غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

في المخصّص اللبّي

ثمّ إنّه قد ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ عدم التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة إنّما هو في المخصّصات اللفظيّة ، وأمّا المخصّصات اللبّية فيتمسّك فيها بعموم العامّ ، والسرّ في ذلك أنّ المخصّص اللبّي لمّا لم يكن فيه إلّا حجّة واحدة من قبل المولى غاية الأمر يخرج عنها بالقطع بعدم إرادة المولى لهذا الفرد فإنّما يخرج عن تلك الحجّة بالقطع فإذا شكّ في فرد فلا قطع حتّى يخرج به عن الحجّة الصادرة من قبل الشارع ، وهذا بخلاف المخصّصات اللفظيّة فإنّ فيها حجّتين من قبل الشارع المقدّس ويشكّ في دخول الفرد في أيّ الحجّتين ، والفرق واضح (١).

وقد تنظّر الميرزا النائيني قدس‌سره فيما أفاده الشيخ الأنصاري وذكر أنّ المخصّص اللبّي قد يكون من قبيل المخصّص المتّصل في عدم انعقاد ظهور للعامّ في العموم بسببه فهو من قبيل تقييد العموم وإنشاء العامّ ضيقا من أوّل الأمر كما إذا قال المولى : «أكرم العلماء» فإنّ خروج العالم بالرقص أو الغناء قطعي من أوّل الأمر ، فحاله حال المخصّص اللفظي في كون المشكوك في كونه عالما بالرقص أو الفقه فهو من أوّل الأمر لم يعلم شمول العموم له لإمكان اعتماده على القرينة العقليّة التي هي كاللفظيّة (٢) ، والظاهر أنّ الشيخ لم يرد ما كان من هذا القبيل ، بل أراد ما كان من قبيل القرينة المنفصلة ، وقد ذكر الميرزا قدس‌سره في أنّ المخصّص اللبّي إذا كان من قبيل الإجماع مثلا يكون كاشفا عن عدم إرادة العموم والعبرة بالمنكشف لا الكاشف فهو مقيّد للعامّ بعدم المفهوم الذي قام الإجماع على خروجه عن حكم العامّ ، ففي تردّد فرد بين كونه

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ٢ : ١٤٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٢.

٦٤١

من أفراد ما قام الإجماع على خروجه أم لا ، لا يعلم دخوله في العامّ حينئذ فكيف يتمسّك فيه بالعموم (١)؟

وما ذكره الميرزا في المقام متين إلّا أنّه قدس‌سره قد وافق الشيخ الأنصاري في التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة في المخصّص اللبّي حيث يكون التخصيص لعدم الملاك فمثلا إذا قال المولى : أكرم جيراني ، ولكنّ العبد يعلم أنّ المولى لا يريد إكرام من يريد قتله ، ويعلم أنّ زيدا يريد قتله ، فهو خارج من العموم حينئذ قطعا لعدم الملاك ، فإذا شكّ في أنّ عمرا أيضا يريد قتله أم لا يتمسّك بالعموم في وجوب إكرامه. وذكر أنّ السرّ في ذلك أنّ العبد ليس من شأنه تطبيق الملاك وإنّما شأنه امتثال ظواهر كلام المولى وأمر الملاك إلى المولى فإذا كان حكيما لا يحكم إلّا مع الملاك ، ففي الشكّ في الملاك لا يعذر العبد في الترك مع ظهور الكلام في العموم.

والظاهر أنّ ما ذكره ليس مسلّما بنحو العموم ، فإنّ القضايا الحقيقيّة التي ليس نظر الشارع فيها إلّا إلى أفراد مفروضة الوجود مثلا إذا قال : «أكرم العلماء» فخروج زيد لا بدّ أن يكون لأمر من الامور بسببه لم يكن واجدا للملاك ، وذلك الأمر إذا فرض شرب الخمر مثلا أو ترك الصلاة مثلا أو أحدهما أو هما معا ، فإذا فرض الأوّل فبما أنّ زيدا ليس له خصوصيّة يستكشف خروج كلّ شارب للخمر عن الملاك ، فإذا شكّ في فرد فلا يمكن التمسّك بالعموم ؛ لأنّه تقيّد بعدم شرب الخمر والمفروض الشكّ في انطباق عنوان العامّ على هذا الفرد فكيف يمكن التمسّك بالعموم؟

وما ذكره : من أنّ الملاك ليس من وظيفة العبد تطبيقه ، متين إلّا أنّ العنوان الموجب لفقد الملاك بيد العبد تطبيقه. وكذا الكلام إن فرض عدم الملاك في تارك

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٤٩.

٦٤٢

الصلاة. وأمّا إذا عدم الملاك في أحدهما ولا نعلمه بعينه فيكون المخصّص من جهة الملاك مجملا ويسري إجماله إلى العامّ ، وإذا علمنا أنّ الملاك مفقود إمّا في تارك الصلاة أو في تارك الصلاة إذا شرب الخمر فهو من قبيل دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في المخصّص.

وبالجملة ، فجميع ما ذكرنا في المخصّص اللفظي بعينه سار في المخصّص اللبّي إذا كان العموم من قبيل القضايا الحقيقيّة.

نعم ، إذا كان من قبيل القضايا الخارجيّة فإن كان من قبيل «أكرم كلّ عالم موجود في هذا البلد» ولكن علم بدليل لبّي خروج زيد مثلا فننقل عين الكلام في القضايا الحقيقيّة من أنّ خروجه لا بدّ أن يكون لوصف يتقيّد العموم بعدمه فلا يمكن التمسّك بالعموم. نعم إذا طبّقه المولى بنفسه فليس للعبد إلّا أن يأخذ بظهور كلام المولى ، وفيه يتوجّه ما ذكره النائيني من الفرق بين المخصّص اللبّي الذي هو كالمتّصل أو كالمنفصل وفي الثاني لا مانع من التمسّك بالعموم ، فما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من التمسّك بالعموم في محلّه ، والسرّ في ذلك أنّ القضايا الخارجيّة لمّا لوحظت فيها الأفراد موجودة فتطبيق الملاك حينئذ من شئون المولى. فإذا قال : «لعن الله بني اميّة قاطبة» ومعلوم بالدليل اللبّي أنّ المؤمن منهم لا ملاك في لعنه ، فكأنّه يقول : فلان ليس بمؤمن ، فلان ليس بمؤمن ، حتّى يأتي عليهم بالتنصيص واحدا واحدا. فإذا علم إيمان زيد ـ مثلا ـ فهو خارج قطعا ، وإذا شكّ في عمرو فلا يرفع اليد عن تنصيص المولى بالشكّ. فافهم وتأمّل ، فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق.

