معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

أيضا ، فقلت : ايتنا لا نسيء إليك ؛ كقول الله تبارك وتعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) (١) [لمّا كان] (٢) أوّل الكلام أمرا وآخره نهيا فيه (لا) فاختلفا ، جعلت (لا) على معنى ليس فرفعت. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) (٣) وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (٤) رفع ، ومنه قوله : (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ) (٥) ترفع ، ولو نويت الجزاء لجاز فى قياس النحو. وقد قرأ يحيى بن وثّاب وحمزة : «فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا لا تخف دركا ولا تخشى» (٦) بالجزاء المحض.

فإن قلت : فكيف أثبتت الياء فى (تخشى)؟ قلت : فى ذلك ثلاثة أوجه ؛ إن شئت استأنفت (وَلا تَخْشى) بعد الجزم ، وإن شئت جعلت (تخشى) فى موضع جزم وإن كانت فيها الياء ؛ لأن من العرب من يفعل ذلك ؛ قال بعض (٧) بنى عبس :

ألم يأتيك والأنباء تنمى

بما لاقت لبون بنى زياد

فأثبتت الياء فى (يأتيك) وهى فى موضع جزم ؛ لأنه رآها ساكنة ، فتركها على سكونها ؛ كما تفعل بسائر الحروف. وأنشدنى بعض بنى حنيفة :

قال لها من تحتها وما استوى

هزّى إليك الجذع يجنيك الجنى

__________________

(١) آية ١٣٢ سورة طه.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

(٣) آية ٨٤ سورة النساء.

(٤) آية ١٠٥ سورة المائدة.

(٥) آية ٥٨ سورة طه.

(٦) آية ٧٧ سورة طه.

(٧) هو قيس بن زهير من قصيدة يقولها فيما كان قد شجر بينه وبين الربيع بن زياد العبسي من أجل درع أخذها الربيع من قيس ، فأغار قيس على إبل الربيع وباعها فى مكة. وبعد البيت :

ومحبسها على القرشىّ تشرى

بأدراع وأسياف حداد

١٦١

وكان ينبغى أن تقول : يجنك. وأنشدنى بعضهم فى الواو :

هجوت زبّان ثم جئت معتذرا

من سبّ زبّان لم تهجو ولم تدع

والوجه الثالث أن يكون الياء صلة لفتحة الشين ؛ كما قال امرؤ القيس :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلى

فهذه الياء ليست بلام الفعل ؛ هى صلة لكسرة اللام ؛ كما توصل القوافي بإعراب رويّها ؛ مثل قول الأعشى :

بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا (١)

وقول الآخر :

أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلمى (٢)

وقد يكون جزم الثاني إذا كانت فيه (لا) على نيّة النهى وفيه معنى من الجزاء ؛ كما كان فى قوله (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) طرف من الجزاء وهو أمر. فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) (٣) المعنى والله أعلم : إن؟ تدخلن حطّمتنّ ، وهو نهى محض ؛ لأنه لو كان جزاء لم تدخله النون الشديدة ولا الخفيفة ؛ ألا ترى أنك لا تقول : إن تضربنى أضربنّك إلا فى ضرورة شعر ؛ كقوله (٤) :

فمهما تشأ منه فزارة تعطكم

ومهما تشأ منه فزارة تمنعا

__________________

(١) هذا صدر بيت عجزه :

واحتلت الغور فالجدّين فالفرعا

وانظر الصبح المنير ٧٢

(٢) مطلع معلقة زهير بن أبى سلمى ، وعجزه :

بحومانة الدراج فالمنثلم

(٣) آية ١٨ سورة النمل.

(٤) نسب فى سيبويه ٢ / ١٥٢ لابن الخرع ، وهو عوف. وقال البغدادي : «والبيت غير موجود فى ديوانه ، وإنما هو من قصيدة للكميت بن ثعلبة أوردها أبو محمد الأعرابىّ فى كتابه فرحة الأديب» وانظر الخزانة ٤ / ٥٦٠ ، ٥٦١

١٦٢

وقوله : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ ...) (٢٤٦)

جاءت (أن) فى موضع ، وأسقطت من آخر ؛ فقال فى موضع آخر : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) (١) وقال فى موضع آخر : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) (٢) فمن ألقى (أن) فالكلمة على جهة العربية التي لا علّة (٣) فيها ، والفعل فى موضع نصب ؛ كقول الله ـ عزوجل ـ : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) (٤) وكقوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) (٥) فهذا وجه الكلام فى قولك : مالك؟ وما بالك؟ وما شأنك : أن تنصب فعلها (٦) إذا كان اسما ، وترفعه إذا كان فعلا أوّله (٧) الياء أو التاء أو النون أو الألف ؛ كقول الشاعر :

مالك ترغين ولا ترغو الخلف

الخلفة : التي فى بطنها ولدها.

وأما إذا قال (أن) فإنه مما ذهب إلى المعنى الذي يحتمل دخول (أن) ؛ ألا ترى أن قولك للرجل : مالك لا تصلى فى الجماعة؟ بمعنى ما يمنعك أن تصلى ، فأدخلت (أن) فى (مالك) إذ وافق معناها معنى المنع. والدليل على ذلك قول الله عزوجل : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (٨) وفى موضع آخر : (ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ

__________________

(١) آية ٨ سورة الحديد.

(٢) آية ١٢ سورة إبراهيم.

(٣) أى لا ضعف فيها ولا دخل ، إذ هو الوجه الكثير. وفى الطبرى : «وذلك هو الكلام الذى لا حاجة للتكلم به للاستشهاد على صحته ؛ لفشوّ ذلك على ألسن العرب».

(٤) آية ٣٦ سورة المعارج.

(٥) آية ٨٨ سورة النساء.

(٦) يريد الحدث الذى يلى العبارات السابقة فى صورة فعل اصطلاحىّ أو غيره.

(٧) يريد الفعل المضارع.

(٨) آية ١٢ سورة الأعراف.

