غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

الرجل الشجاع قطعا إلّا أنّ العرف يفهم أنّ الأسد الذي رآه اليوم هو الذي كلّمه ولا يتوقّف في ذلك ، وحينئذ فكون المراد من الضمير متّحدا مع المراد من مرجعه أمر عرفي لا يتوقّفون فيه ، فإذا علمنا المراد من الضمير وأنّه الخاصّ فبهذه القاعدة يفهم العرف كون المراد من العموم هو الخصوص في الاستعمال ، ويقدّم هذا الظهور على أصالة العموم. وحينئذ فحيث يدور الأمر بين الاستخدام والتخصيص يتقدّم أصالة عدم الاستخدام المراد بها أصالة اتّحاد المراد من الضمير ومرجعه الذي هو أمر عرفي يقدّم عندهم على أصالة العموم والإطلاق والحقيقة وغيرها ، هذا كلّه في الكبرى الكلّية.

وأمّا الآية المباركة فليست من صغريات المسألة ؛ لأنّ الضمير لم يرد به ما يغاير العموم ، بل المراد به نفس العموم السابق ، وعدم جواز رجوع أزواج غير الرجعيّات خارج بالدليل المخصّص الرافع للإرادة الجدّية دون الاستعماليّة ، فافهم.

في تخصيص العموم بمفهوم الموافقة والمخالفة

ذكر في الكفاية اتّفاقهم على جواز تخصيص العامّ بمفهوم الموافقة ، واختلافهم في مفهوم المخالفة على قولين ، وأنّهم استدلّوا لكلّ من القولين بما لا يخلو عن قصور. ثمّ ذكر هو أنّ العموم والمفهوم إن كانا بمقدّمات الحكمة فلا ريب في عدم حجّيتهما ؛ لعدم إحراز عدم بيان المولى لصلاحية كلّ منهما أن يكون بيانا للآخر وإن كانا بالوضع فكذلك ؛ لتعارضهما وتساقطهما لو لم يكن أحدهما أظهر فيرجع إلى الاصول العمليّة هذا إذا كان المخصّص متّصلا وإن كان منفصلا فهو مجمل لو لم يكن أحدهما أظهر فيكون قرينة التصرّف في الآخر (١).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٦٦١

ولا يخفى أنّ ما ذكره متين من حيث الكبرى الكليّة إلّا أنّ الكلام في الصغريات ، ومن هنا يقع الكلام تارة في مفهوم الموافقة ، واخرى في مفهوم المخالفة.

أمّا مفهوم الموافقة فقسمان : أحدهما مفهوم الأولويّة ، والآخر مفهوم المساواة. أمّا مفهوم الأولويّة فقسمان :

أحدهما : ما يفهم من نفس ظهور الكلام عرفا بحيث يفهم كلّ أحد أنّ الشيء الفلاني أولى في الحكم من المذكور في المنطوق مثل (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١) فإنّ كلّ من يسمع هذا اللفظ وترجمته يحكم بتحريم الضرب والشتم بالأولويّة المستفادة من نفس هذا الخطاب.

الثاني : ما إذا كانت الأولويّة من المدركات العقليّة القطعيّة مثل تحريم سبّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله من تحريم سبّ الأئمّة عليهم‌السلام فإنّ العقل يقطع بأنّ تحريم سبّهم عليهم‌السلام إنّما هو من جهة احترامهم المقتضي بالأولويّة تحريم سبّ النبيّ ؛ لأنّ المقتضي لاحترامه أقوى. وهذا حيث تحرز الأولويّة بنحو القطع واضح ، وإن لم يقطع بها فهو الاستحسان وليس من طريقتنا العمل به ، نعم هو طريقة العامّة فإنّ ديننا لا يدرك بعقول الرجال.

وأمّا مفهوم المساواة فقسمان :

أحدهما : ما نصّ فيه على علّة الحكم ، وهل يفرق فيه بين ما كان وسطا في ثبوت الحكم وهو التعليل الذي يكون كافلا بتشكيل صغرى وكبرى كلّية وانطباق المورد الذي هو صغرى تلك الكبرى الكلّية مثل لا تشرب الخمر لأنّه مسكر ، وبين ما لم يكن كافلا بذلك مثل لا تشرب الخمر لإسكاره أم لا يفرق بينهما؟ ذهب الميرزا النائيني إلى الأوّل فعمّم الحكم إلى جميع موارد العلة في الأوّل دون الثاني

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

٦٦٢

فزعم أنّه حكمة الجعل ولا يدور الحكم مداره وجودا وعدما ، ومن هنا لم يسر حكم كثير الشكّ لغير الوضوء والصلاة ؛ لأنّ مورد الروايات هو ذلك فقط (١).

والظاهر أنّ الإنصاف عدم الفرق بين المثالين ؛ لأنّ العرف يفهم منهما كون العلّة مدارا للحكم وجودا وعدما ولا يرى تفاوتا أصلا. نعم في بعض الموارد لا يفهم العرف ذلك مثل قوله : «ناولني تلك الرمّانة لكبرها» فإنّه لا يفهم رغبة الشخص في كلّ ما هو أكبر ، ولهذا لو عبّر بقوله : «لأنّها أكبر» كان الحكم كذلك أيضا ، فلا يفرق بين المثالين أصلا.

الثاني من قسمي مفهوم المساواة : ما قطع فيه بمناط الحكم ، وهذا نادر التحقّق إذ المناط قلّما يقطع به ، فإذا لم يقطع به كان من أظهر أنحاء القياس وهو تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر ، وليس من مذهبنا القياس. فإذا تحقّقت هذه الأقسام يقع الكلام في أنّ أيّا منها يقدم على العموم.

