معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ...) (٢١٧)

وهى فى قراءة عبد الله «عن قتال فيه» فخفضته على نيّة (عن) مضمرة.

(قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ففى الصدّ وجهان : إن شئت جعلته مردودا على الكبير ، تريد : قل القتال فيه كبير وصدّ عن سبيل الله وكفر به. وإن شئت جعلت الصدّ كبيرا ؛ تريد : قل القتال فيه كبير ؛ وكبير الصدّ عن سبيل الله والكفر به.

(وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) مخفوض بقوله (١) : يسألونك عن القتال وعن المسجد. فقال الله تبارك وتعالى : (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ) أهل المسجد (مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) من القتال فى الشهر الحرام. ثم فسّر فقال تبارك وتعالى : (وَالْفِتْنَةُ) ـ يريد الشرك ـ أشدّ من القتال فيه.

وقوله : (قُلِ الْعَفْوَ ...) (٢١٩)

وجه الكلام فيه النصب ، يريد : قل ينفقون العفو. وهو فضل المال [قد] (٢) نسخته الزكاة [تقول : قد عفا] (٣).

وقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ...) (٢٢٠)

يقال للغلام يتم ييتم يتما ويتما. قال : وحكى لى يتم ييتم.

(وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) ترفع الإخوان على الضمير (٤) (فهم) ؛ كأنك قلت (فهم إخوانكم) ولو نصبته كان صوابا ؛ يريد : فإخوانكم تخالطون ، ومثله

__________________

(١) فى ش : «لقوله».

(٢ ، ٣) زيادة فى أ ، والأنسب وصلها بقوله : وهو فضل المال.

(٤) فى أ : «ضمير».

١٤١

(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) (١) ولو نصبت هاهنا على إضمار فعل (ادعوهم إخوانكم ومواليكم) (٢). وفى قراءة عبد الله «إن تعذّبهم فعبادك» وفى قراءتنا (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) (٣).

وإنما يرفع من ذا ما كان اسما يحسن فيه «هو» مع المرفوع. فإذا لم يحسن فيه «هو» أجريته على ما قبله ؛ فقلت : إن اشتريت طعاما فجيّدا ، أي فاشتر الجيّد ، وإن لبست ثيابا فالبياض ، تنصب لأن «هو» لا يحسن هاهنا ، والمعنى فى هذين هاهنا مخالف للأوّل ؛ ألا ترى أنك تجد القوم إخوانا وإن جحدوا ، ولا تجد كلّ ما يلبس بياضا ، ولا كلّ ما يشترى جيّدا. فإن نويت أن ما ولى شراءه فجيّد رفعت إذا كان الرجل قد عرف بجودة الشراء وبلبوس البياض. وكذلك قول الله (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً) (٤) نصب ؛ لأنه شىء ليس بدائم ، ولا يصلح فيه «هو» ؛ ألا ترى أن المعنى : إن خفتم أن تصلّوا قياما فصلّوا رجالا أو ركبانا [رجالا يعنى : رجّالة] (٥) فنصبا لأنهما حالان للفعل لا يصلحان خبرا.

(وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) المعنى فى مثله من الكلام : الله يعلم أيّهم يفسد وأيّهم يصلح. فلو وضعت أيّا أو من مكان الأوّل (٦) رفعته ، فقلت : أنا أعلم أيّهم قام من القاعة ، قال [الفرّاء] (٧) سمعت العرب تقول : ما يعرف أىّ من أىّ. وذلك أن (أىّ) و (من) استفهامان ، والمفسد خبر. ومثله ما أبالى قيامك أو قعودك ، ولو جعلت فى الكلام استفهاما بطل الفعل عنه فقلت : ما أبالى أ قائم أنت أم قاعد. ولو ألقيت الاستفهام اتّصل الفعل بما قبله فانتصب. والاستفهام كله منقطع مما قبله لخلقة الابتداء به.

__________________

(١) آية ٥ سورة الأحزاب.

(٢) جواب لو محذوف تقديره : كان صوابا.

(٣) آية ١١٨ سورة المائدة.

(٤) آية ٢٣٩ سورة البقرة.

(٥) زيادة فى أ.

(٦) يريد بالأوّل الذي يلى مادة العلم.

(٧) زيادة فى أ.

١٤٢

وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ ...) (٢٢٠)

يقال : قد عنت الرجل عنتا ، وأعنته الله إعناتا.

وقوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ...) (٢٢١)

يريد : لا تزوّجوا. والقرّاء على هذا. ولو كانت : ولا تنكحوا المشركات أي لا تروّجوهن المسلمين كان صوابا. ويقال : نكحها نكحا ونكاحا.

وقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ...) (٢٢١)

كقوله : وإن أعجبتكم. ولو وإن متقاربان فى المعنى. ولذلك جاز أن يجازى (١) لو بجواب إن ، وإن بجواب لو فى قوله : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) (٢). وقوله : (فَرَأَوْهُ) يعنى بالهاء الزّرع.

وقوله : (حَتَّى يَطْهُرْنَ ...) (٢٢٢)

بالياء. وهى فى قراءة عبد الله إن شاء الله «يتطهرن» بالتاء ، والقرّاء بعد يقرءون «حتى يطهرن ، ويطّهّرن» [يطهرن] (٣) : ينقطع عنهن الدم ، ويتطهرن : يغتسلن بالماء. وهو أحبّ الوجهين إلينا : يطّهّرن.

(فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) ولم يقل : فى حيث ، وهو الفرج. وإنما قال : من حيث كما تقول للرجل : ايت زيدا من مأتاه أي من الوجه الذي يؤتى منه. فلو ظهر الفرج ولم يكن عنه قلت فى الكلام : ايت المرأة فى فرجها. (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) يقال : ايت الفرج من حيث شئت.

