غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

فأحالوا النسخ أيضا ، وإن وقعوا في محذور النسخ باعتبار أنّ شريعة عيسى عليه‌السلام نسخت بعض أحكام شريعة موسى ، وقد أجابوا بأجوبة تافهة لا يهمّنا التعرّض لها.

وقد استدلّوا جميعا على استحالة النسخ بأنّه إن كان الحكم ذا مصلحة فلم ينسخه وإلّا فلم يجعله من أوّل الأمر ، نعم هو ممكن بالنسبة إلى الجاهل بالواقع ونفس الأمر.

والإنصاف أنّ ما ذكر متين لو كان معنى النسخ رفع الحكم ثبوتا ، ولكنّه ليس كذلك ، بل هو رفع له في مقام الإثبات ، فإنّ هذا الدليل المعبّر عنه بالناسخ إنّما رفع دلالة الدليل الأوّل على استمرار الحكم لا أنّه رفع استمرار الحكم ، بل الحكم قاصر من أوّل أمره عن شمول هذا الزمن ، فهو نظير التخصيص في كونه رافعا لدلالة الدليل ومبيّنا لإرادة المولى الجدّية وقصرها على بعض أفراد ذلك العامّ. فينبغي لليهود والنصارى الحكم باستحالة التخصيص والتقييد ، وهذا ممّا لا يمكن أن يتفوّه به عاقل أصلا ، بل إنّ الحكم من أوّل أمره خاصّ إلّا أنّه ابرز بمبرز عامّ لمصلحة مقتضية ثمّ بيّن المراد قبل حضور وقت العمل أو بعده ، وكذا الكلام في النسخ حرفا بحرف. وهذا ممّا لا يمكن أن يشكّ في إمكانه بل وقوعه ، وعليه فشريعة موسى قد نسخت بشريعة عيسى ؛ لأنّ شريعة موسى كانت ظاهرة في الدوام والاستمرار لمصلحة مقتضية لإظهار ذلك ثمّ بيّن المراد الواقعي ، وكذا شريعة عيسى عليه‌السلام بشريعة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. فما ذكره الطرفان من استحالة النسخ بهذا المعنى ممّا لا يساعده البرهان.

في البداء

ويقع الكلام في مقامين : الأوّل في إمكانه واستحالته ، الثاني في الإخبارات الصادرة عن الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ممّا لم يتحقّق ما أخبروا به في الخارج.

أمّا الكلام في المقام الأوّل فقد شارك اليهود والنصارى في دعوى الاستحالة العامّة العمياء ونسبوا إلى علماء الشيعة قدس‌سرهم ما لا يليق بمكانتهم من أنّهم

٦٨١

ينسبون الجهل إلى الله وهم برآء من ذلك براءة الذئب من دم يوسف عليه‌السلام ولكنّها شنشنة أعرفها من أحزم. وقد ذكروا في باب الجبر في أفعال البشر الذي أصرّ عليه أبناء العامّة أنّ الله إمّا أن يعلم أنّ زيدا يشرب الخمر أو لا ، لا سبيل إلى الثاني لاستلزامه الجهل ، وإذا كان يعلم فلا بدّ من وقوعه لئلّا يتخلّف المعلوم عن العلم.

وقد ذكرنا نحن في مبحث الجبر بأنّ علم الله تعالى لا يوجب جبر البشر على فعل شيء ، بل هو نظير ارتسام الصور في المرآة معلول للوجود لا أنّه علّة لها ، فعلمه لا يوجب صدور الفعل لا عن إرادة واختيار من العبد نفسه ، بل لا بدّ من تحقّقهما في الخارج عن إرادة واختيار ؛ لأنّه تعلّق علم الله بهما كذلك ، وحينئذ فتعلّق العلم وعدمه لا يوجب صدور الفعل. بل كما أنّ وجود المرآة لا يوجب صدور الفعل المرتسم بها في الخارج ، بل هو يصدر في الخارج كانت مرآة أم لم تكن ، كذلك علم الله تعالى. وهذا العلم كما أنّه متحقّق بالنسبة إلى أعمال البشر كذلك متحقّق بالنسبة إلى أفعاله نفسه تبارك وتعالى إلّا أنّ هذا العلم أيضا لا يقتضي صدور أفعاله مقهورا عليها ، كما أنّ علم الإنسان بأنّه ينام في هذه الليلة لا يوجب أن يكون نومه قهريّا عليه بحيث يخرج عن إرادته واختياره. والظاهر أنّ هذا واضح لا غبار ولا سترة عليه لمن تأمّل.

ثمّ إنّ المعلوم هو كلّ شيء حقيقي كان الخارج ظرفا له نفسه فيشمل الملازمات أيضا ولا يختصّ بما كان الخارج ظرفا لوجوده بل يشمل الملازمات التي قد لا توجد لعدم وجود طرفيها ومثل حكمنا بإمكان وجود زيد فإن إمكانه كاستحالة اجتماع النقيضين أمر حقيقي يكون الخارج ظرفا له.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الله تعالى له علم مكنون مخزون استأثر به فلا يطلع عليه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ؛ لأنّهم مهما بلغوا من الشرف لا يحيطون به علما وأنّ شرفهم عليهم‌السلام إنّما هو بالنسبة إلى المخلوقات لا بالنسبة إلى الخالق تعالى وتقدّس كيف يحيطون به وهو خالقهم ومكوّنهم ولعلّه هو المسمّى بأمّ الكتاب.

٦٨٢

وله علم آخر محتوم وهو الذي أخبر به أنبياءه وأوصياءه وأنّه لا محالة كائن كما أخبر بأنّ أبا لهب من أهل النار بقوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) إلى آخره.

وله علم آخر يسمى بالقضاء والقدر وهذا أيضا يخبر أنبياءه به إلّا أنّه معلّق على مشيئة فهم يطّلعون عليه معلّقا على ذلك وهذا هو العلم بالملازمات فإنّ وقوعه معلّق على عدم مشيئة خلافه كما في القوانين المدنيّة النافذة لو لا صدور مشيئة الملك بخلافها.