وربّما يقال بأنّ المفهوم غير قابل لأن يتصرّف فيه ؛ لأنّه لازم عقلي للمنطوق. فالتصرّف فيه مع بقاء المنطوق على حاله غير ممكن ، ومع التصرّف في المنطوق وإن كان ممكنا إلّا أنّ التصرّف في المنطوق حينئذ أيضا غير ممكن لعدم المعارضة مع المنطوق ، فهو رفع لليد عن الدليل الشرعي من غير معارض له فلا بدّ من التصرّف بالعموم لإمكانه. ولا يفرق في ذلك بين كون المفهوم أخصّ مطلقا أو من وجه أو غير ذلك ، لسراية المانع في الجميع.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ المفهوم حيث يستفاد من المنطوق يكون لازما له نظير زوجيّة الأربعة فنفيه ، ـ يعني المفهوم ـ نفي للمنطوق كما أنّ نفي الزوجيّة مستلزم لنفي الأربعة قطعا ، وعلى هذا بني القياس الاستثنائي في المنطق ، وحينئذ فمعارض المفهوم معارض للمنطوق نفسه. وحينئذ فالتصرّف في المفهوم مستقلّا وإن كان غير ممكن

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٠ ـ ٣٨١.

٦٦٣

إلّا أنّ التصرّف فيه تبعا للتصرّف في المنطوق ليس رفعا لليد عن الدليل الشرعي من غير سبب ؛ لأنّ المعارضة بين العموم والمنطوق محقّقة. وحينئذ فينبغي إعمال قواعد التعارض المقرّرة ، ولا خصوصيّة للمقام تقتضي أن لا يكون من باب التعارض ، فإنّ التصرّف في كلّ منهما ممكن فتجري قواعد المعارضة ، هذا كلّه في مفهوم الموافقة.

وأمّا مفهوم المخالفة فهل يخصّص به العموم أم لا؟ فإن كان أخصّ قدّم على العموم قطعا مثل قوله : إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجسه شيء (١) ، فمفهومه أنّه إن لم يكن قدر كرّ ينجّسه شيء ، وهذا المفهوم يعارضه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلّا ما غيّر طعمه أو ريحه (٢) وفي بعض الروايات ذكر اللون أيضا (٣). فبمقتضى هذا العموم ينبغي أن لا يحكم بتنجيس الماء القليل ما لم يتغيّر بالنجاسة ، فإنّ الماء في العامّ وإن كان مطلقا إلّا أنّ ذكره في مساق الامتنان وعدم تقييده يقتضي عمومه ، ولكن لمّا كان المفهوم أخصّ ـ لأنّه في خصوص غير الكرّ ـ يقدّم على العموم للجمع العرفي ، فإنّ العرف يقدّم الخاصّ بحسب ارتكازه من غير فرق بين أن يثبت العموم بالوضع أو بمقدّمات الحكمة ويكون المفهوم بالوضع أو بمقدّمات الحكمة أو بهما كما اخترناه ؛ وذلك لأنّ العرف يرى الخاصّ قرينة على عدم إرادة العموم إرادة جدّية ، والقرينة وإن كانت في غاية الضعف تقدّم على ظاهر الثاني وإن كان في أرقى مراتب القوّة كما قدّم الظهور في مثل «رأيت أسدا يرمي» في الرجل الشجاع مع أنّ ظهور «أسد» في الحيوان المفترس وضعي ، والرمي ظاهر في رمي النبل من جهة الانصراف ومقدّمات الحكمة ، لإمكان رمي التراب.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٧ ـ ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث ١ و ٢ و ٦ وفيها : لم ينجّسه.

(٢) الوسائل ١ : ١٠١ ، الباب الأوّل من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨.

(٣) ورد في الرواية المتقدّمة ولم نعثر عليه في غيرها.

٦٦٤

وبالجملة ، فأخصّية المفهوم مقتضية لتقديمه على العموم لعدّ العرف له قرينة على إرادة خلاف الظاهر في العموم ، وهذا بحسب الظاهر واضح ، ومن هنا عمل المشهور بذلك في الفتاوى الفقهيّة فحكموا بتنجيس الماء إذا كان قليلا بمجرّد الملاقاة وقدّموا المفهوم لأخصيّته في موارد كثيرة في الفقه جدّا وهو من المسلّمات عندهم من غير فرق بين كون المفهوم متّصلا بما له العموم أم منفصلا عنه. غاية الأمر أنّه إن كان من قبيل المتّصل منع عن انعقاد الظهور وفي المنفصل يمنع عن حجّيته ؛ لأنّ المفهوم يتقدّم عليه بدليل حجّيته. هذا إذا كان تقدّمه عليه من جهة دليل الحجّية فيكون مخصّصا لذلك العموم ؛ لأنّ العرف يرى الخاصّ قرينة على عدم إرادة ظهور العامّ إرادة جدّية.

وأولى من هذه الصورة بالتقدّم ما إذا كان المفهوم حاكما على العموم وموجبا لخروج هذا الفرد عن كونه فردا لذلك العامّ ، كما في مفهوم آية النبأ فإنّ مفهومها بناء على ثبوت المفهوم لها يعارض عموم التعليل في ذيلها وهو قوله : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) فإنّ خبر العادل لا يفيد اليقين ، بل إنّما يفيد الظنّ. فبمقتضى عموم الآيات المانعة عن اتّباع الظن (٢) وبمقتضى عموم التعليل في ذيل الآية لا يجوز التعويل على خبر العادل كالفاسق أيضا ، ولكنّ المفهوم على تقدير القول به يكون حاكما على هذه العمومات وموجبا لخروجه عن كونه ظنّا ، بل يكون علما تعبّديّا ، وكذا تكون الإصابة به إصابة بحجّة لا بجهالة ، فحينئذ بمقتضى حكومته خروجه موضوعا عن العمومات وعن عموم التعليل أيضا فإنّ عموم التعليل قضيّة حقيقيّة لا تحقّق لها موضوعا ، بل إنّما هي حكم على تقدير تحقّق موضوعه.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) مثل : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ). الإسراء : ٣٦ ، ومثل : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً). يونس : ٣٦.