هذا تمام الكلام في تخصيص العموم ، وقد تمّ على يد محرّره محمّد تقي الجواهري في الربع الأوّل من ليلة الثلاثاء الموافق ١٥ صفر المظفّر من سنة الألف والثلاثمائة والثانية والسبعين من الهجرة النبويّة ، والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

٦٤٣

والكلام فيما إذا شك في فرد من غير جهة التخصيص

هكذا عنون صاحب الكفاية (١) هذا المبحث ، والكلام فيه يقع تارة في الكبرى ، واخرى في الصغرى.

أمّا الكلام في الكبرى فنقول : إنّ الشكّ في فرد مع إحراز انطباق عنوان العامّ عليه لا يتصوّر إلّا من جهة التخصيص مثلا إذا أحرز أنّ زيدا عالم فهو داخل في عموم «أكرم العلماء» فالشكّ فيه إنّما يكون من جهة أنّ الحكم هل اخذ لمطلق العالم ليكون زيد فردا له ، أو أنّ هذا العامّ قد خصّص فاخذ فيه عنوان «العادل» أيضا ليخرج زيد لفسقه؟ أو يشكّ فيه من جهة الشبهة المصداقيّة ، كما إذا شكّ في كونه عالما أو ليس بعالم ، أو أنّه عادل أو ليس بعادل ـ مثلا ـ مع أخذ العدالة في موضوع وجوب إكرام العالم. وقد تقدّم الكلام في الشبهة المصداقيّة ولا قائل في مثل المقام ممّا اخذ في العنوان العامّ عنوان وجودي بدليل متّصل بالتمسّك في العموم ، نعم في المنفصل تقدّم تفصيل الكلام. فلا نتصوّر لما ذكره في الكفاية صغرى لهذه الكبرى الكلّية أصلا.

وأمّا صغرى المقام فنقول : إنّ مثل الوفاء بالنذر وأمر الوالد والشرط في ضمن العقد وأشباهها ـ من العناوين الثانويّة ـ تارة يؤخذ في موضوعها أن يكون محكوما بالإباحة أو بالرجحان في العنوان الأوّلي كما في النذر حيث اعتبر فيه الرجحان أو أمر الوالد أو الشرط في العقد أو متعلّق اليمين حيث اعتبر فيه أن يكون مباحا بعنوانه الأوّلي ، فمتى علم إباحته أو رجحانه فلا ريب في تحقّق موضوعه وحينئذ فلا شكّ ، ومتى شكّ فإن كان هناك أصل عملي يقتضي الإباحة أو الرجحان أيضا تحقّق الموضوع ، ومتى لم يكن أصل يحقّق الموضوع فيكون الشكّ في تحقّق الموضوع شكّا في أصل انعقاد النذر ووجوب إطاعة الوالد أو الوفاء بالعقد للشكّ في تحقّق

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦١.

٦٤٤

موضوعه ؛ لأنّ العامّ لا يحقّق موضوعه ولا معنى حينئذ للتمسّك بالعموم أصلا ؛ لأنّ العنوان الوجودي قد عنون العامّ فلا يمكن التمسّك به في الشبهات المصداقيّة.

واخرى لا يؤخذ فيه أن يكون محكوما بحكم بالعنوان الأوّلي ، ومثل هذا قد يكون محكوما بحكم بعنوانه الأوّلي مخالف لحكمه بعنوانه الثانوي :

فتارة يكون العنوان الثانوي مقدّما بنظر العرف ؛ لأنّهم يفهمون أنّ حكمه بعنوانه الأوّلي حكم له في نفسه فلا ينافيه حكمه الثانوي بحسب العوارض ، فيرتفع حكمه الذي هو بعنوانه الأوّلي ويثبت حكمه بعنوانه الثانوي كما في شرب الماء ، فإنّ حكمه الإباحة إلّا أنّه إذا كان مضرّا فحكمه الحرمة ، وليس بين الأدلّة تعارض أصلا ؛ لأنّ العرف يفهم تقديم العنوان الثانوي.

واخرى لا يكون العنوان الثاني مقدّما بنظر العرف ؛ لعدم فهمهم ما تقدّم ، فقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره تحقّق التزاحم فيرجع إلى أقوى المناطين مناط الحكم بالعنوان الأوّلي ومناط الحكم بالعنوان الثانوي إن كان بينهما ما هو أقوى ، وإن لم يكن بينهما ما هو أقوى يتساقطان ويرجع إلى حكم آخر غيرهما (١).

ولا يخفى أنّه لا يمكن المساعدة على ما ذكره من جهتين :

الاولى : أنّ المقام ليس من باب التزاحم ؛ لأنّا قد ذكرنا أنّ مناط التزاحم أن لا يمكن للمكلّف امتثال كلا التكليفين لعجزه بعد جعل المولى لكلّ من الحكمين ، وفي المقام لا يمكن الجعل ؛ إذ جعل الحكمين بعنوان أوّلي وثانوي لشيء واحد جعل للحكمين المتناقضين لشيء واحد ، فالمقام من مقامات التعارض.

الثانية : أنّ أقوائيّة المناط لا تقتضي إلزام التقديم ؛ إذ قد تكون الأقوائيّة بمقدار لا يقتضي الإلزام ، فليس الإطلاق صحيحا ، بل لا بدّ من تقييد تقديم أقوى المناطين حيث تكون الأقوائيّة ملزمة ، وإلّا فلا تحقّق الوجوب له ، بل إنّما تحقّق الاستحباب حينئذ.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٦٢.