__________________

(١) فى أ : «يجاب».

(٢) آية ٥١ سورة الروم.

(٣) زيادة يقتضيها للسياق.

١٤٣

وقوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ...) (٢٢٣)

[أي] (١) كيف شئتم. حدّثنا محمد بن الجهم ، قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثنى شيخ عن ميمون (٢) بن مهران قال قلت لابن عباس : إن اليهود تزعم أن الرجل إذا أتى امرأته من ورائها فى قبلها خرج الولد أحول. قال فقال ابن عباس : كذبت يهود (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) يقول : ايت الفرج من حيث شئت (٣).

وقوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا ...) (٢٢٤)

يقول : لا تجعلوا الحلف بالله مانعا معترضا (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) يقول : لا يمتنعنّ أحدكم أن يبرّ ليمين إن حلف عليها ، ولكن ليكفّر يمينه ويأت الذي هو خير.

وقوله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ...) (٢٢٥)

فيه قولان. يقال : هو (٤) ممّا جرى فى الكلام من قولهم : لا والله ، وبلى والله. والقول الآخر : الأيمان أربع. فيمينان فيهما الكفّارة والاستغفار ، وهو قولك : والله لا أفعل ، ثم تفعل ، وو الله لأفعلنّ ثم لا تفعل. ففى هاتين الكفارة والاستغفار [لأن الفعل فيهما مستقبل] (٥). واللتان فيهما الاستغفار ولا كفّارة فيهما قولك : والله ما فعلت وقد فعلت ، وقولك : والله لقد فعلت ولم تفعل. فيقال هاتان لغو ؛ إذ لم تكن فيهما كفّارة. وكان القول الأوّل ـ وهو قول عائشة : إن اللغو ما يجرى فى الكلام على غير عقد ـ أشبه بكلام العرب.

__________________

(١) زيادة فى أ.

(٢) فى أ : «منصور» والصواب ما أثبت تبعا لما فى ش. وميمون بن مهران الرقىّ يروى عن ابن عباس وأبى هريرة ، ماتت سنة ١١٧. وانظر الخلاصة.

(٣) الظاهر أن هذا نهاية كلام ابن عباس.

(٤) فى ش : «وهو».

(٥) زيادة فى ش.

١٤٤

وقوله : (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ...) (٢٢٦)

التربّص إلى الأربعة. وعليه القرّاء. ولو قيل فى مثله من الكلام : تربّص أربعة أشهر كان صوابا كما قرءوا (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) (١) وكما قال (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) (٢) والمعنى تكفتهم (٣) أحياء وأمواتا. ولو قيل فى مثله من الكلام : كفات أحياء وأموات كان صوابا. ولو قيل : تربص : أربعة أشهر كما يقال فى الكلام : بينى وبينك سير طويل : شهر أو شهران ؛ تجعل السير هو الشهر ، والتربّص هو الأربعة (٤). ومثله (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) (٥) وأربع شهادات. ومثله (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (٦) فمن رفع (مثل) فإنه أراد : فجزاؤه مثل ما قتل. قال : وكذلك رأيتها فى مصحف عبد الله (فَجَزاؤُهُ) بالهاء ، ومن نصب (مثل) أراد : فعليه أن يجزى مثل ما قتل من النعم.

(فَإِنْ فاؤُ) يقال : قد فاءوا يفيئون فيئا وفيوءا. والفيء : أن يرجع إلى أهله فيجامع.

وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ...) (٢٢٨) وفى قراءة عبد الله «بردتهن».

وقوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ ...) (٢٢٩)

وفى قراءة عبد الله «إلا أن تخافوا» فقرأها حمزة على هذا المعنى (إِلَّا أَنْ يَخافا) ولا يعجبنى ذلك. وقرأها بعض (٧) أهل المدينة كما قرأها حمزة. وهى فى قراءة أبيّ

__________________

(١) آيتا ١٤ ، ١٥ سورة البلد.

(٢) آيتا ٢٥ ، ٢٦ سورة المرسلات.

(٣) فى أ : «تكفتهما».

(٤) جواب لو حذف أي جاز مثلا. ويكثر من المؤلف هذا.

(٥) فى آية ٦ سورة النور.

(٦) آية ٩٥ سورة المائدة.

(٧) هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع أحد القراء العشرة ، وانظر البحر ٢ / ١٩٧.

١٤٥

«إلا أن يظنّا ألّا يقيما حدود الله» والخوف والظنّ متقاربان فى كلام العرب. من (١) ذلك أن الرجل يقول : قد خرج عبدك بغير إذنك ، فتقول أنت : قد ظننت ذاك ، وخفت ذاك ، والمعنى واحد. وقال الشاعر :

أتانى كلام عن نصيب يقوله

وما خفت يا سلّام أنك عائبى (٢)

وقال الآخر :

إذا مت فادفنّى إلى جنب كرمة

تروّى عظامى بعد موتى عروقها

[ولا تدفننّى فى الفلاة فإننى

أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها] (٣)

والخوف فى هذا الموضع كالظنّ. لذلك رفع «أذوقها» كما رفعوا (٤) (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (٥) وقد روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أمرت بالسواك (٦) حتى خفت لأدردنّ (٧)) كما تقول : ظنّ ليذهبنّ.

وأما ما قال حمزة فإنه إن كان أراد اعتبار قراءة عبد الله فلم يصبه ـ والله أعلم ـ لأن الخوف إنما وقع على (أن) وحدها إذ قال : ألا يخافوا أن لا ، وحمزة قد أوقع الخوف على الرجل والمرأة وعلى أن (٨) ؛ ألا ترى أن اسمهما فى الخوف مرفوع بما لم يسمّ فاعله. فلو أراد ألّا يخافا على هذا ، أو يخافا بذا ، أو من ذا ، فيكون على غير

__________________

(١) فى ش ، ج : «فى» وهو تحريف.