فالقسم الوسط من هذه الثلاثة لا بدّ من وقوعه فإنّ الله لا يكذب أنبياءه عليهم‌السلام وأوصياءه لأدائه على انتصار أعدائه عليهم فلا يكون منشأ للبداء ولا يكون فيه البداء أيضا ، والقسم الأوّل هو الذي يكون منه البداء فإنّ الله بعلمه المكنون يعلم أنّه يشاء صدور هذا الشيء أم عدمه ، والقسم الثالث هو الذي يكون فيه البداء فإن إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بموت زيد هذا اليوم مثلا معلّق بأن لا يشاء الله خلافه ولكنّ الله يشاء خلافه أو لا يشاء فهذا أمر يجهله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الوصي ، ومن هنا ورد عن علي عليه‌السلام وعن الحسن عليه‌السلام والحسين عليه‌السلام وعلي بن الحسين عليه‌السلام ومحمد الباقر عليه‌السلام وجعفر الصادق عليه‌السلام أنّه لو لا آية من كتاب الله لأخبرناكم بما هو كائن إلى يوم القيامة وقد سألوا عن الآية فقالوا : هي قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(١)(٢).

وبالجملة ، فهذا البداء معناه أنّ ما علمته الأئمّة عليهم‌السلام وأخبرت بوقوعه إنّما هو معلّق على عدم مشيئته خلافه ، وهذا المعنى من الامور المثبتة لقدرة الله ومشيئته واختياره وليس موجبا لنسبة الجهل إلى الله تعالى كما نسبه العامّة إلى علماء الإماميّة قدس‌سرهم ، بل هو عين توحيد الله وإثبات علمه بما لا يحيط به بشر من مخلوقاته بالغا ما بلغ.

__________________

(١) الرعد : ٣٩.

(٢) بحار الأنوار ٤ : ٩٧ ، الحديث ٤ و ٥.

٦٨٣

ومن هنا ورد في الأخبار أنّه ما عبد الله بمثل البداء (١) ، وأنّه من المواثيق المأخوذة على الأنبياء (٢) ، وأنّه محض الإيمان (٣) إلى غير ذلك (٤) فإنّه يثبت بهذا سلطان الله وقصور العبد وقدرة الله وعجز العبد فإنّه يقدر أن لا يشاء فلا يكون. وحينئذ فإخبار الأئمّة عليهم‌السلام إن كان قد ذكر فيه أنّه حتمي فهو حتمي ، وإن كان مقيّدا بعدم المشيئة الإلهيّة لخلافه متّصلا به مثلا فيكون مقيّدا بعدمها التي يعلم الله بعلمه المخزون المكنون تحقّق مشيئته بالخلاف وعدمها. وكذا إن كان مطلقا فهو معلّق على عدم المشيئة من الله بالخلاف. ومن هنا ورد أنّه إذا حدّثناكم بشيء فكان فقولوا صدق الله ورسوله ، وإن لم يتحقّق فقولوا صدق الله ورسوله (٥) وذلك لأنّهم لم يكذبوا وإنّما أخبروا على تقدير عدم المشيئة المخالفة ولكن تحقّقت حينئذ المشيئة المخالفة ، فلو تحقّق ما أخبروا به فرضا كان خلفا وكذبا. وقد وردت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام أنّه في ليلة القدر تنزل أخبار ما يكون فيها إلى حجّة ذلك العصر مع اشتراط المشيئة فيها أيضا (٦).

والظاهر أنّ البداء بهذا المعنى إنّما يوجب إحاطة الله بجميع المكوّنات من المخلوقات والموجودات وأنّ الله قادر على أن يتكوّن الشيء وأن لا يكوّنه. ومن هنا كان التضرّع والدعاء والابتهال إلى الله تعالى ـ بأن يوفّق العبد مثلا لطاعته ويجنّبه عن معصيته ويدفع عنه البلاء ويزيد في رزقه وتوفيقه ـ أمرا ذا شأن مهمّ. ولو كان

__________________

(١) الكافي ١ : ١٤٦ ، الحديث الأوّل ، وفيه : بشيء مثل البداء.

(٢) الكافي ١ : ١٤٧ ، الحديث ٣.

(٣) لم نعثر عليه.

(٤) انظر الكافي ١ : ١٤٦ ـ ١٤٩ ، باب البداء.

(٥) بحار الأنوار ٥٢ : ١٨٥ ، الحديث ٩.

(٦) بحار الأنوار ٤ : ١٠١ ، الحديث ١٢.

٦٨٤

البداء محالا لما أمكن شيء من ذلك ؛ لأنّ ما جرى به قلم لا يتغيّر أصلا ، فهذا معناه نسبة العجز إلى الله أن يغيّر ما جرى به قلم التقدير ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

وبالجملة : ففي البداء بهذا المعنى إثبات إحاطة الله حدوثا وبقاء بجميع الممكنات فافهم وتأمّل ، كما أنّ إنكار هذا المعنى من العامّة العمياء نسبة للعجز إلى الله تعالى بقاء مع أنّ الأخبار عن أهل البيت عليهم‌السلام قد تواتر به وليست تعبّدية ، بل هي تنبيه لمدركات العقل وتوجيه لما يدركه لو تأمّل وتفكّر كما في كثير من الروايات الواردة عنهم عليهم‌السلام. والعامّة قد شنّعت على الشيعة وتمسخرت بهم واستهزأت من قولهم بالبداء بهذا المعنى مع أنّ رواياتهم بما ذكرنا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لم تكن بأكثر ممّا روته الخاصّة فلا أقلّ من المساواة ، كما يظهر ذلك ممّا رووه في تفسير آية (يَمْحُوا اللهُ ...)(١) إلى آخره ، من أنّ الله يمحو كلّ شيء ما عدا السعادة والشقاوة (٢) وبعضها خال عن هذا الاستثناء (٣) وقد ورد في دعاء عمر بن الخطاب ـ الذي لم يستجب ـ اللهمّ إن كنت كتبتني من السعداء فثبّتني ، وإن كنت كتبتني من الأشقياء فامحني واكتبني من السعداء (٤) إلى غير ذلك ممّا ورد في صحاحهم من تفسير تنزّل الملائكة والروح فيها وأنّهم ينزلون بكلّ شيء (٥) وأنّه قد يكون الشخص مكتوبا في الأشقياء فيدعو ليلة القدر فيمحى ويكتب في السعداء (٦) إلى غير ذلك من الأخبار المسطورة في كتبهم التي لا يسع المجال لذكرها. وهذه الأخبار مثبتة في صحاحهم

__________________

(١) الرعد : ٣٩.