٦٤٥

بقي الكلام في نذر الصيام في السفر والإحرام قبل الميقات اللذين جعل الخصم لهما مؤيّدين لمدّعاه من التمسّك بالعموم.

وقد أجاب صاحب الكفاية عنهما بأنّهما ـ يعني الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات ـ راجحان ، وإنّما لم يأمر الشارع بهما لمانع يرتفع مع النذر ، ومن هنا حكم بصحّتهما (١).

ولا يخفى أنّ هذا الوجه لا يمكن الحكم بصحّته ، فإنّ مقتضاه الصحّة في الامتثال وإن لم ينذر ، لأنّ المانع إنّما هو من الأمر وليس مانع من الامتثال والمفروض رجحانه فعلا ، والفعل الراجح يصحّ الإتيان به متقرّبا إلى الله وإن لم يأمر به بعد إحرازه رجحانه.

وأجاب ثانيا : بأنّ تعلّق النذر بهما اقتضى رجحانهما ، والرجحان المعتبر إنّما هو عند الامتثال لا عند النذر (٢) ، ولذا يصحّ نذر الحائض الصلاة في أيّام طهرها. وقد ذكر السيّد اليزدي هذا في عروته (٣) ، وأشكل الميرزا النائيني قدس‌سره عليه في الهامش بأنّ مقتضى ذلك جواز نذر المحرّمات ؛ لأنّها بنفس النذر ترجّح (٤).

ولا يخفى عدم ورود ذلك عليه ؛ إذ إطلاق دليل تلك المحرّمات كاف في التحريم ، وإنّما قال ذلك في خصوص نذر الصوم ونذر الإحرام لتحقّق الدليل في خصوص هذين المثالين ، فلو فرض ورود دليل في محرّم آخر غيرهما لقلنا به.

نعم ، يرد على هذا الوجه أنّ هذا خلاف ظواهر الأدلّة فإنّها ظاهرة في اعتبار الرجحان للفعل المنذور في نفسه ومع قطع النظر عن النذر لا أنّه بالنذر يكون راجحا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٣.

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) انظر العروة الوثقى ، كتاب الصلاة ، فصل في أوقات الرواتب ، المسألة ١٧.

(٤) انظر ذيل المصدر المتقدّم المحشّى بحاشية الميرزا النائيني قدس‌سره.

٦٤٦

وأجاب ثالثا : بتخصيص هاتين الروايتين لما دلّ على اعتبار رجحان الفعل المنذور فيعتبر رجحانه في نفسه ومع قطع النظر عن تعلّق النذر به إلّا في هذين الموردين فيكفي الرجحان الناشئ من قبل النذر (١).

وهذا الوجه الثالث هو الوجه الصحيح الذي يمكننا الاعتماد عليه فهو من قبيل التخصيص لعموم اعتبار رجحان الفعل في نفسه.

بقي الكلام في أنّه إذا ورد «أكرم العلماء» مثلا ثمّ ورد أنّه «لا تكرم زيدا» وتردّد زيد بين أن يكون ابن عمر ليكون تخصيصا أو أنّه ابن بكر ليكون تخصّصا لأنّه جاهل وليس بعالم ، فيتمسّك حينئذ بعموم أكرم العلماء وأصالة عدم التخصيص فيثبت بها وجوب إكرام زيد بن عمر ، ولازمه حرمة إكرام زيد بن بكر ، ولوازم العموم من الاصول اللفظيّة حجّة بلا كلام قطعا ، وهذا مما لا ريب فيه.

وإنّما الكلام في أنّه إذا علم خروج زيد بعينه وأنّه ابن خالد ودار الأمر بين كونه عالما خرج بالتخصيص أو أنّه جاهل فهو خارج لكونه ليس من أفراد العامّ فخروجه تخصّصي لا تخصيصي ، فهل يمكن التمسّك بالعموم؟ ولازمه كون زيد بن خالد جاهلا فيحكم عليه بما للجاهل من الحكم ، ومثاله الفقهي ماء الاستنجاء فإنّه لا ينجّس ما يلاقيه قطعا ، إلّا أنّ الكلام في أنّه نجس لا ينجّس فهو تخصيص من عموم تنجّس ملاقي النجس المائع ، أو أنّه طاهر فعدم تنجيسه لطهارته فيكون عدم تنجيسه تخصّصا لا تخصيصا؟ الظاهر أنّه لا يمكن التمسّك بالعموم ليلزم طهارته ؛ لأنّ أصالة العموم أصل عقلائي استقرّ بناء العقلاء عليه حيث يحرز كون الفرد فردا للعامّ ويشكّ في حكمه ، أمّا حيث يعلم حكمه ويشكّ في كونه فردا فلم يستقرّ بناء العقلاء حينئذ على التمسّك بالعموم أصلا ، ومن هنا لا دليل على أصالة العموم في المورد أصلا (وإن قلنا بطهارة ماء الاستنجاء للاستظهار من قوله عليه‌السلام :

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٦٣.

٦٤٧

لا بأس به (١) ، لا من جهة هذه القاعدة. نعم لو لم نستظهر من قوله عليه‌السلام : لا بأس به ، الطهارة فحينئذ يقع التعارض بين ما دلّ على انفعال الماء القليل بمجرّد الملاقاة وما دلّ على نجاسة ملاقي الماء المتنجّس ؛ إذ لا بدّ من تخصيص أحد العمومين فإذا تعارضا وتساقطا يرجع إلى أصالة الطهارة في الماء.

أمّا إذا قدّمنا التخصّص على التخصيص تمسّكا بأصالة العموم نقول بأنّ الماء طاهر فلا بدّ من تخصيص أدلّة انفعال الماء القليل بمجرّد الملاقاة. أمّا إذا أنكرنا التمسّك بأصالة العموم إلّا حيث يحرز كون الفرد من أفراده فلا بدّ من البناء على نجاسة الماء وإجراء جميع أحكام النجس عليه إلّا أنّه معفوّ عنه في الصلاة ، وهذا هو وجه مذهب الشهيد قدس‌سره إلى النجاسة والعفو (٢) ، فافهم) (٣).

