقد يكون هذا عفاق بن مرى الذى يقول فيه صاحب القاموس : «أخذه الأحدب بن عمرو الباهلى فى قحط وشواه وأكله».

(٥) أى إذا كان (هو) أى القتال والجلاد.

(٦) آية ١١ سورة النساء.

(٧) يريد نون النسوة اسم كان. أى فإن كانت المتروكات أو الوارثات.

(٨) فالرفع على أن كان تامة ، والنصب على أنها ناقصة.

(٩) الآية ٢٩ سورة النساء.

١٨٦

يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (١) ومن قال (تكون ميتة) جاز فيه الرفع والنصب. وقلت (تكون) لتأنيث الميتة ، وقوله (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) (٢) فإن قلت : إن المثقال ذكر فكيف قال (تكن) (٣)؟ قلت : لأن المثقال أضيف إلى الحبّة وفيها المعنى ؛ كأنه قال : إنها إن تك حبّة ؛ وقال الشاعر :

على قبضة مرجوّة ظهر كفّه

فلا المرء مستحى ولا هو طاعم

لأنه ذهب إلى الكفّ ؛ ومثله قول الآخر (٤) :

وتشرق بالقول الذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدم

وقوله :

أبا عرو لا تبعد فكلّ ابن حرّة

ستدعوه داعى موتة فيجيب (٥)

فأنّث فعل الداعي وهو ذكر ؛ لأنه ذهب إلى الموتة. وقال الآخر (٦) :

قد صرّح السير عن كتمان وابتذلت

وقع المجاجن بالمهريّة الذّقن (٧)

فأنث فعل الوقع وهو ذكر ؛ لأنه ذهب إلى المحاجن.

وقوله (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) أي لا يدع كاتب وهو مشغول ، ولا شهيد.

__________________

(١) آية ١٤٥ سورة الأنعام.

(٢) آية ١٦ سورة لقمان. قرئ مثقال حبة بالرفع والنصب.

(٣) أي التي هى أصل تك ، فحذفت منها النون.

(٤) هو الأعشى ميمون يقوله فى عمير ـ وهو جهام ـ وكان بينهما عداوة. وانظر الصبح المنير ٩٤ ، والكتاب ١ / ٢٥. وفى الشنتمرى فى حاشيته أن الأعشى يخاطب يزيد بن مسهر الشيباني ، وهو خلاف ما ذكرناه.

(٥) ذكره فى الخزانة ١ / ٣٧٧ ولم يعزه.

(٦) هو تميم بن أبى بن مقبل.

(٧) كتمان : اسم موضع ، وقيل : اسم جبل. والذقن جمع الذقون ، وهى من الإبل : التي تميل ذقنها إلى الأرض ، تستعين بذلك على السير ، وقيل هى السريعة. أي ابتذلت المهرية ـ وهى المنسوبة إلى مهرة ـ الذقن بوقع المحاجن فيها تستحث على السير ، فقلبه وأنث ، وقوله ، «صرح السير عن كتمان» أي كشف السير عن هذا المكان.

١٨٧

وقوله : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ...) (٢٨٣)

وقرأ مجاهد (١) فرهن على جمع الرهان كما قال (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) (٢) لجمع الثمار.

وقوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [وأجاز قوم (قلبه) بالنصب] (٣) فإن يكن حقا فهو من جهة قولك : سفهت رأيك وأثمت قلبك.

وقوله : (غُفْرانَكَ رَبَّنا ...) (٢٨٥)

مصدر وقع فى موضع أمر فنصب. ومثله : الصلاة الصلاة. وجميع الأسماء من المصادر وغيرها إذا نويت الأمر نصبت. فأمّا الأسماء فقولك : الله الله يا قوم ؛ ولو رفع على قولك : هو الله ، فيكون خبرا وفيه تأويل الأمر لجاز ؛ أنشدنى بعضهم :

إن قوما منهم عمير وأشبا

ه عمير ومنهم السفّاح

لجديرون بالوفاء إذا قا

ل أخو النجدة السلاح السلاح

ومثله أن تقول : يا هؤلاء الليل فبادروا ، أنت تريد : هذا الليل فبادروا. ومن نصب الليل أعمل فيه فعلا مضمرا قبله. ولو قيل : غفرانك ربّنا لجاز.

وقوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

الوسع اسم فى مثل معنى الوجد والجهد. ومن قال فى مثل الوجد : الوجد ، وفى مثل الجهد : الجهد قال فى مثله من الكلام : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). ولو قيل : وسعها لكان جائزا ، ولم نسمعه (٤).

__________________

(١) وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف : وانظر القرطبي ٧ / ٤٩ ، وإتحاف فضلاء البشر ٢١٤

(٢) آية ١٤١ سورة الأنعام.

(٣) زيادة يقتضيها السياق.

(٤) هو قراءة ابن أبى عبلة.

١٨٨

وقوله (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) والإصر : العهد كذلك ، قال فى آل عمران (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) (١) والإصر هاهنا : الإثم إثم العقد إذا ضيّعوا ، كما شدّد على بنى إسرائيل.

وقد (٢) قرأت القرّاء (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ) يقول : فاعلموا أنتم به. وقرأ قوم : فآذنوا أي فأعلموا.

وقال ابن عباس : فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة (٣) وقال : قد يوجد الكاتب ولا توجد الصحيفة ولا الدواة.

__________________

(١) آية ٨١

(٢) كان حق هذه الآية ذكرها فيما سبق. ولكنه لا يلتزم الترتيب.

(٣) كان حق هذه الآية ذكرها فيما سبق. ولكنه لا يلتزم الترتيب.

١٨٩

ومن سورة آل عمران

ومن سورة آل عمران (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ...) (٢)

حدثنا محمد بن الجهم عن الفراء (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قراءة العامة ، وقرأها عمر بن الخطاب وابن مسعود «القيّام» وصورة القيّوم : الفيعول ، والقيّام الفيعال ، وهما جميعا مدح. وأهل الحجاز أكثر شىء قولا : الفيعال من ذوات الثلاثة. فيقولون للصوّاغ : الصيّاغ.

وقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ...) (٧)

(مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) يعنى : مبيّنات للحلال والحرام ولم ينسخن. وهنّ الثلاث الآيات فى الأنعام أوّلها : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) (١) والآيتان بعدها.

وقوله : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ). يقول : هنّ الأصل.

(وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) وهنّ : المص ، والر ، والمر ؛ اشتبهن على اليهود لأنهم التمسوا مدّة أكل (٢) هذه الأمّة من حساب (٣) الجمّل ، فلمّا لم يأتهم على ما يريدون قالوا : خلّط محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) آية ١٥١

(٢) يجوز أن يقرأ بفتح الهمزة مصدرا ، ويراد به العيش ، فإن العيش يلزمه الأكل. ويجوز أن يقرأ بضم الهمزة ، وهو الرزق. ويقال للميت : انقطع أكله ، فهو رديف الحياة والعيش. وفى ش : «كل» وهو تحريف.

(٣) هو الحساب المبنى على حروف أبجد.

١٩٠

فقال الله : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) يعنى تفسير المدّة.

ثم قال : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ثم استأنف (وَالرَّاسِخُونَ) فرفعهم (١) ب (يَقُولُونَ) لا بإتباعهم إعراب الله. وفى قراءة أبىّ (ويقول الراسخون) وفى قراءة عبد الله «إن تأويله إلا عند الله ، والراسخون فى العلم يقولون».

وقوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ...) (١)

يقول : كفرت اليهود ككفر آل فرعون وشأنهم.

وقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ...) (١٢)

تقرأ بالتاء والياء. فمن جعلها بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود ، وإلى أن الغلبة على المشركين [بعد] (٢) يوم أحد. وذلك أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا هزم المشركين يوم بدر وهم ثلاثمائة ونيّف والمشركون ألف إلا شيئا قالت اليهود : هذا الذي لا تردّ له راية ، فصدّقوا. فقال بعضهم : لا تعجلوا بتصديقه حتى تكون وقعة أخرى. فلما نكب المسلمون يوم أحد كذّبوا ورجعوا. فأنزل الله : قل لليهود سيغلب المشركون ويحشرون إلى جهنم. فليس يجوز فى هذا المعنى إلا الياء.

ومن قرأ بالتاء جعل اليهود والمشركين داخلين فى الخطاب. فيجوز فى هذا المعنى سيغلبون وستغلبون ؛ كما تقول فى الكلام : قل لعبد الله إنه قائم ، وإنك قائم.

