غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

بعد أن اطّلع العلّامة الكبير المحقّق الشيخ باقر شريف القرشي «حفظه الله» على مشروع طبع هذا الكتاب تفضّل بهذه الكلمة الكريمة :

بسم الله الرحمن الرحيم

من الأسر الكريمة التي ظهرت على مسرح الحياة العلميّة والأدبيّة في النجف الأشرف اسرة آل الجواهري ، فقد اتحفت العالم الإسلامي والعربي بكوكبة من النوابغ والأفذاذ الذين يعدّ بعضهم من أساطين العلماء ، كان منهم الفقيه الكبير الإمام الشيخ محمّد حسن عميد هذه الأسرة ، وزعيم الفقهاء ، وهو مؤلّف كتاب «جواهر الكلام» وهو أهمّ موسوعة في الفقه الإمامي ، ومن المصادر المهمّة التي يتخرّج منها المجتهدون والفقهاء ، ونظرا لأهميّته البالغة في الأوساط العلمية فقد سميّت اسرة المؤلّف باسمه فقيل اسرة آل الجواهر ، كما سميّت بعض الأسر العلميّة باسم الكتاب الذي ألّفه بعض أعلامها كاسرة آل كاشف الغطاء ، فإنّ هذا اسم للكتاب الفقهي الثمين الذي ألّفه الإمام الشيخ جعفر وبه سمّيت اسرته.

ومن نوابغ هذه الأسرة شاعر العرب الأكبر محمّد مهدي الجواهري متنبئ العصر ، ولا أعتقد أنّ أديبا أو مثقّفا في العالم العربي إلّا قرأ شعره أو حفظ منه.

ومن نوابغ هذه الأسرة الكريمة سماحة آية الله العظمى الشهيد الشيخ محمّد تقي الجواهري الذي أجهد نفسه في تحصيل العلوم والمعارف الإسلامية مذ كان صبيا وفي رعاية أبيه حجّة الإسلام آية الله العظمى الشيخ عبد الرسول الذي كان صديقا لوالدنا المغفور له الشيخ شريف القرشي.

لقد تمرّس شيخنا التقي في العلوم التي درسها كعلم النحو والصرف والمنطق والبلاغة والأصول والفقه ، وغيرها ... واتذكّر أنّي كنت معه في أيام عاشوراء في مجلس عقد لسيّد الشهداء عليه‌السلام فقدّم له كتاب خطّي في مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام

٨١

وطلب منه أن يقرأ منه على الحاضرين ، وأخذت الكتاب منه ونظرت فيه فإذا هو مليء بالأخطاء النحوية وغيرها ، فقلت له بذلك فقال : لا يهمنا ، في أثناء القراءة سوف أصلحه ، وفعلا قرأه خاليا من الأخطاء.

وعلى أيّ حال ، فقد عاش شيخنا الشهيد مكبّا على تحصيل العلم لم يخلد إلى الراحة ولم يألف السكون ، وقد قضى عشرات السنين من حياته في مدرسة الخليلي في النجف الأشرف ، على تدريس الحوزات العلميّة ، وقد تخرّج على يده مجموعة من العلماء والأفاضل.

وكان من ألمع تلاميذ سيّدنا الإمام الخوئي قدس‌سره مربي الأعلام ، وأستاذ المجتهدين ، ولم يتخلّف من الحضور في مجلس بحثه عشرات السنين ، وكان يشكل عليه في أثناء تدريسه ، كان الأستاذ ربّما يوافقه أو يردّ عليه ، وقد كتب معظم بحوثه في علم الفقه والأصول ، وقد تصدّى نجله حجّة الإسلام شيخنا المكرّم الشيخ حسن لطبعها وهو من أفضل المبرّات التي يقدّمها لوالده ، كما أنّه من أفضل الخدمات التي يسديها على طلّاب علم الفقه والأصول.

ولم تقتصر معارف شيخنا الشهيد على علم الفقه والأصول ، وإنّما شملت الأدب العربي ، فقد كان من أفاضل الشعراء ، وله ديوان مخطوط قد تلف مع الأسف ، وقد ذكر الشيخ علي الخاقاني بعض قصائده في موسوعته «شعراء الغري».

وقد شاء الله تعالى أن يرزق هذا العالم الكبير الشهادة على أيدي أعتى خلقه البعثيين ، فقد عزّ عليهم أن يكون في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف مثل هذا العالم في فضله وثرائه العلمي فألقوا عليه القبض ، ونفّذوا فيه الإعدام وقد خسرت الهيئة العلميّة فذا من أفذاذها وعلما من أعلامها اللامعين ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

٨٢

وإنّا نأمل من نجله حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ حسن حفظه الله تعالى أن يملأ الفراغ ، ويعيد لهذه الأسرة المكرّمة مكانتها العلميّة في الأوساط الاجتماعيّة ، سائلين الله تعالى أن يمدّ في توفيقه ويتفضّل عليه بلطفه ، إنّه تعالى ولي ذلك والقادر عليه.