(٢) جاء ذلك عن ابن عباس ومجاهد ، انظر التبيان ٦ : ٢٦٣ ، والدر المنثور ٤ : ٦٥.

(٣) انظر مجمع البيان ٣ : ٢٩٨ ، والدر المنثور ٤ : ٦٦.

(٤) انظر المصادر المتقدّمة وفيها نقل هذه الدعاء عن ابن مسعود.

(٥) لم نعثر عليه بعينه في تلك الصحاح ولكن ورد مثله في اصول الكافي ١ : ٢٤٩ ، الحديث ٥.

(٦) انظر الدر المنثور ٤ : ٦٦.

٦٨٥

التي عليها معوّلهم والشيعة لا تقول إلّا بهذا المعنى من البداء المذكور في كتبهم ، فعلم أنّ تشنيعهم عليهم ناشئ من الشقاوة النفسيّة التي لا ينالها المحو والإثبات عندهم.

كما رووا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج يحمل كتابين : أحدهما في يده اليمنى وفيه أسماء أهل الجنّة ، والآخر في يسراه وفيه أسماء أهل النار ، وأنّ الله تعالى قد فرغ من تسجيل ذلك (١).

ولا يخفى أنّه إن اريد به العلم الأزلي فهو ممّا استأثر به الله تعالى ولا يطّلع حتّى نبيّه عليه ، وإن كان من القضاء الحتمي ففي الأخبار ما يدلّ على تحقّق المحو والإثبات فيهما كما أشرنا إلى ذلك ، وإن اريد به العلم الثالث فلا بأس بأن يكون المراد عدم تبدّل السعيد بالشقاوة إذا لم يشاء الله تبديلها بها. وأمّا وجه تسمية هذا النحو الذي هو في الحقيقة إبداء بالبداء فأوّلا الشباهة فإنّ هذا النحو في «العبد» هو من البداء وقد اطلق على هذا النحو في «الله» من جهة المشابهة به ، كما في قوله : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(٢) أي ليعمل ما لو كان من العبد الجاهل لكان تمييزا ، وكما في قوله : «الآن علم الله فيكم ضعفا» (٣) فهذه الإطلاقات كلّها إنّما هي بجهة المشابهة ، وهناك وجه آخر لتسمية هذا الأمر بداء إلّا أنّه لغموضه رأينا أنّ الإعراض عنه أولى.

وأمّا البداء في إمامة موسى بن جعفر عليه‌السلام كما ورد في زيارتهما : السلام عليكما يا من بدا الله في شأنكما ، وكذا في الحسن العسكري عليه‌السلام (٤) فليس بمعنى أنّ الأئمّة أخبروا بإمامة إسماعيل والسيّد محمّد وعلّقوا الإخبار على إشاءة الله كلّا ، بل إنّ جعفر بن محمّد وكذا علي بن محمّد الهادي عليه‌السلام إنّما أخبروا بأنّ موسى هو الإمام دون إسماعيل ، وكذا الهادي أخبر بأنّ محمّدا ابنه ليس هو الإمام وإنّما الإمام هو الحسن العسكري عليه‌السلام في حياة إسماعيل ومحمّد. وكذا في الروايات الواردة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في

__________________

(١) كنز العمال ١ : ١١٢ ، الحديث ٥٢٦.

(٢) الأنفال : ٣٧.

(٣) الأنفال : ٦٧ ، والآية هكذا : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً.)

(٤) انظر التهذيب ٦ : ٨٣ ، الحديث ١٦٣ و ٩٤ ، والبحار ١٠٢ : ٦١.

٦٨٦

تعداد الأئمّة الاثني عشر (١) وصحيفة فاطمة عليها‌السلام (٢) وما ورد من تعداد رجل الأئمّة واحدا بعد واحد بحضرة أمير المؤمنين ثمّ خروجه من المسجد وغيبته عن بصر من تبعه ثمّ إخبار أمير المؤمنين عليه‌السلام بأنّه الخضر عليه‌السلام (٣) فإنّ هذه الأخبار بأسرها ذكرت الأئمّة عليهم‌السلام متسلسلين على طبق ما نعتقد. وإنّما البداء هنا من جهة أنّه كان معروفا في أذهان سواد الشيعة أنّ الإمام هو الولد الأكبر دون الأخ ؛ لأنّ إمامة الأخوين منحصرة في الحسن والحسين عليهما‌السلام فالإمام هو الولد الأكبر إذا كان ورعا صالحا ، وكان الكبر والصلاح مجتمعين في إسماعيل ومحمّد فكانوا يقدّرون أنّ إسماعيل هو الإمام بعد الصادق عليه‌السلام وكذا قدّروا أنّ الإمام بعد الهادي عليه‌السلام محمّد ، فلمّا ماتا ظهر للشيعة خلاف ما كانوا يقدّرون ويتخيّلون ولم يكونوا سألوا الإمام فأجابهم بأنّ الإمام بعدي إسماعيل مثلا ثمّ بدا لله في ذلك كلّا ، بل بحسب مخيّلتهم ومرتكزاتهم وأنّهم لا يسألون عن الإمام بعد الإمام الحاضر تقيّة وخوفا على الإمام ، كما يشير إليه وصيّة الصادق عليه‌السلام إلى خمسة أحدهم المنصور (٤). فإطلاق البداء إنّما هو بحسب خيالاتهم الغير الناشئة عن إخبار الأئمّة ، ونسبة البداء إلى شأن الجواد ؛ لأنّ البداء في موسى يقتضي البداء فيه ؛ إذ لو كان إسماعيل هو الإمام لكانت الإمامة في ولده (٥).