__________________

(١) أي أن «الراسخون» مبتدأ خبره جملة «يقولون» وهذه الجملة هى الرافعة للمبتدأ كما أنها ارتفعت به ؛ لأن المبتدأ والخبر عندهم يترافعان. وقوله : «لا بإتباعهم إعراب الله» أي لا بالعطف على لفظ الجلالة.

(٢) زيادة اقتضاها السياق.

١٩١

وفى حرف عبد الله قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف (١) وفى قراءتنا ([إِنْ يَنْتَهُوا] يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) وفى الأنعام «هذا لله بزعمهم وهذا لشركائهم» (٢) وفى قراءتنا (لِشُرَكائِنا).

وقوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ...) (١٣)

يعنى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه وسلم ، والمشركين يوم بدر. (فِئَةٌ تُقاتِلُ) قرئت بالرفع ؛ وهو وجه الكلام على معنى : إحداهما تقاتل فى سبيل الله (وَأُخْرى كافِرَةٌ) على الاستئناف ؛ كما قال الشاعر (٣) :

فكنت كذى رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزّمان فشلّت

ولو خفضت لكان جيدا : تردّه على الخفض الأوّل ؛ كأنك قلت : كذى رجلين : كذى رجل صحيحة ورجل سقيمة. وكذلك يجوز خفض الفئة والأخرى على أوّل الكلام.

ولو قلت : (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) كان صوابا على قولك (٤) : التقتا مختلفتين. وقال الشاعر فى مثل ذلك مما يستأنف :

إذا متّ كان الناس نصفين شامت

وآخر مثن بالذي كنت أفعل (٥)

__________________

(١) آية ٣٨ سورة الأنفال.

(٢) آية ١٣٦ سورة الأنعام.

(٣) هو كثير عزة.

والبيت من قصيدته التي مطلعها :

خليلىّ هذا ربع عزة فاعقلا

قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت

(٤) يريد أن انتصابهما على الحالية.

(٥) يروى النحويون هذا البيت بتغيير فى قافيته ، فهى عندهم : «أصنع» بدل «أفعل» ويروون : «صنفان» فى مكان «نصفين» وينسب إلى العجير السلولي من شعراء الدولة الأموية. ورواية النحويين بقافية العين هى الصواب. ومطّلع القصيدة :

ألما على دار لزينب قد أتى

لها باللوى ذى المرخ صيف ومربع

وقولا لها قد طالما لم تكلمى

وراعك بالغيث الفؤاد المروع

وانظر سيبويه ١ / ٣٦

١٩٢

ابتدأ الكلام بعد النصفين ففسّره. وأراد : بعض شامت وبعض غير شامت. والنصب فيهما جائز ، يردّهما على النصفين. وقال الآخر :

حتى إذا ما استقلّ النجم فى غلس

وغودر البقل ملوىّ ومحصود (١)

ففسر بعض البقل كذا ، وبعضه كذا. والنصب جائز.

وكل فعل أوقعته على أسماء لها أفاعيل ينصب على الحال الذي (٢) ليس بشرط ففيه الرفع على الابتداء ، والنصب على الاتصال بما قبله ؛ من ذلك : رأيت القوم قائما وقاعدا ، وقائم وقاعد ؛ لأنك نويت بالنصب القطع ، والاستئناف فى القطع (٣) حسن. وهو أيضا فيما ينصب بالفعل جائز ؛ فتقول : أظنّ القوم قياما وقعودا ، وقيام وقعود ، وكان (٤) القوم بتلك المنزلة. وكذلك رأيت القوم فى الدار قياما وقعودا ، وقيام وقعود ، وقائما وقاعدا ، وقائم وقاعد ؛ فتفسّره بالواحد والجمع ؛ قال الشاعر :

وكتيبة شعواء ذات أشلّة

فيها الفوارس حاسر ومقنّع (٥)

فإذا نصبت على الحال لم يجز أن تفسّر الجمع بالاثنين ، ولكن تجمع فتقول : فيها القوم قياما وقعودا.

__________________

(١) استقل النجم : ارتفع ؛ وقد غلب النجم فى الثريا. والغلس : ظلام آخر الليل. والملوي : اليابس الذابل ؛ وإن كان الوارد ألوى ، والوصف ملو.