١٦٣

السَّاجِدِينَ) (١) وقصة إبليس واحدة ، فقال فيها بلفظين ومعناهما واحد وإن اختلفا. ومثله ما حمل على معنى هو مخالف لصاحبه فى اللفظ قول الشاعر (٢) :

يقول إذا اقلولى عليها وأقردت

ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم

فأدخل الباء فى (هل) وهى استفهام ، وإنما تدخل الباء فى ما الجحد ؛ كقولك : ما أنت بقائل. فلمّا كانت النيّة فى (هل) يراد بها الجحد أدخلت لها الباء. ومثله قوله فى قراءة عبد الله (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) (٣) : ليس للمشركين. وكذلك قول الشاعر :

فاذهب فأىّ فتى فى الناس أحرزه

من يومه ظلم دعج ولا جبل (٤)

(رد عليه بلا) (٥) كأن معنى أىّ فتى فى الناس أحرزه معناه : ليس يحرز الفتى من يومه ظلم دعج ولا جبل. وقال الكسائي : سمعت العرب تقول : أين كنت لتنجو منى! لأن المعنى : ما كنت لتنجو منى ، فأدخل اللام فى (أين) لأن معناها جحد :

ما كنت لتنجو منى. وقال الشاعر :

فهذى سيوف يا صدىّ بن مالك

كثير ولكن أين بالسيف ضارب (٦)

__________________

(١) آية ٣٢ سورة الحجر.

(٢) هو الفرزدق. والبيت من قصيدة يهجو فيها جريرا ورهطه كليبا بإتيان الأتن. وقبله :

وليس كليبىّ إذا جنّ ليله

إذا لم يجد ريح الأتان بنائم

وقوله : «يقول» أي الكليبىّ ، و (اقلولى عليها) أي نزا عليها (وأقردت) : سكنت. وفى اللسان (فرد) : «قال ابن برىّ : البيت للفرزدق. يذكر امرأة إذا علاها الفحل أقردت وسكنت وطلبت منه أن يكون فعله دائما متصلا» وهذا على رواية «تقول». وقد علمت أن الأمر وراء ما ذكر ابن برىّ.

(٣) آية ٧ سورة التوبة.

(٤) من قصيدة للمتنخل الهذلىّ فى رثاء ابنه أثيلة. يقول : لا تقيه من موته الظلم الدعج يستتر بها من الهلاك ولا الجبال يتحصن بها. وانظر ديوان الهذليين طبع الدار ٢ / ٣٥ ، وقوله : «ولا جبل» فى اللسان (فلا) : «ولا خبل» وهو تحريف.

(٥) هذه العبارة بين القوسين أثبتت فى ش ، ج بعد قوله قبيل هذا : «ليس للمشركين».

(٦) فى أمالى ابن الشجري ١ / ٢٦٧ : «حداد» فى مكان «كثير».

١٦٤

أراد : ليس بالسيف ضارب ، ولو لم يرد (ليس) لم يجز الكلمة ؛ لأن الباء من صلة (ضارب) ولا تقدّم صلة اسم قبله ؛ ألا ترى أنك لا تقول : ضربت بالجارية كفيلا ، حتى تقول : ضربت كفيلا بالجارية. وجاز أن تقول : ليس بالجارية كفيل ؛ لأن (ليس) نظيرة ل (ما) ؛ لأنها لا ينبغى لها أن ترفع الاسم كما أن (ما) لا ترفعه.

وقال الكسائي فى إدخالهم (أن) فى (مالك) : هو بمنزلة قوله : «ما لكم فى ألا تقاتلوا» ولو كان ذلك على ما قال لجاز فى الكلام أن تقول : مالك أن قمت ، وما لك أنك قائم ؛ لأنك تقول : فى قيامك ، ماضيا ومستقبلا ، وذلك غير جائز ؛ لأن المنع إنما يأتى بالاستقبال ؛ تقول : منعتك أن تقوم ، ولا تقول : منعتك أن قمت. فلذلك جاءت فى (مالك) فى المستقبل ولم تأت فى دائم ولا ماض. فذلك شاهد على اتفاق معنى مالك وما منعك. وقد قال بعض النحويين : هى مما أضمرت فيه الواو ، حذفت من نحو قولك فى الكلام : مالك ولأن تذهب إلى فلان؟ فألقى الواو منها ؛ لأن (أن) حرف ليس بمتمكن فى الأسماء.

فيقال : أ تجيز أن أقول : مالك أن تقوم ، ولا أجيز : مالك القيام [فقال] (١) : لأن القيام اسم صحيح و (أن) اسم ليس بالصحيح. واحتجّ بقول العرب : إياك أن تتكلم ، وزعم أن المعنى إياك وأن تتكلم. فردّ ذلك عليه أن العرب تقول : إياك بالباطل أن تنطق ، فلو كانت الواو مضمرة فى (أن) لم يجز لما بعد الواو من الأفاعيل أن تقع على ما قبلها ؛ ألا ترى أنه غير جائز أن تقول : ضربتك بالجارية وأنت كفيل ، تريد : وأنت كفيل بالجارية ، وأنك تقول : رأيتك وإيّانا تريد ، ولا يجوز رأيتك إيّانا وتريد ؛ قال الشاعر :

فبح بالسرائر فى أهلها

وإيّاك فى غيرهم أن تبوحا

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

١٦٥

فجاز أن يقع الفعل بعد (أن) على قوله (فى غيرهم) ، فدلّ ذلك على أن إضمار الواو فى (أن) لا يجوز.

وأمّا قول الشاعر :

فإياك المحاين أن تحينا

فإنه حذّره فقال : إياك ، ثم نوى الوقفة ، ثم استأنف (المحاين) بأمر آخر ، كأنه قال : احذر المحاين ، ولو أراد مثل قوله : (إيّاك والباطل) لم يجز إلقاء الواو ؛ لأنه اسم أتبع اسما فى نصبه ، فكان بمنزلة قوله فى [غير] (١) الأمر : أنت ورأيك وكلّ ثوب وثمنه ، فكما لم يجز أنت رأيك ، أو كلّ ثوب ثمنه فكذلك لا يجوز : (إيّاك الباطل) وأنت تريد : إيّاك والباطل.

