معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

وأمّا الوجه الآخر فأن يجعل «ما» منفصلة من (إنّ) فيكون «ما» على معنى الذي ، فإذا كانت كذلك وصلتها بما يوصل به الذي ، ثم يرفع الاسم الذي يأتى بعد الصلة ؛ كقولك إنّ ما أخذت مالك ، إن ما ركبت دابّتك. تريد : إن الذي ركبت دابتك ، وإن الذي أخذت مالك. فأجرهما على هذا.

وهو فى التنزيل فى غير ما موضع ؛ من ذلك قوله تبارك وتعالى : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (١) ، (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) (٢) فهذه حرف واحد ، هى وإنّ ، لأن «الذى» لا تحسن فى موضع «ما».

وأمّا التي فى مذهب (الذي) فقوله : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) (٣) معناه : إن الذي صنعوا كيد ساحر. ولو قرأ قارئ (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) نصبا كان صوابا إذا جعل إنّ وما حرفا واحدا. وقوله (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) (٤) قد (٥) نصب المودّة قوم ، ورفعها آخرون على الوجهين اللذين فسّرت لك. وفى قراءة عبد الله «إنما مودّة بينكم فى الحياة الدنيا» (٦) فهذه حجّة لمن رفع المودّة ؛ لأنها مستأنفة لم يوقع الاتّخاذ عليها ، فهو بمنزلة قولك : إن الذي صنعتموه ليس بنافع ، مودّة بينكم ثم تنقطع بعد. فإن شئت رفعت المودّة ب «بين» ؛ وإن شئت أضمرت لها اسما قبلها يرفعها ؛ كقوله (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) (٧) وكقوله (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ) (٨).

__________________

(١) آية ١٧١ سورة النساء ، وهذه أمثلة لإنما التي هى حرف واحد. وأما الأخرى فستذكر عند قوله : وأما التي فى مذهب الذي إلخ.

(٢) آية ١٢ سورة هود.

(٣) آية ٦٩ سورة طه.

(٤) آية ٢٥ سورة العنكبوت.

(٥) فى ج ، ش : «وقد».

(٦) فى نسخ الأصل : «مودة بينهم» على الغيبة وهى قراءة أبى.

(٧) آية ١ سورة النور.

(٨) آية ٣٥ سورة الأحقاف. و (بلاغ) خبر مبتدأ محذوف قدّره بعضهم بقوله تلك الساعة بلاغ لدلالة قوله (إلا ساعة من نهار) وقيل تقديره : هذا (أي القرآن أو الشرع بلاغ) وانظر العكبري والسمين.

١٠١

فإذا رأيت «إنما» فى آخرها اسم من الناس وأشباههم ممّا يقع عليه «من» فلا تجعلنّ «ما» فيه على جهة (الذي) ؛ لأن العرب لا تكاد تجعل «ما» للناس. من ذلك : إنّما ضربت أخاك ، ولا تقل : أخوك ؛ لأن «ما» لا تكون للناس.

فإذا كان الاسم بعد «إنما» وصلتها من غير الناس جاز فيه لك الوجهان ؛ فقلت : إنّما سكنت دارك. وإن شئت : دارك.

وقد تجعل العرب «ما» فى بعض الكلام للناس ، وليس بالكثير. وفى قراءة عبد الله «والنّهار إذا تجلّى ، والذّكر والأنثى» (١) وفى قراءتنا (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) فمن جعل (ما خَلَقَ) للذكر والأنثى جاز أن يخفض (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) كأنه قال والذي خلق : الذكر والأنثى. ومن نصب (الذَّكَرَ) جعل (ما) و (خَلَقَ) كقوله : وخلقه الذكر والأنثى ، يوقع خلق عليه. والخفض فيه على قراءة عبد الله حسن ، والنصب أكثر.

ولو رفعت (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) كان وجها. وقد قرأ بعضهم (٢) : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) ولا يجوز هاهنا إلا رفع الميتة والدم ؛ لأنك إن جعلت (إِنَّما) حرفا واحدا رفعت الميتة والدم ؛ لأنه فعل لم يسمّ فاعله ، وإن جعلت «ما» على جهة (الذي) رفعت الميتة والدم ؛ لأنه خبر ل (ما).

وقوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ...) (١٧٣)

الإهلال : ما نودى به لغير الله على الذباح [وقوله] (٣) (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) [(غير) (٤) فى هذا الموضع حال للمضطرّ ؛ كأنك قلت : فمن اضطرّ لا باغيا

__________________

(١) آية ٣ سورة الليل. فى الشواذ قراءة الحسن «والذكر والأنثى» بالكسر كما فى قراءة عبد الله. وعند الكسائي «ما خلق الذكر والأنثى» بالكسر أيضا ، فالأولى بإسقاط «وما خلق».

(٢) هو أبو جعفر. وانظر القرطبي ٢ / ٢١٦.

(٣ ، ٤) زيادة فى أ.

١٠٢

ولا عاديا] فهو له حلال. والنصب هاهنا بمنزلة قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) (١) ومثله (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) (٢) و (غَيْرِ) هاهنا لا (٣) ؛ تصلح (لا) فى موضعها ؛ لأنّ (لا) تصلح فى موضع غير. وإذا رأيت (غَيْرَ) يصلح (لا) فى موضعها فهى مخالفة (لِغَيْرِ) التي لا تصلح (لا) فى موضعها.