الكلام في عدم جواز العمل بالعموم قبل الفحص عن المخصّص

لا يجوز العمل بالعموم قبل الفحص عن المخصّص ، وليس الكلام في العموم لخصوصيّة فيه ، بل كلّ ظهور كذلك ، كما سيعلم من الدليل الذي يذكر لوجوب الفحص فإنّه عامّ لكلّ ظهور من الظهورات ولا خصوصيّة للعموم في ذلك. ولا يخفى أنّ الفحص هنا ليس نظير الفحص في الاصول العمليّة ؛ لأنّه لا موضوع للأصل العملي قبل الفحص ؛ لأنّ عدم البيان وعدم المرجّح لا يحرزان قبل الفحص. والأدلّة الشرعيّة ـ كحديث الرفع (٤) ، ولا تنقض اليقين بالشكّ (٥) ـ وإن كانت مطلقة إلّا أنّ

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٧٩ ، الباب ٦٠ من أبواب النجاسات.

(٢) انظر الذكرى ١ : ٨٣.

(٣) من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٤ ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل.

٦٤٨

الإجماع على تقييدها بما بعد الفحص أو الأخبار كحديث الحجّة البالغة (١) أو آية (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(٢) على اختلاف المشارب في ذلك ، وهذا بخلاف الفحص في العموم فإنّه عمّا يزاحم الحجّة فإنّ العموم حجّة متحقّقة ، ولكنّ الكلام في أنّه هل هناك مزاحم لها ومانع عن الأخذ بمقتضاها أم لا؟ فالفحص هنا عمّا يزاحم المقتضي بعد تحقّقه وهناك عن أصل تحقّق المقتضي وعدمه ، هكذا أفاد صاحب الكفاية قدس‌سره (٣)(*).

وربّما قيل بعدم الفرق بين الفحص في المقامين ، فإنّه كما أنّ الشكّ بعد الفحص موضوع للاصول كذلك الظهور بعد الفحص موضوع للحجيّة الثابتة ببناء العقلاء ، وإلّا فلو استقرّ بناؤهم على العمل بالظهور قبل الفحص فلا مقتضي للفحص أصلا.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره على إطلاقه غير تامّ ؛ ولأنّا إن استندنا في وجوب الفحص إلى العلم الإجمالي بالمخصّصات في الكتب الأربعة أو فيها وفي غيرها فلا ريب في تحقّق الفرق بين الفحصين ، فإنّه حينئذ عن تحقّق المانع بعد

__________________

(١) الأمالي للشيخ الطوسي : ٩ المجلس الأوّل ، الحديث ١٠.

(٢) النحل : ٤٣.

(٣) انظر الكفاية : ٢٦٥.

(*) وملخّص الكلام : أنّ الفحص قد يكون عن المقتضي في كلا المقامين ، أمّا في الاصول فلتنقيح الموضوع ، وأمّا في العمومات فكذلك ؛ لأنّ بناء العقلاء إنّما جرى على العمل بها إذا كانت في معرض التخصيص كما في عمومات الكتاب والسنّة بعد الفحص عن المخصّص. وقد يكون عن المانع في كلا المقامين ، أمّا في العموم فواضح ، وأمّا في الاصول ففي أطراف الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي فإذا تردّد النجس بين إناءين فأصالة الطهارة تجري في كلّ منهما لو لا المعارضة ، فالفحص عن النجس منهما يوجب معرفته ، فيجري أصالة الطهارة حينئذ في الثاني ، فالفحص هو الذي رفع المانع من إجراء الأصل في الثاني. فافهم. (من اضافات بعض الدورات اللاحقة).

٦٤٩

إحراز المقتضي ؛ لأنّ كلّ عموم هو من أطراف العلم الإجمالي ، فأصالة العموم فيه معارضة بأصالة العموم في بقيّة الأطراف. ونظيره في الاصول العمليّة أيضا أطراف الشبهة المحصورة ، فإنّ أصالة الطهارة والحلّية في كلّ من الإناءين معارض بأصالة الطهارة والحلّية في الآخر.

نعم إن استندنا فيها للسيرة وبناء العقلاء وقلنا بأنّ بناءهم في مثل عمومات الكتاب والسنّة ـ ممّا تعارف فيها التخصيص ـ هو الحجّية بعد الفحص لم يكن فرق بين الفحصين ، فليس إطلاق القول بالتفرقة بين الفحصين ممّا ينبغي ، إلّا أن يبنى على لزوم الفحص من جهة العلم الإجمالي ، وإلّا فقد عرفت أنّه إذا كان مدرك وجوب الفحص هو بناء العقلاء فلا فرق بين الفحص في المقامين.

وكيف كان ، فقد ذكر لوجوب الفحص قبل العمل بالعموم عن المخصّص وجوه :

الأوّل : أنّ العامّ لا يفيد الظنّ بالعموم إلّا بعد الفحص عن مخصّصه فيجب الفحص لذلك.

وفيه : أنّ الفحص لا يحقّق الظنّ بالعموم أيضا لقرب عدم الاطّلاع على المخصّص أو عدم وصوله. وثانيا : أنّ مناط حجّية العموم هو حجّية الظهور الغير المعتبر فيها الظنّ بالوفاق أو عدم الظنّ بالخلاف ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

الثاني : أنّ عموم الحكم للغائبين إنّما هو من باب ثبوت حكم المشافهين في حقّ الغائبين ، فلا بدّ من الفحص ليحصل لنا العلم بحكم المشافهين.

وفيه : أنّ الفحص لا يعلم فيه حكم الغائبين ، لإمكان عدم وصوله أو عدم الاطّلاع عليه. وثانيا بأن ليس جميع العمومات من قبيل خطاب المشافهة.

وبالجملة ، فالوجوه المذكورة لوجوب الفحص ضعيفة لا نتعرّض لها.

نعم العمدة في الأدلّة دليلان أو ثلاثة فلنتعرّض لها :

أوّلها : العلم الإجمالي بأنّ للعمومات المذكورة في الكتاب والسنّة مخصّصات ، وهذا العلم الإجمالي مانع عن التمسّك بالعمومات ؛ لأنّ كلّ فرد من أفراد العمومات

٦٥٠

من أطراف العلم الإجمالي فيحتمل أنّه هو المخصّص ، وبعد الفحص يعلم حينئذ بعدم كونه من أطراف العمومات المخصّصة.