هذا تمام الكلام في هذا المقام. والحمد لله الملك العلّام ، والصلاة على محمّد وآله سادات الأنام. وقد تمّ في ليلة الثلاثاء المصادف ١٢ / ربيع الثاني / ١٣٧٢ ه‍.

محمد تقي الجواهري

__________________

(١) انظر إثبات الهداة ١ : ٤٣١.

(٢) الكافي ١ : ٥٢٧.

(٣) المصدر السابق : ٥٢٥.

(٤) الكافي ١ : ٣١٠ ، الحديث ١٣.

(٥) كذا والعبارة لا تخلو من تشويش.

٦٨٧
٦٨٨

في المطلق والمقيّد

والظاهر أنّ الاصوليّين ليس لهم اصطلاح خاصّ في لفظ «المطلق» و «المقيّد» بل مرادهم منهما هو معناهما اللغوي ، فإنّ المطلق لغة هو المرسل ، ومنه فلان مطلق العنان أي غير مقيّد بشيء. والمقيّد أيضا بمعناه اللغوي ، وهو ظاهر. ثمّ إنّ الإطلاق والتقييد قد يعرضان المعاني ، وقد يعرضان الألفاظ. فإذا لحظ معنى مرسلا في مقام تصوّره أو معنى مقيّدا فهذا مقام إطلاق المعنى وتقييده. وقد ينطق بلفظ لم يقيّده بقيد وهو مقام إطلاق اللفظ. وبهذا ظهر أنّه لا مقتضي لذكر تعريف المطلق والمقيّد والإيراد بعدم الطرد والعكس فيها ؛ لأنّ المراد منها هو المعنى اللغوي.

فالمهمّ صرف الكلام بمناسبة المطلق والمقيّد إلى ما وضع له بعض الألفاظ :

فمنها : اسم الجنس ، وهل هو موضوع للطبيعة المهملة أو اللابشرط المقسمي؟ ولا بأس ببيان أمر ، هو أنّ الطبيعة قد تلحظ من حيث هي وحينئذ فهي ليست إلّا هي ، لا يصحّ أن يحمل عليها شيء أصلا ؛ إذ لم يلحظ معها شيء آخر خارج عن مقام ذاتها فلا يصحّ أن يحمل عليها إلّا ذاتها ، فيقال : الإنسان حيوان ناطق ، أو ذاتيّاتها فيقال : الإنسان حيوان أو ناطق.

وقد تلحظ ويلحظ معها ما هو خارج عن مقام ذاتها.

٦٨٩

فقد يلحظ تجرّدها عن كلّ خصوصيّة قابلة لأن تلحقها في الخارج فتكون قد لحظ فيها عدم الصدق الخارجي أصلا ، وهذه لا يحمل عليها إلّا المعقولات الثانويّة فيقال : الإنسان نوع والحيوان جنس ـ مثلا ـ لأنّها حينئذ لا تصلح أن تنطبق على فرد خارجي ، وتسمّى بالماهيّة المجرّدة.

وقد يلحظ معها اعتبار خصوصيّة من الخصوصيّات الخارجيّة فيقال : الإنسان التقيّ مأمون الجانب ـ مثلا ـ وتسمّى بالماهيّة المخلوطة. ثمّ لا يخفى أنّ ما لحظ معها قد يكون أمرا وجوديّا ، وقد يكون أمرا عدميّا ، وهي في كلا الحالين تسمّى بالماهيّة بشرط شيء.

وقد يلحظ معها عدم دخل شيء من الأوصاف الخارجيّة أصلا ، وتسمّى بالماهيّة المطلقة ، وهذه تنطبق على كلّ فرد من الأفراد الخارجيّة.

وقد ظهر بهذا التقسيم أنّ الماهيّة من حيث هي غير الماهيّة الملحوظ معها شيء المنقسمة إلى هذه الأقسام الثلاثة ، وأنّ الكلّي الطبيعي هو الماهيّة المهملة الغير المقيّدة بشيء حتّى قيد الإهمال.

ودعوى : اشتراكها بين ما ينطبق على الخارج وما لا ينطبق فلا تكون كلّيا طبيعيّا لأنّه ما ينطبق على الخارج بالفعل وبعض أقسام المهملة لا ينطبق ، فاسدة إذ الكلّي الطبيعي ما كان قابلا لأن ينطبق على كثيرين ، وهذه المهملة أيضا قابلة للانطباق ولو ببعض الأقسام.

ومن هنا ظهر فساد ما ذكره النائيني : من أنّ الكلّي الطبيعي هو القسم الأخير وهو اللابشرط القسمي (١) لأنّه هو الذي ينطبق فعلا على الخارجيّات. كما أنّه ظهر أنّ اسم الجنس موضوع لنفس الماهيّة ، إذ إطلاقه في قولك : الإنسان حيوان ناطق ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٢١.

٦٩٠

وفي قولك : الإنسان نوع ، وفي قولك : الإنسان العالم خير من الجاهل ، وفي قولك : الإنسان ضاحك بالقوّة واحد. وإذا كان الإطلاق في الجميع واحدا فهو علامة أنّ هذا الإطلاق في الجميع واحد ، فلا بدّ من كونه موضوعا لمعنى يشمل جميع هذه الإطلاقات ، وليس إلّا الماهيّة من حيث هي التي تكون معروضة إلى هذه اللحاظات الخمسة بمعنى الجامع بين هذه المعاني المذكورة ، فافهم.

في علم الجنس ، كأسامة ، والمراد به ما اقتضى تعيّن الطبيعة في الذهن من بين بقيّة الطبائع وباعتبار هذا التعيّن سمّي علما وأجرت النحاة عليه أحكام المعارف ، وقد أشكل الآخوند قدس‌سره على المشهور الذاهبين إلى وضعه للطبيعة بما هي متعيّنة بالتعيين الذهني بأنّه عليه لا يصدق على ما في الخارج ولا معنى لوضع الواضع لفظا لا ينطبق على الخارج ، بل يستحيل (١).

ويقع الكلام تارة في الإمكان ، واخرى في الوقوع.