ولا تحلّ الميتة للمضطرّ إذا عدا على الناس بسيفه ، أو كان فى سبيل من سبل المعاصي. ويقال : إنه لا ينبغى لآكلها أن يشبع منها ، ولا أن يتزوّد منها شيئا. إنما رخّص له فيما يمسك نفسه.

وقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ...) (١٧٥)

فيه وجهان : أحدهما معناه : فما الذي صبّرهم على النار؟. والوجه الآخر : فما أجرأهم على النار! قال الكسائىّ : سألنى قاضى اليمن وهو بمكّة ، فقال : اختصم إلىّ رجلان من العرب ، فحلف أحدهما على حقّ صاحبه ، فقال له : ما أصبرك على الله! وفى هذه أن يراد بها : ما أصبرك على عذاب الله ، ثم تلقى العذاب فيكون كلاما ؛ كما تقول : ما أشبه سخاءك بحاتم.

وقوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ...) (١٧٧)

إن شئت رفعت (الْبِرَّ) وجعلت (أَنْ تُوَلُّوا) فى موضع نصب. وإن شئت نصبته وجعلت (أَنْ تُوَلُّوا) فى موضع رفع ؛ كما قال : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) (٤)

__________________

(١) آية ١ سورة المائدة.

(٢) آية ٥٣ سورة الأحزاب.

(٣) كذا فى الأصول.

فإن صح هذا فالمعنى أن (غيرا) هنا تساوى فى المعنى (لا) كما قدر قبل ، وقوله : «تصلح لا ...» تفسير لهذا. وأقرب من هذا أن تكون (لا) زيدت فى النسخ.

(٤) آية ١٧ سورة الحشر.

١٠٣

فى كثير من القرآن. وفى إحدى القراءتين (لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ) ، فلذلك اخترنا الرفع فى (الْبِرُّ) ، والمعنى فى قوله (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي ليس البرّ كله فى توجّهكم إلى الصلاة واختلاف القبلتين (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) ثم وصف ما وصف إلى آخر الآية. وهى (١) من صفات الأنبياء لا لغيرهم.

وأمّا قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) فإنه من كلام العرب أن يقولوا : إنما البرّ الصادق الذي يصل رحمه ، ويخفى صدقته ، فيجعل الاسم خبرا للفعل والفعل خبرا للاسم ؛ لأنه أمر معروف المعنى.

فأمّا الفعل الذي جعل خبرا للاسم فقوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) (٢) ف (هو) كناية عن البخل. فهذا لمن جعل (الَّذِينَ) فى موضع نصب وقرأها «تحسبن» بالتاء. ومن قرأ بالياء جعل (الَّذِينَ) فى موضع رفع ، وجعل (هو) عمادا للبخل المضمر ، فاكتفى بما ظهر فى (يَبْخَلُونَ) من ذكر البخل ؛ ومثله فى الكلام :

هم الملوك وأبناء الملوك لهم

والآخذون به والساسة الأوّل (٣)

قوله : به يريد : بالملك ، وقال آخر :

إذا نهى السفيه جرى إليه

وخالف والسفيه إلى خلاف (٤)

يريد إلى السفه.

__________________

(١) كأنه يريد أن هذه الصفات جميعها لا تكمل إلا للأنبياء. والحق أن اجتماعها كاملة جدّ عسير.

(٢) آية ١٨٠ سورة آل عمران.

(٣) آخر قصيدة القطامىّ التي أوّلها :

إنا محيوك فاسلم أيها الطلل

وإن بليت وإن طالت بك الطيل

وهذا فى مدح قريش وبنى أمية وعبد الواحد الأموى ، وانظر الديوان.

(٤) «إليه» فى أ «عليه». وانظر الخزانة ٢ / ٣٨٢

١٠٤

وأما الأفعال التي جعلت أخبارا للناس فقول الشاعر :

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى

ولكنما الفتيان كلّ فتى ندى

فجعل «أن» خبرا للفتيان.

وقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) (من) فى موضع رفع ، وما بعدها صلة لها ، حتى ينتهى إلى قوله (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) فتردّ (الْمُوفُونَ) على (مَنْ) و (الْمُوفُونَ) من صفة (مَنْ) كأنه : من آمن ومن فعل وأوفى. ونصبت (الصَّابِرِينَ) ؛ لأنها من صفة (مَنْ) وإنما نصبت لأنها من صفة اسم واحد ، فكأنه ذهب به إلى المدح ؛ والعرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذمّ ، فيرفعون إذا كان الاسم رفعا ، وينصبون بعض المدح ، فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدح مجدّد غير متبع لأوّل الكلام ؛ من ذلك قول الشاعر (١) :

لا يبعدن قومى الذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النازلين بكلّ معترك

والطيّبين معاقد الأزر

وربما رفعوا (النازلون) و (الطيبون) ، وربما نصبوهما على المدح ، والرفع على أن يتبع آخر الكلام أوّله. وقال بعض الشعراء :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة فى المزدحم

وذا الرأى حين تغمّ الأمور

بذات الصليل وذات اللّجم (٢)

__________________

(١) أي الشخص الشاعر ، وهى الخرنق ترثى زوجها ومن قتل معه. وانظر الخزانة ٢ / ٣٠١ ، وأمالى ابن الشجري ١ / ٣٤٤

(٢) ورد هذا الشعر فى الخزانة ١ / ٢١٦ ، والإنصاف ١٩٥ غير منسوب. و (تغم الأمور) : تلتبس وتبهم ولا يهتدى فيها لوجه الصواب ، وذات الصليل : الكتيبة يسمع فيها صليل السيوف ، وذات اللجم : الكتيبة أيضا فيها الخيل بلجمها ، والقرم : السيد المعظم.