باقر شريف القرشي

٢١ / ج ١ / ١٤٢٧ ه‍

كتبت هذه الكلمة في قم المقدسة

٨٣

تواريخ الاستشهاد

وقد تفضّل علينا الأستاذ الكبير العلّامة المؤرّخ السيد عبد الستار الحسني بتواريخ ثلاثة لسنة استشهاد الفقيه آية الله الشيخ محمد تقي الجواهري ، وها هي كما قدّمها بقلمه :

باسمه تعالى (١)

اعتذار :

شيخنا الآية الشيخ حسن الجواهري دامت بركاته :

بعد السّلام والدّعاء مشفوعين بوافر الحمد والثّناء :

* * * * *

حضرني هذان التأريخان الماثلان أمامكم بعد اللقاء المبارك مباشرة فقيّدتهما على علّاتهما من غير تنويق أو تنميق على أمل إعادة النظر فيهما لكن حالتي الصحيّة وانحراف المزاج المفاجئ حالا دون ذلك فألتمس من سماحتكم العذر والإغضاء عمّا عسى أن يكون قد اعتورهما من الهنات الهيّنات ـ وليس بملوم من اعتذر ـ.

تاريخ استشهاد سماحة آية الله مربّي العلماء الأعلام الفقيه المحقّق الشيخ محمد تقي الجواهري النجفي قدس الله تعالى سرّه ، وفي فراديس النعيم المقيم سرّه :

عيلم العلم والتقى قرّ عينا

حيث قد بوّئ النعيم المخلّد

إذ قضى نحبه شهيدا سعيدا

وهو في عالم الكرامة أسعد

__________________

(١) لا يحذف (ألف الوصل) إلّا من (البسملة) الكاملة ؛ فما شاع من حذفه في نحو : بسمه تعالى ، غير سديد ، وإن سدك به وغري برسمه على هذه الصورة كثير من الأفاضل.

٨٤

إن يضع مشهد ؛ ففي كلّ قلب

لابن (عبد الرسول) قد قام مشهد

قد فقدناه صرح علم منيفا

شاد أركانه الإله ووطّد

في معاليه كان (عقدا فريدا)

سمطه من (جواهر) قد تنضّد

كيف أستطيع وصف من حاز قدرا

لا يوفّي أوصافه (الرّسم) و (الحدّ)

أوحديّ شرواه (١) عزّ وجودا

هو من (مذهب الهدى) العين واليد

كم عليه تخرّجت من فحول

كلّ فرد بأفق علياه فرقد

وله من بنيه خير ادّكار

إذ قفوا نهجه القويم المسدّد

في ضروب العلوم فاز بسبق

وبآثاره الأعاظم تشهد

لم يزل في محافل العلم حيّا

إنّ من عاش فكره ليس يفقد

بيد أن القلوب تندب وجدا

فقد (وجه) به الرّشاد تجسّد

لصراط الصواب كان سراجا

بسناه أخو الغواية (٢) يرشد

مخذم في الجهاد غير كهام

وعجيب في باطن التّرب يغمد

والمعزّى برزئه علم طه

والهداة (٣) الأطياب من آل أحمد

ومذ الدّين قد نعاه بشجو

وبهول المصاب في الخلق ردّد

ب (دم) (٤) الأعين الورى أرّخوه :

«ثكل العلم ب (التّقيّ محمّد)»

٤٤+

٥٥٠+ ١٧١+ ٢+ ٥٤١+ ٩٢ ـ

سنة (١٤٠٠ ه‍)

__________________

(١) شرواه : مثله ، نظيره.

(٢) الغواية ، بفتح الغين المعجمة وليس بكسرها كما شاع خطأ. ومثلها : الرّضاعة والرّضاع وكسر رائها غير فصيح.

(٣) الهداة معطوفة على (طه) وليس على (علم) أي وعلم الهداة .. الخ.

(٤) في عبارة (دم) إشارة إلى إضافة (٤٤) إلى مادّة التأريخ. وقد حسّن التورية ترشيحها لما يأتي في مادة التأريخ.

٨٥

تأريخ آخر لشهادة آية الله الجواهري قدس‌سره :

علم الفضيلة قد قضى في سجنه

صبرا ؛ فعزّ (شرائع الإسلام)

قد غادر الدّنيا فغشّاها الأسى

وتجلببت لمصابه بظلام

وبفقده ، مذ قيل عن أفق الهدى

قد غاب ـ وا أسفاه ـ بدر تمام

(ناع) (١) أتى ليصيح في تأريخه :

(بكت التّقيّ جواهر الأحكام)

١٢١+

٤٢٢+ ٥٤١+ ٢١٥+ ١٠١ ـ

سنة (١٤٠٠ ه‍)

تأريخ ثالث لرحيل فقيد العلم والتقى والجهاد آية الله الفقيه الشيخ محمد تقي الجواهري قدس‌سره حضرني بعد التأريخين المتقدمين :