وقوله : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ...) (٢٩٤)

وفى إحدى (٢) القراءتين : (إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ).

والوجه فى (إلّا) أن ينصب ما بعدها إذا كان ما قبلها لا جحد فيه ، فإذا كان ما قبل إلّا فيه جحد جعلت ما بعدها تابعا لما قبلها ؛ معرفة كان أو نكرة. فأمّا المعرفة فقولك : ما ذهب الناس إلا زيد. وأمّا النكرة فقولك : ما فيها أحد إلّا غلامك ، لم يأت هذا عن العرب إلا بإتباع ما بعد إلا ما قبلها. وقال الله تبارك وتعالى : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) (٣) لأن فى (فعلوه) اسما معرفة ، فكان الرفع الوجه فى الجحد الذي ينفى الفعل عنهم ، ويثبته لما بعد إلّا. وهى فى قراءة أبىّ (٤) «ما فعلوه إلا قليلا» كأنه نفى الفعل وجعل ما بعد إلّا كالمنقطع عن أوّل الكلام ؛ كقولك : ما قام القوم ، اللهم إلّا رجلا أو رجلين.

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) هى قراءة ابن مسعود وأبىّ والأعمش كما فى البحر ٢ / ٢٦٦

(٣) آية ٦٦ سورة النساء.

(٤) وهى أيضا قراءة ابن عامر.

١٦٦

فإذا نويت الانقطاع نصبت ، وإذا نويت الاتّصال رفعت. ومثله قوله : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) (١) فهذا على هذا (٢) المعنى ، ومثله : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) (٣) ثم قال : (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) فأوّل الكلام ـ وإن كان استفهاما ـ جحد ؛ لأن لو لا بمنزلة هلّا ؛ ألا ترى أنك إذا قلت للرجل : (هلّا قمت) أنّ معناه : لم تقم. ولو كان ما بعد (إلّا) فى هاتين الآيتين رفعا على نيّة الوصل لكان صوابا ؛ مثل قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٤) فهذا نيّة وصل ؛ لأنه غير جائز أن يوقف على ما قبل (إلا).

وإذا لم تر قبل (إلا) اسما فأعمل ما قبلها فيما بعدها. فتقول : (ما قام إلا زيد) رفعت (زيدا) لإعمالك (قام) ؛ إذ لم تجد (قام) اسما بعدها. وكذلك : ما ضربت إلا أخاك ، وما مررت إلا بأخيك.

وإذا كان الذي قبل (إلا) نكرة مع جحد فإنك تتبع ما بعد إلا ما قبلها ؛ كقولك : ما عندى أحد إلّا أخوك. فإن قدّمت إلّا نصبت الذي كنت ترفعه ؛ فقلت : ما أتانى إلا أخاك أحد. وذلك أن (إلّا) كانت مسوقة على ما قبلها فاتّبعه ، فلما قدّمت فمنع أن يتبع شيئا هو بعدها فاختاروا الاستثناء. ومثله قول الشاعر :

لميّة موحشا طلل

يلوح كأنه خلل (٥)

__________________

(١) آية ٩٨ سورة يونس.

(٢) يريد أن (لو لا) فيه للتحضيض والتوبيخ. وفيهما معنى النفي لما يطلب بها.

(٣) آية ١١٦ سورة هود.

(٤) آية ٢٢ سورة الأنبياء.

(٥) ينسب إلى كثير عزة. والخلل واحدها الخلة ـ بكسر الخاء وشدّ اللام ـ وهى بطانة كانت تغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب. وانظر العيني على هامش الخزانة ٣ / ١٦٣ ، ويروى بدل البيت فى بعض الكتب.

لمية موحشا طلل قديم

عفاه كل أسحم مستديم

وهو بهذه الصورة ينسب إلى ذى الرمة. وانظر الخزانة ١ / ٥٣١.

١٦٧

المعنى : لمية طلل موحش ، فصلح رفعه لأنه أتبع الطلل ، فلمّا قدّم لم يجز أن يتبع الطلل وهو قبله. وقد يجوز رفعه على أن تجعله كالاسم يكون الطلل ترجمة عنه ؛ كما تقول : عندى خراسانيّة جارية ، والوجه النصب فى خراسانية. ومن العرب من يرفع ما تقدّم فى إلّا على هذا التفسير. قال : وأنشدونا :

بالثنى أسفل من جمّاء ليس له

إلّا بنيه وإلا عرسه شيع (١)

وينشد : إلا بنوه وإلّا عرسه. وأنشد أبو ثروان :

ما كان منذ تركنا أهل أسنمة

إلا الوجيف لها رعى ولا علف (٢)

ورفع غيره. وقال ذو الرّمة :

مقزّع أطلس الأطمار ليس له

إلا الضراء وإلا صيدها نشب (٣)

ورفعه على أنه بنى كلامه على : ليس له إلا الضراء وإلا صيدها ، ثم ذكر فى آخر الكلام (نشب) ويبيّنه أن تجعل موضعه فى أوّل الكلام.

(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) وفى قراءة أبىّ كأيّن من فئة قليلة غلبت وهما لغتان. وكذلك (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ) (٤) هى لغات كلّها معناهنّ معنى كم. فإذا ألقيت (من) كان فى الاسم النكرة النصب والخفض. من ذلك قول العرب : كم رجل كريم قد رأيت ، وكم جيشا جرّارا قد هزمت. فهذان وجهان ، ينصبان ويخفضان والفعل فى المعنى واقع. فإن كان الفعل ليس بواقع وكان للاسم جاز النصب أيضا

__________________

(١) الثنى : منعطف الوادي ومنقطعه. وجماء موضع. والبيت فى وصف أسد من قصيدة طويلة لأبى زبيد الطائىّ مدونة فى الطرائف الأدبية للأستاذ عبد العزيز الميمنى ٩٨.