١٠٥

فنصب (ليث الكتيبة) و (ذا الرأى) على المدح والاسم قبلهما مخفوض ؛ لأنه من صفة واحد ، فلو كان الليث غير الملك لم يكن إلا تابعا ؛ كما تقول مررت بالرجل والمرأة ، وأشباهه. قال : وأنشدنى بعضهم :

فليت التي فيها النجوم تواضعت

على كل غثّ منهم وسمين

غيوث الحيا فى كل محل ولزبة

أسود الشّرى يحمين كلّ عرين (١)

فنصب. ونرى أنّ قوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (٢) أنّ نصب (الْمُقِيمِينَ) على أنه نعت للراسخين ، فطال نعته ونصب على ما فسّرت لك.

وفى قراءة عبد الله «والمقيمون والمؤتون» وفى قراءة أبىّ (وَالْمُقِيمِينَ) ولم يجتمع فى قراءتنا وفى قراءة أبىّ إلا على صواب. والله أعلم.

حدّثنا الفرّاء : قال : وقد حدّثنى أبو معاوية (٣) الصرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها سئلت عن قوله : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٤) وعن قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) (٥) وعن قوله : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) فقالت : يا بن أخى (٦) هذا كان خطأ من الكاتب.

__________________

(١) تواضعت : هبطت ، واللزبة الشدّة ، المحل القحط ، الحيا بالقصر المطر. والذي فى الطبري :

غيوث الورى فى كل محل وأزمة

(٢) آية ١٦٢ سورة النساء.

(٣) هو محمد بن خازم الكوفىّ ، من كبار المحدّثين. قال أبو داود : قلت لأحمد : كيف حديث أبى معاوية عن هشام بن عروة؟ قال : فيها أحاديث مضطربة. وبهذا تعرف ضعف هذه الرواية ، فلا يعوّل عليها ، وكيف يقرّ الكاتب على الخطأ بإن كان ثم خطأ ، وقد قام على كتاب القرآن الثقات الأثبات. وانظر الطبري فى تفسير آية (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) فى النساء والإتقان فى النوع الحادي والأربعين. وانظر ترجمة أبى معاوية فى تهذيب التهذيب.

(٤) آية ٦٣ سورة طه.

(٥) آية ٦٩ سورة المائدة.

(٦) كذا فى الأصول : تريد أخاها فى الإسلام وفى القرابة ، لأنه زوج أختها أسماء. وفى الطبري ٦ / ١٨ : «أختى» وقد يكون ما هنا محرّفا عن «أختى».

١٠٦

وقال فيه الكسائىّ (وَالْمُقِيمِينَ) موضعه خفض يردّ على قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) : ويؤمنون بالمقيمين الصلاة هم والمؤتون الزكاة.

قال : وهو بمنزلة قوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١) وكان النحويّون يقولون (الْمُقِيمِينَ) مردودة على (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ـ إلى (الْمُقِيمِينَ») وبعضهم (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) ومن (الْمُقِيمِينَ) وبعضهم (مِنْ قَبْلِكَ) ومن قبل (الْمُقِيمِينَ).

وإنما امتنع من مذهب المدح ـ يعنى الكسائىّ ـ الذي فسّرت لك ، لأنه قال : لا ينصب الممدوح إلا عند تمام الكلام ، ولم (٢) يتمم الكلام فى سورة النساء. ألا ترى أنك حين قلت (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) ـ إلى قوله (وَالْمُقِيمِينَ) ـ و (الْمُؤْتُونَ) كأنك منتظر لخبره (٣) ، وخبره فى قوله (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) والكلام أكثره على ما وصف الكسائىّ. ولكن العرب إذا تطاولت الصفة جعلوا الكلام فى الناقص وفى التامّ كالواحد ؛ ألا ترى أنهم قالوا فى الشعر :

حتى إذا قملت (٤) بطونكم

ورأيتم أبناءكم شبّوا

وقلبتم ظهر المجنّ لنا

إنّ اللئيم العاجز الخبّ

فجعل جواب (حتى إذا) بالواو ، وكان ينبغى ألا يكون فيه واو ، فاجتزئ بالإتباع ولا خبر بعد ذلك. وهذا أشدّ مما وصفت لك.

__________________

(١) آية ٦١ سورة التوبة.

(٢) فى الطبري : «لما».

(٣) فى ج وش : لخبرهم وخبرهم إلخ.

(٤) قلت بطونكم : كثرت قبائلكم. وقلب ظهر المجن ـ والمجن الترس ـ : المنابذة بالعداء والخب : اللئيم الماكر. والبيتان فى الإنصاف ١٨٩ ، والخزانة ٤ / ٤١٤ ، واللسان (قمل) من غير عزو.

١٠٧

ومثله فى قوله (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) (١) ومثله فى قوله (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) (٢) جعل بالواو. وفى قراءة عبد الله «فلمّا جهّزهم بجهازهم وجعل السّقاية» (٣) وفى قراءتنا بغير واو. وكلّ عربىّ حسن.