وقد ردّ صاحب الكفاية قدس‌سره هذا الاستدلال بأنّ هذا العلم الإجمالي قد انحلّ بالاطّلاع على جملة من المخصّصات لا يعلم بأكثر منها ، وحينئذ فبعد الانحلال يلزم جواز العمل بلا فحص. ومن المعلوم لزوم الفحص حتّى بعد الانحلال وليس إلّا أنّ العلم الإجمالي ليس هو المقتضي والعلّة لوجوب الفحص ، وإلّا لدار معه وجودا وعدما.

وبالجملة ، المدّعى لزوم الفحص عن مخصّص جميع العمومات حتّى بعد الانحلال ، فالدليل أخصّ من المدّعى (١).

وقد ردّه الميرزا النائيني قدس‌سره بأنّ عندنا في المقام علمين إجماليين : أحدهما العلم الإجمالي بتخصيص مائتي عامّ من عمومات الكتاب والسنّة ولا علم لنا بتخصيص أكثر من هذا المقدار وإن احتمل الأكثر.

وهناك علم إجمالي آخر بأنّ في الوسائل مثلا مقدار من المخصّصات لهذه العمومات فإنّ هذا العلم الإجمالي بعنوان كون المخصّص في الوسائل وليس دائرا بين الأقلّ والأكثر من حيث العدد فبالظفر بمائتي مخصّص ينحلّ العلم الإجمالي الأوّل دون الثاني ؛ لأنّه بعنوان كونه في الوسائل مثلا ، وحينئذ فالعلم الإجمالي لا ينحلّ وحينئذ فهو كاف في لزوم الفحص عن المخصّص للعامّ قبل العمل به ، ونظّر المقام بمن يعلم أنّه مديون وأنّ دينه في دفتر خاصّ ثمّ علم إجمالا بأنّ دينه خمسة دنانير ويحتمل كونها أكثر ثمّ نظر في مقدار من الدفتر حتّى انتهى إلى أن صار مقدار خمسة دنانير ، فلا يجوز له أن لا ينظر في بقيّة الدفتر ، بدعوى أنّ العلم الإجمالي قد انحلّ ؛ لأنّ العلم الإجمالي من حيث العدد والقلّة والكثرة قد انحلّ ، أمّا العلم الإجمالي الذي

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٦٥.

٦٥١

هو بمعرف كون دينه في دفتره فلم ينحلّ بعد ومقتضاه لزوم فحص الدفتر من أوّله إلى آخره ؛ لأنّ العلم الإجمالي الثاني ذو علامة وتعيّن ، والأكثر إنّما يرفع اليد عن احتماله إذا لم يكن طرفا لعلم إجمالي آخر كما في المقام (١).

أقول : إنّ العلم الإجمالي الثاني إن كان دائرا بين الأقلّ والأكثر أيضا فلازمه الانحلال كالأوّل.

مثاله : أن نعلم علما إجماليّا بنجاسة أحد الإناءات العشرة لوقوع قطرة بول قطعا في أحدها ولنا احتمال وقوعها في الأكثر من إناء واحد ولنا علم إجمالي آخر بأنّ إناء زيد نجس ونحتمل أن يكون لزيد إناءان بعد العلم بوجود إناء له فإذا علمنا بأنّ هذا هو إناء زيد وأن به وقعت قطرة البول ، فبالإضافة إلى كلّ من العلمين الإجماليين ينحلّ العلم الإجمالي إذا الآن يشكّ في نجاسة غير هذا الإناء شكّا بدويّا إذ ليس هذا الإناء الآن من أطراف العلم الإجمالي الأوّل ولا الثاني.

نعم لو كان العلم الإجمالي الثاني الذي هو ذو علامة وتعيّن غير مردّد بين الأقلّ والأكثر لم يوجب انحلال ما تردّد بين الأقلّ والأكثر انحلاله ؛ لأنّ الانحلال من الجهة الاولى لا يوجب الانحلال من الجهة الثانية ، مثاله : أن يعلم إجمالا بوجود إناء زيد النجس فيما بين هذه الإناءات العشرة ثمّ يعلم بقطرتي بول قد وقعتا في إناء واحد من هذه العشرة أو في إناءين ثمّ يفحص فيعلم أنّ هذا الإناء مثلا قد وقعت فيه قطرة بول قطعا فهنا ينحلّ العلم الإجمالي الثاني المردّد بين الأقلّ والأكثر ، فمن حيث قطرتي البول لا يجب الاجتناب إلّا أنّ الانحلال من هذه الجهة لا يوجب الانحلال من جهة كون إناء زيد النجس هو أحد الأطراف.

(نعم لو احتمل كون هذا الإناء هو إناء زيد نقول بالانحلال ؛ لأنّ العلم الإجمالي الثاني بنفسه لا يوجب التنجّز ، وإنّما يوجبه تساقط الاصول في أطرافه فمع فرض

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

٦٥٢

عدم تساقط الاصول كما في المقام ؛ لأنّ هذا الإناء لا يجري فيه الأصل قطعا فلا يلزم من إجراء الأصل في الباقي طرح للمعلوم بالإجمال ولا ترجيح من غير مرجّح فتجري الاصول في بقيّة الأطراف) (*). ومقامنا من قبيل المثال الأوّل فإنّ العلم الإجمالي الثاني بوجود المخصص في كتاب الوسائل بهذا العنوان أيضا مردّد بين الأقلّ والأكثر ، وحينئذ فالعلم الإجمالي لا يوجب الفحص بعد الانحلال.