أمّا الإمكان فالظاهر أنّ الوضع لهذا المعنى ليس فيه محذور أصلا ؛ لأنّ هذا اللحاظ الذهني ليس قيدا للمعنى ولا جزءا له ، وإنّما ذكر في الكلام معرّفا ومشيرا إلى الطبيعة ، نظير ما إذا قال المولى : «أكرم من علمت أنّه تقيّ» فهل يمكن أن يقال : إنّ هذا تكليف بما لا يطاق ؛ لأنّ العلم بالتقى مثلا قيد لموضوع الإكرام وإذا كان قيدا له استحال تحقّقه في الخارج ؛ لأنّ العلم إنّما يكون في الذهن؟ وكذا إذا قال : أكرم من عرفته مثلا. وحينئذ فالقيد باللحاظ يعني لحاظ التعيّن ذهنا إنّما اخذ معرّفا وفانيا في المعنى ومشيرا إليه ، وحينئذ فلا مانع من وضع علم الجنس للطبيعة بما هي متعيّنة بالتعيين الذهني.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٨٣.

٦٩١

وأمّا الوقوع فالظاهر أنّها ليست موضوعة للطبيعة المعينة بالتعيين الذهني ، فإنّا لا نرى فرقا بين لفظ أسد واسامة وثعلب وثعالة ، والظاهر أنّهما مترادفان ، وإجراء أحكام المعارف عليه نظير إجراء أحكام التأنيث في التأنيثات المجازيّة ، وكثير من الألفاظ التي يكون لمعناها لفظان يذكّر أحدهما ويؤنّث الثاني كما في جيد ورقبة. فإجراء أحكام المعارف عليه لا ينافي كونه نكرة وموضوعا للطبيعة المهملة الغير المقيّدة بشيء أصلا ، وهو ما وضع له اسم الجنس من غير فرق أصلا ؛ لأنّ هذا التعريف مجازي نظير التأنيث المجازي المسلّم عندهم كما في «يد» والتأنيث اللفظي كما في «طلحة» فهنا تعريفه لفظي.

في المفرد المعرّف باللام ، والمعروف أيضا إفادة اللام التعريف ، ومقتضاه وضع المدخول لما هو معيّن ذهنا.

ودعوى : استدعائه عدم الصدق على الخارج ، فاسدة عرفت ما فيها.

وقد أنكر الآخوند قدس‌سره دلالتها على التعريف وادّعى أنّها للتزيين مطلقا. وأنّ التعريف إنّما يستفاد من قرائن المقام التي لا بدّ منها على القول بالتعريف ؛ إذ لا بدّ من تعيين نوعه ـ من الجنس أو الاستغراق أو العهد الذكري أو الخارجي ـ ومع لزوم القرينة يستغنى عن وضعها للتعريف فيكون لغوا (١).

والظاهر أنّ إفادتها للتعريف واضحة ، فإنّها بمثابة الإشارة إلى الشيء المقتضية لتعيينه. غاية ما هناك تارة يكون المشار إليه الجنس والطبيعة فيتحقّق الحكم في كلّ فرد من أفرادها لوجود الطبيعة المحكومة بذلك الحكم فيه فينتج عين إنتاج ما إذا عيّنت اللام الاستغراق ، واخرى يكون المشار إليه العهد الذكري أو العهد الخارجي. وأمّا العهد الذهني فلم نتحقّق وضع اللام للعهد الذهني ؛ لأنّ هذه اللام نظير التنوين المعروف بتنوين الأمكنيّة فاللام هنا من باب أنّ اللفظ العربي لا يستعمل إلّا باللام

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٨٤.

٦٩٢

أو بالتنوين ، مثل : ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني (١) ، فإنّ الظاهر أنّ اللام في المقام ليست للتعريف. فإن أراد الآخوند بكون اللام للتزيين هذه اللام فالحقّ معه.

وأمّا الجمع المحلّى باللام فقد تعرّضنا في مبحث العموم والخصوص ، وذكرنا أنّ اللام هناك فيه معيّنة للعموم ، إذ لا معيّن لسواه. وما ذكر : من أنّ أقلّ الجمع ثلاثة ، فاسد ، فإنّ أقلّ الجمع متيقّن وليس متعيّنا ، والمتيقّن غير المتعيّن. فافهم وتأمّل.

وبما ذكرنا من عدم إفادة العهد الذهني للتعريف صرّح الشيخ الرضيّ قدس‌سره فإنّه لم يفرّق بين «أعطني تمرة أو تمرتين» و «أعطني التمرة والتمرتين» كما صرّح بأنّ تعبير النحاة عنه بالمعرفة من باب التعريف اللفظي كما في التأنيث اللفظي في مثل طلحة مثلا (٢).

وبالجملة ، فما ذكرنا واضح لمن لم يقلّد النحاة واعتمد على فهمه في الملفوظ.

[النكرة] وأمّا النكرة فقد ذكر الآخوند قدس‌سره أنّها قد عرّفها المشهور بأنّها اللفظ الدالّ على الفرد المردّد من الطبيعة ،

وأشكل عليهم بأنّ الفرد المردّد لا تحقّق له في الخارج. ومن هنا قال : إنّ النكرة هي الحصّة الكلّية (٣). ولا يخفى أنّ مراد المشهور أنّ النكرة هي مصداق الفرد المنتشر لا مفهومه ، وحينئذ فمرادهم بالمنتشر عدم حصره في فرد ، وهذا هو معنى الحصّة الكلّية. وقد ذكر أنّ النكرة قد تكون معيّنة في الواقع مجهولة عندنا كما في جاء رجل ، واخرى تكون مردّدة حتّى في الواقع كما في : جئني برجل (٤). والظاهر أنّ النكرة في المقامين مستعملة في معنى واحد ليس إلّا ، والتعيين في الأوّل لقرينة الإخبار فإنّ الجائي معيّن في الواقع ، فالقرينة أفادت تعيينه وإلّا فاللفظ مستعمل فيهما معا بمعنى واحد.

__________________

(١) ومصراعه الآخر : فمضيت ثمت قلت لا يعنيني. السيوطي : ٢٧٣.