وقد قال بعضهم : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى ـ وَالصَّابِرِينَ) فنصب الصابرين على إيقاع الفعل عليهم. والوجه أن يكون نصبا على نيّة المدح ؛ لأنه من صفة شىء واحد. والعرب تقول فى النكرات كما يقولونه فى المعرفة ، فيقولون : مررت برجل جميل وشابّا بعد ، ومررت برجل عاقل وشرمحا (٤) طوالا ؛ وينشدون قوله :

ويأوى إلى نسوة بائسات (٥)

وشعثا مراضيع مثل السّعالى

(وشعث) فيجعلونها خفضا بإتباعها أوّل الكلام ، ونصبا على نية ذمّ فى هذا الموضع.

وقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ...) (١٧٨)

فإنه نزل فى حيّين من العرب كان لأحدهما طول على الآخر فى الكثرة والشرف ، فكانوا يتزوّجون نساءهم بغير مهور ، فقتل الأوضع من الحيّين من

__________________

(١) آية ٧٣ سورة الزمر.

(٢) آية ١٠٤ سورة الصافات ، وتله للجبين : صرعه عليه وأسقطه على شقه.

(٣) آية ٧٠ سورة يوسف.

(٤) الشرمح من الرجال القوى الطويل.

(٥) لأمية بن أبى عائذ الهذلىّ. وهو فى وصف صائد وإعساره. البؤس : شدّة الحاجة والفقر. ويروى : عطل : جمع عاطل وهن اللواتى لا حلى عليهن ، وشعث جمع شعثاء ، وشعثها من قلة التعهد بالدهن والنظافة ، والسعالى ضرب من الغيلان ، الواحد سعلاة. وانظر الخزانة ١ / ٤١٧ ، وأشعار الهذليين طبع الدار ١ / ١٧٢. والبيت فى المرجع الأخير فيه بعض تغيير.

١٠٨

الشريف قتلى ، فأقسم الشريف ليقتلنّ الذكر بالأنثى والحرّ بالعبد وأن يضاعفوا الجراحات ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذا على نبيّه ، ثم نسخه قوله (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (١) إلى آخر الآية. فالأولى منسوخة لا يحكم بها (٢).

وأما قوله : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) فإنه رفع. وهو بمنزلة الأمر فى الظاهر ؛ كما تقول : من لقى العدوّ فصبرا واحتسابا. فهذا نصب ؛ ورفعه جائز. وقوله تبارك وتعالى (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) رفع ونصبه جائز. وإنما كان الرفع فيه وجه الكلام ؛ لأنها عامّة فيمن فعل ويراد بها من لم يفعل. فكأنه قال : فالأمر فيها على هذا ، فيرفع. وينصب الفعل إذا كان أمرا عند الشيء يقع ليس بدائم ؛ مثل قولك للرجل : إذا أخذت فى عملك فجدّا جدّا وسيرا سيرا. نصبت لأنك لم تنوبه العموم فيصير كالشىء الواجب على من أتاه وفعله ؛ ومثله قوله : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (٣) ومثله (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (٤) ومثله فى القرآن كثير ، رفع كله ؛ لأنها عامّة. فكأنه قال : من فعل هذا فعليه هذا.

وأمّا قوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) (٥) فإنه حثّهم على القتل إذا لقوا العدوّ ؛ ولم يكن الحثّ كالشىء الذي يجب بفعل قبله ؛ فلذلك نصب ، وهو بمنزلة قولك : إذا لقيتم العدوّ فتهليلا وتكبيرا وصدقا عند تلك الوقعة (ـ قال الفرّاء : ذلك وتلك لغة قريش ، وتميم تقول ذاك وتيك الوقعة (٦) ـ) كأنه حثّ لهم ، وليس بالمفروض عليهم أن يكبّروا ، وليس شىء من هذا إلا نصبه جائز

__________________

(١) آية ٤٥ سورة المائدة.

(٢) هذا قول أهل العراق. وجمهور الفقهاء يرون أن الآية محكمة ، وأن آية المائدة تبينها ، أو هى فى شريعة التوراة ، وانظر القرطبي ٢ / ٢٤٦

(٣) آية ٩٥ سورة المائدة.

(٤) آية ٢٢٩ سورة البقرة.

(٥) آية ٤ سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٦) ما بين الخطين زيادة فى ج وش.

١٠٩

على أن توقع عليه الأمر ؛ فليصم ثلاثة أيّام ، فليمسك إمساكا بالمعروف أو يسرّح تسريحا بإحسان.

وقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ...) (١٧٩)

يقول : إذا علم الجاني أنه يقتصّ منه : إن قتل قتل انتهى عن القتل فحيي. فذلك (١) قوله : (حَياةٌ).

وقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ ...) (١٨٠)

معناه فى كلّ القرآن : فرض عليكم.

وقوله : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ...) (١٨٠)

كان الرجل يوصى بما أحبّ من ماله لمن شاء من وارث أو غيره ، فنسختها آية المواريث (٢). فلا وصية لوارث ، والوصيّة فى الثلث لا يجاوز ، وكانوا قبل هذا يوصى (٣) بماله كلّه وبما أحبّ منه.

و (الْوَصِيَّةُ) مرفوعة ب (كتب) ، وإن شئت جعلت (كتب) فى مذهب قيل فترفع الوصية (٤) باللام فى «الوالدين» كقوله تبارك وتعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٥).

__________________

(١) فى أ : «وذلك».

(٢) هذا القول يقتضى أن الوصية فى الآية منسوخة مطلقا مع أن آية المواريث نسخت وصية الوالدين فقط ؛ وأما وصية الأقربين فليست بمنسوخة لأن الأقربين فى الآية هم الطبقة بعد الورثة. هذا هو المعتمد فى تفسير الآية وعليه أهل العلم واختاره الطبري.