(٢) سيذكر ما خرج بهذا ، وهو الحال الذي هو شرط فيجب فيه النصب ، نحو أكرم الجيش ظافرا وقاهرا لأعدائه ، لأن المعنى على الشرط ؛ أي أكرمه إن ظفر وقهر الأعداء ، فإذا قلت : رأيت الجيش راكبين وراجلين جاز الرفع والنصب لأن الحال ليس بشرط.

(٣) يريد بالقطع أن الوصف ليس شرطا وقيدا فى الفعل قبله.

(٤) كذا. وقد يكون الأصل : «أي كان».

(٥) «شعواء» : كثيرة متفرقة ، من قولهم : شجرة شعواء : منتشرة الأغصان. و «أشلة» جمع شليل وهو الغلالة تلبس فوق الدرع ، أو هو الدرع القصيرة تكون تحت الكبيرة. والحاسر : من لا مغفر له ولا درع. والمقنع هو المغطى بالسلاح.

١٩٣

وأمّا الذي على الشرط مما لا يجوز رفعه فقوله : اضرب أخاك ظالما أو مسيئا ، تريد : اضربه فى ظلمه وفى إساءته. ولا يجوز هاهنا الرفع فى حاليه ؛ لأنهما متعلقتان بالشرط. وكذلك الجمع ؛ تقول : ضربت القوم مجرّدين أو لابسين ، ولا يجوز : مجردون ولا لابسون ؛ إلا أن تستأنف فتخبر ، وليس بشرط للفعل ؛ ألا ترى أنك لو أمرت بضربهم فى هاتين الحالين لم يكن فعلهم إلا نصبا ؛ فتقول : اضرب القوم مجرّدين أو لابسين ؛ لأن الشرط فى الأمر لازم. وفيما قد مضى يجوز أن تجعله خبرا وشرطا. فلذلك جاز الوجهان فى الماضي.

وقوله : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) زعم بعض من روى عن ابن عبّاس أنه قال : رأى المسلمون المشركين فى الحزر ستمائة وكان المشركون تسعمائة وخمسين ، فهذا وجه. وروى قول آخر كأنه أشبه بالصواب : أن المسلمين رأوا المشركين على تسعمائة وخمسين والمسلمون قليل ثلاثمائة وأربعة عشر ، فلذلك قال : (قَدْ كانَ لَكُمْ) يعنى اليهود (آيَةٌ) فى قلّة المسلمين وكثرة المشركين.

فإن قلت : فكيف جاز أن يقال (مِثْلَيْهِمْ) يريد ثلاثة أمثالهم؟ قلت : كما تقول وعندك عبد : أحتاج إلى مثله (١) ، فأنت محتاج إليه وإلى مثله ، وتقول : أحتاج إلى مثلى عبدى ، فأنت إلى ثلاثة محتاج. ويقول الرجل : معى ألف وأحتاج إلى مثليه ، فهو يحتاج إلى ثلاثة. فلمّا نوى أن يكون الألف داخلا فى معنى المثل صار المثل اثنين والمثلان ثلاثة. ومثله فى الكلام أن تقول : أراكم مثلكم ، كأنك قلت : أراكم ضعفكم ، وأراكم مثليكم يريد ضعفيكم ، فهذا على معنى الثلاثة.

__________________

(١) فى القرطبي ٤ / ٦ بعد إيراد قول الفرّاء : «وهو بعيد غير معروف فى اللغة. قال الزجاج : وهذا باب الغلط ، فيه غلط فى جميع المقاييس ؛ لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساويا له ، ونعقل مثليه ما يساويه مرتين».

١٩٤

فإن قلت : فقد قال فى سورة الأنفال : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) (١) فكيف كان هذا هاهنا تقليلا ، وفى الآية الأولى تكثيرا؟ قلت : هذه آية المسلمين أخبرهم بها ، وتلك الآية لأهل الكفر. مع أنك تقول فى الكلام : إنى لأرى كثيركم قليلا ، أي قد هوّن علىّ ، لا أنى أرى الثلاثة اثنين.

ومن قرأ (ترونهم) ذهب إلى اليهود لأنه خاطبهم ، ومن قال (يرونهم) فعلى ذلك ؛ كما قال : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (٢) وإن شئت جعلت (يرونهم) للمسلمين دون اليهود.