(٢) الكافية في النحو بشرح الرضي ٢ : ١٣٠ ، باب المعرفة والنكرة.

(٣ و ٤) كفاية الاصول : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٣ و ٤) كفاية الاصول : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

٦٩٣

وكيف كان فالتنوين في النكرة مفيدة للوحدة ، وقد يسدّ مسدّ تنوين التمكّن ، فإنّ بين تنوين التمكّن الذي جيء به لإفادة تمكّن اللفظ وإقراره في المحاورة العرفيّة وتنوين التنكير الذي جيء به لإفادة الوحدة عموما من وجه ، ففي مثل زيد وعمر التنوين ليأخذ اللفظ قراره في المحاورة ، وفي مثل صه وغيرها من أسماء الأفعال للتنكير ، وفي مثل النكرة يكون تنوين التنكير كما في «أعطه درهما» ويكون اللفظ بسببه قد أخذ قراره من المحاورة. وحيث إنّ الكلام في المطلق وهو الطبيعة المبهمة كما تقدّم. فالنكرة مرسلة ، وكذا اسم الجنس ، وكذا زيد بلحاظ حالاته ، وكذا الماهيّة اللابشرط القسمي ، فإنّها أيضا مطلقة بمعنى كون الجميع مصداقا للمطلق.

[تقييد المطلق هل يستلزم المجاز أم لا؟]

ثمّ إنّ تقييد المطلق هل يستلزم المجازيّة أم لا؟ أقوال ، ثالثها : التفريق بين المنفصل فالأوّل ، والمتّصل فالثاني (١) وهذا التفصيل سخيف ، فإنّ المطلق إن كان هو اللابشرط القسمي فاستعماله في الطبيعة المقيّدة يلزم أن يكون مجازا ؛ لأنّ الطبيعة التي اخذ فيها عدم التقيّد مباينة لما اخذ فيها التقيّد. وإن كان المطلق هو الماهيّة الغير المشروطة بشيء أصلا التي هي الجامع بين أقسام الماهيّة كان حقيقة ؛ إذ اللفظ مستعمل في نفس الطبيعة والقيد مستفاد من دالّ آخر. نعم لو استعمل اللفظ في المقيّد وكان ذكر القيد لبيان أنّه اريد القيد من اللفظ ـ يعني لفظ النكرة ـ كان مجازا ، لكنّه خلاف المتفاهمات العرفيّة ، فافهم.

__________________

(١) في المسألة أقوال ثلاثة :

القول الأوّل : إنّ التقييد لا يوجب مجازا في المطلق. وهو الذي نسب إلى سلطان المحقّقين والشيخ الأنصاري والنائيني وغيرهم. انظر المطارح ٢ : ٢٤٩ ، وأجود التقريرات ٢ : ٤٣٩.

والقول الثاني : إنّه يوجب المجاز ، ذهب إليه المحقّق القمي في القوانين ١ : ٣٢٥.

والقول الثالث : التفصيل بين التقييد بالمتّصل والمنفصل كما هو في المتن وهو الذي ذهب إليه القزويني في ضوابط الاصول : ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

٦٩٤

وحيث عرفت أنّ المطلق هو الماهيّة الغير المشروطة بشيء المعبّر عنها بالماهيّة المهملة التي هي مقسم الجميع ظهر أنّ هذا التفصيل لا وجه له ، وأنّ اللفظ لا يستعمل إلّا في تلك الطبيعة ، وأنّ القيد يستفاد من دالّ آخر. فتقييد المطلق لا يقتضي المجازيّة أصلا ؛ إذ إنّ الإطلاق والتقييد كلاهما من دالّ آخر ، فلفظ المطلق لم يستعمل إلّا في تلك الماهيّة المهملة.

[مقدّمات الحكمة]

ثمّ إنّه إذا دار أمر اللفظ بين كون المراد به المطلق يعني الماهيّة اللابشرط القسمي أو الماهيّة بشرط شيء إذ هما اللذان يستعملان في مقام ترتيب الآثار الشرعيّة ، أمّا الماهيّة من حيث هي وكذا الماهيّة بشرط عدم الانطباق الخارجي فليسا موضوعا للأحكام الشرعيّة ، فإذا دار الأمر بين إرادة المطلق وهو الماهيّة لا بشرط القسمي أو المقيّد وهو الماهيّة بشرط شيء ، فإن كان هناك قرينة تعيّن ذلك فبها ، وإن لم تكن هناك قرينة فهل هناك قرينة عامّة تثبت الإطلاق؟ نعم ، وهي قرينة الحكمة وتسمى بمقدّمات الحكمة ؛ لأنّه يعتبر في جريانها حكمة المتكلّم بذلك الكلام ، وهي مقدّمات :

الاولى : أن يتمكّن المكلّف من التقييد ومع ذلك يورد الحكم على المقسم ، وإلّا فلو لم يتمكّن من التقييد لتقيّة أو غيرها فأورد الحكم على المقسم فلا يمكن التمسّك بإطلاق كلامه ؛ إذ لعلّه أراد التقييد فلم يتمكّن من جهة التقيّة أو غيرها.

توضيح هذه المقدّمة : أنّ الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت متقابلان تقابل التضادّ ؛ إذ الإهمال غير معقول في الواقعيّات ، فإمّا أن يلحظ المولى الحكم على موضوع لحظ إرساله أو لحظ تقييده ، فاستحالة أحدهما في الواقع تستدعي ضروريّة الآخر. وليس التقابل تقابل العدم والملكة ليلزم من استحالة أحدهما

٦٩٥

استحالة الآخر ، لعدم قابليّة المحلّ ، كما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وقد تقدّم تفصيل ذلك في الواجب المطلق والمشروط.

وأمّا في مقام الإثبات فالتقابل تقابل العدم والملكة ؛ لأنّ الإطلاق في مقام الإثبات رفض القيود ، ورفضها إنّما هو في مقام إمكان أخذها ، فلا بدّ في الحكم بالإطلاق من قابليّة التقييد ، وأمّا مع عدم القابليّة للتقييد فلا يمكن التمسّك بالإطلاق.