٦٦٥

ومن هنا ظهر أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري : من كون المفهوم حاكما على العمومات المانعة عن اتّباع الظنّ دون عموم التعليل المذكور في الآية لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة (١) لا يخلو عن تأمّل.

هذا كلّه إذا كان المفهوم أخصّ ، أمّا إذا كان بين المفهوم والعموم عموم من وجه كما في مثل أخبار الجاري وأخبار عدم انفعال الكرّ فإنّ قوله عليه‌السلام : ماء النهر يطهّر بعضه بعضا (٢) وغيرها (٣) بعمومه وإطلاقه يقتضي طهارة الماء الجاري مطلقا قليلا كان أم كثيرا ، ومقتضى مفهوم : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء (٤) ، نجاسة القليل بملاقاة النجاسة وإن كان جاريا ، ففي الجاري القليل يقع التعارض ، فإن كان أحدهما كالعموم بالوضع والمفهوم بمقدّمات الحكمة قدّم العموم قطعا ، لكونه أقوى. وإن كان العموم بمقدّمات الحكمة كما في المثال المزبور فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات الموجودة ، وهي في المقام لأخبار الجاري ؛ لأنّه لو قدّم أدلّة الانفعال خرج عنوان الجاري عن كونه عنوانا إلى اللغويّة. ومع انتفاء المرجّحات يرجع إلى عموم أعلى بعد تساقطهما في مورد الاجتماع ، ومع عدم عموم أعلى يرجع إلى الاصول العمليّة حينئذ. وبالجملة يكون من صغريات تعارض العموم من وجه.

في تعقّب العمومات بالاستثناء

إذا تعقّب الاستثناء عمومات متعدّدة مثل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ٢ : ٢١٥ ـ ٢١٦.

(٢) الوسائل ١ : ١١٢ ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧ وفيه : ماء الحمام كماء النهر ...

(٣) انظر الوسائل ١ : ١١٧ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق.

(٤) الوسائل ١ : ١١٧ ـ ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث ١ و ٢ و ٦.

٦٦٦

أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)(١) فهل يرجع الاستثناء إلى خصوص الأخيرة فيرتفع الفسق فقط بالتوبة ، أو يرجع إلى الجميع فيسقط الحدّ وتقبل شهادته وينتفي فسقه بالتوبة؟ قيل بالأوّل كما عن جماعة (٢) وبالثاني عن آخرين (٣) وصاحب الكفاية ذهب إلى تخصيص الأخير للقطع به وإجمال بقيّة العمومات لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة (٤) ، وهناك تفصيل للميرزا النائيني قدس‌سره يأتي الكلام فيه (٥).

والظاهر : أنّ تخصيص الأخير من العمومات مسلّم إلّا أنّ الكلام في اختصاصه به وعدمه ؛ إذ لا قائل بحسب الظاهر بتخصيص غير الأخيرة دونها ؛ لأنّه ليس على طبق المتفاهمات العرفيّة أصلا.

ولا يخفى أنّ العنوان وإن خصّ بخصوص الاستثناء إلّا أنّ البحث جار في جميع القيود المتعقّبة بالعمومات ، من الوصف والظرف والجارّ والمجرور وغيرها.

والصحيح في أصل المسألة هو ما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره من التفصيل وملخّصه : أنّ تعدّد الجمل إمّا من جهة تعدّد الموضوع ، أو من جهة تعدّد المحمول ، أو من جهة تعدّد الطرفين معا. فإن كان من جهة تعدّد المحمول مع وحدة الموضوع فإمّا أن يكرّر الموضوع المذكور ثانيا أو لا يكرّر ، فإن لم يكرّر الموضوع كما إذا ورد «أكرم العلماء وأضفهم وسلّم عليهم إلّا الفسّاق» فالظاهر رجوع الاستثناء إلى

__________________

(١) النور : ٤ ـ ٥.

(٢) نسبه في عدّة الاصول إلى الكرخي وأكثر أصحاب أبي حنيفة وراجع المختصر وشرحه للعضدي : ٢٦٠ ـ ٢٦١ أيضا.

(٣) نسبه في عدّة الاصول ١ : ٣٢٠ ـ ٣٢١ إلى الشافعي وأصحابه وقوّاه.

(٤) كفاية الاصول : ٢٧٣.

(٥) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٥ ـ ٣٧٧.

٦٦٧

الجميع ، ووجه ذلك الظهور العرفي ، فإنّ الظاهر أنّ المتكلّم إنّما يريد أن يذكر حكما واحدا بوجوب مجموع هذه الامور الثلاثة من الإكرام والضيافة والسلام ، وحيث لا جامع لهذه الامور في اللغة فهو من باب قصور التعبير ذكرها متعاطفة ، وإلّا فلو كان ثمّة جامع بينها لذكره واستغنى عنها ، فكأنّه ليس في الكلام إلّا حكم واحد ليس إلّا ، وحينئذ فالاستثناء راجع إلى الموضوع الواحد المحكوم عليه بالحكم الواحد الذي من جهة قصور اللفظ ذكر فيه هذه الامور الثلاثة.

وإذا كرّر الموضوع كما إذا قيل : أكرم العلماء وأضفهم وسلّم عليهم وقلّد العلماء إلّا الفسّاق ، فلا بدّ من رجوع الاستثناء إلى الحكم الذي كرّر فيه الموضوع وما بعده من الأحكام إن كان ثمّ حكم آخر ، والوجه في ذلك أنّ تكرار الموضوع مع التمكّن من الإتيان به ضميرا لا بدّ أن يكون من جهة نكتة ، وهي فصل هذا الموضوع عمّا قبله من جهة هذا الحكم الخاصّ ؛ إذ لو لم يرد الفصل لذكره ضميرا ليتّحد السياق ، فالعدول تغيير للسياق وهو لنكتة وليست إلّا الفصل. والآية المباركة من هذا القبيل ؛ لأنّه كرّر الموضوع بقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) فظهوره في اختصاص الاستثناء بخصوص الحكم بالفسق دون ما قبله فافهم. وهذا الكلام دعوى ظهور للجملة في ذلك. ولو تنزّلنا عن دعوى الظهور فلا أقلّ من إجماله فيرجع إلى أصالة العموم. هذا كلّه حيث يكون الموضوع واحدا والمحمول متعدّدا.