لله خطب ـ في البريّة ـ فادح

أورى القلوب أسى وزاد شجاها

فلقد قضى صنو المكارم والعلى

وطوى الحمام من العلوم لواها

ومعاهد التّدريس دارسة غدت

إذ كان محيا مثله محياها

رزئت بفقد (أبي الأمين) أمينها

وسنا محجّتها وقطب رحاها

وبكت (محمّدا التّقيّ) نواظر

قد كان في الليل البهيم ضياها

وخبت مصابيح الرّشاد لهول ما

قد ناب ذاك المخبت الأوّاها

لا غرو إن نعت (الشّرائع) للورى

من ب (الجواهر) جدّه حلّاها

(علّامة) الدّهر (المحقّق) من به

دين المهيمن بالمفاخر باهى

ذاك (المفيد) (المرتضى علم الهدى)

(شيخ الشريعة) حصنها وحماها

وبيوم ودّعها هتفت مؤرّخا :

[[فقدت (جواهرها) (شرائع) طه]]

٥٨٤+ ٢٢١+ ٥٨١+ ١٤ ـ

سنة (١٤٠٠ ه‍)

__________________

(١) في كلمة (ناع) تورية بإضافتها إلى مادّة التأريخ وبها يتم المطلوب.

٨٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ثمّ الصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.

فهرست علم الاصول

الدين عبارة عن جملة من أحكام لها تعلّق بعمل المكلّف ، سواء كان جوانحيّا أو جوارحيّا.

فإن كان المقصود منه هو الالتزام والاعتقاد فالمتكفّل ببيانه هو علم الكلام ، كوجود الباري ووحدانيّته وعدله وكماله وصفاته الثبوتيّة والسلبيّة ، وكالنبوّة وما يعتبر في منصبها من العصمة وغيرها وكالإمامة وما يعتبر فيها.

وإن كان المقصود منها العمل الجوارحي فالمتكفّل ببيانه هو علم الفقه. وحيث إنّه ليس من العلوم البديهيّة ، بل هو من العلوم النظريّة فله مقدّمات ومبادئ تتوقّف معرفته عليها. وأهمّ تلك المقدّمات هو علم الاصول ؛ ضرورة أنّ من ليس عنده من الاصول شيء فهو ناقل للفتوى ، كما أنّ من كان عنده من الاصول شيء ولم يكن مجتهدا في مبانيه فهو مقلّد في المباني.

وقد ظهر لك وجه تسميته بعلم الاصول ؛ فإنّ الاصول في اللغة هي مباني الأشياء ، وظهر أيضا وجه تسمية الفقه بالفروع أيضا ؛ فإنّها من متفرعات تلك الاصول. ومن هنا ظهر أهمّيّة علم الاصول وضرورة قراءته.

٨٧

وقد كانت سيرة المتقدّمين من علمائنا أنّهم يبحثون عن المسألة الأصولية عند التعرّض لها في الفقه ، حتّى انتهى الأمر إلى صاحب الحدائق وصاحب المعالم ومن قارب عصرهما فدوّنوا الاصول قبل الخوض في المطالب الفقهيّة في مقدّمات الكتاب. ولكن جملة من علمائنا المتقدّمين وجميع المتأخّرين التزموا تدوين الاصول في كتب مستقلّة عن الفقه.

ولا يخفى أنّ ذلك ليس بدعة ـ كما نسبه إليهم بعض الأخباريين (١) ـ ضرورة أنّ البحث عنها لا بدّ منه ، واستقلالها لا ضير فيه ، فأيّ بدعة في البحث عنها مستقلّة ، إلّا أن يكون مراد من زعم كونه بدعة أنّه شيء جديد حادث ، لا أنّه حرام ، وهو مع كونه خلاف مساق كلامه غير حادث أيضا ، بل إنّ الاستقلال في تدوينه من زمن الشيخ الطوسي قدس‌سره (٢) فليس بحادث.

ثمّ إنّ هذه الاصول تارة تكون كافلة بأحكام الشاكّ ومبيّنة لوظيفته العمليّة وتسمّى بالأصول العمليّة ، وتارة تكون كافلة ببيان الأحكام الواقعية ، وهي على أقسام ؛ ضرورة أنّ البحث فيها :

تارة : يكون فيما يتعلّق بالأدلّة اللفظية ، وتسمّى بالأصول اللفظية ، مثل كون الأمر دالّا على الوجوب أم لا ، وكون النهي دالّا على التحريم أم لا ، وكون الجملة الشرطية دالّة على المفهوم أم لا.

واخرى : يكون في ملازمات الأحكام ، سواء استفيد الحكم من دليل لفظي أم لا ، مثل البحث عن مقدّمة الواجب وقاعدة الضدّ وباب اجتماع الأمر والنهي واقتضاء النهي الفساد.

__________________

(١) المولى محمّد أمين الأسترآبادي في الفوائد المدنيّة : ٣.

(٢) ويكفينا كتابه عدّة الاصول.

٨٨

وثالثة : يكون البحث فيه عن حجّيّة دليل وعدم حجّيّته ، وهو المعبّر عنه ببحث الحجج ، مثل البحث عن حجّيّة الظواهر وخبر الواحد والشهرة والإجماع المنقول وغيرها.