المقدّمة الثانية : أن يكون المولى في مقام البيان من الجهة التي يراد التمسّك بالإطلاق بلحاظها ، فلو لم يكن في مقام البيان أصلا بل في مقام الإجمال أو الإهمال فلا إطلاق ، نظير قول الطبيب للمريض : «إنّك تحتاج إلى دواء» فليس للمريض أن يأخذ أيّ دواء ليشربه أخذا بإطلاق كلام الطبيب ، إذ ليس لكلامه إطلاق. ولو شكّ في أنّ المتكلّم في مقام البيان أم لا؟ فمقتضى الأصل العقلائي كونه في مقام البيان ، إذ لو اعتذر بإرادة الإجمال لا يقبل منه أصلا.

وكذا لو كان في مقام البيان من غير الجهة التي يراد الإطلاق لها فلا يجدي ذلك في التمسّك بالإطلاق ، نظير قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(٢) فإنّها مسوقة لبيان أنّ الصيد لا يحتاج إلى تذكية إذا لم يدرك حيّا وليس كالميتة فلا يتمسّك بإطلاق الآية كي يستغنى عن غسل عضّة الكلب والدم الخارج بسببها ؛ لأنّه ليس في مقام البيان من هذه الجهة. ونظير أدلّة العفو عن مقدار الدرهم من الدم في لباس المصلّي ، فإنّ العفو فيه من جهة النجاسة فلو كان من غير ما يؤكل لحمه لا يجوز الصلاة فيه ؛ لأنّ كونه من فضلات ما لا يؤكل لحمه مانع عن ذلك.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٤١٦.

(٢) المائدة : ٤.

٦٩٦

ولو علم كونه في مقام البيان من جهة وشكّ في كونه في مقام البيان من الجهة الاخرى أم لا؟ فالظاهر عدم استقرار لبناء العقلاء على كونه في مقام البيان من جميع الجهات ، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق في مثل ذلك.

وإنّما اعتبرنا كونه في مقام البيان ؛ لأنّه لو لم يكن في مقام البيان ـ بل في مقام التشريع مثلا ـ لا يمكن أن يقال : لو أراد قيدا لبيّنه ؛ لإمكان أن يكون قد أوكل بيان القيد إلى مقام تفصيل ذلك الحكم فلا يحرز عدم بيان المولى.

والسرّ في أنّه لو شكّ في كون المولى في مقام البيان أم لا ، فحينئذ نتمسّك بأنّه في مقام البيان ، وإذا أحرزنا أنّه في مقام البيان من بعض الجهات وشككنا في الجهات الأخر أنّه في مقام البيان منها أم لا؟ لا نتمسّك بكونه في مقام البيان هو أنّه في الصورة الاولى نشكّ في أنّه في مقام بيان مراده أم لا وقد جرى بناء العقلاء أنّه متى أرادوا بيان شيء من مراداتهم عوّلوا في بيانها على الألفاظ ، فمن تلفّظ بلفظ وأراد إجمال مراده يحتاج إلى قرينة على إرادة الإجمال أو الإهمال لئلّا يخالف الطريقة التي استقرّت سيرة العقلاء عليها في إفهام مراداتهم ، فما لم تكن قرينة يحمل على تلك السيرة المألوفة. وهذا بخلاف ما إذا أحرزنا كونه في مقام البيان من جهة وشككنا في الجهة الاخرى ، فإنّ هذا الشكّ يرجع إلى الشكّ في أنّ مراده بيان هذه الجهة فقط أو بيان كلا الجهتين ، وفي مثله لم يستقرّ من العقلاء بناء على شيء.

ثمّ إنّ «البيان» ليس المراد به البيان في الجملة فهذا موجود حتّى فيما ورد في أصل التشريع ، فإنّ قول الطبيب للمريض : «إنّك تحتاج دواء» فيه بيان في الجملة ، كما أنّه ليس المراد به بيان الحكم الواقعي ليكون وجدان المقيّد بعد ذلك كاشفا عن عدم كونه في مقام البيان ؛ وذلك لأنّ جميع المطلقات هي في مقام البيان وإن عثر على مخصّصات لها ، فوجود المخصّص لا يكشف عن كونه في مقام الإهمال. بل المراد بالبيان هو بيان ما يدلّ اللفظ عليه وإن كان اللفظ من الألفاظ المذكورة لضرب القانون والقاعدة ويكون ورود المقيّد كاشفا عن عدم كون الإطلاق مرادا جدّيا

٦٩٧

وإن كان في مقام بيانه قانونا وقاعدة كلّية ، فهذا هو المراد بكون المولى في مقام البيان ، إذ هذا النحو هو مورد الاحتجاج من المولى على العبد لو لم يمتثل ، ومن العبد على المولى لو أراد المقيّد مثلا ولم يذكر قيده بل أطلق لفظه.

المقدّمة الثالثة : أن يخلو اللفظ عن المقيّد متّصلا ومنفصلا ، فإنّ وجود القيد المتّصل مانع عن انعقاد لفظ المطلق في الإطلاق فلا إطلاق حينئذ. وأمّا المنفصل فهو مانع عن تعلّق الإرادة الجدّية بظاهر المطلق. ومع كلّ منهما لا يكون في اللفظ مجال للاحتجاج من المولى على عبده ، ولا من العبد على مولاه.

وإذا تمّت هذه المقدّمات الثلاث فمقتضى حكمة المولى وتبعيّة مقام الإثبات لكشف مقام الثبوت ؛ إذ الإهمال في الواقع محال فلا بدّ من إرادة إطلاق ذلك المطلق وعدم تقييده بشيء ، إذ لو أراد المقيّد ومع ذلك لم يذكر القيد وقد كان متمكّنا من ذكره وكان في مقام يستدعي بيانه ولم يبيّنه لأخلّ بطريقة جرى ديدن العقلاء عليها. فالحكيم لا يخالف ديدن العقلاء إلّا إذا لم يتمكّن من أخذ القيد لتقيّة أو لم يكن مريدا لتفصيل الحال ، أو ذكر قيدا ، والمفروض انتفاء جميع ذلك. فمقتضى حكمته إرادة المطلق ، فهي بمثابة قوله : أكرم أيّ عالم شئت ؛ إذ إرادة غيره مخلّ بطريقة العقلاء ولا يليق ذلك به.