ولو انعكس الأمر ـ بأن كان الموضوع متعدّدا والمحمول واحدا ـ فعين الكلام المتقدّم : من أنّ المحمول الواحد :

تارة لا يتكرّر مثل قولنا : «أكرم العلماء والادباء والشعراء إلّا الفسّاق منهم» فهو راجع إلى الجميع ؛ لأنّه بمنزلة قوله : أكرم هذه الطوائف الثلاثة إلّا الفسّاق منهم ، ولا ريب في رجوعه إلى الجميع حينئذ.

٦٦٨

واخرى يتكرّر مثل قولنا : «أكرم العلماء والادباء والشعراء وأكرم الامراء إلّا الفسّاق» فكأنّه قطع الكلام بتكرار المحمول عمّا قبله ، فيأخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيرجع إلى خصوص ما بعد المحمول المتكرر من العمومات. ولو تكرّر الموضوع والمحمول في كلّ جملة فلا ريب باختصاص الاستثناء بالأخيرة ويرجع فيما عداها إلى أصالة العموم.

ودعوى : احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة ، إن اريد به مجرّد احتمال جعله قرينة وإن لم يكن اعتماد العرف عليه في محاوراتهم فلا يرفع الظهور ، وإن اريد به المورد الذي يشكّ في تعويل العرف عليه بحيث نحتمل أن يعوّل العرف على إرادة الرجوع إلى الجميع على تلك القرينة ، ونحتمل أن لا يعوّل عليه ، فهذا المورد وإن كان رافعا للظهور إلّا أنّ المقام ليس من هذا القبيل ؛ لأنّا لا نحتمل أن يعوّل العرف على ذكر الاستثناء بعد الجملة المتكرّر فيها المحمول ويريد به الرجوع إلى الجميع (١).

وربّما يقال : إنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن عموم العمومات السابقة وبين رفع اليد عن عموم المستثنى ، وذلك إنّ قولنا : «إلّا الفسّاق منهم» عامّ أيضا ، فإن أرجعناه إلى خصوص الأخيرة فقد رفعنا اليد عن عمومه ، وإن أرجعناه إلى الجميع فقد رفعنا اليد عن عموم العامّ السابق في صدر الكلام.

ولا يخفى ما في هذا الكلام ، فإنّ الفسّاق عمومه وخصوصه بحسب الحكم الذي يتوجّه إليه وهو الحكم الأخير في مثل قولنا : أكرم العلماء وأضف الادباء إلّا الفسّاق ، فعموم الفسّاق بلحاظ حكمه فإذا ورد «لا تضف زيدا الأديب» كان مخصّصا له ، وحينئذ فهو ضيق بحسب الحكم المتوجّه إليه ولا عموم له بلحاظ جميع الأحكام حتّى أنّ إرجاعه إلى خصوص الأخيرة تخصيص له بل هو ضيق من ذاته بحسب الفهم العرفي.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٥ ـ ٣٧٧.

٦٦٩

في تخصيص الكتاب بخبر الواحد

والمناسب ذكرها في مباحث حجّية خبر الواحد ، ولكنّه بمناسبة العموم والخصوص حرّرت هنا. (ولا مخالف من أصحابنا في جواز التخصيص ، نعم خالف في المسألة بعض العامّة فذهب أبان بن عيسى إلى عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد إذا كان العامّ الكتابي غير مخصّص بقطعي ، أمّا إذا كان مخصّصا بقطعي فيجوز تخصيصه بالخبر الواحد (١) ، وذهب بعضهم إلى جواز تخصيصه بالخبر الواحد إذا كان مخصّصا بدليل منفصل قطعي دون المتّصل ودون ما لم يخصّص (٢) وتوقّف الباقلاني في المسألة (٣)) (٤).

والكلام في جواز التخصيص وعدمه في مرحلتين : إحداهما في وجود المقتضي وعدمه ، والاخرى من ناحية المانع وعدمه.

أمّا الكلام في ناحية المقتضي فقد يقال بأنّ الدليل الدالّ على حجّية الخبر الواحد قاصر عن جعل الحجّية له حتّى في قبال العموم الكتابي ؛ لأنّ الدليل هو الإجماع والسيرة ولم يتحقّقا في العمل به في قبال العمومات الكتابيّة ، فمقتضى العمل به قاصر في المقام.

والجواب أوّلا : أنّ دليل الحجّية ليس هو الإجماع والسيرة ، بل بناء العقلاء على العمل بالخبر الواحد الموثّق أو الصحيح ، وهذا متحقّق حتّى في قبال العمومات الكتابيّة ، ولم يردع عنه الشارع في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد الأئمّة عليهم‌السلام فالإمضاء لبناء العقلاء متحقّق أيضا. وثانيا : أن الإجماع والسيرة عامّان حتّى فيما كان في قبال

__________________

(١) الإحكام للآمدي ٢ : ٣٤٧ ، والمختصر وشرحه للعضدي : ٣٧٣.

(٢) وهو الكرخي كما في الإحكام ٢ : ٣٤٧ ، والمختصر وشرحه للعضدي : ٣٧٣.

(٣) الإحكام ٢ : ٣٤٧ ، والمختصر وشرحه للعضدي : ٣٧٣.

(٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٧٠

العمومات الكتابيّة فإنّ من يرجع إلى الخصوصات في قبال ما كان من عمومات الكتاب في زمن الأئمّة يذعن بذلك.

ودعوى : كونه للقرينة القطعيّة ، كما ترى.