وأمّا ما ذكره : من مسألة الدين والدفتر وعدم الانحلال ، فهو من جهة أنّ عنده اطمئنانا بتحقّق الزيادة ، والاطمئنان كالعلم حجّة عقلائيّة ، مثلا إذا كان يعلم بأنّ ديونه في دفتره وهو يعلم أنّها خمسة دنانير قطعا ويشكّ في الزائد فإنّه إذا نظر إلى الدفتر بمقدار عشر أوراق فظفر بالخمسة إلى يوم نصف شهر رمضان إلّا أنّه يطمئنّ أنّه قد استقرض بعد هذا التاريخ قطعا مقدار دينارين ، وهذا الاطمئنان كالعلم حجّة فليس وجوب النظر في بقيّة الدفتر لعدم الانحلال للعلم الإجمالي ، بل لوجود حجّة اخرى تقتضي الفحص ؛ ولذا لو وجد بمقدار الدينارين الآخرين يجري الأصل في بقيّة أوراق الدفتر فيجري أصل البراءة في نفسه.

نعم لو قلنا بلزوم الفحص للمرء الذي يشكّ في تحقّق استطاعته أو بلوغ غلّته النصاب ؛ لأنّ إجراء أصالة العدم يقتضي فوات الواجب في أوّل سنته غالبا ولا يجوز إجراء الأصل في مثل ذلك ، لا يجري الأصل إلّا أنّه لهذا المانع لا للعلم الإجمالي. وممّا يؤيّد الانحلال أنّه لو ضاع ذلك الدفتر فإنّه لا ريب في جريان البراءة من الدين المشكوك ، ولو لا الانحلال المذكور للزم الاحتياط.

الثاني من أدلّة وجوب الفحص عن المخصّص قبل العمل بالعموم : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) تبعا لصاحب الكفاية (٢) أنّ الألفاظ المفيدة للعموم إنّما تفيده ببركة

__________________

(*) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦١.

(٢) انظر كفاية الأصول : ٢٥٥.

٦٥٣

مقدّمات الحكمة فلا بدّ من الفحص حتّى يحرز عدم البيان الذي هو مقدّمة من مقدّمات الحكمة ، وإلّا ففي مثل تخصيص عمومات مثل الكتاب والسنّة ـ ممّا يرد العامّ فيه ثمّ يرد الخاصّ بعد مئات السنين من إمام آخر غير الناطق بالعموم ـ لا يمكن إحراز عدم البيان بعدم ذكره متّصلا به ، خصوصا كون مثل التخصيص المنفصل متداولا ومتعارفا ، إمّا لمصلحة في التأخير ، أو لمفسدة في التقديم من تقيّة وغيرها.

أقول :

يرد على هذا الوجه أوّلا : أنّ ألفاظ العموم غير محتاجة إلى مقدّمات الحكمة ليحرز عدم البيان ، بل هي بنفسها دالّة على العموم ، فعدم التخصيص من باب بيان عدم التخصيص لا من باب عدم بيان التخصيص ، والمتكفّل لبيان العدم هو لفظ العموم المفيد لإلغاء الخصوصيّات كما تقدّم.

وثانيا : أنّ الظهور لا يرتفع بالظفر بالمخصّص ، بل إنّما يرتفع بالمخصّص الإرادة الجدّية كما تقدّم ، وأمّا الظهور فبناء العقلاء يوجب حجّيته ، وتقديم المخصّص المنفصل حيث يتحقّق من باب تقديم أقوى الظهورين على الآخر ، ولو توقّف ظهوره على عدم المخصّص لم يصحّ ما ذكره الميرزا نفسه من التمسّك بالعموم حيث يكون المخصّص مجملا مفهوما مردّدا بين الأقلّ والأكثر فيما زاد على الأقلّ المتيقّن فإنّه قد ذكر أنّه يتمسّك بعموم العامّ ، فهل يتمسّك بما ليس بظاهر أم بما هو ظاهر؟ فالإنصاف أنّ هذا الوجه أيضا كسابقه لا يوجب الفحص.

الثالث من أدلّة وجوب الفحص عن مخصّص العموم قبل العمل به : ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره في مقام لزوم الفحص عن الدليل قبل الرجوع إلى الاصول العمليّة من الدليل العقلي المذكور هناك والنقلي ، أمّا العقلي فقد ذكروا أنّه يلزم من الرجوع إلى الاصول من غير فحص اندراس الأحكام وعدم امتثالها إذ كلّما شكّ في حكم يرجع إلى البراءة ، وحينئذ فيلزم نقض الغرض من جعل الأحكام.

٦٥٤

وأمّا النقلي فقد استدلّ على لزوم الفحص عن الحكم قبل الرجوع إلى الاصول العمليّة بآية (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) وبما ورد من لزوم تعلّم الأحكام مثل قوله عليه‌السلام : طلب العلم فريضة على كلّ مؤمن ومؤمنة (٢) ، ومثل ما ورد من أنّه يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له : لم لا عملت؟ فيقول : ما علمت ، فيقال : لم لا تعلّمت (٣) وغيرها من الأخبار الدالّة على وجوب تعلّم الأحكام الشرعيّة (٤) ، فإنّه لو رجع إلى الأصل العملي في هذه الموارد خالف آية السؤال وترك تعلّم الحكم (٥).

وهذان الدليلان بعينهما يدلّان على وجوب الفحص عن المخصّص قبل العمل بعموم العامّ بمقدّمة هي أنّه جرى ديدن الشارع المقدّس تبليغ أحكامه تدريجا بنحو يذكر العموم في الكتاب الكريم ويكون مخصّصه مذكورا بعد مائتي سنة من العسكري عليه‌السلام ، وكذا يذكر العموم على لسان الباقر عليه‌السلام ويأتي التخصيص من الرضا عليه‌السلام أو الجواد عليه‌السلام. فقد استقرّ ديدنهم على هذا ، وحينئذ فبمجرّد ورود العموم لا يمكن العمل به مع استقرار سيرتهم على ما ذكرنا. فلو عمل بالعموم لزم نقض الغرض ، وترك السؤال من أهل الذكر الذي هو كناية عن التفحّص في أقوالهم ، وكذا ترك طلب العلم بالحكم الشرعي الذي هو مقدّمة للعمل ، فهذه الأدلّة تدلّ على لزوم الفحص عن المخصّص للعموم قبل العمل بعموم العامّ.

__________________

(١) النحل : ٤٣.