(٢) كذا فى ش. وفى ج «عاينى».

(٣) سقط هذا البيت فى ش ، ج ، ولا بد منه لأنه موضع الشاهد. وهما لأبى محجن الثقفي.

(٤) أي القراء.

(٥) آية ٧١ سورة المائدة.

(٦) فى ج : «بالسؤال» وما هنا عن ش. ويبدو فيه أثر الإصلاح.

(٧) الدرد : ذهاب الأسنان. ولفظ الحديث فى الجامع الصغير : «أمرت بالسواك حتى خفت على أسنانى».

(٨) يريد أنه على قراءة حمزة (يخافا ألا يقيما) ببناء الفعل للمفعول يكون الفعل قد عمل فى نائب الفاعل : وفى أن ومعمولها ، وكأن الفعل قد عمل فى أكثر من معمول واحد الرفع ، وهذا غير مألوف إلا على وجه التبعية. والنحويون يصححون هذا الوجه بأن يكون (ألا يقيما) بدل اشتمال من نائب الفاعل.

١٤٦

اعتبار قول عبد الله [كان] (١) جائزا ؛ كما تقول للرجل : تخاف لأنك خبيث ، وبأنك ، وعلى أنك ....

وقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) يقال كيف قال :

فلا جناح عليهما ، وإنما الجناح ـ فيما يذهب إليه الناس ـ على الزوج لأنه أخذ ما أعطى؟ ففى ذلك وجهان :

أن يراد الزوج دون المرأة ، وإن كانا قد ذكرا جميعا ؛ فى (٢) سورة الرحمن (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٣) وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح لا من العذب. ومنه (نَسِيا حُوتَهُما) (٤) وإنما الناسي صاحب موسى وحده. ومثله فى الكلام أن تقول : عندى دابّتان أركبهما وأستقى عليهما ، وإنما يركب إحداهما ويستقى على الأخرى ؛ وقد يمكن أن يكونا جميعا تركبان ويستقى عليهما. وهذا من سعة العربية التي يحتجّ بسعتها. ومثله من كتاب الله (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (٥) فيستقيم فى الكلام أن تقول : قد جعل الله لنا ليلا ونهارا نتعيّش فيهما وننام فيهما. وإن شئت ذهبت بالنوم إلى الليل وبالتعيّش إلى النهار.

والوجه الآخر أن يشتركا جميعا فى ألّا يكون عليهما جناح ؛ إذ كانت تعطى ما قد نفى عن الزوج فيه الإثم ، أشركت فيه لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم احتاجت هى إلى مثل ذلك. ومثله قول الله تبارك وتعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (٦) وإنما موضع طرح الإثم فى المتعجّل ، فجعل

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) هذا استئناف كلام لذكر نظير لما سلف. وفى الطبري : «كما قال فى سورة ...».

(٣) آية ٢٢ سورة الرحمن.

(٤) آية ٦١ سورة الكهف.

(٥) آية ٧٣ سورة القصص.

(٦) آية ٢٠٣ سورة البقرة.

١٤٧

للمتأخّر ـ وهو الذي لم يقصّر ـ مثل ما جعل على المقصّر. ومثله فى الكلام قولك : إن تصدّقت سرّا فحسن [وإن تصدّقت جهرا فحسن] (١).

وفى قوله (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وجه آخر ؛ وذلك أن يريد : لا يقولنّ هذا المتعجل للمتأخر : أنت مقصّر ، ولا المتأخّر للمتعجل مثل ذلك ، فيكون قوله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي فلا يؤثّمنّ أحدهما صاحبه.

وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) يريد : فلا جناح عليهما فى أن يتراجعا (٢) ، (أن) فى موضع نصب إذا نزعت الصفة (٣) ، كأنك قلت : فلا جناح عليهما أن يراجعها ، قال وكان الكسائىّ يقول : موضعه خفض. قال الفرّاء : ولا أعرف ذلك.

وقوله (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما) (أن) فى موضع نصب لوقوع الظنّ عليها.

وقوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (٢٣١)

كان الرجل منهم إذا طلّق امرأته فهو أحقّ برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثانية. وكان إذا أراد أن يضرّ بها تركها حتى تحيض الحيضة الثالثة ثم يراجعها ، ويفعل ذلك فى التطليقة الثانية. فتطويله لرجعتها هو الضرار بها.

وقوله : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) (٢٣٢)

يقول : فلا تضيّقوا عليهنّ أن يراجعن أزواجهنّ بمهر جديد إذا بانت إحداهنّ من زوجها ، وكانت هذه أخت معقل ، أرادت أن تزوّج زوجها الأوّل بعد ما انقضت عدّتها فقال معقل لها : وجهى من وجهك حرام إن راجعته ، فأنزل الله عزوجل : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ).

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) كذا فى ج. وفى ش : «يراجعا».

(٣) يريد بها حرف الجرّ.

١٤٨

وقوله (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ) ولم يقل : ذلكم ، وكلاهما صواب. وإنما جاز أن يخاطب القوم «بذلك» لأنه حرف قد كثر فى الكلام حتى توهّم بالكاف أنها (من الحرف) (١) وليست بخطاب. ومن قال (ذلِكَ) جعل الكاف منصوبة (٢) وإن خاطب امرأة أو امرأتين أو نسوة. ومن قال «ذلكم» أسقط التوهّم ، فقال إذا خاطب الواحد : ما فعل ذلك الرجل ، وذانك الرجلان ، وأولئك الرجال. [و] (٣) يقاس على هذا ما ورد. ولا يجوز أن تقول فى سائر الأسماء إذا خاطبت إلا بإخراج (٤) المخاطب فى الاثنين والجميع والمؤنّث ؛ كقولك للمرأة : غلامك فعل ذلك ؛ لا يجوز نصب الكاف ولا توحيدها فى الغلام ؛ لأن الكاف هاهنا لا يتوهّم أنها من الغلام. ويجوز أن تقول : غلامك فعل ذاك وذاك ، على ما فسّرت لك : من الذهاب بالكاف إلى أنها من الاسم.