(٢) من قصيدة لجرير يمدح فيها يزيد بن عبد الملك ويهجو آل المهلب. و (أسنمة) موضع فى بلاد تميم. والرعي : الكلأ يرعى.

(٣) من قصيدة التي أوّلها :

ما بال عينك منها الماء ينسكب

كأنه من كلى مفرية سرب

وهو فى وصف صائد. والمقزع : الخفيف الشعر. وأطلس : أغبر. والأطمار واحدها الطمر ، وهو الثوب الخلق. والضراء واحدها ضرو ، وهو الكلب الضارى ، يريد كلاب الصيد ، والنشب : المال.

(٤) آية ١٤٦ سورة آل عمران.

١٦٨

والخفض. وجاز أن تعمل الفعل فترفع به (١) النكرة ، فتقول : كم رجل كريم قد أتانى ، ترفعه بفعله ، وتعمل فيه الفعل إن كان واقعا عليه ؛ فتقول : كم جيشا جرّارا قد هزمت ، نصبته بهزمت. وأنشدوا قول الشاعر :

كم عمّة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت علىّ عشارى (٢)

رفعا ونصبا وخفضا ، فمن نصب قال : كان أصل كم الاستفهام ، وما بعدها من النكرة مفسّر كتفسير العدد ، فتركناها فى الخبر على جهتها وما كانت عليه فى الاستفهام ؛ فنصبنا (٣) ما بعد (كم) من النكرات ؛ كما تقول : عندى كذا وكذا درهما ، ومن خفض قال : طالت صحبة من للنكرة فى كم ، فلمّا حذفناها أعملنا إرادتها (٤) ، فخفضنا (٥) ؛ كما قالت العرب إذا قيل لأحدهم : كيف أصبحت؟ قال : خير عافاك الله ، فخفض ، يريد : بخير. وأمّا من رفع فأعمل الفعل الآخر ، [و] (٦) نوى تقديم الفعل كأنه قال : كم قد أتانى رجل كريم. وقال امرؤ القيس :

تبوص وكم من دونها من مفازة

وكم أرض جدب دونها ولصوص (٧)

فرفع على نيّة تقديم الفعل (٨). وإنما جعلت الفعل مقدّما فى النيّة لأن النكرات لا تسبق أفاعيلها ؛ ألا ترى أنك تقول : ما عندى شىء ، ولا تقول ما شىء عندى.

__________________

(١) فى اللسان : «فيه».

(٢) هو للفرزدق من قصيدة يهجو فيها جريرا. والفدع : اعوجاج وعيب فى القدم. والعشار جمع العشراء. وهى الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر.

(٣) كذا فى اللسان (كمم) وفى الأصول : «فتكتبا» وهو تحريف.

(٤) كذا فى اللسان. وفى الأصول : «أراد بها» وهو تحريف.

(٥) حاصل هذا أن خفض تمييزكم الخبرية بالحرف (من) محذوفا. وهذا مذهب أصحابه الكوفيين. والبصريون يرون الجر بإضافة كم.

(٦) زيادة من اللسان.

(٧) قبله مطلع القصيدة :

أ من ذكر سلمى أن نأتك تنوص

فنقصر عنها خطوة أو تبوص

(تنوص) أي تتحول. «فتقصر عنها خطوة» أي تتأخر عنها «أو تبوص» البوص السبق والفوت ، أي تسبقها. أي أنك لا توافقها فى السير معها ، وهو يخاطب نفسه.

(٨) يريد بالفعل فى البيت (دونها) فإنها فى معنى استقرّ دونها.

١٦٩

وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ ...) (٢٥٨)

وإدخال العرب (إلى) فى هذا الموضع على جهة التعجّب ؛ كما تقول للرجل :

أما ترى إلى هذا! والمعنى ـ والله أعلم ـ : هل رأيت مثل هذا أو رأيت هكذا! والدليل على ذلك أنه قال : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) فكأنه قال : هل رأيت كمثل الذي حاجّ إبراهيم فى ربه (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) وهذا فى جهته بمنزلة ما أخبرتك به فى مالك وما منعك. ومثله قول الله تبارك وتعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) (١) ثم قال تبارك وتعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) (٢) فجعل اللام جوابا وليست فى أوّل الكلام. وذلك أنك إذا قلت : من صاحب هذه الدار؟

فقال لك القائل : هى لزيد ، فقد أجابك بما تريد. فقوله : زيد ولزيد سواء فى المعنى. فقال : أنشدنى بعض بنى عامر :

فأعلم أننى سأكون رمسا

إذا سار النواجع لا يسير (٣)

فقال السائرون لمن حفرتم

فقال المخبرون لهم : وزير (٤)

ومثله فى الكلام أن يقول لك الرجل : كيف أصبحت؟ فتقول أنت : صالح ، بالرفع ، ولو أجبته على نفس كلمته لقلت : صالحا. فكفاك إخبارك عن حالك من أن تلزم كلمته. ومثله قول الله تبارك وتعالى (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ

__________________

(١) آية ٨٥ سورة المؤمنين.

(٢) آية ٨٦ سورة المؤمنين.

(٣) «رمسا» أى مدفونا. والرمس فى الأصل الستر والدفن ، فأطلق على اسم المفعول. ومن معانى الرمس التراب على القبر تعفوه المريح ، ويجوز أن يراد هنا ، أى يستحيل بعد ترابا. و «النواجع» جمع الناجعة ، يريد الفرقة الناجعة أو القوم الناجعة ، والناجع الذى يقصد بإبله المرعى والكلأ حيث يكون.

(٤) وزير اسم الشاعر.