(٢) لم نعثر عليه بعينه ولكن الموجود : على كلّ مسلم ، انظر الوسائل ١٨ : ٩ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الأمالي للشيخ الطوسي : ٩ المجلس الأوّل ، الحديث ١٠.

(٤) انظر الكافي ١ : ٣٠ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، الحديث ٣ و ٦ و ٧ و ٨.

(٥) راجع الفرائد ٢ : ٤١٢ وما بعدها.

٦٥٥

بقي الكلام في مقدار الفحص اللازم ، والاحتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يفحص حتّى يقطع بعدم الظفر بمخصّص.

الثاني : أن يفحص حتّى يطمئنّ بعدم ظفره بعد بمخصّص.

الثالث : أن يفحص حتّى يظنّ عدم الظفر بعد ذلك بمخصّص.

أمّا الأوّل : فهو وإن قرّبه تبويب الأصحاب قدس‌سره لكتب الأخبار ، إلّا أنّه مع ذلك نادر التحقّق جدّا.

وأمّا الثالث : فهو مع كونه ظنّا لا يغني عن الحقّ شيئا لا يمكن القول به ؛ لأنّه قول بالظنّ.

فالقول الوسط ، هو الذي ينبغي التعويل عليه في المقام بمعنى أن يفحص عن المخصّص حتّى يطمئنّ بعدم الظفر بمخصّص له ، بنحو يكون احتمال العثور غير معتدّ به عند العقلاء. فإن أراد صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : «يفحص حتّى يخرج العامّ عن معرضيّة التخصيص» (١) هذا المعنى فهو ، وإلّا فلم يتحصّل لنا معنى لعبارته ، فإنّه بالقطع بعدم التخصيص لا يخرج عن المعرضيّة ، فإنّ انتفاء التخصيص لا يوجب خروجه عن معرضيّة التخصيص أصلا. وهذا المقدار من الفحص كما هو لازم في الأخذ بدلالة العموم أيضا لازم في الأخذ بسنده ، فإنّ سيرة الأئمّة على ذكر كثير من الأحكام على خلاف الواقع تقيّة أو يوقعون الاختلاف بين شيعتهم حقنا لدمائهم أو غير ذلك ، ولذا كثرت الأخبار المتعارضة ، فلا بدّ في العمل بخبر من الفحص عن عدم معارض له بنحو يطمئنّ بعدم الظفر بالمعارض ، فافهم.

في الخطابات الشفاهيّة

هل الخطابات الشفاهيّة تختصّ بالمخاطبين أو تعمّ الغائبين والمعدومين؟ وقبل الخوض في هذه المسألة لا بأس بالتعرّض لثمرتها :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٥.

٦٥٦

فنقول : إن قلنا بأنّ الخطابات خاصّة بالمشافهين فظهورها إمّا أن يختصّ بهم أو يكون ظهورها حجّة مطلقا. وإن اختصّ الخطاب بهم فإن قلنا باختصاص حجّية الظهور بمن قصد إفهامه فلا يكون هذا الظهور حجّة في حقّنا ، فإذا شككنا في تكليف من جهة بعض الخصوصيّات فلا يمكننا الاستدلال بإطلاق أو عموم لعدم حجّيته لنا ، لأنّا لم نقصد بالخطاب.

وحينئذ فثبوت ذاك التكليف لنا إنّما هو بقاعدة الاشتراك المفتقرة إلى اتّحاد الجنس ، فإذا كان الحاضرون واجدين لصفة نحتمل دخلها في التكليف لا يمكن إثبات ذلك التكليف لنا ، فمثل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ)(١) لا يمكن بها إثبات التكليف لنا بوجوب الجمعة ؛ لأنّ صفة حضور الإمام المبسوط اليد نحتمل دخلها في الحكم بوجوبها. وهذا أيضا يجري لو قلنا بعموم حجّية الخطاب وإن اختصّ بالمخاطبين ؛ لاحتمال أن يكون لوصف الحضور مدخليّة في الحكم ، وعدم ذكر تقييد الحكم به لكون المخاطبين واجدين له فلا يحتاج إلى ذكره قيدا ، وحينئذ فهو وإن كان حجّة بالنسبة إلينا لنستدلّ به على تكليفهم إلّا أنّا لا نتمكّن أن نثبت به إطلاق التكليف بالنسبة إلى حضور الإمام وغيبته لإمكان كونه مقيّدا وعدم ذكر القيد لكون المخاطبين واجدين له فهو مغن عن الذكر لعدم فائدته حينئذ. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الخطابات الشفاهيّة تعمّ الغائبين بل المعدومين بحاقها فإنّا نستدلّ حينئذ بإطلاق الخطاب في نفي كلّ قيد نحتمل اعتباره.

فقد ظهر أنّ هذه المسألة اصوليّة ذات ثمرة فقهيّة ، وليس كما ذكره صاحب الكفاية من عدم كونها ذات ثمرة (٢).

__________________

(١) الجمعة : ٩.

(٢) كفاية الاصول : ٢٦٩ ـ ٢٧١.

٦٥٧

وأمّا الكلام في نفس المسألة فقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره إمكان تصوير النزاع في الحكم العقلي من جهتين :

إحداهما : إمكان جعل الحكم في حقّ المعدومين وعدمه.

الثانية : إمكان خطاب المعدومين وعدمه (١).

وفي الحكم اللغوي وهو أنّ الأدوات الموضوعة لخطاب المشافهة هل يصحّ خطاب المعدومين بها أم لا؟ والميرزا النائيني قدس‌سره جعل النزاع في أمرين :

أحدهما : إمكان خطاب المعدومين ، والحكم اللغوي. وأسقط إمكان جعل الحكم عن محلّ النزاع (٢).

والظاهر أنّ النزاع في الحكم اللغوي ، وذلك أنّ جعل الحكم ممّا لا ريب في إمكانه بناء على أنّ جعل الحكم عبارة عن اعتباره على ذمّة المكلّف ، وهذا الاعتبار سهل المئونة جدّا كما تقدّم ، والبعث والزجر والطلب كلّها امور منتزعة منه. والحكم في القضايا الحقيقيّة مشهور ، بل وهذا في العرف واقع كثيرا ، كما في قوانين الحكومات ، وكما في الوقف على البطون. ويؤيّده أنّه لم ينقل عن أحد التوقّف في شمول الأحكام الموجّهة بغير أدوات الخطاب للمعدومين فضلا عن الغائبين.