وأمّا الكلام في ناحية المانع بعد إحراز المقتضي فقد ذكر أمران :

أحدهما : أنّ الكتاب قطعي السند والخبر الواحد مظنونه ، فكيف يرفع اليد عن المقطوع بالمظنون؟

والجواب : أنّ التخصيص للكتاب إنّما هو في الدلالة وهي ظنّية فهو رفع يد عن ظنّي بظنّي ، وإن شئت قلت : إنّه رفع يد عن قطعي بقطعي ، بتقريب أنّ خبر الواحد بعد فرض حجّيته وشمولها للمقام يكون قطعي الحجّية فقد رفعنا اليد عمّا هو قطعي الحجّية وهو الكتاب بما هو قطعي الحجّية وهو الخبر الواحد ، فافهم.

توضيحه : أنّ العموم في نفسه وإن كان شموله للمورد ظنّيا مثلا قوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا)(١) شموله للربا بين الوالد وولده ظنّي إلّا أنّ أصالة العموم جعلت شموله لكلّ فرد من أفراده حجّة لو لا المخصّص ، فهو حجّة قطعيّة مع قطع النظر عن المخصّص بحيث لو استند المجتهد إليه في مقام الفتيا لكان معذورا ومفتيا بحجّة قطعيّة. وكذا الخاصّ في نفسه مثل قوله : لا بأس بالربا بين الوالد وولده (٢) فإنّه مع قطع النظر عن العموم حجّة قطعيّة أيضا بعد فرض شمول دليل الحجيّة له. فآية النبأ مثلا قد جعلت الخبر الواحد حجّة قطعيّة أيضا بحيث لو استند إليه المفتي لكان مستندا إلى حجّة قطعيّة ، وحيث لا بدّ من رفع اليد عن إحدى الحجّتين لاستحالة جعل حجّتين متناقضتين في مورد واحد فلو رفع اليد بحجّية الخبر الواحد عن عموم العامّ لم

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤٣٦ ، الباب ٧ من أبواب الربا ، الحديث الأوّل ، وفيه : ليس بين الرجل وولده ربا.

٦٧١

يتحقّق حينئذ شكّ في كون المراد منه الخصوص. وبعبارة اخرى أنّ الشكّ في التخصيص مستند إلى الشكّ في صدور الخاصّ وعدمه ، فإذا تعبّدنا الشارع بصدور الخاصّ فلا شكّ حينئذ في تخصيص العموم ، فالتعبّد بالصدور حاكم على العموم ورافع للشكّ في التخصيص ، وهذا بخلاف ما إذا قدّمنا العموم فهو بالملازمة ينفي الصدور لا بالحكومة.

وبالجملة : يكون المقام من قبيل العامّ والخاصّ القطعيّين ، فإنّ الخاصّ قرينة على عدم العموم ، فهو مقدّم عليه تقدّم القرينة على ذيها.

وربّما يقال : إنّ الخبر الواحد لا بدّ أن يكون حجّة ومخصّصا للكتاب وإلّا للغت أدلّة حجّية أخبار الآحاد ؛ ضرورة ندرة خبر لم يكن مخالفا لعامّ كتابي. وحينئذ فلو قلنا بعدم الحجّية فيه لكانت أدلّة الحجيّة محمولة على الموارد النادرة.

أقول : لا يخفى أنّ هذه الدعوى لا يمكن المساعدة عليها ؛ إذ ليس في الكتاب عموم يستفاد منه حلّية جميع الأشياء لتكون الأخبار المبيّنة لحرمة جملة ممّا لم يذكر في الكتاب مخصّصة له ، وكذا ليس في الكتاب دليل عامّ يدلّ على طهارة الأشياء ليكون الخبر الواحد الدالّ على نجاسة البول أو غيره مخصّصا ، وكذا أدلّة أجزاء العبادات أو شرائطها فلا إطلاق لينفي الجزئيّة أو الشرطيّة ؛ لأنّها مجملة في مقام التشريع فلا إطلاق فيها ، وكذا أحكام الأموات مثلا وغيرها من أبواب الفقه.

الثاني ممّا ذكر مانعا عن حجّية خبر الواحد : الأخبار المتواترة معنى مثل قولهم عليهم‌السلام : ما خالف قول ربّنا زخرف (١) أو باطل (٢) أو لم نقله (٣) أو اضرب به

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٨ ـ ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢ و ١٤.

(٢) البحار ٢٢ : ٤٨٧ ، ذيل الحديث ٣١.

(٣) الوسائل ١٨ : ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

٦٧٢

عرض الجدار (١) فهي شاملة للمخالفة بنحو العموم والخصوص المطلق. ودعوى : عدم كونها مخالفة ، فاسدة.

والجواب : أنّ المخالفة بنحو العموم والخصوص ليست مرادة منها ، للقطع بصدور خبر واحد مخالف. والالتزام بكون ذلك المقطوع مخصّصا لهذه العمومات كما ترى ، فإنّ لسانها آب عن التخصيص قطعا ، كما هو واضح لذي الذوق السليم. ويؤيّد ما ذكرنا أنّ موافقة الكتاب جعلت مرجّحة عند تعارض الأخبار في الرتبة الثالثة فقدّم أوّلا ما يقوله أعدلهما ثمّ المشهور ثمّ موافقة الكتاب (٢) ، فهو يعطي أنّ المشهور وكذا قول الأعدل يقدّم وإن كان مخالفا كما هو واضح ، فهذا يعطي أنّ المخالفة لا تضرّ.

المانع الثالث من حجّية خبر الواحد المخصّص للكتاب : أنّه لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لجاز النسخ ؛ لأنّه تخصيص في الأزمان فهو نوع من أنواع التخصيص ، والتالي باطل إجماعا فالمقدّم مثله.

والجواب : أنّ الملازمة إن كانت في إمكان التعبّد بخبر الواحد الناسخ فمسلّمة ، فلو قامت الأدلّة على جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد لالتزمنا به. وإن كانت الملازمة المدّعاة في الوقوع فقط فهي ممنوعة ، فإنّ الإجماع من كافّة المسلمين قائم على أنّ نسخ الكتاب لم يقع ، والسرّ في عدم وقوعه بخبر الواحد أنّ النسخ بعد النبيّ لم يتحقّق قطعا وإن أمكن إلّا أنّه لم يقع ، وفي زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان الكتاب قد نسخ بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لنقل متواترا. فنقله بخبر الواحد قرينة كذبه ؛ إذ الدواعي حينئذ متوفّرة لنقله ، لعدم تحقّق الاختلاف والافتراق إلّا بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٧٥ ، ذيل الحديث ١١٦٩.