بقي الكلام في أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب مانع عن التمسّك بالإطلاق أم ليس بمانع؟ الظاهر أنّه ليس مانعا ، توضيح ذلك : أنّ القدر المتيقّن قد يكون خارجا عن مقام التخاطب ، وهذا لا يسلم منه عامّ من العمومات ، فإنّه لو قال : أكرم العلماء ، فالعدول قدر متيقّن بالنسبة إليهم ، وكذا إذا قال : الماء طاهر ، فالكرّ متيقّن أو قال : البول نجس ، فبول البالغ متيقّن وهكذا ... وهذا القدر المتيقّن باعتبار خروجه عن مقام التخاطب لم يحتمل أحد مانعيّته عن التمسّك بالإطلاق.

وقد يكون متيقّنا بلحاظ مقام التخاطب كما إذا سأل السائل عن دم الرعاف ؛ يصيب الثوب فهل يصلّي فيه أم لا؟ فأجابه الإمام بأنّ الدم إن كان أقلّ من الدرهم

٦٩٨

جاز الصلاة فيه (١) ، فإنّ القدر المتيقّن منه هو مورد السؤال وهو دم الرعاف ، لأنّ خروج مورد السؤال عن الجواب مستهجن. إلّا أنّ هذا أيضا ليس مانعا عن التمسّك بالإطلاق فإنّ خروج المورد وإن كان مستهجنا إلّا أنّ دخول غيره معه ليس بمستهجن قطعا ، وهذا أمر قد اشير إليه بقولهم : إنّ المورد لا يقيّد الوارد. وهذا أمر واضح بحسب الظاهر ، وقد تسالم الأصحاب عليه حتّى الآخوند نفسه الذي اعتبر عدم القدر المتيقّن في مقام الخطاب في التمسّك بالإطلاق في كفايته (٢) لم يلتزم بذلك في الفقه وإلّا لأسّس فقها جديدا ، وبناء العقلاء على التمسّك بالإطلاق في مثله. بل ومبنى المحاورات العرفيّة على ذلك ، فمن سأل الطبيب عن الرّمان الحامض فأجابه حينئذ الطبيب بقوله : لا تأكل الحامض ، لا يستفيد خصوص حامض الرّمان ، بل كلّ حامض. وهذا بحسب الظاهر واضح جدّا.

بقي الكلام في أنّ الانصراف مانع عن التمسّك بالإطلاق أم ليس بمانع؟ الانصراف على أقسام ثلاثة :

فقد يكون زائلا بأدنى تأمّل وهو المعبّر عنه بالبدوي ، كأن يقول المولى : «يجب على كلّ نجفي شرب الماء عند الزوال» فينصرف إلى ماء النجف ، فلو أنّ نجفيّا كان معه ماء من كربلاء فشربه في النجف فهل يحتمل أنّه لم يمتثل؟ كلّا ؛ لأنّ هذا الانصراف زائل بأدنى تأمّل.

وقد يكون موجبا لظهور اللفظ بحيث لا يرى العرف غيره فردا كما في لفظ الحيوان فإنّه ينصرف إلى غير الإنسان انصرافا يوجب ظهور اللفظ في ذلك ، وهذا مانع عن التمسّك بالإطلاق ، إلّا أنّه قد خرج بقولنا : ورود الحكم على المقسم ، فإنّ الحكم ليس على مقسم يشمله بل نظر العرف لا يراه شاملا للإنسان.

__________________

(١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : في الدم يكون في الثوب إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة ... راجع الوسائل ٢ : ١٠٢٦ ، الباب ٢٠ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

(٢) كفاية الاصول : ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

٦٩٩

وقد يكون وسطا فيوجب الشكّ في صدق المقسم عليه كما في ماء الزاج والكبريت ، فإنّه يوجب الشكّ في صدق الماء في : خلق الله الماء طهور لا ينجّسه شيء (١) عليه ، وهذا هو ما اصطلح الشيخ الأنصاري عليه بالشكّ في الصدق (٢) ، وهذا أيضا مانع عن التمسّك بالإطلاق للشكّ في ورود الحكم على المقسم حينئذ ، ومع الشكّ فيه لا يمكن التمسّك بالإطلاق. فالإنصاف أنّ مقدّمات الحكمة ثلاثة : ورود الحكم على المقسم ، مع إمكان التقييد ، وأن يكون المولى في مقام البيان وعدم ذكر المقيّد وحينئذ فالإطلاق محكّم.

في حمل المطلق على المقيّد

إذا ورد مطلق ومقيّد فإمّا أن يكونا مثبتين ، أو منفيّين ، أو متخالفين بأن كان المطلق مثبتا والمقيّد منفيّا. والكلام يقع في مقامين ، أحدهما : أن يكون الحكم بنحو صرف الوجود ، والثاني : أن يكون الحكم بنحو مطلق الوجود.

والأوّل منحصر بما إذا كان مثبتين أو متخالفين ، أمّا الثاني فبما إذا كانا منفيّين.

وحينئذ فيقع الكلام فيما إذا كان الحكم بنحو صرف الوجود فنقول : أمّا إذا كانا متخالفين كما إذا قيل : أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة ، فالظاهر الاتّفاق على حمل المطلق على المقيّد بغير خلاف يعرف بينهم. وأمّا إذا كانا مثبتين كما في «أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة» فمحلّ للقيل والقال ، ولم نعرف حتّى الآن السبب الذي دعا إلى الاختلاف في صورة الإثبات ، والاتّفاق في صورة اختلافهما إثباتا ونفيا.

وكلّ ما ذكر في صورة الاتّفاق : من احتمال كون المقيّد من باب أنّه أفضل الأفراد المعبّر عنه بالاستحباب في كلماتهم ومن كون ظهور الأمر في التعيين أقوى من ظهور

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠١ ، الباب الأول من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨.

(٢) انظر الطهارة للشيخ الأنصاري ١ : ٦٧ ـ ٦٨.

٧٠٠