غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

موضوعة لبيان إطلاق المدخول ، كما أنّه لو سأله عن الخصوصيّات لزبره ونسبه إلى عدم الفهم من جهة إهماله ما يستفاد من اللفظ ، لكنّ الكلام في أنّ إفادة العموم وإن استندت إلى الوضع إلّا أنّها هل هو وضع المدخول أم الهيئة التركيبيّة أم اللام؟ أمّا المدخول فليس موضوعا للعموم لعدم إفادة الجمع العموم في نفسه ، وأمّا الهيئة التركيبيّة فمع بعد تحقّق وضع للهيئة غير وضع المفردات في نفسه مستلزم لكون استعماله في العهد بأقسامه مجاز ، فتأمّل.

وأمّا اللام فالظاهر أنّها المفيدة للعموم والموضوعة لإفادته ؛ لأنّ اللام موضوعة للتعيين فإذا دخلت على الطبيعة أفادت تعيينها ، فقد تطلب تلك الطبيعة بنحو صرف الوجود فيكتفى بالفرد الأوّل ، وقد تطلب بنحو مطلق الوجود وقد يحكم عليه من حيث الطبيعة لا من حيث وجودها فيقال : الإنسان نوع مثلا. أمّا إذا دخلت على الجمع يعلم أنّ الأفراد ملحوظة للمتكلّم فليس مراده فيها الطبيعة قطعا بل المراد الأفراد ، وبما أنّ الأفراد مرادة بنحو التعيين ؛ لأن اللام مفيدة للتعيين فجميع الأفراد متعيّن دون غيره ؛ لأنّ غيره غير متعيّن بل مردّد.

وما يقال : من أنّ أقلّ الجمع متعيّن أيضا ، يدفعه أن غير متعيّن إذ كلّ ثلاثة أفراد من المدخول يحتمل أن يكون هو فهو معيّن من حيث كونه ثلاثة ، ولكن هذه الثلاثة غير مشخّصة أنّها أيّ الثلاثات ، فلا تعيين فيه من جميع الجهات ، كما هو شأن اللام.

وعلى هذا فاستعمالها في العهد بأقسامه حقيقة أيضا ؛ لأنّها للتعيين للمعهود إذ العهد معيّن. فهي ـ يعني اللام ـ مفيدة لكون مدخولها متعيّنا ، فقد يكون تعيينه بالعهد الذكري أو الذهني ، وقد يكون بعدم تعيّن غيره ، فافهم.

في العامّ المخصّص

والكلام في جهات :

الاولى في أنّ العامّ إذا خصّص فهل هو حقيقة أم مجاز أم يفصّل بين المتّصل فالأوّل والمنفصل فالثاني أو يفكّك في المتّصل بين الاستثناء وغيره؟

٦٢١

أقوال ، أمّا على ما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره : من أنّ لفظ «كلّ» و «جميع» و «المعرّف باللام» مفيدة لعموم المدخول ، وأنّ المدخول لم يستعمل إلّا في الطبيعة المهملة ، وأنّ التعميم فيه كالتخصيص محتاج إلى دالّ آخر غيره فهو محتاج في استغراقه لجميع الأفراد إلى مقدّمات الحكمة فلا تخصيص في الحقيقة من أوّل الأمر بل إنّه لم يخصّص العامّ أصلا ، بل استعمل من أول الأمر في معناه وهو عموم المدخول ، وإنّ قول من قال «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» كلام ليس على حقيقته ، بل مؤوّل ، من غير فرق بين المتّصل والمنفصل والاستثناء وغيره ، أمّا المتّصل فمن أوّل الأمر استعمل اللفظ في عموم المدخول فلم يستعمل في العموم أوّلا ثمّ عراه التخصيص فهو من قبيل ضيق فم الركيّة.

وبعبارة اخرى : المدخول ذو أفراد قليلة من غير فرق بين كون القيد المتّصل وجوديّا أم عدميّا كقولك : أكرم العلماء العدول أو غير الفسّاق. والاستثناء من قبيل القيود العدميّة ، وكذا المنفصل فإنّ وجود المخصّص كاشف عن أنّ المولى الذي لا يحتمل في حقه البداء ولا يكون حكم الثاني ناسخا بالمعنى المعروف للنسخ قد قيّد المدخول حينئذ بذلك المقدار الخاصّ لا أنّه استعمل في العموم ثمّ طرأ التخصيص.