وقوله : (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ ...) (١٤)

واحد القناطير قنطار. ويقال إنه ملء مسك ثور ذهبا أو فضّة ، ويجوز (القناطير) (٣) فى الكلام ، والقناطير ثلاثة ، والمقنطرة تسعة (٤). كذلك سمعت ، وهو المضاعف.

وقوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ...) (١٥)

ثم قال (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) فرفع الجنات باللام (٥). ولم يجز ردّها على أوّل الكلام ؛ لأنك حلت بينهما باللام ، فلم يضمر خافض وقد حالت اللام

__________________

(١) آية ٤٤

(٢) آية ٢٢ سورة يونس. وتضرب الآية مثلا لما يسمونه الالتفات وهو الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ، وما جرى هذا المجرى. وهو من تلوين الخطاب.

(٣) أي بالرفع عطفا على (حُبُّ الشَّهَواتِ) وقوله : «فى الكلام» أي فى غير القرآن إذ لم ترد بهذا القراءة. هذا والأقرب أن الأصل : «ويجوز القناطر فى الكلام» أي أنه يجوز حذف الياء فى الجمع فيقال القناطر. وهذا رأى الكوفيين : يجوز أن يقال فى العصافير العصافر.

(٤) يرى الفرّاء أن معنى «القناطر المقنطرة» : القناطير التي بلغت أضعافها أي بلغت ثلاثة أمثالها. وأقلّ القناطير ثلاثة ، فثلاثة أمثالها تسعة. وفى القرطبي ٤ / ٣١ : «وروى عن الفرّاء أنه قال : القناطير جمع القنطار ، والمقنطرة جمع الجمع فيكون تسع قناطير».

(٥) يريد أن «جنات» مبتدأ خبره (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) والمبتدأ والخبر عندهم يترافعان ، فرافع المبتدأ هو الخبر.

١٩٥

بينهما. وقد يجوز أن تحول باللام ومثلها بين الرافع وما رفع ، والناصب وما نصب. فتقول : رأيت لأخيك مالا ، ولأبيك إبلا. وترفع باللام إذا لم تعمل الفعل ، وفى الرفع : قد كان لأخيك مال ولأبيك إبل. ولم يجز أن تقول فى الخفض : قد أمرت لك بألف ولأخيك ألفين ، وأنت تريد (بألفين) لأن إضمار الخفض غير جائز ؛ ألا ترى أنك تقول : من ضربت؟ فتقول : زيدا ، ومن أتاك؟ فتقول : زيد. فيضمر الرافع والناصب. ولو قال : بمن مررت؟ لم تقل : زيد ؛ لأن الخافض مع ما خفض بمنزلة الحرف الواحد. فإذا قدّمت الذي أخرته بعد اللام جاز فيه الخفض ؛ لأنه كالمنسوق على ما قبله إذا لم تحل بينهما بشىء. فلو قدّمت الجنّات قبل اللام فقيل : (بخير من ذلكم جنات للذين اتقوا) لجاز الخفض والنصب على معنى تكرير الفعل بإسقاط الباء ؛ كما قال الشاعر :

أتيت بعبد الله فى القدّ موثقا

فهلا سعيدا ذا الخيانة والغدر (١)!

كذلك تفعل بالفعل إذا اكتسب الباء ثم أضمرا جميعا نصب كقولك : أخاك ، وأنت تريد امرر بأخيك. وقال الشاعر (٢) [فى] استجازة العطف إذا قدّمته ولم تحل بينهما بشىء :

ألا يا لقوم كلّ ما حمّ واقع

وللطير مجرى والجنوب مصارع (٣)

__________________

(١) فالأصل : فهلا أتيت بسعيد ؛ فلما حذف الخافض انتصب المخفوض. ومقتضى كلامه جواز الخفض ، فيقال : فهلا سعيد أي فهلا أتيت بسعيد.

(٢) هو البعيث. وانظر اللسان (حمم)

(٣) حمّ : قدّر. والجنوب جمع الجنب ، وهو جنب الإنسان. وانظر شرح شواهد الهمع ٢ / ١٩٢

١٩٦

أراد : وللجنوب مصارع ، فاستجاز حذف اللام ، وبها ترتفع المصارع إذ لم تحل بينهما بشىء. فلو قلت : (ومصارع الجنوب) لم يجز وأنت تريد إضمار اللام.