(٢) الوسائل ١٨ : ٧٥ ـ ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل ، المعروف بمقبولة عمر بن حنظلة.

٦٧٣

في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ

إذا ورد عامّ وخاصّ فإمّا أن يقترنا ولا ريب في التخصيص حينئذ ، وإمّا أن يتقدّم العامّ ويتأخّر الخاصّ أو يتقدّم الخاصّ ويتأخّر العامّ ، وفي كلّ منهما إمّا أن يكون المتأخّر واردا قبل حضور وقت العمل بالتقدّم أو بعده ، وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره أن جميع هذه الصور يتقدّم فيها التخصيص ، وحينئذ فلا مورد يتردّد بين النسخ والتخصيص ليتكلّم في حكمه ؛ إذ جميع الصور المحتملة لا تخلو عن الحكم بالتخصيص ، فلا مجال للنسخ أصلا (١) ولا بدّ من التكلّم في هذه الصور الأربعة المذكورة ليتّضح الحال فنقول :

أمّا الصورة الاولى : وهي صورة ورود الخاصّ قبل حضور وقت العمل بالعامّ فالظاهر أنّه لا بدّ أن يكون الخاصّ مخصّصا للعامّ ، ويستحيل فيه النسخ ؛ إذ المراد بالنسخ نسخ الحكم الحقيقي ، والنسخ للحكم إنّما يكون بعد حضور وقت العمل بالعامّ بالإضافة إلى ذلك الفرد. فإذا فرض أنّ ذلك الفرد لم يحضر وقت عمله فما فائدة جعل الحكم له؟ إذ جعل الحكم لا بدّ أن يكون لمصلحة ، ومثل هذا الحكم لا يمكن أن يجعل ثمّ ينسخ من قبل العالم بالغيب. نعم يمكن من الجاهل إذا تخيّل أنّ في هذا الجعل مصلحة ثمّ انكشف له أن لا مصلحة ، أمّا محلّ كلامنا وهو العليم بكلّ شيء فلا يمكن في حقّه ذلك إلّا بعد حضور وقت العمل به ولو دفعة واحدة لتكون المصلحة التي جعل الحكم من أجلها منوطة بتلك الدفعة ثمّ تنتفي فنسخ الحكم دواما ، لانعدام مصلحته.

وللميرزا النائيني قدس‌سره (٢) في المقام كلام أثبت به إمكان النسخ في بعض فروض هذه الصورة وإن اختار عدم الوقوع إلّا أنّه ادّعى الإمكان في قبال الاستحالة ، فإنّه قسم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

٦٧٤

القضيّة إلى خارجيّة وحقيقيّة ، والحقيقيّة إلى مؤقّتة مثل وجوب الصلاة والصيام ، ومطلقة وهي مثل حرمة الخمر والغيبة ، وقد زعم قدس‌سره أنّ النسخ بمعنى انتهاء أمد الحكم ممكن في القضايا الحقيقيّة المجعولة على الأفراد المقدّر وجودها ؛ لأنّها لا تحتاج إلى أكثر من فرض وجود الموضوع فقط ، فيصحّ الجعل إذا فرض وجود الموضوع وإن لم يتحقّق. وقد ذكر أنّ جعل الحكم مع العلم بانتفاء موضوعه وشرطه أيضا ممكن ، وقد ذكرنا في ذلك المبحث أنّ جعل الحكم مع العلم بانتفاء موضوعه وشرطه إذا كان الانتفاء مستندا إلى ذلك الجعل فهو ممكن ، بل هو مؤدّى الحكمة كما في مثل القصاص ، فإنّ جعل القصاص يصحّ وإن لم يوجد قاتل في العالم كلّه ولن يوجد إذا كان عدم تحقّقه مستندا إلى قوله : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(١) فإنّ هذا الجعل أثمر هذه الثمرة المهمّة ، وهذا لا يفرق فيه بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة.

وأمّا إذا لم يعلم بتحقّق الموضوع لا من جهة هذا الجعل فلا يصحّ الجعل كأن يقول : «من صعد إلى السماء الرابعة لا يجب عليه الصلاة ، أو يجب عليه التصدّق» فإنّ مثل هذا الجعل لا يصدر من الحكيم ، بل يحكم على من جعله بالجنون ، وكذا الكلام في المقام فإنّ جعل الحكم ـ ولو بنحو القضيّة الحقيقيّة ـ إذا كان ينسخ قبل حضور وقت العمل فأيّ فائدة في هذا الجعل من الحكيم؟ فالإنصاف أنّ الحقّ مع المشهور القائلين باستحالة النسخ وبالتعيّن للتخصيص ، فافهم.

وأمّا الصورة الثانية : وهي صورة ما إذا ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ بالنسبة إلى مورد الخاصّ فمقتضى ما ذكروا من استحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة تعيّن النسخ حينئذ.

وحيث إنّ الخصوصات الواردة في شريعتنا المقدّسة قد صدرت في أيّام الصادقين عليهما‌السلام وبينها وبين عمومات الكتاب والسنّة زمان ليس بالقليل فقد يكون

__________________

(١) المائدة : ٤٥.