ورابعة : يكون البحث فيها عن تعارض الأدلّة وهي :

تارة : في تعارض الأدلة الواردة على الأشياء بعناوينها الأوّليّة مع ما ورد عليها بعناوينها الثانويّة كقاعدة لا ضرر مع بقيّة الأحكام.

وتارة : نفس أدلّة العناوين الأوّليّة متعارضة كالأخبار المتعارضة ، ويسمّى الجميع باب التعادل والترجيح.

وقد جرى ديدن الأصوليين ولا سيّما المتأخّرين على تقديم البحث عن امور تسمّى بالمبادئ على هذه الاصول المذكورة ، مثل البحث عن موضوع العلم وغايته ومباديه والوضع والمعنى الحرفي والمشتق والصحيح والأعمّ والحقيقة الشرعيّة وغيرها. ونحن نجري على منوالهم فنقول وبالله الاستعانة ومنه المدد (*) :

__________________

(*) ذكر المقرّر في الحاشية بيانا آخر للمسائل الأصولية عن الدورة اللاحقة للدرس ، وهذا نصّه :

إذا علم المكلّف إجمالا بوجود تكاليف شرعية متّجهة نحوه فلا بدّ له من تحصيل الامتثال لها بنحو يكون محصّلا للمؤمّن الشرعي من جهتها فلا بدّ له من الخوض في علم الأصول.

فإمّا أن يكون علم الأصول محصّلا للعلم القطعي الوجداني بالحكم الشرعي كالاستلزامات العقلية ، ككون وجوب الشيء مستلزما لوجوب مقدمته مثلا ، وكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضدّه ، وكون النهي مقتضيا للفساد ، وباب اجتماع الأمر والنهي وغيرها من المبادئ العقلية المقتضية للعلم بالحكم الشرعي.

٨٩

__________________

ـ أو يكون محصلا للعلم التعبدي بالحكم الشرعي ، وهذا إما أن يكون باحثا عن صغريات مسلّمة الكبرى ، ككون الأمر ظاهرا في الوجوب مثلا أم لا ، وهذا أيضا تارة يكون بلحاظ نفسه كما مرّ ، أو بلحاظ أمر آخر ككون الأمر عقيب الحظر للوجوب أم لا.

أو يكون باحثا عن كبريات محرزة الصغرى كبحث حجية خبر الواحد مثلا وحجية الاجماع المنقول وحجية أيّ الخبرين أو الإجماعين المتعارضين.

وإذا لم نحصل العلم بالحكم الشرعي لا وجدانا ولا تعبدا فلا بدّ أن نحصل العلم بالوظيفة الشرعية ، وهي الأصول العملية الشرعية المجعولة لمعرفة الوظيفة الشرعية المجهولة.

ومع تعارض الأدلة الشرعية فلا بدّ من الرجوع إلى الحكم العقلي المعيّن للوظيفة عقلا ، وهي الأصول العقلية كالبراءة العقلية والاحتياط والتخيير ، وبهذه الأمور يحصل للمكلّف المؤمّن في مقام امتثال الحكم الشرعي أو إتيانه بوظيفته.

ومن هنا صحّ تعريف علم الأصول بأنه المسائل المحصّلة للعلم بالوظيفة شرعا أو عقلا ، وتعريفه بغير هذا التعريف إن رجع إليه وإلّا فلا مخصّص له باستنباط الأحكام الشرعية.

والفرق بين الأصول وبقية العلوم التي يتوقف عليها العلم بالوظيفة الشرعية كعلم الرجال واللغة وغيرها أن مسائل علم الأصول يترتّب معرفة الوظيفة فيها على كل مسألة ، بمعنى أن كل مسألة على حيالها واستقلالها مما يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي بخلاف بقية العلوم ، مثلا إذا قلنا ان الأمر ظاهر في الوجوب فلو وقع الأمر في سنّة متواترة قطعية استنبط منه الحكم ، وإن قلنا إن خبر الواحد حجة فلو كان صريحا ونصا ترتّب عليه معرفة الحكم الشرعي بلا وساطة مسألة أخرى.

نعم قد يتوقّف معرفة الوظيفة على أكثر من مسألة واحدة إلّا أنه يمكن أن تعرف الوظيفة من مسألة واحدة في الجملة ولو بصورة نادرة مثلا ، بخلاف بقية المسائل من بقية العلوم الأخر كعلم الرجال وغيره.

فقد تلخّص أن المسائل الأصولية هي المسائل التي لو ضمّ إليها صغرياتها لأنتجت

٩٠

__________________

ـ بيان الوظيفة الشرعية بنحو كلي ، فتخرج حينئذ قاعدة اليد والضرر والحرج والطهارة ، لأنها تبين أحكام الشبهة الموضوعية ، فهي لبيان الحكم الشخصي لا الكلي.

وتخرج أيضا قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وما يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، لأنها وإن أفادت حكما كليا إلّا أنه تطبيق للحكم الكلي المستنبط على مصاديقه لا استنباط لحكم كلي.