وأمّا صحّة الخطاب فإن اريد الخطاب الحقيقي الذي يكون بقصد التفهيم والتفهّم فهذا لا يجوز مع غير الملتفت وإن كان حاضرا كالنائم والغافل والسكران والمجنون ، وإن اريد به الخطاب بمعنى إنشاء الخطاب فهذا يجوز ولو مع المعدوم ، بل الغير القابل للوجود. وكلّ هذا لا نزاع فيه ، وإنّما النزاع في صحّة مخاطبة المعدومين بمثل «يا أيّها» وغيرها ممّا وضع لخطاب المشافهة أم لا.

فلا نزاع إلّا في المسألة اللغويّة ، وهي : أنّ أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقي فلا يصحّ المخاطبة بها للغائب فضلا عن المعدوم ـ إذ الخطاب الحقيقي ما فيه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٦.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٥ ، وفوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٤٨.

٦٥٨

قصد التفهيم ، ولا يمكن تحقّق قصد تفهيم الغائب ، بل لا يصحّ مخاطبة الحاضر إذا كان غافلا أو نائما أو جاهلا بتلك اللغة ـ أو أنّ هذه الأدوات موضوعة للخطاب الإنشائي فهو لإنشاء الخطاب وإظهاره فتكون شاملة للمعدومين فضلا عن الغائبين والحاضرين الغير الملتفتين؟

الظاهر الثاني ؛ لأنّا لا نرى تفاوتا في استعمالها في مخاطبة القابلين للتفهيم وغيرهم من غير القابلين حتّى الجمادات. وهذا كاشف عن أنّ المعنى الحقيقي متحقّق فيهما معا وهو الخطاب الإنشائي ، وحينئذ فنفس الخطاب يمكننا التمسّك بإطلاقه في نفي كلّ قيد يحتمل اعتباره لشموله لنا ذاتا ولا حاجة إلى التمسّك بقاعدة الاشتراك لنحتاج إلى الاتّحاد في الصنف كما مرّ.

هذا كلّه مع أنّ الّذين يحضرون مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عند قراءة الآية عليهم ليس جميع المسلمين ، بل مقدار قليل من مسلمي خصوص المدينة ، فلو استعملت الأدوات في الخطاب الحقيقي لزم خروجهم أيضا فلا يقتصر على خروج المعدومين حينئذ ، بل مطلق الغائبين ، وهذا لا يلتزم به القائل بالاختصاص.

هذا كلّه بناء على أنّ إلقاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أوّل نزول القرآن فيكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله آلة لخطاب الله عزوجل ولا نلتزم بذلك ، بل إنّ قراءة النبيّ كقراءتنا للقرآن فالقرآن قد نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته ثمّ قرأه على من حضر بعد ذلك في المسجد ، وحينئذ فالحاضرون غير مشافهين أيضا ؛ لأنّ الله لم يشافههم بوساطة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما شافه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والنبيّ بلّغ ما شافهه به الله عزوجل فليس من الله خطاب مشافهة لأحد غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذا قريب جدّا.

في العامّ المتعقّب بضمير خاصّ

إذا ورد عامّ قد حكم عليه بحكم ثمّ ورد ضمير في حكم آخر راجع إلى ذلك العامّ إلّا أنّ المراد بالضمير الخصوص قطعا فهل يلتزم بكون المراد من العموم

٦٥٩

الخصوص فيختصّ الحكم الأوّل بالخصوص أيضا حرصا على حفظ ظهور موافقة المرجع للضمير عموما وخصوصا أم يلتزم بأنّ الضمير قد رجع إلى ذلك العموم بمعنى آخر وهو الخصوص للاستخدام؟ ففي الأوّل مخالفة لأصالة العموم وفي الثاني مخالفة لظهور موافقة المرجع للضمير ، فأيّ الظهورين يقدّم؟ فقيل بتقديم أصالة العموم ، وقيل بتقديم الموافقة بين المرجع والضمير بتخصيص العموم في الحكم الأوّل أيضا ، وقيل بالإجمال لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة. وقد ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى الأوّل (١) كما ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره إلى الأخير (٢) والوسط مختارنا.

وكيف كان ، فأصالة عدم الاستخدام لا تجري على مذهب الميرزا النائيني وصاحب الكفاية ؛ لأنّ جميع الاصول اللفظيّة إنّما استقرّ بناء العقلاء على إجرائها حيث يشكّ في المراد بعد كون المعنى الحقيقي والمجازي مثلا معلومين ، أما حيث يعلم المراد ويشكّ في كيفيّة إرادته فلا استقرار لبناء العقلاء على الإجراء ، ومقامنا من صغريات الثاني ؛ إذ المراد بالضمير معلوم قطعا والشكّ في أنّه كيف اريد فإذا لم تجر أصالة عدم الاستخدام فالميرزا قدس‌سره يقول بأنّ أصالة العموم حينئذ جارية بلا معارض إلّا أنّ صاحب الكفاية استظهر عدم جريانها أيضا ؛ لأنّها إنّما تجري حيث لا يحتفّ الكلام بما يصلح للقرينيّة ، وكون المراد من الضمير خاصّا يصلح قرينة على أنّ المراد من العامّ الخصوص فلا تجري أصالة العموم أيضا.

والظاهر جريان أصالة عدم الاستخدام ؛ لأنّها إن اريد بها بيان حال الضمير وأنّه كيف اريد منه خصوص الرجعيّات مثلا كان ما ذكر في منعه متينا ، إلّا أنّ المراد أنّ وحدة المراد من الضمير ومن مرجعه أمر عرفي مسلّم غير قابل للجدال ، فمن قال : «رأيت اليوم أسدا وكلّمته» فإنّ المراد من الضمير في قوله : «وكلّمته»

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

(٢) كفاية الاصول : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٦٦٠