وقوله : (الرَّضاعَةَ) (٢٣٣)

القرّاء تقرأ بفتح الراء. وزعم الكسائىّ أن من العرب من يقول : الرضاعة بالكسر. فإن كانت فهى بمنزلة الوكالة والوكالة ، والدّلالة والدّلالة ، ومهرت (٥) الشيء مهارة ومهارة ؛ والرّضاع والرّضاع فيه مثل ذلك إلا أن فتح الراء أكثر ، ومثله الحصاد والحصاد.

وقوله (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) يريد : لا تضارر (٦) ، وهو فى موضع جزم. والكسر فيه جائز (لا تُضَارَّ والِدَةٌ) ولا يجوز رفع الراء على نيّة الجزم ، ولكن يرفعه على

__________________

(١) أي جزء من الكلمة التي تلحق بها وهى اسم الإشارة كذا وفروعها. ولا يريد بالحرف ما قابل الاسم.

(٢) أي مفتوحة.

(٣) زيادة يسيغها السياق.

(٤) أي ذكره وإيراده.

(٥) أي حذفته. ويقال أيضا : مهر فيه.

(٦) فى ش ، ج : «تضارّوهم» ويبدو أنه تحريف عما أثبتنا. وفى الطبري : «قرأ عامة قرّاء أهل الحجاز والكوفة والشام (لا تضارّ) بفتح الراء بتأويل لا تضارر على وجه النهى ، وموضعه إذا قرى كذلك جزم ...».

١٤٩

الخبر. وأمّا قوله (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) (١) فقد يجوز أن يكون رفعا على نيّة الجزم ؛ لأن الراء الأولى مرفوعة فى الأصل ، فجاز رفع الثانية عليها ، ولم يجز (لا تضارّ) بالرفع لأن الراء إن كانت تفاعل فهى مفتوحة ، وإن كانت تفاعل فهى مكسورة. فليس يأتيها الرفع إلا أن تكون فى معنى رفع. وقد قرأ عمر بن الخطّاب «ولا يضارر كاتب ولا شهيد».

ومعنى (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) يقول : لا ينزعنّ ولدها منها وهى صحيحة لها لبن فيدفع إلى غيرها. (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) يعنى الزوج. يقول : إذا أرضعت صبيّها وألفها وعرفها فلا تضارنّ (٢) الزوج فى دفع ولده إليه.

وقوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ) (٢٣٤) يقال : كيف صار الخبر عن النساء ولا خبر للأزواج ، وكان ينبغى أن يكون الخبر عن (الَّذِينَ)؟ فذلك جائز إذا ذكرت أسماء ثم ذكرت أسماء مضافة إليها فيها معنى الخبر أن تترك الأوّل ويكون الخبر عن المضاف إليه. فهذا من ذلك ؛ لأن المعنى ـ والله أعلم ـ إنما أريد به : ومن مات عنها زوجها تربصت. فترك الأوّل بلا خبر ، وقصد الثاني ؛ لأن فيه الخبر والمعنى. قال : وأنشدنى بعضهم :

بنى أسد إنّ ابن قيس وقتله

بغير دم دار المذلّة حلّت (٣)

فألقى (ابن قيس) وأخبر عن قتله أنه ذلّ. ومثله :

لعلّى إن مالت بي الرّيح ميلة

على ابن أبى ذبّان أن يتندّما (٤)

__________________

(١) آية ١٢٠ سورة آل عمران.

(٢) فى ش : «تضارون» وهو تحريف.

(٣) فى ج : «خلت» بدل «حلت». وكأنه يريد : إن قتله دار المذلة حلت له ، فجملة «حلت» خبر «دار المذلة» والرابط محذوف.

(٤) أبو ذبان كنية عبد الملك بن مروان ، كنى بذلك لبخر كان به من أثر فساد كان فى فمه. ويعنى الشاعر بابنه هشام بن عبد الملك. وانظر اللسان (ذنب) ، والحيوان ٣ / ٣٨١.

١٥٠

فقال : لعلّى ثم قال : أن يتندما ؛ لأن المعنى : لعلّ ابن أبى ذبّان أن يتندّم إن مالت بي الريح. ومثله قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) (١) إلا أن الهاء من قوله (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) رجعت على (الذين) فكان الإعراب فيها أبين ؛ لأن العائد من الذّكر قد يكون خبرا ؛ كقولك : عبد الله ضربته.

وقال : (وَعَشْراً) ولم يقل : «عشرة» وذلك أن العرب إذا أبهمت العدد من الليالى والأيام غلّبوا عليه الليالى حتى إنهم ليقولون : قد صمنا عشرا من شهر رمضان ـ لكثرة تغليبهم الليالى على الأيام. فإذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بطرح الهاء ، والدّكران بالهاء ؛ كما قال الله تبارك وتعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) (٢) فأدخل الهاء فى الأيام حين ظهرت ، ولم تدخل فى (٣) الليالى حين ظهرن. وإن جعلت العدد غير متّصل بالأيام كما يتّصل الخافض بما بعده غلّبت الليالى أيضا على الأيّام. فإن اختلطا فكانت ليالى وأياما غلّبت التأنيث ، فقلت : مضى له سبع ، ثم تقول بعد : أيام فيها برد شديد. وأمّا المختلط فقول الشاعر (٤) :

أقامت ثلاثا بين يوم وليلة

وكان النكير أن تضيف وتجارا

فقال : ثلاثا وفيها أيام. وأنت تقول : عندى ثلاثة بين غلام وجارية ، ولا يجوز هاهنا ثلاث ؛ لأن الليالى من الأيام تغلب الأيام. ومثل ذلك فى الكلام أن تقول :

__________________

(١) آية ٢٤٠ سورة البقرة.