١٧٠

رَسُولَ اللهِ) (١) وإذا نصبت أردت : ولكن كان رسول الله ، وإذا رفعت أخبرت ، فكفاك الخبر مما قبله. وقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ) (٢) رفع وهو أوجه من النصب ، لأنه لو نصب لكان على : ولكن احسبهم أحياء ؛ فطرح الشكّ من هذا الموضع أجود. ولو كان نصبا كان صوابا كما تقول : لا تظننه كاذبا ، بل اظننه صادقا. وقال الله تبارك وتعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٣) إن شئت جعلت نصب قادرين من هذا التأويل ، كأنه فى مثله من الكلام قول القائل : أ تحسب أن لن أزورك؟ بل سريعا إن شاء الله ، كأنه قال : بلى فاحسبنى زائرك. وإن كان الفعل قد وقع على (أن لن نجمع) فإنه فى التأويل واقع على الأسماء. وأنشدنى بعض (٤) بنى فقعس :

أجدّك لن ترى بثعيلبات

ولا بيدان ناجية ذمولا

ولا متدارك والشمس طفل

ببعض نواشغ الوادي حمولا

فقال : ولا متدارك ، فدلّ ذلك على أنه أراد ما أنت براء بثعيلبات كذا ولا بمتدارك. وقد يقول بعض النحويّين : إنا نصبنا (قادرين) على أنها صرفت (٥) عن نقدر ، وليس ذلك بشىء ، ولكنه قد يكون فيه وجه آخر سوى ما فسّرت لك : يكون خارجا (٦) من (نجمع) كأنه فى الكلام قول القائل : أ تحسب أن لن أضربك؟ بلى قادرا على قتلك ، كأنه قال : بلى أضربك قادرا على أكثر من ضربك.

__________________

(١) آية ٤٠ سورة الأحزاب.

(٢) آية ١٦٩ سورة آل عمران.

(٣) آية ٤ سورة القيامة.

(٤) الشعر للمرّار بن سعيد. وثعيلبات وبيدان موضعان. والناجية : الناقة السريعة. ونواشغ الوادي أعاليه. والحمول الهوادج ، والإبل عليها الهوادج. وانظر الخصائص ١ / ٣٨٨ طبعة الدار.

(٥) يريد أن الأصل : بلى نقدر ، ثم حوّل (نقدر) إلى (قادرين) وقوله : «وليس ذلك بشىء» لأنه لا وجه لنصب قادرين على هذا الوجه.

(٦) يريد أنه حال من فاعل (نجمع) المقدرة بعد (بلى).

١٧١

وقوله : (كَمْ لَبِثْتَ) وقد جرى الكلام بالإدغام للثاء ؛ لقيت التاء وهى مجزومة (١). وفى قراءة عبد الله (اتّختّم العجل) (٢) (وإنى عتّ بربي وربكم) (٣) فأدغمت الذال أيضا عند التاء. وذلك أنهما متناسبتان فى قرب المخرج ، والثاء والذال مخرجهما ثقيل ، فأنزل الإدغام بهما لثقلهما ؛ ألا ترى أن مخرجهما من طرف اللسان. وكذلك الظاء تشاركهن فى الثقل. فما أتاك من هذه الثلاثة الأحرف فأدغم. وليس تركك الإدغام بخطأ ، إنما هو استثقال. والطاء والدال يدغمان عند التاء أيضا إذا أسكنتا ؛ كقوله : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) (٤) تخرج الطاء فى اللفظ تاء ، وهو أقرب إلى التاء من الأحرف الأول ، تجد ذلك إذا امتحنت مخرجيهما.

وقوله : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) جاء التفسير : لم يتغير [بمرور السنين عليه (٥) ، مأخوذ من السنة] ، وتكون الهاء من أصله [من (٦) قولك : بعته مسانهة ، تثبت وصلا ووقفا. ومن وصله بغير هاء جعله من المساناة ؛ لأن لام سنة تعتقب عليها الهاء والواو] ، وتكون زائدة صلة بمنزلة قوله (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٧) فمن جعل الهاء زائدة جعل فعّلت (٨) منه تسنيت ؛ ألا ترى أنك تجمع السنة سنوات فيكون تفعّلت على صحة ، ومن قال فى [تصغير] (٩) السنة سنينة وإن كان ذلك قليلا جاز أن يكون تسنيت تفعّلت أبدلت النون بالياء لمّا كثرت النونات ، كما قالوا تظنّيت وأصله الظن. وقد قالوا هو مأخوذ من قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (١٠) يريد : متغيّر. فإن يكن كذلك فهو أيضا مما أبدلت نونه ياء. ونرى أن معناه مأخوذ من السنة ؛ أي لم تغيّره السنون. والله أعلم. حدّثنا محمد بن الجهم ، قال حدّثنا الفراء ، قال حدّثنى سفيان بن عيينة رفعه إلى زيد

__________________

(١) أي ساكنة.

(٢) آية ٩٢ سورة البقرة.

(٣) آية ٢٠ سورة الدخان.

(٤) آية ٢٢ سورة النمل.

(٥ ، ٦ ، ٩) زيادة من اللسان.

(٧) آية ٩٠ سورة الأنعام.

(٨) كذا فى الأصول. والمناسب : تفعلت.

(١٠) آية ٢٠ سورة الحجر.

١٧٢

ابن ثابت قال : كتب فى حجر؟؟؟ ها ولم؟؟؟ وانظر إلى زيد بن ثابت فنقط على الشين والزاى أربعا وكتب (يتسنه) بالهاء. وإن شئت قرأتها فى الوصل على وجهين : تثبت الهاء وتجزمها ، وإن شئت حذفتها ؛ أنشدنى بعضهم :

فليست بسنهاء ولا رجّبيّة

ولكن عرايا فى السنين الجوائح (١)

والرجّبيّة : التي تكاد تسقط فيعمد حولها بالحجارة. والسنهاء النخلة القديمة. فهذه قوّة لمن أظهر الهاء إذا وصل.