وقال الآخر (١) :

أوعدنى بالسجن والأداهم

رجلى ورجلى شثنة المناسم

أراد : أوعد رجلى بالأداهم.

وقوله : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) (٢) والوجه رفع يعقوب. ومن نصب (٣) نوى به النصب ، ولم يجز الخفض إلا بإعادة الباء : ومن وراء إسحاق بيعقوب.

وكلّ شيئين اجتمعا قد تقدّم [أحدهما] (٤) قبل المخفوض الذي ترى أن الإضمار فيه يجوز على هذا. ولا تبال أن تفرق بينهما بفاعل أو مفعول به أو بصفة. فمن ذلك أن تقول : مررت بزيد وبعمرو ومحمد [أو] (٥) وعمرو ومحمد. ولا يجوز مررت بزيد وعمرو وفى الدار محمد ، حتى تقول : بمحمد. وكذلك : أمرت لأخيك بالعبيد ولأبيك بالورق. ولا يجوز : لأبيك الورق. وكذلك : مرّ بعبد الله موثقا ومطلقا زيد ، وأنت تريد : ومطلقا بزيد. وإن قلت : وزيد مطلقا جاز ذلك على شبيه بالنسق إذا لم تحل بينهما بشىء.

__________________

(١) هو العديل بن الفرخ العجلىّ. كان الحجاج قد توعده ففرّ إلى قيصر ملك الروم. والأداهم جمع الأدهم وهو القيد ، وشثنة أي غليظة خشنة. والمناسم جمع المنسم ، وهو فى الأصل طرف خف البعير ، استعاره لأسفل رجله. وانظر شرح شواهد الهمع ٢ / ١٦٤

(٢) آية ٧١ سورة هود.

(٣) يريد أن من فتح «يعقوب» فهو منصوب لا مخفوض بالفتحة لامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة. ونصبه على تقدير ناصب يوحى به المعنى ، أي وهبنا له من وراء إسحاق يعقوب. وانظر اللسان فى عقب.

(٤ ، ٥) زيادة اقتضاها الساق.

١٩٧

وقوله : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) فيها ثلاثة أوجه أجودها الرفع ، والنصب من جهتين : من وعدها إذ لم تكن النار مبتدأة ، والنصب الآخر بإيقاع الإنباء عليها بسقوط الخفض. والخفض جائز لأنك لم تحل بينهما بمانع. والرفع على الابتداء.

فإن قلت : فما تقول فى قول الشاعر :

الآن بعد لجاجتى تلحوننى

هلا التقدّم والقلوب صحاح

بم رفع التقدّم؟ قلت : بمعنى (٢) الواو فى قوله : (والقلوب صحاح) كأنه قال : العظة والقلوب فارغة ، والرطب والحرّ شديد ، ثم أدخلت عليها هلّا وهى على ما رفعتها ، ولو نصبت التقدّم بنية فعل كما تقول : أتيتنا بأحاديث لا نعرفها فهلا أحاديث معروفة (٣).

ولو جعلت اللام فى قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ) من صلة الإنباء جاز خفض الجنات والأزواج والرضوان.

وقوله : (الَّذِينَ يَقُولُونَ ...) (١٦)

إن شئت جعلته خفضا نعتا للذين اتقوا ، وإن شئت استأنفتها فرفعتها إذ كانت آية وما هى نعت له آية قبلها. ومثله قول الله تبارك وتعالى (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) (٤) فلمّا انقضت الآية قال (التّائبون العابدون) ، وهى فى قراءة عبد الله «التائبين العابدين».

__________________

(١) آية ٧٢ سورة الحج.

(٢) يريد أن خبر المبتدأ فى مثل هذا ـ وهو الذي بعده واو هى نص فى المعية ـ هو معنى الاقتران والصحبة ، فإذا قلت : كل رجل وصنعته. فكأنك قلت : كل رجل مع صنعته. وبذلك يستغنى عن تقدير الخبر الذي يقول به البصريون. وما ذكره هو مذهب الكوفيين. وترى أنه يرى أن (هلا) تدخل على الجملة الاسمية.

(٣) جواب لو محذوف : أي لجاز.

(٤) آية ١١١ سورة التوبة.