٦٧٥

مائة سنة وقد يكون أكثر وحضور وقت العمل بالعموم بالنسبة إلى مورد الخاصّ قد حضر أكثر من مرّة قطعا ، أشكل عليهم الأمر من جهة أنّ التخصيص يقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح وإن جاز التأخير عن وقت الخطاب على الظاهر. والالتزام بالنسخ إمّا غير جائز أصلا بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أنّه وإن أمكن بأن يكون الحكم مؤقّتا فيوعز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى وصيّه أمد الحكم ثمّ وصيّه يوعز إلى وصيّه وهكذا إلّا أنّه لم يقع ، أو أنّه يقتضي كون جميع الأحكام منسوخة وهو ممنوع قطعا فقد وقعوا في حيص وبيص ؛ إذ إنّ الالتزام بالتخصيص مع حضور وقت العمل غير ممكن ، وبالنسخ لجميع العمومات المخصصة في زمن الصادقين عليهما‌السلام أيضا غير ممكن.

ومن هنا التجأ الشيخ الأنصاري (١) وتبعه صاحب الكفاية (٢) قدس سرّهما إلى كون العمومات الواردة في الكتاب والسنّة النبويّة عمومات ظاهريّة وإنّ ورود المخصّص نسخ للحكم الظاهري وبيان للمراد الجدّي ، والحكم الواقعي هو الذي لا ينسخ.

أقول : قد تقدّم في بعض المباحث المتقدّمة أنّ التخصيص للعامّ لا يقتضي مجازيّته وأنّه إنّما يكشف عن تخالف الإرادة الجدّية مع الإرادة الاستعماليّة ، وأنّ اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي ، والتخصيص إنّما اقتضى عدم تطابق الإرادة الاستعماليّة مع الإرادة الجدّية ، وحينئذ فما ذكره هو عين التخصيص وهو عين تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فما زعموه رافعا لقبح تأخير البيان لم يتّضح رفعه للقبح.

فالأولى أن يقال : إنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة قبح في نفسه ، بمعنى أنّه باعتبار كونه على خلاف التعهّد الصادر من واضع الألفاظ فهو نظير خلف الوعد فقبحه ليس لازما لا ينفكّ كقبح الظلم مثلا ، بل قبحه في نفسه ، فإذا انضمّ إليه ما

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار ٢ : ٢٣٢ ، وانظر فرائد الاصول ٤ : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) كفاية الاصول : ٢٧٨.

٦٧٦

يرفع قبحه ارتفع قبحه ، نظير الكذب القبيح في نفسه فإذا انضمّ إليه ما يرفع قبحه كإنجاء مؤمن أو دفع ضرر جاز وارتفع قبحه. وحينئذ فتأخير البيان عن وقت الحاجة وإن كان في نفسه قبيحا إلّا أنّ قبحه يرتفع بالمصالح المترتّبة عليه من تقيّة أو غيرها من المصالح أو يكون إظهار العموم بنفسه ذا مصلحة مثلا ، بل يظهر من بعض الأخبار أنّ بعض الأحكام لم تبلغ حتّى يظهر الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف فيظهرها (١).

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة ليس قبيحا مطلقا فنلتزم بالتخصيص وإن استلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ويكون التأخير لمصلحة ، مضافا إلى أنّ إيراد قبح تأخير البيان إنّما هو حيث يكون عموم سابق يقتضي الترخيص ثمّ خاصّ يقتضي التكليف والإلزام فيكون قد ترك ما فيه مصلحة ملزمة وهو الواجب ، وإلّا فلو عكس الأمر لكان فاعلا لجائز ولا قبح فيه أصلا.

وبالجملة ، فالالتزام بالتخصيص في المقام ممكن كما أنّ النسخ في نفسه أيضا ممكن ، ولكن لسان الدليل لا يساعد عليه ، فإنّ الخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل بالعامّ بالإضافة إلى الخاصّ ليس دالّا على أنّ الحكم من الآن على طبق الخاصّ ، وإنّما يبيّن أنّ الحكم من أوّل الأمر هو هكذا ، وحينئذ فظهوره في التخصيص مانع عن احتمال النسخ ، فافهم.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما إذا تقدّم الخاصّ زمانا وتأخّر العامّ إلّا أنّه ورد قبل حضور وقت العمل بالخاصّ كأن ورد «لا تكرم زيدا العالم» ثمّ ورد «أكرم جميع العلماء» مع عدم حضور وقت العمل بالخاصّ فلا ريب في كونه مخصّصا ومبيّنا للمراد من العامّ بالإرادة الجدّية ، فإنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة إن كان مضرّا فتقديمه على وقت الحاجة ليس بمضرّ ، ولا يتصوّر النسخ في المقام لاستدعائه اللغو في جعل الحكم للخاصّ.

__________________

(١) راجع بحار الأنوار ٥٢ : ٣٠٩ ، الحديث ٢ و ٣٩ و ٧٣ و ٨٢ و ١١٤ و ١٦٢ وغيرها.

٦٧٧

وأمّا الصورة الرابعة : وهي صورة تقدّم الخاصّ وتأخّر العامّ عن حضور وقت العمل بالخاصّ فهل يكون العامّ ناسخا لحكم الخاصّ ليجب إكرام العلماء جميعا حتّى زيدا من الآن أم يكون الخاصّ المتقدّم مخصّصا لحكم العامّ المتأخّر وبيانا لمقدار المراد الجدّي منه حتّى يجب إكرام ما عدا زيد من العلماء فيما يأتي؟ فالثمرة بين النسخ والتخصيص في هذا الفرض ظاهرة للعيان ، فهل يتقدّم التخصيص على النسخ؟ كما اختاره صاحب الكفاية تبعا لمشهور الاصوليّين بدعوى : أنّ أكثريّة التخصيص وندرة النسخ اقتضت تقديم التخصيص على النسخ. توضيح ذلك : أنّ «لا تكرم زيدا» له إطلاق من حيث الأزمان إلى يوم القيامة و «لا تكرم العلماء» له عموم أفرادي يشمل زيدا والجمع بين كلا هذين الظهورين مستحيل ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ، إلّا أنّ كثرة التخصيص وندرة النسخ جعلت ظهور الخاصّ في الإطلاق الزماني أقوى من ظهور العامّ في العموم (١).