وقوله (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) إنما أدخلت فيه الواو لنيّة فعل بعدها مضمر ؛ كأنه قال : ولنجعلك آية فعلنا ذلك. وهو كثير فى القرآن. وقوله (آيَةً لِلنَّاسِ) حين بعث أسود اللحية والرأس وبنو بنيه شيب ، فكان آية لذلك.

وقوله (نُنْشِزُها) قرأها زيد بن ثابت كذلك ، والإنشاز نقلها إلى موضعها. وقرأها ابن عباس «ننشرها». إنشارها : إحياؤها. واحتجّ بقوله : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) (٢) وقرأها الحسن ـ فيما بلغنا ـ (ننشرها) ذهب إلى النشر والطىّ. والوجه أن تقول : أنشر الله الموتى فنشروا إذا حيوا ، كما قال الأعشى :

يا عجبا للميت الناشر (٣)

وسمعت بعض بنى الحارث يقول : كان به جرب فنشر ، أي عاد وحيى. وقوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جزمها (٤) ابن عبّاس ، وهى فى قراءة

__________________

(١) هذا الشعر لسويد بن الصامت الأنصارىّ الصحابىّ ، يذكر نخله التي يدان عليها. والعرايا جمع العرية ، وهى النخلة التي يوهب ثمرها لعامها. وانظر الإصابة ، واللسان (عرى).

(٢) آية ٢٢ سورة عبس.

(٣) قبله :

حتى يقول الناس مما رأوا

وهو من قصيدته التي يقولها فى منافرة علقمة وعامر بن الطفيل. وانظر الصبح المنير ١٠٥

(٤) يريد أنه سكن الميم فى اعلم على أنه أمر من علم ؛ والهمزة عليه همزة وصل.

١٧٣

أبىّ وعبد الله جميعا : (قيل له اعلم) ، واحتجّ ابن عباس فقال : أ هو خير من إبراهيم وأفقه؟ فقد قيل له : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) والعامّة تقرأ : أعلم أن الله وهو وجه حسن ؛ لأن المعنى كقول الرجل عند القدرة تتبين له من أمر الله : (أشهد أن لا إله إلا الله) والوجه الآخر أيضا بيّن.

وقوله (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) ضمّ الصاد العامّة. وكان أصحاب عبد الله يكسرون الصاد. وهما لغتان. فأمّا الضمّ فكثير ، وأما الكسر ففى هذيل وسليم. وأنشدنى الكسائىّ عن بعض بنى سليم :

وفرع يصير الجيد وحف كأنه

على الليت قنوان الكروم الدوالح (١)

ويفسّر معناه : قطّعهن ، ويقال : وجّههن. ولم نجد قطّعهنّ معروفة من هذين الوجهين ، ولكنى أرى ـ والله أعلم ـ أنها إن كانت من ذلك أنها من صريت تصرى ، قدّمت ياؤها كما قالوا : عثت وعثيت (٢) ، وقال الشاعر :

صرت نظرة لو صادفت جوز دارع

غدا والعواصى من دم الجوف تنعر (٣)

والعرب تقول : بات يصرى فى حوضه إذا استقى ثم قطع واستقى ؛ فلعله من ذلك. وقال الشاعر :

يقولون إن الشام يقتل أهله

فمن لى إن لم آته بخلود

تعرّب آبائي فهلّا صراهم

من الموت أن لم يذهبوا وجدودى

__________________

(١) يريد بالفرع الشعر التام. والوحف : الأسود. والليت : صفحة العنق. ويريد بقنوان الكروم عناقيد العنب ، وأصل ذلك كباسة النخل ، والدوالح : المثقلات بحملها.

(٢) يريد أنه يقال عنى أي أفسد ، وذلك لغة أهل الحجاز ، وعاث فى معناها وهى لغة التميميين ، وكأنه يرى الأولى أصل الثانية كصرى وصار.

(٣) صرت نظرة أي قطعت نظرة أي فعلت ذلك. والجوز : وسط الشيء. والعواصى جمع العاصي وهو العرق ، ويقال : نعر العرق : فار منه الدم.

١٧٤

وقوله : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ......) (٢٦٦)

ثم قال بعد ذلك (وأصابه الكبر) ثم قال (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) فيقول القائل : فهل يجوز فى الكلام أن يقول : أ تودّ أنّ تصيب مالا فضاع ، والمعنى : فيضيع؟ قلت : نعم ذلك جائز فى وددت ؛ لأن العرب تلقاها مرّة ب (أن) ومرّة ب (لو) فيقولون : لوددت لو ذهبت عنا ، [و] وددت أن تذهب عنا ، فلمّا صلحت بلو وبأن ومعناهما جميعا الاستقبال استجازوا أن يردّوا فعل بتأويل لو ، على يفعل مع أن. فلذلك قال : فأصابها ، وهى فى مذهبه بمنزلة لو ؛ إذ ضارعت إن بمعنى الجزاء فوضعت فى مواضعها ، وأجيبت إن بجواب لو ، ولو بجواب إن ؛ قال الله تبارك وتعالى (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) (١) والمعنى ـ والله أعلم ـ : وإن أعجبتكم ؛ ثم قال (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا) (٢) ([مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ]) فأجيبت لئن بإجابة لو ومعناهما مستقبل. ولذلك قال فى قراءة أبىّ ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلوا» (٣) ردّه على تأويل : ودّوا أن تفعلوا. فإذا رفعت (فيميلون) رددت على تأويل لو ؛ كما قال الله تبارك وتعالى (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٤) وقال أيضا (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) (٥) وربما جمعت العرب بينهما جميعا ؛ قال الله تبارك وتعالى (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٦) وهو مثل جمع العرب بين ما وإن وهما جحد ؛ قال الشاعر :

__________________

(١) آية ٢٢١ سورة البقرة.

(٢) آية ٥١ سورة الروم.

(٣) آية ١٠٢ سورة النساء.

(٤) آية ٩ سورة القلم.

(٥) آية ٧ سورة الأنفال.

(٦) آية ٣٠ سورة آل عمران.