وظهر أيضا أن ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من أن المسألة الأصولية لا يمكن أن تلقى إلى المقلّد وان المسألة الفقهية هي التي يمكن إلقائها إلى المقلّد ليس معيارا بل المعيار ما ذكرنا ، لأن مسألة التسامح في أدلة السنن مسألة فقهية قطعا ولا يمكن القائها إلى المقلد ، لعدم معرفته بالخبر الصحيح والضعيف ، نعم هذه القاعدة غالبية لا دائمية.

ثمّ انه يكفي في كون المسألة أصولية ترتّب الاستنباط على أحد طرفيها فلا يرد عدم ترتب الاستنباط على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، إذ يكفي ترتب الاستنباط على القول بالجواز في البحث عنها في الأصول.

ولا يرد أيضا ان اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده مسألة فقهية ، لأنها بحث عن تحريم الضد وعدم تحريمه ، مضافا إلى أنها لا يستنبط منها الحكم إلّا بضميمة أن النهي يقتضي الفساد ، إذ يكفي ترتب الحكم على القول بعدم الاقتضاء ، إذ الحكم المستنبط حينئذ هو الصحة.

ولا يرد أن بحث مقدمة الواجب بحث عن الوجوب فهو مسألة فقهية كلية ، نظير قاعدة الضرر والحرج ، وتطبيقها على مصاديقها مثلها ، فإن البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ليس حكما شرعيا ، نعم يستنبط منها الحكم بوجوب المقدمة وهو ميزان المسألة الأصولية.

ولا يرد أيضا أن بحث البراءة الشرعية والاحتياط ليس مسألة أصولية ، إذ هو كقاعدة ما يضمن بصحيحه ، ضرورة إنه وإن كان مثله إلّا أنه يترتب عليه الأمن من العقوبة الشرعية بخلاف تلك القاعدة.

٩١
٩٢

[مبادئ علم الأصول]

ويقع الكلام في أنّ كلّ علم لا بدّ أن يكون له موضوع أم لا؟ وفي العوارض الذاتية والغريبة وميزانهما ، وفي أنّ الموضوع لا بدّ أن يكون باحثا عن العوارض الذاتيّة دون الغريبة أم لا؟

([المرحلة الأولى] : في موضوع كل علم)

فيقع الكلام الآن في المرحلة الأولى من هذه المراحل الثلاثة :

فنقول : قد ذكروا أنّه لا بدّ لكلّ علم من موضوع يكون جامعا بين موضوعات مسائله المتشتّتة ، ويكون مؤثرا لترتّب الغرض المتوخّى من ذلك العلم ترتّب العلة على المعلول أو المشروط على شرطه أو غير ذلك من أنحاء الترتّبات ؛ لأنّه لو لم يكن موضوع جامع يلزم ترتّب الأثر الواحد على متعدّد ، وصدور الواحد من المتعدّد مستحيل ؛ لما برهن عليه في الفلسفة (١) ؛ إذ إنّ مسائل كلّ علم متشتّتة ومتفرّقة ، فلا بدّ من جامع بين هذه المسائل ليترتّب عليه الغرض الواحد.

__________________

(١) انظر الأسفار الأربعة ٢ : ٢٠٤ ـ ٢٠٩ ، وشرح المنظومة ، قسم الحكمة : ١٣٢ ـ ١٣٣ ، ونهاية الحكمة : ١٦٥ ، الفصل الرابع في أنّ الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد.

٩٣

ولا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أولا : فلأنّ هذه القاعدة وهي استحالة صدور الواحد من المتعدّد ـ إن سلمت ـ ففي غير العلوم ؛ لأنّ جملة من العلوم ليس لها غرض مترتّب عليها وراء نفسها ، بل الغرض منها ليس إلّا نفس المعرفة والكمال ، نظير علم الفلسفة العالية فإنّه ليس وراء المعرفة شيء يترتّب عليها ، والغرض المذكور في كلامهم لا يمكن أن يكون نفس الشيء ؛ إذ إنّ الترتّب المذكور في كلامهم قاض بتغايره مع المترتّب عليه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الغرض المترتّب ليس واحدا شخصيّا ، وهي إن سلمت ففي الواحد الشخصي ، والوحدة في المقام نوعيّة ؛ لأنّه ليس واحدا حقيقة بل آحاد ؛ فإنّ لكلّ مسألة غرضا مترتّبا عليها ، فإنّ باب الفاعل مثلا له غرض واحد مترتّب عليه ، وهو صون اللسان عن الخطأ في المقال فيه ، وهكذا كلّ مسألة. والجامع بينها جامع عنواني ، وحينئذ فالأغراض متكثّرة. ونظيره في علم الاصول ، فإنّ استنباط الوجوب من الأمر غرض مترتّب على خصوص مبحثه ، وكذا كون النهي مفيدا للتحريم وهكذا ، وحينئذ فالأغراض المترتّبة كثيرة ، فلا بدّ من كون المؤثّر متعدّدا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ذلك الأثر حينئذ إنّما يكون مترتّبا على مجموع المسائل لا على آحادها ، وحينئذ فالمجموع هو المؤثر فيه ، فلم يلزم صدور الواحد من المتعدّد ، بل صدور الواحد من الواحد ، نعم لو ترتّب الأثر على كلّ واحد واحد من المسائل لزم ما ذكر ، فافهم.