(٢) آية ٧ سورة الحاقة :

(٣) سقط فى ج.

(٤) هو النابغة الجعدي. والبيت من قصيدة مدح فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوّلها :

خليلى عوجا ساعة وتهجرا

ولو ما على ما أحدث الدهر أو ذرا

وقد وصف فى البيت الشاهد بقرة وحشية أكل السبع ولدها ، فأقامت ثلاثة أيام تطلبه حتى وجدت شلوه وبقيته فأضافت أي حزنت وأشفقت أو ضافت أي تردّدت وذهبت هنا وهنا لا تلوى على شىء من فرط أساها ، وحأرت وصاحت وكان هذا كل ما وسعها ، ولم يكن لها نكير ما أصابها غير ما ذكر. وتضيف بضم التاء من أضاف ، أو بفتحها من ضاف. وانظر شواهد العيني على هامش الخزانة ٢ / ١٩٣

١٥١

عندى عشر من الإبل وإن عنيت أجمالا ، وعشر من الغنم والبقر. وكل جمع كان واحدته بالهاء وجمعه بطرح الهاء ، مثل البقر واحدته بقرة ، فتقول : عندى عشر من البقر وإن نويت ذكرانا. فإذا اختلطا وكان المفسّر من النوعين قبل صاحبه أجريت العدد فقلت : عندى خمس عشرة ناقة وجملا ، فأنّثت لأنك بدأت بالناقة فغلّبتها. وإن بدأت بالجمل قلت : عندى خمسة عشر جملا وناقة. فإن قلت : بين ناقة وجمل فلم تكن مفسّرة غلّبت التأنيث ، ولم تبال أبدأت بالجمل أو بالناقة ؛ فقلت : عندى خمس عشرة بين جمل وناقة. ولا يجوز أن تقول : عندى خمس عشرة أمة وعبدا ، ولا بين أمة وعبد إلّا بالتذكير ؛ لأن الذكران من غير ما ذكرت لك لا يجتزأ منها بالإناث ، ولأن الذكر منها موسوم بغير سمة الأنثى ، والغنم والبقر يقع على ذكرها وأنثاها شاة وبقرة ، فيجوز تأنيث المذكّر لهذه الهاء التي لزمت المذكّر والمؤنّث.

وقوله (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) الخطبة مصدر بمنزلة الخطب ، وهو مثل قولك : إنه لحسن القعدة والجلسة ؛ يريد القعود والجلوس ، والخطبة مثل الرسالة التي لها أوّل وآخر ، قال : سمعت بعض العرب [يقول] (١) : اللهم ارفع عنا هذه الضغطة ، كأنه ذهب إلى أن لها أوّلا وآخرا ، ولو أراد مرّة لقال : الضغطة ، ولو أراد الفعل لقال الضغطة ؛ كما قال المشية. وسمعت آخر يقول : غلبنى [فلان] (٢) على قطعة لى من أرضى ؛ يريد أرضا مفروزة مثل القطعة لم تقسم ، فإذا أردت أنها قطعة من شىء [قطع منه] (٣) قلت : قطعة.

وقوله : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ) للعرب فى أكننت الشيء إذا سترته لغتان (٤) : كننته وأكننته ، قال : وأنشدونى (٥) قول الشاعر :

ثلاث من ثلاث قداميات

من اللاتي تكنّ من الصقيع

__________________

(١) زيادة فى اللسان (خطب).

(٢ ، ٣) زيادة فى اللسان (قطع).

(٤) كذا فى اللسان (كنن). وفى الأصول : «إذا سرّته لغتان».

(٥) كذا فى اللسان. وفى الأصول : «أنشدنى».

١٥٢

وبعضهم [يرويه] (١) تكنّ من أكننت. وأمّا قوله : (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) و (بَيْضٌ مَكْنُونٌ) فكأنه مذهب للشىء يصان ، وإحداهما قريبة من الأخرى.

وقوله : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) يقول : لا يصفنّ أحدكم نفسه فى عدّتها بالرغبة فى النكاح والإكثار منه. حدّثنا محمد بن الجهم قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثنى حبّان (٢) عن الكلبي (٣) عن أبى (٤) صالح عن ابن عباس أنه قال : السرّ فى هذا الموضع النكاح. وأنشد عنه بيت امرئ القيس :

ألا زعمت بسباسة اليوم أننى

كبرت وألّا يشهد السرّ أمثالى (٥)

قال الفرّاء : ويرى أنه مما كنى الله عنه قال : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) (٦).

قوله : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ...) (٢٣٦)

بالرفع. ولو نصب كان صوابا على تكرير الفعل على النيّة ، أي ليعط الموسع قدره ، والمقتر قدره. وهو مثل قول العرب : أخذت صدقاتهم ، لكل أربعين شاة شاة ؛ ولو نصبت الشاة الآخرة كان صوابا.

__________________

(١) زيادة فى اللسان.

(٢) يبدو أنه حبان بن على العنزي الكوفي. كان وجها من وجوه أهل الكوفة ، وكان فقيها. وتوفى بالكوفة سنة ١٧١ ، وانظر تهذيب التهذيب.

(٣) هو أبو النضر محمد بن السائب الكوفىّ. توفى سنة ١٤٦ ، وانظر الخلاصة.

(٤) هو باذام مولى أم هانئ. وانظر الخلاصة.