١٩٨

وكذلك : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ ...) (١٧) موضعها خفض ، ولو كانت رفعا لكان صوابا. وقوله (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) المصلّون بالأسحار ، ويقول : الصلاة بالسحر أفضل مواقيت الصلاة. أخبرنا محمد ابن الجهم قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثنى شريك (١) عن السّدّىّ (٢) فى قوله (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) (٣) قال : أخّرهم إلى السحر.

وقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) (١٨)

قد فتحت القرّاء الألف من (أنه) ومن قوله (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٤). وإن شئت جعلت (أنه) على الشرط (٥) وجعلت الشهادة واقعة على قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، وتكون (أنّ) الأولى يصلح فيها الخفض ؛ كقولك : شهد الله بتوحيده أن الدين عنده الإسلام.

__________________

(١) هو شريك بن عبد الله النخعىّ الكوفي. توفى سنة ١٧٧.

(٢) هو أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبى كريمة الكوفىّ ، مولى قريش. روى عن أنس وابن عباس. وهو منسوب إلى سدّة مسجد الكوفة ، كان يبيع بها المقانع. وسدّة المسجد بابه أو ما حوله من الرواق. وكانت وفاته سنة ١٢٧.

(٣) آية ٩٨ سورة يوسف.

(٤) على أن الواو تراد فى قوله (إِنَّ الدِّينَ) كأنه قال : شهد الله أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام. وهذا توجيه الكسائي. قال : «أنصبهما جميعا ، بمعنى شهد الله أنه كذا وأن الدين عند الله كذا». وهذا التخريج فيه ضعف ، فإن حذف العاطف فى الكلام ليس بالقويّ. وخير من هذا أن يخرج (إِنَّ الدِّينَ ...) على البدل من (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) كما هو رأى ابن كيسان. وذلك أن الإسلام تفسير التوحيد الذي هو مضمون الكلام السابق ، وانظر القرطبي ٤ / ٤٣.

(٥) يريد بالشرط العلة والسبب ، فلا يكون الفعل واقعا عليه ؛ إذ يكون التقدير : لأنه أو بأنه لا إله إلا هو.

١٩٩

وإن شئت استأنفت (إن الدين) بكسرتها ، وأوقعت الشهادة على (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). وكذلك قرأها حمزة. وهو أحبّ الوجهين إلىّ. وهى فى قراءة عبد الله (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ). وكان الكسائىّ يفتحهما كلتيهما. وقرأ ابن عباس بكسر الأوّل وفتح (أن الدين عند الله الإسلام) ، وهو وجه جيّد ؛ جعل (إنه لا إله إلا هو) مستأنفة معترضة ـ كأنّ الفاء تراد فيها ـ وأوقع الشهادة على (أن الدين عند الله). ومثله فى الكلام قولك للرجل : أشهد ـ إنى أعلم الناس بهذا ـ أنّك عالم ، كأنك قلت : أشهد ـ إنى (١) أعلم بهذا من غيرى ـ أنك عالم. وإذا جئت بأنّ قد وقع عليها (٢) العلم أو الشهادة أو الظن وما أشبه ذلك كسرت إحداهما ونصبت التي يقع عليها الظنّ أو العلم وما أشبه ذلك ؛ نقول للرجل : لا تحسبن أنك عاقل ؛ إنك جاهل ، لأنك تريد فإنك جاهل ، وإن صلحت الفاء فى إن السابقة كسرتها وفتحت الثانية. يقاس على هذه ما ورد.

وقوله (وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) منصوب (٣) على القطع ؛ لأنه نكرة نعت به معرفة. وهو فى قراءة عبد الله «القائم بالقسط» رفع ؛ لأنه معرفة نعت لمعرفة.

وقوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) (٢٠)

(ومن اتّبعن) للعرب فى الياءات التي فى أواخر الحروف ـ مثل اتبعن ، وأكرمن ، وأهانن ، ومثل قوله (دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ (٤) ـ وَقَدْ هَدانِ) (٥) ـ أن يحذفوا الياء مرة ويثبتوها مرة. فمن حذفها اكتفى بالكسرة التي قبلها دليلا عليها. وذلك

__________________

(١) فى تفسير الطبري : «فإنى» وهو أنسب.

(٢) أي على مثلها أي أن أخرى.

(٣) أي (قائما).

(٤) آية ١٨٦ سورة البقرة.

(٥) آية ٨٠ سورة الأنعام.

٢٠٠