وأمّا رابعا : فلأنّ المؤثّر في الغرض ليس هو موضوع العلم ليلزم من وحدته وحدته ، بل مجموع المسألة بوجودها الواقعي ليس مؤثّرا في حصول الغرض ، وإنّما المؤثّر هو العلم بالمسألة ، فلا بدّ من جامع بين أفراد علم باب الفاعل وعلم باب المفعول وعلم باب الحال والتمييز وغيرها في علم النحو مثلا ، فلا بدّ من جامع بين أفراد هذه العلوم.

٩٤

وأمّا خامسا : فلأنّ جملة من العلوم يستحيل أخذ الجامع الحقيقي وتصويره بين أفراد مسائله ، مثل علم الفقه مثلا الذي هو أشرف العلوم بعد علم أصول الدين ، فإنّه تارة يبحث عن الجواهر مثل الماء وحكمه ، واخرى عن الأعراض مثل شرب الخمر ، وتارة عن الأمور الحقيقيّة مثل الماء أيضا ، واخرى عن الانتزاعيّة كالغصب ، وتارة عن الأمور الوجودية مثل الصلاة ، واخرى عن الأمور العدميّة مثل الصوم وتروك الإحرام ، وتارة عن بعض المقولات ، واخرى عن بعض آخر ، ومعلوم في محلّه استحالة الجامع بين الأمور الوجوديّة والعدميّة وجامع بين مقولتين وبين الجواهر والأعراض وبين الحقيقي والانتزاعي.

ودعوى أنّ الجامع هو أفعال المكلّفين مدفوعة بأنّه جامع انتزاعي لا حقيقي والكلام في الحقيقي ، مضافا إلى أنّ كون أفعال المكلّفين هو الجامع أوّل الكلام ؛ فإنّ نجاسة الماء وطهارته ونجاسة الخمر وطهارته ومثل كون المال ميراثا وغيرها من الأحكام التي موضوعها ليس هو أفعال المكلّفين.

وبالجملة فقد ظهر أنّه لا يلزم أن يكون للعلم موضوع أصلا ؛ لأنّ ما ذكر دليلا على لزوم الموضوع قد عرفت ما فيه.

ومن هنا سقط كون البحث عن عوارض ذلك الموضوع الذاتيّة دون الغريبة ؛ إذ لا يلزم أن يكون له موضوع حتّى يترتّب عليه ذلك.

(واعلم أنّ تمايز العلوم إن كان ليكون القارئ لذلك العلم على بصيرة ممّا يقرأه فهو يكون بالغرض وبالموضوع وبالمحمول ، فيقال له : إنّ علم النحو يفيد صون اللسان عن الخطأ في المقال ، فيذكر له الغرض المقصود منه. وقد يقال له : إنّه يبحث فيه عن الفاعل والمفعول مثلا فيميّزه بذلك.

وقد يقال له : إنّه يبحث عن الحركات العارضة لآخر الكلمة فيميّزه بمحموله. وإن كان تمايز العلوم إنّما يراد كي يكون ميزانا لذكر مسألة فيه في مقام التدوين

٩٥

وترك اخرى فهو يكون بالأغراض غالبا. وإذا لم يكن للعلم غرض وراء نفسه كالمعرفة فتميّزه بموضوعه ، كأن يبحث الإنسان عن معرفة عوارض الإنسان من حيث نفسه وبدنه ، وقد يكون بمحموله كما إذا أراد البحث عما يعرضه الحركة والسكون مثلا) (١).

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى من الجهات الثلاثة ويقع الكلام في :

(المرحلة الثانية : في العوارض)

المحمولات على الشيء تارة تكون ذاتية له واخرى غريبة عنه.

والذاتي قد يطلق كما في الكلّيات ويراد به الجنس والنوع والفصل بمعنى ما يكون الشيء متألّفا منه. ويقابله العرضي وهو ما يكون عارضا على الشيء من غير أن يتألف منه وقسّموه على قسمين : عرض خاصّ كالضحك للإنسان ، وعامّ كالماشي بالإضافة إليه.

وقد يطلق كما في باب البرهان ، ويراد به ما يكون تصوّر نفس الشيء كافيا في لحوقه وحمله عليه بلا حاجة إلى شيء آخر كالإمكان بالإضافة إلى الإنسان ، فإنّ الإنسان لو لوحظ بنفسه من غير مدخليّة شيء آخر كان وجوده ممكنا وعدمه ممكنا ، ويقابله غير الذاتي وهو ما لا يكون تصوّر نفس الشيء كافيا في حمله ولحوقه. ولكنّ الذاتي في المقام لم يطلق على كلّ من هذين القسمين ؛ ضرورة أنّ المحمولات في مقامنا ليست مما يتقوّم بها ذات الموضوع ، ولا تصوّر الموضوع كاف في لحوقها ، بل أغلبها ـ إن لم يكن كلّها ـ نظريّة محتاجة إلى أدلّة. بل إنّ المراد بالذاتي هنا قسم من العارض ؛ ضرورة أنّ العوارض قسمان : ذاتية وغريبة.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

٩٦

[المرحلة الثالثة : في أنّ موضوع العلم هل هو العوارض الذاتية فقط؟]

والمقصود من هذا الكلام بيان أنّ موضوع العلم ما يبحث فيه عن العوارض التي ليست واسطتها واسطة في العروض ، سواء كان لها واسطة أم لم تكن لها واسطة ، والواسطة سواء كانت في الثبوت أو في الإثبات ، وهذه هي (المرحلة الثالثة) من مراحل البحث.