١٧٥

قد يكسب المال الهدان الجافي

بغير لا عصف ولا اصطراف (١)

وقال آخر :

ما إن رأينا مثلهن لمعشر

سود الرءوس فوالج وفيول (٢)

وذلك لاختلاف اللفظين يجعل أحدهما لغوا. ومثله قول الشاعر :

من النفر اللاء الذين إذا هم

تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا (٣)

ألا ترى أنه قال : اللاء الذين ، ومعنا هما الذين ، استجيز جمعهما لاختلاف لفظهما ، ولو اتفقا لم يجز. لا يجوز ما ما قام زيد ، ولا مررت بالذين الذين يطوفون. وأمّا قول الشاعر :

كما ما امرؤ فى معشر غير رهطه

ضعيف الكلام شخصه متضائل

فإنما استجازوا الجمع بين ما وبين [ما] (٤) لأن الأولى وصلت بالكاف ، ـ كأنها كانت هى والكاف اسما واحدا ـ ولم توصل الثانية ، واستحسن الجمع بينهما. وهو فى قول الله (كَلَّا لا وَزَرَ) (٥) كانت لا (٦) موصولة ، وجاءت الأخرى مفردة فحسن اقترانهما. فإذا قال القائل : (ما ما قلت بحسن) (٧) جاز ذلك على غير عيب ؛ لأنه

__________________

(١) نسب فى اللسان (هدن) إلى رؤبة. والهدان : الأحمق الثقيل. والعصف : الكسب ، وكذلك الاصطراف.

(٢) الفوالج جمع الفالج ، وهو جمل ذو سنامين يجلب من السند للفحلة. والفيول جمع الفيل.

(٣) ينسب هذا إلى أبى الربيس أحد اللصوص ، يقوله فى عبد الله بن جعفر بن أبى طالب ، وكان قد سرق ناقة له. وقبله :

مطية بطال لدن شب همه

قمار الكعاب والطلاء المشعشع

ويروى هذا الشعر لغير عبد الله بن جعفر. وانظر الخزانة ٢ / ٥٢٩.

(٤) زيادة اقتضاها السياق.

(٥) آية ١١ سورة القيامة.

(٦) ذلك أن كلا مركبة عند الكوفيين من كاف التشبيه ولا النافية. وشدّدت اللام لتقوية المعنى.

وقد نسب هذا القول صاحب المغني إلى ثعلب.

(٧) كذا فى ج. وفى ش : «يحسن».

١٧٦

يجعل ما الأولى جحدا والثانية فى مذهب الذي. [وكذلك لو قال : من من عندك؟ جاز ؛ لأنه جعل من الأول استفهاما ، والثاني على مذهب الذي] (١). فإذا اختلف معنى الحرفين جاز الجمع بينهما.

وأمّا قول الشاعر :

كم نعمة كانت لها كم كم وكم

إنما هذا تكرير حرف ، لو وقعت (٢) على الأوّل أجزأك من الثاني. وهو كقولك للرجل : نعم نعم ، تكررها ، أو قولك : اعجل اعجل ، تشديدا للمعنى. وليس هذا من البابين الأولين فى شىء. وقال الشاعر : (٣)

هلّا سألت جموع كن

دة يوم ولّوا أين أينا

وأمّا قوله : (لم أره منذ يوم يوم) فإنه ينوى بالثاني غير اليوم الأوّل ، إنما هو فى المعنى : لم أره (٤) منذ يوم تعلم. وأمّا قوله :

نحمى حقيقتنا وبع

ض القوم يسقط بين بينا (٥)

فإنه أراد : يسقط هو لا بين هؤلاء ولا بين هؤلاء. فكان اجتماعهما فى هذا الموضع بمنزلة قولهم : هو جارى بيت بيت ، ولقيته كفّة كفّة (٦) ؛ لأن الكفّتين واحدة منك وواحدة منه. وكذلك هو جارى بيت بيت معناه : بيتي وبيته لصيقان.

__________________

(١) زيادة فى ج.

(٢) كذا. والأنسب : «وقفت».

(٣) هو عبيد بن الأبرص يقوله فى أبيات يردّ بها على إمرئ القيس بن حجر ، وكان توعد بنى أسد قوم عبيد إذ قتلوا أبا امرئ القيس. وكندة قوم امرئ القيس. وانظر الأغانى (بولاق) ١٩ / ٨٥

(٤) من ذلك قول الفرزدق :

ولو لا يوم يوم ما أردنا

لقاءك والقروض لها جزاء

قال الشنتمرى «أي لو لا نصرنا لك فى اليوم الذي تعلم ...» وانظر الكتاب ٢ / ٥٣

(٥) من قصيدة عبيد التي منها البيت السابق. وحقيقة الرجل ما يحق عليه أن يحميه كالأهل والولد.

(٦) أي كفاحا ومواجهة.

١٧٧

قال : كيف قال قوله : (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ ...) (٢٦٥)

وهذا الأمر قد مضى؟ قيل : أضمرت (كان) فصلح الكلام. ومثله أن تقول : قد أعتقت عبدين ، فإن لم أعتق اثنين فواحدا بقيمتهما ، والمعنى إلّا أكن ؛ لأنه ماض فلا بدّ من إضمار كان ؛ لأن الكلام جزاء. ومثله قول الشاعر :

إذا ما انتسبنا لم تلدنى لئيمة

ولم تجدى من أن تقرّى بها بدّا (١)

وقوله : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ...) (٢٦٧)

فتحت (أن) بعد إلّا وهى فى مذهب جزاء. وإنما فتحتها لأن إلا قد وقعت عليها بمعنى خفض يصلح. فإذا رأيت (أن) فى الجزاء قد أصابها معنى خفض أو نصب أو رفع انفتحت. فهذا من ذلك. والمعنى ـ والله أعلم ـ ولستم بآخذيه إلا على إغماض ، أو بإغماض ، أو عن إغماض ، صفة (٢) غير معلومة. ويدلك على أنه جزاء أنك تجد المعنى : إن أغمضتم بعض الإغماض أخذتموه. ومثله قوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) (٣) ومثله (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) (٤) هذا كلّه جزاء ، وقوله (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٥) ألا ترى أن المعنى : لا تقل إنى فاعل إلا ومعها إن شاء الله ؛ فلمّا قطعتها (إلا) عن معنى الابتداء ، مع ما فيها من نيّة الخافض فتحت. ولو لم تكن فيها (إلّا) تركت على كسرتها ؛ من ذلك أن تقول : أحسن إن قبل منك. فإن أدخلت (إلّا) قلت : أحسن إلا ألّا يقبل منك. فمثله

__________________

(١) انظر ص ٦١ من هذا الجزء.