(٥) من قصيدته التي أوّلها :

ألا عم صباحا أيها الطلل البالي

وهل يعمن من كان فى العصر الخالي

وبسبّاسة امرأة من بنى أسد. ويروى «اللهو» فى مكان «السر» ، وانظر الخزانة ١ / ٢٨

(٦) الغائط فى أصل اللغة : المطمئن الواسع من الأرض ، ويكنى به عن العذرة ؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوا الغائط من الأرض.

١٥٣

وقوله (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) منصوب خارجا (١) من القدر ؛ لأنه نكرة والقدر معرفة. وإن شئت كان خارجا (٢) من قوله (مَتِّعُوهُنَّ) متاعا ومتعة.

فأمّا (حَقًّا) فإنه نصب من نيّة (٣) الخبر لا أنه من نعت المتاع. وهو كقولك فى الكلام : عبد الله فى الدار حقّا. إنما نصب الحق من نيّة كلام المخبر ؛ كأنه قال : أخبركم خبرا حقا ، وبذلك حقا ؛ وقبيح أن تجعله تابعا للمعرفات أو للنكرات ؛ لأن الحق والباطل لا يكونان فى أنفس الأسماء ؛ إنما يأتى بالأخبار (٤). من ذلك أن تقول : لى عليك المال حقّا ، وقبيح أن تقول : لى عليك المال الحق ، أو : لى عليك مال حقّ ، إلا أن تذهب به إلى أنه حقّ لى عليك ، فتخرجه مخرج المال لا على مذهب الخبر.

وكل ما كان فى القرآن مما فيه من نكرات الحق أو معرفته أو ما كان فى معنى الحق فوجه الكلام فيه النصب ؛ مثل قوله (وَعْدَ الْحَقِّ) (٥) و (وَعْدَ الصِّدْقِ) (٦) ومثل قوله (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا) (٧) هذا على تفسير الأوّل. وأمّا قوله (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) (٨) فالنصب فى الحقّ جائز ؛ يريد حقّا ، أي أخبركم أن ذلك حقّ. وإن شئت خفضت الحقّ ، تجعله من صفة الله تبارك وتعالى. وإن شئت رفعته فتجعله من صفة الولاية. وكذلك قوله (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) (٩) تجعله من صفة الله عزوجل. ولو نصبت كان صوابا ، ولو رفع على نيّة الاستئناف كان صوابا ؛ كما قال (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ

__________________

(١) يريد أنه حال من «قدره».

(٢) يريد أنه مفعول مطلق.

(٣) يوافق هذا قولهم : إنه مفعول مطلق مؤكد للجملة السابقة.

(٤) كذا فى ش. وفى ج : «بأخبار».

(٥) آية ٢٢ سورة إبراهيم.

(٦) آية ١٦ سورة الأحقاف.

(٧) آية ٤ سورة يونس.

(٨) آية ٤٤ سورة الكهف.

(٩) آية ٣٠ سورة يونس.

١٥٤

فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١) وأنت قائل إذا سمعت رجلا يحدث : [حقّا أي] (٢) قلت حقا ، والحقّ ، أي ذلك الحقّ. وأمّا قوله فى ص : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) (٣) فإن الفرّاء قد رفعت الأوّل ونصبته. وروى عن مجاهد وابن عباس أنهما رفعا الأوّل وقالا تفسيره : الحقّ منى ، وأقول الحق ؛ فينصبان الثاني ب «أقول». ونصبهما جميعا كثير منهم ؛ فجعلوا الأوّل على معنى : والحقّ (٤) (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) وينصب الثاني بوقوع القول عليه. وقوله (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ) (٥) رفعه حمزة والكسائىّ ، وجعلا الحق هو الله تبارك وتعالى ؛ لأنها فى حرف عبد الله «ذلك عيسى ابن مريم قال الله» كقولك : كلمة الله ، فيجعلون (قال) بمنزلة القول ؛ كما قالوا : العاب والعيب. وقد نصبه قوم يريدون : ذلك عيسى بن مريم قولا حقّا.

وقوله : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ...) (٢٣٧)

تماسّوهن وتمسّوهن واحد ، وهو الجماع ؛ المماسّة والمسّ.

وإنما قال (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) بالنون لأنه فعل النسوة ، وفعل النسوة بالنون فى كل حال. يقال : هنّ يضربن ، ولم يضربن ، ولن يضربن ؛ لأنك لو أسقطت النون منهن للنصب أو الجزم لم يستبن لهنّ تأنيث. وإنّما قالت العرب «لن يعفوا» للقوم ، و «لن يعفوا» للرجلين لأنهم زادوا للاثنين فى الفعل ألفا ونونا ، فإذا أسقطوا نون الاثنين للجزم أو للنصب دلّت الألف على الاثنين. وكذلك واو يفعلون تدلّ على الجمع إذا أسقطت النون جزما أو نصبا.

(أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهو الزوج.

__________________

(١) آية ١٤٧ سورة البقرة.

(٢) زيادة اقتضاها السياق خلت منها الأصول.

(٣) آية ٨٤.

(٤) ونصبه على طرح الخافض على نية القسم أي بالحق.

(٥) آية ٣٤ سورة مريم.

١٥٥

وقوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ...) (٢٣٨)

فى قراءة عبد الله «وعلى الصلاة الوسطى» فلذلك آثرت القرّاء الخفض ، ولو نصب على الحثّ عليها بفعل مضمر لكان وجها حسنا. وهو كقولك فى الكلام : عليك بقرابتك والأمّ ، فخصّها بالبرّ.

وقوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً) (٢٤٠) وهى فى قراءة عبد الله : «كتب عليهم الوصية لأزواجهم» (١) وفى قراءة أبىّ : «يتوفون منكم ويذرون أزواجا فمتاع لأزواجهم» فهذه حجّة لرفع الوصيّة. وقد نصبها قوم منهم حمزة على إضمار فعل كأنه أمر ؛ أي ليوصوا لأزواجهم وصيّة. ولا يكون نصبا فى إيقاع (وَيَذَرُونَ) عليه.

(غَيْرَ إِخْراجٍ) يقول : من غير أن تخرجوهن ؛ ومثله فى الكلام : أتيتك (٢) رغبة إليك. ومثله : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) (٣) لو ألقيت (مِنْ) لقلت : غير سوء. والسوء هاهنا البرص. حدّثنا محمد بن الجهم ، قال حدّثنا الفرّاء ، قال حدّثنا شريك (٤) عن يزيد (٥) بن أبى زياد عن مقسم (٦) عن ابن عباس أنه قال : من غير برص. قال الفراء كأنه قال : تخرج بيضاء غير برصاء.

__________________

(١) فى الأصلين : «عليكم الوصية لأزواجكم» وهو لا يتفق مع السياق.

(٢) يريد أنه يستوى فى هذا المثال إظهار الحرف وحذفه. تقول أتيتك رغبة إليك ، وللرغبة إليك. وكذلك ما فى الآية : يستوى أن يقال : غير إخراج ومن غير إخراج.

(٣) آية ١٢ سورة النمل.

(٤) هو شريك بن عبد الله الكوفىّ. مات سنة ١٧٧. خلاصة.

(٥) كان من أئمة الشيعة الكبار. يروى عن مولاه عبد الله بن الحارث مولى مقسم. كانت وفاته سنة ١٣٧ ه‍.

(٦) هو مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل. توفى سنة ١٠١ ه

١٥٦

وقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) (٢٤٥)

تقرأ بالرفع والنصب. فمن رفع جعل الفاء منسوقة على صلة (الذي) ، ومن نصب أخرجها من الصلة وجعلها جوابا ل (من) ؛ لأنها استفهام ، والذي فى الحديد (١) مثلها.

وقوله : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ...) (٢٤٦)

(نقاتل) مجزومة لا يجوز رفعها. فإن قرئت بالياء «يقاتل» جاز رفعها وجزمها. فأمّا الجزم فعلى المجازاة بالأمر ، وأمّا الرفع فأن تجعل (يقاتل) صلة للملك ؛ كأنك قلت : ابعث لنا الذي يقاتل.

فإذا رأيت بعد الأمر اسما نكرة بعده فعل يرجع بذكره أو يصلح فى ذلك الفعل إضمار الاسم ، جاز فيه الرفع والجزم ؛ تقول فى الكلام : علّمنى علما أنتفع به ، كأنك قلت : علمنى الذي أنتفع به ، وإن جزمت (أنتفع) على أن تجعلها شرطا للأمر وكأنك لم تذكر العلم جاز ذلك. فإن ألقيت «به» لم يكن إلا جزما ؛ لأن الضمير لا يجوز فى (انتفع) ؛ ألا ترى أنك لا تقول : علّمنى علما انتفعه.

فإن قلت : فهلّا رفعت وأنت تريد إضمار (به)؟

قلت : لا يجوز إضمار حرفين ، فلذلك لم يجز فى قوله (نقاتل) إلا الجزم. ومثله (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) (٢) لا يجوز إلا الجزم لأن (يَخْلُ) لم يعد بذكر الأرض. ولو كان «أرضا تخل لكم» جاز الرفع والجزم ؛ كما قال : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) (٣) ، وكما قال الله تبارك وتعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ

__________________

(١) آية ١١

(٢) آية ٩ سورة يوسف.

(٣) آية ١٢٩ سورة البقرة.

١٥٧

صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) (١) ولو كان جزما كان صوابا ؛ لأن فى قراءة عبد الله : «أنزل علينا مائدة من السماء تكن لنا عيدا» (٢) وفى قراءتنا بالواو «تكون».

ومنه ما يكون الجزم فيه أحسن ؛ وذلك بأن يكون الفعل الذي قد يجزم ويرفع فى آية ، والاسم الذي يكون الفعل صلة له فى الآية التي قبله ، فيحسن الجزم لانقطاع الاسم من صلته ؛ من ذلك : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي) (٣) جزمه يحيى ابن وثّاب والأعمش ـ ورفعه حمزة (يَرِثُنِي) لهذه العلّة ، وبعض القراء رفعه أيضا ـ لمّا كانت (وليا) رأس آية انقطع منها قوله (يرثنى) ، فحسن الجزم. ومن ذلك قوله : (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. يَأْتُوكَ) (٤) على الجزم. ولو كانت رفعا على صلة «الحاشرين» قلت : يأتوك.

فإذا كان الاسم الذي بعده فعل معرفة يرجع بذكره ، مما جاز فى نكرته وجهان جزمت فقلت : ابعث إلىّ أخاك يصب خيرا ، لم يكن إلا جزما ؛ لأن الأخ معرفة والمعرفة لا توصل. ومنه قوله : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) (٥) الهاء معرفة و (غَداً) معرفة فليس فيه إلا الجزم ، ومثل قوله : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ) (٦) جزم لا غير.

ومن هذا نوع إذا كان بعد معرفته فعل لها جاز فيه الرفع والجزم ؛ مثل قوله : (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) (٧) وقوله : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا) (٨) ولو كان رفعا لكان صوابا ؛ كما قال تبارك وتعالى : (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٩) ولم يقل : يلعبوا. فأمّا رفعه فأن تجعل (يَلْعَبُونَ) فى موضع نصب كأنك قلت فى الكلام : ذرهم

__________________

(١) آية ١٠٣ سورة التوبة.