ولا يخفى ما في هذا الكلام ، فإنّ الكثرة الخارجيّة لا تودع ظهورا في الألفاظ خصوصا وظهور العموم في العموم الأفرادي وضعي ، وظهور المطلق بمقدّمات الحكمة فكيف تكون الكثرة محقّقة للظهور! نعم هي يفيد الظنّ بالتخصيص إلّا أنّه لا يغني عن الحقّ شيئا ، فالإنصاف أنّ القواعد تقتضي تقدّم النسخ.

وربما يقال : إنّ الخاصّ المتقدّم لا إطلاق فيه من حيث الأزمان ؛ لأنّ القضيّة مسوقة لبيان الحكم وتوجّهه على موضوعه واستمرار الحكم يلزم أن يكون بعد جعله ، والقضيّة إنّما تتكفّل أصل الجعل ، والقول بعدم النسخ ليس مفادا لها ، وإنّما هو قضيّة استصحاب الحكم ، ومعلوم أنّ الاستصحاب لا مجال له مع العموم اللفظي ؛ لأنّ العموم اللفظي رافع للشكّ.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧٧.

٦٧٨

ولا يخفى أنّ هذا الكلام فيه ما فيه ، فإنّ متعلّق الحكم مثلا شامل للأفراد الدفعيّة قطعا لعدم تقييده ببعضها فكذا الأفراد التدريجيّة أيضا فإنّ استفادة استمرار الحكم من حيث الزمن ليس من نفس الحكم ، وإنّما هو من عدم تقييد متعلّقه بزمان ، فالإنصاف أنّ الإطلاق لا مانع منه ، ومقتضى ذلك تقدّم العموم ؛ لأنّ دلالته بالوضع على الإطلاق ؛ لأنّ دلالته بمقدّمات الحكمة المنتفية بوجود البيان وهو العموم ، إلّا أنّا مع ذلك كلّه نقول بتقدّم التخصيص على النسخ ؛ لأنّ لسان هذه الأدلّة مثل العموم في المقام ليس إثبات الحكم على طبقه من الآن حتّى يحتمل النسخ ، بل ظاهره أنّ هذا الحكم حكم الشريعة المقدّسة من أوّل الأمر تأخّر بيانه لمصلحة تقتضي ذلك.

وحينئذ فظاهر العموم أنّ الحكم بوجوب إكرام العلماء موجود من حين صدور «لا تكرم زيدا» بل قبلها وإنّما تأخّر تبليغه لمصلحة ، وحينئذ فلا بدّ من كون الخاصّ وإن تقدّم وتأخّر العامّ عن وقت العمل به مخصّصا للعامّ وتقديم البيان لا ضرر فيه كما تقدّم ، وحينئذ فيتعيّن للتخصيص (١) لكن لا من جهة تقدّم الإطلاق على العموم ، بل من جهة عدم الجريان لأصالة العموم لوجود المخصّص ، بل لو لم يكن ثمّة إطلاق أيضا وقلنا باستمرار الحكم من حيث استصحاب عدم النسخ المسلّم عند الاصوليّين والأخباريّين مع ذلك يتقدّم التخصيص ؛ لأنّ أصالة العموم غير جارية في نفسها لا من جهة تقدّم ما هو أظهر عليها.

وبالجملة : فقد ظهر أنّ الحكم هو التخصيص في الصور الأربع فلا مورد يحتمل فيه النسخ ليتكلّم في مجهولي التاريخ ؛ لأنّه لا يخرج عن هذه الصور ، وقد عرفت أنّ الحكم في جميعها هو التخصيص ولا مجال للنسخ أصلا ، والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : التخصيص.

٦٧٩

في النسخ والبداء وإمكانهما واستحالتهما

[في النسخ] :

لا يخفى أنّ ما تقدّم من الكلام في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ وكذا هنا إنّما هو في النسخ للحكم الحقيقي الذي يكون فيه بعث وزجر وإرادة وكراهة في المتعلّق لا في مثل الأوامر الصوريّة الامتحانيّة ، فإنّ الأوامر الصوريّة الامتحانيّة إنشاؤها فعل من أفعال المولى الاختياريّة ذو مصلحة في نفس إنشائه ، فيمكن أن تكون المصلحة قائمة بنفس ذلك الإنشاء من دون أن يكون في المتعلّق مصلحة ، بل قد يكون في المتعلّق مفسدة أيضا ، كما إذا أمره بقتل ابنه ليختبر انقياده لأوامره.

والأوامر الحقيقيّة أيضا تارة : تكون مؤقّتة كما في صلاة الجمعة والجهاد المؤقّتين بحضور الإمام عليه‌السلام عندنا ، ومثل هذا أيضا ليس من محلّ الكلام ، إذ ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ليس من النسخ.

واخرى : تكون مهملة من حيث الاستمرار وعدمه ، بل تكون مثبتة للحكم في الجملة كما إذا قال «أكرم العلماء» في الجملة ثمّ ورد بيان بعدم وجوب إكرامهم بعد خمس سنين ، فإنّ هذا الدليل الثاني يكون مبيّنا لإجمال الأوّل من حيث الزمان ورافعا إجماله ، وهذا أيضا خارج عن محلّ الكلام ؛ إذ لا حكم حتّى ينسخه الحكم الثاني أصلا.

وثالثة : يكون مطلقا فيظهر منه (١) أنّ هذا الحكم دائم إلى آخر الزمن ثمّ يأتي دليل ثان فيرفع هذا الحكم ، وهذا هو محلّ الكلام في إمكان النسخ واستحالته. وقد ذهب اليهود إلى استحالته كالنصارى ، وقد زعم اليهود أنّه لم يكن قبل موسى عليه‌السلام دين ولا نبيّ ، بل إنّما كان الناس يعملون بعاداتهم العرفيّة فيما بينهم ثمّ جاء موسى بشريعته المقدّسة وأنّ شريعته هذه لن تنسخ إلى يوم القيامة. واقتفى أثرهم النصارى

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : تكون مطلقة فيظهر منها.

٦٨٠