بيان ذلك أنّ جملة من المحمولات لا تحتاج إلى واسطة أصلا كحمل الإمكان على الممكن والامتناع على الممتنع ، ولكنّ أغلب المحمولات لا بدّ لها من واسطة بمعنى علّة محقّقة لحمل المحمول على الموضوع ، مثلا الوجوب المحمول على الصلاة لا بدّ له من علّة تثبته لها ، وهي إرادة المولى مثلا ، فالعلّة المثبتة تسمّى واسطة في الثبوت ، فالعلّة المحقّقة لثبوت النسبة بين الموضوع والمحمول واقعا تسمّى واسطة في الثبوت ، وعلّة العلم بذلك الثبوت تسمّى واسطة في الإثبات. وأمّا واسطة العروض فهي الواسطة الموجبة لعروض شيء على شيء ثمّ تنسبه إلى آخر بالمجاز فهذه واسطة في العروض ، كالواسطة الموجبة لعروض الجريان على الماء ثمّ تنسبها إلى الميزاب بالعرض والمجاز فتقول : جرى الميزاب بعلاقة الحالّ والمحلّ.

ثمّ إنّ العوارض سبعة أقسام : قسم منها يعرض بلا واسطة أصلا كعروض إدراك الكليات للنفس الناطقة ، فإنّها بلا واسطة. وستة بواسطة : وهي إمّا داخلية مساوية للمعروض أو أعمّ ، وإمّا خارجية مساوية للمعروض أو أعمّ أو أخصّ أو مباينة ، فالعارض بواسطة الداخل المساوي اتفقوا على كونه ذاتيّا كالتكلّم العارض للإنسان بواسطة النطق ، فإنّ الناطق بما أنّه به فعليّة الإنسان لا يحسب عارضا. واتفقوا على كون العارض بواسطة المباين غريبا ، وكذا ما كان بواسطة الخارج الأعمّ والأخصّ ، واختلفوا فيما كان بواسطة الجزء الأعمّ ،

٩٧

فذهب بعضهم (١) إلى أنّه ذاتي ؛ لصحّة الحمل الحقيقي ، فيقال : الإنسان طويل وذهب بعضهم (٢) إلى أنّه غريب ؛ لأنّ الحمل عنده مجازي.

ولا يترتّب على هذه الأبحاث كثير فائدة ، وإنّما المقصود في المقام دفع الشبهة الواردة في المقام ، وهي : أنّ العارض بواسطة الخارج الأخصّ غريب بالاتفاق ، مع أنّ عروض أغلب المحمولات على موضوع العلم إنّما تكون بواسطة الخارج الأخص ، مثلا قولنا : الفاعل مرفوع ، فإنّ عروض الرفع على الكلمة التي هي موضوع علم النحو بواسطة الخارج الأخصّ ، وهو الفاعل ، أو الأعمّ كعلم الاصول ، فإنّ موضوعات مسائله أعمّ من الموضوع المذكور له ، فإنّ الموضوع له هو الأدلة الأربعة ، ولكن موضوع مسائله مثلا كون الأمر للوجوب أم لا ، والنهي للتحريم أم لا من غير تقييد بالأدلّة الأربعة ، بل بنحو العموم لها ولغيرها ، فإن قلنا بأنّ العارض بواسطة الجزء الأعمّ ذاتي ارتفع الإشكال في علم الاصول وإلّا فالإشكال محكّم.

وقد شرّقوا وغرّبوا في الجواب عن هذا الإيراد ولم يأتوا بشيء ينفع ، ولا فائدة في ذكر أجوبتهم وردّها ، فنقتصر على ذكر جواب الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) والتنظر فيه ، فقد ذكر في مقام الجواب عن هذا الإشكال أنّ الموجودات الخارجية لا تخلو من أقسام ثلاثة :

ـ جواهر ، وهي مشتملة على جنس وفصل ذهنا ، فالجنس ما به الاشتراك والفصل ما به الامتياز ، ومشتملة على صورة ومادّة ، فقد تذهب الصورة منها وتبقى المادّة بصورة اخرى ، كانقلاب الحيوان ملحا وصيرورة الإنسان ترابا.

__________________

(١) كالمحقق النائيني ، انظر أجود التقريرات ١ : ٨.

(٢) كصاحب الفصول ، انظر الفصول : ١٠ ونسبه إلى المشهور وهو ظاهر الكفاية أيضا ، انظر حقايق الاصول ١ : ٧.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٧ ـ ١٠.