(٢) آية ١١٤ سورة المائدة.

(٣) آيتا ٥ و ٦ سورة مريم.

(٤) آيتا ٣٦ ، ٣٧ سورة الشعراء.

(٥) آية ١٢ سورة يوسف.

(٦) آية ١٤ سورة التوبة.

(٧) آية ٦٤ سورة هود.

(٨) آية ٣ سورة الحجر.

(٩) آية ٩١ سورة الأنعام.

١٥٨

لاعبين. وكذلك دعهم وخلّهم واتركهم. وكلّ فعل صلح أن يقع (١) على اسم معرفة وعلى فعله ففيه هذان الوجهان ، والجزم فيه وجه الكلام ؛ لأن الشرط يحسن فيه ، ولأن الأمر فيه سهل ، ألا ترى أنك تقول : قل له فليقم معك.

فإن رأيت الفعل الثاني يحسن فيه محنة (٢) الأمر ففيه الوجهان بمذهب كالواحد ، وفى إحدى القراءتين : «ذرهم يأكلون ويتمتّعون ويلهيهم الأمل» (٣).

وفيه (٤) وجه آخر يحسن فى الفعل الأوّل. من ذلك : أوصه يأت زيدا ، أومره ، أو أرسل (٥) إليه. فهذا يذهب إلى مذهب القول ، ويكون جزمه على شبيه بأمر ينوى له مجدّدا. وإنما يجزم على أنه شرط لأوّله. من ذلك قولك : مر عبد الله يذهب معنا ؛ ألا ترى أن القول يصلح أن يوضع فى موضع (مر) ، وقال الله تبارك وتعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) (٦) ف (يَغْفِرُوا) فى موضع جزم ، والتأويل ـ والله أعلم ـ : قل للذين آمنوا اغفروا ، على أنه شرط للامر فيه تأويل الحكاية. ومثله : (قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٧) فتجزمه بالشرط «قل» ، وقال قوم : بنيّة الأمر فى هذه الحروف : من القول والأمر والوصيّة. قيل لهم : إن كان جزم على الحكاية فينبغى لكم أن تقولوا للرجل فى وجهه : قلت لك تقم ، وينبغى أن تقول : أمرتك تذهب معنا ، فهذا دليل على أنه شرط للأمر.

فإن قلت : فقد قال الشاعر :

فلا تستطل منّى بقائى ومدّتى

ولكن يكن للخير فيك نصيب (٨)

__________________

(١) وذلك كالأمثلة السابقة نحو دع محمدا يأكل ، فكلمة (دع) وقعت على المعرفة (محمد) وعلى فعله وهو (يأكل) وهو فعل محمد.

(٢) المحنة : الاختبار ، وهو اسم من الامتحان.

(٣) آية ٣ سورة الحجر.

(٤) كذا فى ش. وفى ج : «منه».

(٥) فى الأصول : «فأرسل».

(٦) آية ١٤ سورة الجاثية.

(٧) آية ٥٣ سورة الإسراء.

(٨) قال البغدادي فى شرح شواهد المغني ٢ / ١١٧ «خاطب هذا الشاعر ابنه بهذا البيت لما سمع أنه يتمنى موته. ولم أقف على قائله».

١٥٩

قلت : هذا مجزوم بنيّة الأمر ؛ لأن أوّل الكلام نهى ، وقوله (ولكن) نسق وليست بجواب. فأراد : ولكن ليكن للخير فيك نصيب. ومثله قول الآخر :

من كان لا يزعم أنى شاعر

فيدن منى تنهه المزاجر

فجعل الفاء جوابا للجزاء ، وضمّن (فيدن) لاما يجزم [بها] (١). وقال الآخر :

فقلت ادعى وأدع فإنّ أندى

لصوت أن ينادى داعيان (٢)

أراد : ولأدع. وفى قوله (وأدع) طرف من الجزاء وإن كان أمرا قد نسق أوّله على آخره. وهو مثل قول الله عزوجل : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) (٣) والله أعلم. وأما قوله : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) (٤) فليس تأويل جزاء ، إنما هو أمر محض ؛ لأن إلقاء الواو وردّه إلى الجزاء (لا يحسن فليس إلى الجزاء) ؛ ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول ذرونى أقتله يدع ؛ كما حسن «اتّبعوا سبيلنا تحمل خطاياكم».

والعرب لا تجازى بالنهى كما تجازى بالأمر. وذلك أن النهى يأتى بالجحد ، ولم تجاز العرب بشىء من الجحود. وإنما يجيبونه بالفاء. وألحقوا النهى إذا كان بلا ، بليس (٥) وما وأخواتهن من الجحود. فإذا رأيت نهيا بعد اسمه فعل فارفع ذلك الفعل. فتقول : لا تدعنّه يضربه ، ولا تتركه يضربك. جعلوه رفعا إذ لم يكن آخره يشاكل أوّله ؛ إذ كان أوّله جحد وليس فى آخره جحد. فلو قلت : لا تدعه لا يؤذك جاز الجزم والرفع ؛ إذ كان أوّله كآخره ؛ كما تقول فى الأمر : دعه ينام ، ودعه ينم ؛ إذ كان لا جحد فيهما. فإذا أمرت ثم جعلت فى الفعل (لا) رفعت ؛ لاختلافهما

__________________

(١) زيادة فى شرح شواهد المغني للبغدادى ٢ / ١١٦.

(٢) قائله الأعشى ، ونسب إلى غيره. راجع العيني ج ٤ / ٣٩٢ ه‍ الخزانة.

(٣) آية ١٢ سورة العنكبوت.

(٤) آية ٢٦ سورة غافر.

(٥) هذا متعلق بقوله : «ألحقوا ...» ، وفى الأصلين ش ، ج : «وبليس».

١٦٠