(٣) أي الواحد منهم.

(٤) أي أن الوصية مبتدأ ، وخبره (لِلْوالِدَيْنِ) والخبر والمبتدأ عند الكوفيين مترافعان ، فرافع الوصية هو الخبر وصدره اللام. فهذا وجه مقاله.

(٥) آية ١١ سورة النساء.

١١٠

وقوله : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً ...) (١٨٢)

والعرب (١) تقول : وصيّتك وأوصيتك ، وفى إحدى القراءتين «وأوصى بها إبراهيم» (٢) بالألف. والجنف : الجور. (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) وإنما ذكر الموصى وحده فإنه إنما قال (بَيْنَهُمْ) يريد أهل المواريث وأهل الوصايا ؛ فلذلك قال (بَيْنَهُمْ) ولم يذكرهم ؛ لأن المعنى يدلّ على أن الصلح إنما يكون فى الورثة والموصى لهم.

وقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...) (١٨٣)

يقال : ما كتب على الذين قبلنا ، ونحن نرى النصارى يصومون أكثر من صيامنا وفى غير شهرنا ،؟ حدّثنا الفرّاء قال : وحدّثنى محمد (٣) بن أبان القرشي عن أبى أميّة الطنافسىّ عن الشّعبىّ أنه قال : لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشكّ فيه فيقال : من شعبان ، ويقال : من رمضان. وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا ، فحوّلوه إلى الفصل (٤). وذلك أنهم كانوا ربما صاموه فى القيظ فعدّوه ثلاثين يوما ، ثم جاء بعدهم قرن منهم فأخذوا بالثقة فى أنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما ، ثم لم يزل الآخر يستنّ سنّة الأوّل حتى صارت إلى خمسين. فذلك قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

__________________

(١) يريد أنه قرىء فى الآية موص بسكون الواو وتخفيف الصاد من أوصى ، وموص بفتح الواو وشدّ الصاد ، وهذه قراءة حمزة والكسائي وأبى بكر عن عاصم ، والأولى قراءة الآخرين. وانظر القرطبي ٢ / ٢٩٦.

(٢) الآية ١٣٢ من سورة البقرة. وانظر ص ٨٠ من هذا السفر.

(٣) هو الواسطىّ الطحان. مات سنة ١٣٩. وانظر الخلاصة.

(٤) يريد أحد فصول السنة الأربعة وتسمى الأزمنة الأربعة أيضا وانظر المصباح (زمن) والمراد : الفصل المعين الذي يؤقتون به صومهم.

١١١

وقوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ...) (١٨٠)

نصبت على أن كلّ ما (١) لم تسمّ فاعله إذا كان فيها اسمان أحدهما غير صاحبه رفعت واحدا ونصبت الآخر ؛ كما تقول : أعطى عبد الله المال. ولا تبال أ كان المنصوب معرفة أو نكرة ، فإن كان الآخر نعتا للأوّل وكانا ظاهرين رفعتهما جميعا فقلت : ضرب عبد الله الظريف ، رفعته ؛ لأنه عبد الله. وإن كان نكرة نصبته فقلت : ضرب عبد الله راكبا ومظلوما وماشيا وراكبا.

قوله : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ...) (١٨٤)

رفع على ما فسرت لك فى قوله (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) ولو كانت نصبا كان صوابا.

وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ...) (١٨٤)

يقال : وعلى الذين يطيقون الصوم ولا يصومون أن يطعم (٢) مسكينا مكان كل يوم يفطره. ويقال : على الذين يطيقونه الفدية يريد الفداء. ثم نسخ هذا فقال تبارك وتعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) من الإطعام.

وقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ ...) (١٨٥)

رفع مستأنف أي : ولكم (٣) (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وقرأ الحسن نصبا على التكرير (٤) (وَأَنْ تَصُومُوا) شهر رمضان (خَيْرٌ لَكُمْ) والرفع أجود.

__________________

(١) فى ش ، ج : «من».

(٢) فى ش ، ح : «ولكم» وهو تحريف. وانظر البحر المحيط فى تفسير الآية.

(٣) أي الواحد منهم.

(٤) المعروف فى التكرير أنه البدل. وقد وجه هذا فى البحر بأن (شَهْرُ رَمَضانَ) بدل من (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ). والوجه الذي ذكره المؤلف لا يأتى على التكرير. بل على التقديم والتأخير ، إذ يربط (شَهْرُ رَمَضانَ) بقوله : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وكأن هنا سقطا. والأصل بعد قوله : «التكرير» أو على التقديم والتأخير ، أو أن التكرير محرف عن التأخير.

١١٢

وقد تكون نصبا من قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (شَهْرُ رَمَضانَ) توقع الصيام عليه : أن تصوموا شهر رمضان.

وقوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) دليل على نسخ الإطعام. يقول : من كان سالما ليس بمريض أو مقيما ليس بمسافر فليصم (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) قضى ذلك. (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) فى الإفطار فى السفر (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الصوم فيه.

وقوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ...) (١٨٥) (١)

فى قضاء ما أفطرتم. وهذه اللام فى قوله (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) لام كى لو ألقيت كان صوابا. والعرب تدخلها فى كلامها على إضمار فعل بعدها. ولا تكون شرطا (٢) للفعل الذي قبلها وفيها الواو. ألا ترى أنك تقول : جئتك لتحسن إلىّ ، ولا تقول جئتك ولتحسن إلىّ. فإذا قلته فأنت تريد : ولتحسن إلىّ (٣) جئتك. وهو فى القرآن كثير. منه قوله (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ) (٤) (لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ومنه قوله (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٥) لو لم تكن فيه الواو كان شرطا ، على قولك : أريناه ملكوت السموات ليكون. فإذا كانت الواو فيها فلها فعل مضمر بعدها (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أريناه. ومنه (فى غير) (٦) اللام قوله (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٧) ثم قال (وَحِفْظاً) (٨) لو لم تكن الواو كان الحفظ منصوبا ب (زَيَّنَّا). فإذا كانت فيه الواو وليس قبله شىء ينسق عليه

__________________

(١) فى أ : «و».

(٢) أي علة.

(٣) سقط فى أ.

(٤) آية ١١٣ سورة الأنعام.

(٥) آية ٧٥ منها.

(٦) فى أ : «بغير».

(٧) آية ٦ سورة الصافات.

(٨) آية ٧ منها.

١١٣

فهو دليل على أنه منصوب بفعل مضمر بعد الحفظ ؛ كقولك فى الكلام : قد أتاك أخوك ومكرما لك ، فإنما ينصب المكرم على أن تضمر أتاك بعده.

وقوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ...) (١٨٦)

قال المشركون للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف يكون ربّنا قريبا يسمع دعاءنا ، وأنت تخبرنا (١) أن بيننا وبينه سبع سموات غلظ كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام وبينهما مثل ذلك؟ فأنزل الله تبارك وتعالى (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) أسمع ما يدعون (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) يقال : إنها التلبية.

وقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ...) (١٨٧)

وفى قراءة عبد الله (٢) «فلا رفوث ولا فسوق» (٣) وهو الجماع فيما ذكروا ؛ رفعته ب (أُحِلَّ لَكُمْ) ؛ لأنك لم تسمّ فاعله.

وقوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ...) (١٨٧)

يقول : عند الرّخصة التي نزلت ولم تكن قبل ذلك لهم. وقوله (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يقال : الولد ، ويقال : «اتبعوا» بالعين (٤). وسئل عنهما ابن عباس فقال : سواء.

وقوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ...) (١٨٧)

__________________

(١) فى أ : «تخبر».

(٢) كأن هنا سقطا. والأصل بعد «عبد الله» : «الرفوث إلى نسائكم» فقد نقلت هذا القراءة عن ابن مسعود.

(٣) آية ١٩٧ من البقرة.

(٤) قراءة الحسن كما فى القرطبي : اتبعوا ، بالعين وذكرها الطبري ولم ينسبها إلا أنه ذكر سؤال ابن عباس عنها.

١١٤

فقال رجل (١) للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أهو الخيط الأبيض والخيط الأسود؟ فقال له النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إنك لعريض القفا ؛ هو الليل من النهار).

وقوله : (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) وفى قراءة أبىّ «ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تدلوا بها إلى الحكّام» فهذا مثل قوله (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) (٢) معناه : ولا تكتموا. وإن شئت جعلته إذا ألقيت منه (لا) نصبا على الصرف ؛ كما تقول : لا تسرق وتصدّق. معناه : لا تجمع بين هذين كذا وكذا ؛ وقال الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتى مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم (٣)

والجزم فى هذا البيت جائز أي لا تفعلن واحدا من هذين.

وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ...) (١٨٩)

سئل النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نقصان القمر وزيادته ما هو؟ فأنزل (٤) الله تبارك وتعالى : ذلك لمواقيت حجكم وعمرتكم وحلّ ديونكم وانقضاء عدد نسائكم.

وقوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ...) (١٨٩)

وذلك أن أهل الجاهلية ـ إلا قريشا ومن ولدته قريش من العرب ـ كان الرجل منهم إذا أحرم (٥) فى غير أشهر الحج فى بيت مدر أو شعر أو خباء نقب فى بيته

__________________

(١) هو عدىّ بن حاتم. وانظر البخاري فى الصوم ، وفى تفسير سورة البقرة.

(٢) آية ٤٢ فى هذه السورة.

(٣) انظر ٣٤ من هذا الجزء.

(٤) أي أنزل معنى هذا الكلام ، لا لفظه كما لا يخفى.

(٥) أي بالعمرة. وكان ذلك زمن الحديبية. وهذا أحد ما جاء فى سبب نزول الآية. انظر تفسير الطبري ٢ / ١٠٩

١١٥

نقبا من مؤخّره فخرج منه ودخل ولم يخرج من الباب ، وإن كان من أهل الأخبية والفساطيط خرج من مؤخّره ودخل منه. فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو محرم ورجل محرم يراه ، دخل من باب حائط فاتّبعه ذلك الرجل ، فقال له : تنحّ عنى. قال : ولم؟ قال دخلت من الباب وأنت محرم. قال : إنى قد رضيت بسنّتك وهديك. قال له النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إنى أحمس) (١) قال : فإذا كنت أحمس فإنى أحمس. فوفّق الله الرجل ، فأنزل الله تبارك وتعالى (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ). (١٩١)

فهذا وجه قد قرأت به العامّة. وقرأ أصحاب عبد الله «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه ، فإن قتلوكم فقتلوهم» والمعنى هاهنا : فإن بدءوكم بالقتل فاقتلوهم. والعرب تقول : قد قتل بنو فلان إذا قتل منهم الواحد. فعلى (٢) هذا قراءة أصحاب عبد الله. وكلّ حسن.

وقوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا) فلم يبدءوكم (فَلا عُدْوانَ) على الذين انتهوا ، إنما العدوان على من ظلم : على من بدأكم ولم ينته.

فإن قال قائل : أ رأيت قوله (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أ عدوان هو وقد أباحه الله لهم؟ قلنا : ليس بعدوان فى المعنى ، إنما هو لفظ على مثل ما سبق (٣) قبله ؛

__________________

(١) هو وصف من الحماسة بمعنى التشدّد فى الدين والصلابة فيه. وجمعه الأحامس ، وقد غلب هذا الوصف على قريش ومن لحق بهم من خزاعة وغيرهم لأنهم كانوا يتشدّدون فى دينهم فى الجاهلية.

(٢) فمعنى «فإن قتلوكم» على هذه القراءة : فإن قتلوا واحدا منكم. وبهذا يندفع سؤال بعضهم :

إذا قتلوهم كيف يقتلونهم. وانظر تفسير الطبري ٢ / ١٢٢

(٣) فى أ : «نسق».

١١٦

ألا ترى أنه قال : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) فالعدوان من المشركين فى اللفظ ظلم فى المعنى ؛ والعدوان الذي أباحه الله وأمر به المسلمين إنما هو قصاص. فلا (١) يكون القصاص ظلما ، وإن كان لفظه واحدا. ومثله قول الله تبارك وتعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢) وليست من الله على مثل معناها من المسيء ؛ لأنها (٣) جزاء.

وقوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ...) (١٩٦)

وفى قراءة عبد الله «وأتمّوا الحجّ والعمرة إلى البيت لله» (٤) فلو قرأ قارئ (وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فرفع العمرة (٥) لأن المعتمر إذا أتى البيت فطاف به وبين الصفا والمروة حلّ من عمرته. والحج يأتى فيه عرفات وجميع المناسك ؛ وذلك قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) يقول : أتموا العمرة إلى البيت (٦) فى الحج إلى أقصى مناسكه.

(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) العرب تقول للذى يمنعه من الوصول إلى إتمام حجّه أو عمرته خوف أو مرض ، وكل (٧) ما (٨) لم يكن مقهورا كالحبس والسّجن (يقال للمريض) (٩) : قد

__________________

(١) الأسوغ : «ولا» كما هو الأقرب إلى ما فى أ.

(٢) آية ٤٠ سورة الشورى.

(٣) فى أ «لأنه».

(٤) الذي فى الطبري : «فى قراءة عبد الله : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت». ويدل قول الطبري على أن ابن مسعود يقرأ بنصب العمرة ، على خلاف ما فى الشواذ لابن خالويه فإنه ذكر قراءة عبد الله : والعمرة لله بالرفع.

(٥) هنا حذف «بعد العمرة». والأصل : جاز. ويتعلق به قوله بعد : «لأن المعتمر ...» وقد قرأ بالرفع على رضى الله عنه والشعبي ، ورويت أيضا عن ابن مسعود. وانظر الشواذ لابن خالويه والبحر ٢ / ٧٢

(٦) كأن «فى» محرّفة عن واو العطف.

(٧) معطوف على «الذى يمنعه من الوصول ...».

(٨) أوقع «ما» موقع من ذهابا إلى الوصف ؛ كقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء ...

(٩) هذا تأكيد لقوله قبل : «العرب تقول ...» فقوله : «قد أحصر ...» مقول «تقول».

١١٧

أحصر ، وفى الحبس والقهر : قد حصر. فهذا فرق بينهما. ولو نويت فى قهر السلطان أنها علّة مانعة ولم تذهب إلى فعل الفاعل جاز لك أن تقول : قد أحصر الرجل. ولو قلت فى المرض وشبهه : إن المرض قد حصره أو الخوف ، جاز أن تقول : حصرتم. وقوله (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) (١) [يقال] (٢) إنه المحصر عن النساء ؛ لأنها علّة وليس بمحبوس. فعلى هذا فابن.

وقوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ...) (١٩٦)

«ما» فى موضع رفع ؛ لأن أكثر ما جاء من أشباهه فى القرآن مرفوع. ولو نصبت على قولك : أهدوا (فَمَا اسْتَيْسَرَ) (٣).

وتفسير الهدى فى هذا الموضع بدنة (٤) أو بقرة أو شاة.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الهدى صام ثلاثة أيام يكون آخرها يوم عرفة ، واليومان فى العشر ، فأمّا السبعة فيصومها إذا رجع فى طريقه ، وإن شاء إذا وصل إلى أهله و «السبعة» فيها الخفض على الإتباع للثلاثة. وإن نصبتها (٥) فجائز على فعل (٦) مجدّد ؛ كما تقول فى الكلام : لا بدّ من لقاء أخيك وزيد وزيدا.

وقوله : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يقول : ذلك لمن كان من الغرباء من غير أهل مكّة ، فأمّا أهل مكة فليس ذلك عليهم. و (ذلِكَ) فى موضع رفع. وعلى تصلح فى موضع اللام ؛ أي ذلك على الغرباء.

__________________

(١) آية ٣٩ سورة آل عمران.

(٢) زيادة من اللسان فى حصر.

(٣) الجواب محذوف أي جاز مثلا. وفى الطبري : «ولو قيل : موضع (ما) نصب بمعنى فإن أحصرتم فأهدوا ما استيسر من الهدى لكان غير مخطئ قائله».