٩٨

ـ وأعراض ، وهي في عالم الذهن لها جنس وفصل ، إلّا أنّها في عالم الخارج ليس لها مادّة بها الاشتراك وصورة بها الامتياز ، بل ما به الامتياز خارجا هو بعينه ما به الاشتراك ، فلو تبدّل القيام بالقعود فهو في الخارج غيره.

ـ وامور اعتباريّة وانتزاعيّة ، وهذه ليس لها لا في الذهن ولا في الخارج شيء به الامتياز ولا شيء آخر به الاشتراك ، فهي امور بسيطة وما به الامتياز فيها هو عين ما به الاشتراك ذهنا وخارجا.

إذا عرفت هذا فالموضوع في العلوم إن كان في النحو مثلا هو الكلمة والكلام على الإطلاق لزم ما ذكر من كون البحث فيها عن امور تلحق النوع أوّلا ثمّ تعرض الجنس فتكون غريبة ، ولكن الموضوع هو الكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء ، فالموضوع مقيّد بهذه الحيثية الانتزاعية ، والمقيّد بشيء يكتسب حكم ذلك الشيء ، نظير المقيّد بالعدم فإنّه يكون أمرا معدوما. وحينئذ فالمقيّد بالانتزاعي يكون انتزاعيا ، والانتزاعي ما به الاشتراك فيه هو عين ما به الامتياز ، فلا يكون أمرا آخر غير موضوع المسألة بل هو هو ، وليس عروض الرفع على الفاعل من حيث إنّه فاعل لانطباق ذلك العنوان الانتزاعي عليه ، بل من حيث الإعراب والبناء ، وهذه الحيثية مقيّدة للموضوع فيرتفع الإشكال.

ولا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أوّلا : فلأنّ الموضوع هو الكلمة والكلام ، والحيثيّة هي حيثيّة للبحث لا للموضوع ، فإنّ الرفع يعرض الكلمة ، لا الكلمة بقيد كونها من حيث الإعراب والبناء ، وكذا الوجوب يعرض الصلاة لا الصلاة من حيث اقتضائها الوجوب.

وأمّا ثانيا : فلو سلّمنا تقييد الموضوع بالحيثيّة فإن كان الموضوع للعلم مأخوذا بنحو يكون مشيرا إلى موضوعات المسائل ، فهذا إنكار لموضوع العلم ، بل يكون عليه موضوع العلم هو موضوعات المسائل المشار إليها بهذا الموضوع ، وهو خلف الفرض. وإن اخذ بنحو يكون جامعا لها ومنطبقا عليها ومتّحدا معها فلا يكون

٩٩

أقوى من اتّحاد النوع مع الجنس ، وقد صرّحوا بكون حمل عوارض النوع على الجنس حملا غريبا مجازيا ، فمقامنا أولى ؛ لأنّ المتّحد أمر انتزاعي وفي النوع أمر حقيقي ، فافهم جدا.

وأمّا ثالثا : فإنّ التغاير بين موضوعات المسائل أمر وجدانيّ بديهيّ ، فكون منشأ الانتزاع أمرا كليّا ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك لا يجدي في اتّحاد الموضوعات المتباينة.

وأمّا رابعا : فلأنّ التقييد بالأمر الانتزاعي لا يجعل المقيّد أمرا انتزاعيا ؛ فإنّ تقييد الدار بكونها ملك زيد لا يجعل الدار امرا اعتباريا ، وكذا المقيّد بالانتزاعي كالمقيّد بالفوقيّة والتحتيّة مثلا لا يلزم أن يكون أمرا انتزاعيا ، بل هو باق على جوهريّته أو عرضيّته ، فتأمل جدا.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ موضوع العلم على تقدير وجوده هو ما يبحث فيه عن الغرض المترتّب على ذلك العلم ، سواء كان الغرض مترتّب على العوارض الذاتية أو الغريبة ؛ إذ لم يرد عندنا دليل يقتضي أن يكون البحث عن العوارض الذاتية في العلم لنلتزم بذلك ، بل إنّ البحث في العلم عن كلّ ما يترتّب الغرض المتوخّى عن ذلك العلم عليه كان ذاتيّا أو غريبا.

ولو سلّمنا أنّ البحث يلزم أن يكون عن العوارض الذاتية للموضوع فلا دليل يقتضي كون العارض بواسطة الأخصّ أو الأعمّ غريبا ، حيث يكون وجود الأخصّ عين وجود الأعمّ وبالعكس. نعم ، إذا كان إسناد العارض إلى المعروض بنحو المجازيّة نلتزم بكون ذلك العارض غريبا بالنسبة إلى ما كان الإسناد إليه مجازيّا ، وأمّا حيث يتّحد الأخصّ مع الأعمّ لا ريب حينئذ في كون عارض النوع يصحّ إسناده إلى الجنس حقيقيّا ، مثلا الضحك الذي هو عارض الإنسان لا ريب في صحّة نسبته حقيقة إلى الحيوان بنحو القضيّة المهملة فنقول : الحيوان ضاحك ، فإنّ الضحك حقيقة عارض على الحيوان ؛ لأنّ الإنسان هو بنفسه حيوان أيضا ،

١٠٠