وبالجملة ، فالتخصيص تقييد للمدخول سواء كان متّصلا أم منفصلا ، غايته أنّه في المتّصل يكون التقييد معلوما من أوّل الأمر ، وفي المنفصل ينكشف تقييد المدخول أخيرا عند العثور على المخصّص ، هذا كلّه بناء على ما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره (١) ومتابعوه (٢).

وأمّا بناء على ما ذكرنا ـ من استناد العموم في المدخول إلى لفظ كلّ واللام وجميع ـ فقد يقال : إنّ استعمالها في بعض الأفراد استعمال في غير ما وضع له وليس

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٥٥ ـ ٢٥٧.

(٢) كالميرزا ، انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٠٩ ـ ٣١٠.

٦٢٢

المجاز إلّا ذلك ، إلّا أنّ التحقيق أنّه ليس مجازا أيضا في المتّصل والمنفصل. بيان ذلك محتاج إلى مقدّمة ، وهي أنّا قد ذكرنا في بحث الوضع أنّ الوضع هو تعهّد المتكلّم أنّه متى أراد تفهيم معنى من المعاني تكلّم باللفظ الفلاني الذي ينتقل السامع منه إلى المعنى من جهة الانس الحاصل من كثرة الاستعمال له فيه ، وحينئذ فتكون الألفاظ موضوعة لبيان أنّ المتكلّم في مقام بيان مراده فما يفيده اللفظ هو كون المتكلّم في مقام إبراز مراده به.

وأمّا الدلالة التصوّرية للألفاظ فليست مستندة إلى الوضع ، وقد مرّ تفصيل ذلك في بحث الوضع. وهناك إرادة اخرى وهي المعبّر عنها بالحجيّة وهي الإرادة الجدّية ، فإنّ من يريد إبراز مراده لا يلزم أن يكون جادّا ، بل قد يكون مراده الاستهزاء أو السخريّة أو التقيّة أو ضرب القانون أو غير ذلك من الإرادات الغير الجدّية ، وقد يكون جادّا إلّا أنّه إذا لم ينصب قرينة تحمل على أنّ الإرادة الجدّية على طبق الإرادة المستفادة من الوضع وإنّما يعدل عنها حيث تقوم القرينة على تخالف الإرادتين كما في المجاز وغيره.

ولا يخفى أنّ هذه الإرادة المعبّر عنها بالإرادة الجدّية ليست مستندة إلى وضع وإنّما استندت إلى بناء العقلاء.

إذا عرفت هذا عرفت أنّ التخصيص لا يستلزم المجازيّة ، أمّا في المتّصل فلأنّ بيان مراده كان مقتصرا على خصوص المقيّد بحيث لم ينعقد له ظهور بغيره.

وأمّا في المنفصل فلأنّ ظهور المخصّص المنفصل بعد ذلك إنّما يكشف عن أنّ الإرادة الجدّية لم تكن على طبق الإرادة الوضعيّة ولا تكشف عن أنّه لم يكن في مقام بيان مراده ليلزم استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، بل إنّما تكشف عن عدم كون الإرادة للتعميم جدّية بل من باب ضرب القانون مثلا ، فليس فيه مخالفة للوضع أصلا فأين المجازيّة ، فافهم.

بقي الكلام في أمرين :

٦٢٣

أحدهما : أنّ ما ذكرت وإن كان محتملا إلّا أنّه لا دليل على أنّ المولى قد استعمل اللفظ في العموم ، فمن المحتمل أنّه استعمله في الخصوص مجازا. وبالجملة فكلّ من الأمرين محتمل ولا معيّن لأحدهما.

والجواب : أنّ الاستعمال المجازي فيه مخالفة للوضع ومخالفة لبناء العقلاء ؛ إذ قبل ظهور المخصّص كان ظهور العموم مقتضيا لكون المولى أراد تفهيم العموم بهذا اللفظ ومقتضيا لكون الإرادة الجدّية على طبق الإرادة الاستعماليّة ، فبعد ظهور المخصّص يدور الأمر بين استعمال العموم في الخصوص فيرفع اليد عن كلا الظهورين وبين ما ذكرنا من مخالفة الإرادة الجدّية للإرادة الاستعماليّة وهو رفع لليد عن أحد الظهورين وهو الظهور المستند إلى بناء العقلاء.