(٢) يريد أن حرف الجر المحذوف فى (أن تغمضوا) يصح تقديره على أو عن أو الباء ؛ فهو غير معين.

(٣) آية ٢٢٩ سورة البقرة.

(٤) آية ٢٣٧ سورة البقرة.

(٥) آية ٢٤ سورة الكهف.

١٧٨

قوله (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (١) ، (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (٢) هو جزاء ، المعنى : إن تصوموا فهو خير لكم. فلما أن صارت (أن) مرفوعة ب (خير) (٣) صار لها ما يرافعها إن فتحت وخرجت من حدّ الجزاء. والناصب كذلك.

ومثله من الجزاء الذي إذا وقع عليه خافض أو رافع أو ناصب ذهب عنه الجزم قولك : اضربه من كان ، ولا آتيك ما عشت. فمن وما فى موضع جزاء ، والفعل فيهما مرفوع (٤) فى المعنى ؛ لأنّ كان والفعل الذي قبله قد وقعا على (من) و (ما) فتغيّر عن الجزم ولم يخرج من تأويل الجزاء ؛ قال الشاعر (٥) :

فلست مقاتلا أبدا قريشا

مصيبا رغم ذلك من أصابا

فى (٦) تأويل رفع لوقوع مصيب على من.

ومثله قول الله عزوجل (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ) (٧) إن جعلت (من) مردودة (٨) على خفض (الناس) فهو من هذا ، و (استطاع) فى موضع (٩) رفع ، وإن نويت الاستئناف بمن كانت جزاء ، وكان الفعل بعدها جزما ، واكتفيت بما جاء قبله من جوابه. وكذلك تقول فى الكلام : أيّهم يقم فاضرب ، فإن قدّمت الضرب

__________________

(١) آية ٢٣٧ سورة البقرة.

(٢) آية ١٨٤ سورة البقرة.

(٣) فى ش ، ج : (بخبر).

(٤) يريد أن الفعل لا يكون مجزوما ، وإذا كان ماضيا لفظا فهو مراد به الاستقبال ، فهو فى تأويل المضارع المرفوع. وفى الأصول : «موقوع» وهو تحريف.

(٥) هو الحارث بن ظالم. والبيت من قصيدة مفضلية. وانظر شرح المفضليات لابن الأنبارى ٥١٧

(٦) يريد أن «أصاب» فى البيت فى موقع رفع ؛ لأن «من» مفعول «مصيب» وبهذا خرجت «من» عن معنى الجزاء ، فلم يكن الفعل معها فى موضع الجزم.

(٧) آية ٩٧ سورة آل عمران.

(٨) يريد أنها بدل من (الناس).

(٩) كأنه يريد أن (استطاع) فى مكان يستطيع المرفوعة.

١٧٩

فأوقعته على أىّ قلت اضرب أيّهم يقوم ؛ قال بعض العرب (١) : فأيّهم ما أخذها ركب على أيهم يريد. ومنه قول الشاعر (٢) :

فإنى لآتيكم تشكّر ما مضى

من الأمر واستيجاب ما كان فى غد

لأنه لا يجوز لو لم يكن جزاء أن تقول : كان فى غد ؛ لأن (كان) إنما خلقت للماضى إلّا فى الجزاء فإنها تصلح للمستقبل. كأنه قال : استيجاب أىّ شىء كان فى غد.

ومثل (٣) إن فى الجزاء فى انصرافها عن الكسر إلى الفتح إذا أصابها رافع قول العرب : (قلت إنك قائم) فإنّ مكسورة بعد القول فى كل تصرّفه. فإذا وضعت مكان القول شيئا فى معناه مما قد يحدث خفضا أو رفعا أو نصبا فتحت أنّ ، فقلت : ناديت أنك قائم ، ودعوت ، وصحت وهتفت. وذلك أنك تقول : ناديت زيدا ، ودعوت زيدا ، وناديت (٤) بزيد ، (وهتفت بزيد) (٥) فتجد هذه الحروف تنفرد (٦) بزيد وحده ؛ والقول لا يصلح فيه أن تقول : قلت زيدا ، ولا قلت بزيد. فنفذت الحكاية فى القول ولم تنفذ فى النداء ؛ لاكتفائه بالأسماء. إلا أن يضطرّ شاعر إلى كسر إنّ فى النداء وأشباهه ، فيجوز له ؛ كقوله : (٧)

إنى سأبدى لك فيما أبدى

لى شجنان شجن بنجد

وشجن لى ببلاد الهند

__________________

(١) فى اللسان (أىّ) : «أيهم ما أدرك يركب على أيهم يريد».

(٢) هو الطرماح بن حكيم الطائىّ. وقبله :

من كان لا يأتيك إلا لحاجة

يروح بها فيما يروح ويغتدى

وانظر الديوان ١٤٦

(٣) كذا فى ش. وفى ح : «مثله».

(٤) كذا. وقد يكون : «صحت».

(٥) زيادة فى ش.

(٦) أي لا تحتاج إلى شىء وراءه ، بخلاف القول ، فلا تقول : قلت زيدا ، وتسكت.

(٧) انظر فى هذا الرجز ص ٨٠ من هذا الجزء.

١٨٠