(٤) يراد بالبدنة هنا الناقة أو البعير.

(٥) وهى قراءة زيد بن على ، كما فى البحر.

(٦) تقديره : صوموا ، أو ليصوموا.

١١٨

وقوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) معناه : وقت الحج هذه الأشهر. فهى وإن كانت «فى» تصلح فيها فلا يقال إلّا بالرفع ، كذلك كلام العرب ، يقولون : البرد شهران ، والحرّ شهران ، لا ينصبون ؛ لأنه مقدار الحج. ومثله قوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) (١) ولو كانت الأشهر أو الشهر معروفة على هذا المعنى لصلح (٢) فيه النصب. ووجه الكلام الرفع ؛ لأن الاسم إذا كان فى معنى صفة (٣) أو محلّ قوى إذا أسند إلى شىء ؛ ألا ترى أن العرب يقولون : هو رجل دونك وهو رجل دون ، فيرفعون إذا أفردوا ، وينصبون إذا أضافوا. ومن كلامهم المسلمون جانب ، والكفّار جانب ، فإذا قالوا : المسلمون جانب صاحبهم نصبوا. وذلك أن (٤) الصاحب يدلّ على محلّ كما تقول : نحو صاحبهم ، وقرب صاحبهم. فإذا سقط الصاحب لم تجده محلّا تقيده قرب شىء أو بعده.

والأشهر المعلومات شوّال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة. والأشهر الحرم المحرّم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وإنما جاز أن يقال له أشهر وإنما هما شهران وعشر من ثالث ؛ لأن العرب إذا كان الوقت لشىء يكون فيه الحج وشبهه جعلوه فى التسمية للثلاثة والاثنين ، كما قال الله تبارك وتعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) وإنما يتعجّل فى يوم ونصف ، وكذلك هو فى اليوم الثالث من أيام التشريق وليس منها شىء تامّ ، وكذلك تقول العرب : له اليوم يومان منذ لم أره ، وإنما هو يوم وبعض آخر ، وهذا ليس بجائز فى غير المواقيت ؛ لأن العرب قد تفعل الفعل فى أقلّ من الساعة ، ثم يوقعونه على اليوم وعلى

__________________

(١) آية ١٢ سورة سبأ.

(٢) ذلك أن الظرف سبيله عنده أن يكون معروفا حتى يصح التوقيت به ، فالنكرة غير المحصورة لا تصلح لذلك.

(٣) الصفة هنا الجارّ والمجرور. والمحل الظرف. وهذا عند الكوفيين.

(٤) فى أ : «لأن».

١١٩

العام والليالى والأيام ، فيقال : زرته العام ، وأتيتك اليوم ، وقتل فلان ليالى الحجّاج أمير ، لأنه (١) لا يراد أوّل الوقت وآخره ، فلم يذهب به على معنى العدد كله ، وإنما يراد به (إذ ذاك الحين) (٢).

وأما قوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) يقال : إن الرفث الجماع ، والفسوق السباب ، والجدال المماراة (فِي الْحَجِ) فالقراء على نصب ذلك كله بالتبرئة (٣) إلا مجاهدا فإنه رفع الرفث والفسوق ونصب الجدال. وكلّ ذلك جائز. فمن نصب أتبع آخر الكلام أوّله ، ومن رفع بعضا ونصب بعضا فلان التبرئة فيها وجهان : الرفع بالنون (٤) ، والنصب بحذف النون. ولو نصب الفسوق والجدال بالنون لجاز ذلك فى غير القرآن ؛ لأن العرب إذا بدأت بالتبرئة فنصبوها لم تنصب بنون ، فإذا عطفوا عليها ب «لا» كان فيها وجهان ، إن شئت جعلت «لا» معلّقة يجوز حذفها فنصبت على هذه النية بالنون ؛ لأن «لا» فى معنى صلة ، وإن نويت بها الابتداء كانت كصاحبتها ، ولم تكن معلّقة فتنصب بلا نون ؛ قال فى ذلك الشاعر :

رأت إبلى برمل جدود أ [ن] لا

مقيل لها ولا شربا نقوعا (٥)

فنّون فى الشرب ، ونوى ب «لا» الحذف ؛ كما قال الآخر :

فلا أب وابنا مثل مروان وابنه

إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا (٦)

__________________

(١) سقط فى أ.

(٢) فى الطبري : «؛ إذ ذاك ، وفى ذلك الحين».

(٣) يعنى : بلا التبرئة. وهى لا النافية للجنس.

(٤) يعنى نون التنوين يقال : نون الاسم ألحقه التنوين ؛ قال فى التاج : وتزاد ـ أي النون ـ للصرف فى كل اسم منصرف.

(٥) جدود : موضع فى أرض بنى تميم على سمت اليمامة. والمقيل : موضع القيلولة ، وهى الاستراحة نصف النهار. والشرب : النصيب من الماء ، والنقوع : المجتمع. وترى زيادة النون فى «أن» وهى لا بدّ منها ، وقد سقطت من الأصول.

(٦) ورد هذا البيت فى سيبويه ١ / ٣٤٩. وهو من أبياته الخمسين التي لا يعرف قائلها. ونسبه ابن هشام لرجل من بنى عبد مناة يمدح مروان بن الحكم وابنه عبد الملك ، ونسب فى شرح شواهد الكشاف للفرزدق وانظر الخزانة ٢ / ١٠٢ ، والعيني على هامشها ٢ / ٣٥٥

١٢٠