وبالجملة ، فمخالفة الظهور إنّما يصار إليها عند الاضطرار إلى ذلك ، ولا ضرورة تقتضي رفع اليد عن كلا الظهورين لإمكان ما ذكرنا ، وإمكانه كاف في الالتزام به إذ بإمكانه تنتفي الضرورة إلى مخالفة الظهورين.

الثاني : أنّه ما الداعي للتكلّم بالعموم وتعلّق الإرادة الجدّية بغير العموم ، فلم لا يتكلّم بالخصوص من أوّل الأمر.

والجواب : أنّه في الموالي العرفيّة هو الجهل والغفلة عن التخصيص ، وفي المولى الحقيقي هو المصلحة في إظهار إرادة تفهيم العموم أو المفسدة في إظهار إرادة تفهيم الخاصّ من أوّل الأمر من تقيّة أو غير ذلك من الامور المختلفة باختلاف الموارد.

الجهة الثانية : في أنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي

لا ريب في كون العامّ المخصّص حجّة في الباقي من غير فرق بين كون المخصّص متّصلا أو منفصلا ، والدليل على ذلك فهم العرف من مثل العامّ إذا خصّص خروج خصوص ذلك الخاصّ عن حكمه وبقاء بقيّة الأفراد بحيث لو خالف فيها فلم يجر فيها حكم العامّ كان أهلا لأن يعاقب ، فهم يحتجّون بالعامّ على العبد حتّى بعد تخصيصه في غير ما خصّص.

٦٢٤

وإنّما الكلام في وجه ذلك ، أمّا على مسلك الميرزا النائيني والآخوند قدس‌سرهما : من عدم كون ألفاظ العموم مستعملة في غير العموم ، وأنّها موضوعة لعموم المدخول ، وأنّ المدخول يختلف سعة وضيقا (١) فحجّيته ظاهرة ؛ لأنّ المدخول إذا ضاقت دائرته لم يخرج عن الحجّية من غير فرق بين المتّصل والمنفصل ، غاية الأمر أنّه في المنفصل ينكشف تقييد المدخول بعد ذلك وعند مجيء المخصّص المنفصل فهو قبل مجيئه توهم عموم للمدخول وأنّ دائرته واسعة ثمّ انكشفت حقيقة الحال بعد ذلك فظاهر إذ اللفظ بحاقّه دالّ على حجّيته في الباقي.

وأمّا على مسلكنا ـ من أنّ المتّصل من المخصّص ليس تخصيصا في الحقيقة بل هو من باب ضيق فم الركيّة ، وأنّ الإرادة الاستعماليّة والجدّية متّفقتان فيه ، وأنّ المنفصل من المخصّص وإن استعمل اللفظ فيه في العموم إلّا أنّ الإرادة الجدّية مختصّة بالخصوص وأنّ ذلك لا يضرّ بكون اللفظ مستعملا في معناه وحقيقة ـ فاللفظ بنفسه يدلّ على أنّ الباقي من الأفراد باق على حكمه السابق والدلالة حقيقة لا مجاز فيها أصلا.

وأمّا بناء على أنّ استعمال لفظ العموم في الخصوص مجاز فقد يقال بأنّ المعنى الحقيقي إذا لم يرد فالمجازات متكثّرة وتعيّن الباقي من بينها بلا معيّن ، وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره بتوضيح من الميرزا النائيني قدس‌سره لمرامه أنّ هذا المجاز ليس على حدّ غيره من المجازات الأفراديّة فإنّ لفظ الأسد مثلا قد وضع للحيوان المفترس ، فإذا علمنا بعدم إرادة المتكلّم لمعناه الحقيقي لا يمكن تشخيص المعنى المجازي المراد ؛ لأنّ المجازات حينئذ متباينة فتعيين بعضها بلا معيّن. وهذا بخلاف المجاز في لفظ العموم عند استعماله في الخصوص فإنّ دلالة العامّ على فرد غير منوطة بدلالته على الفرد الثاني ، وثبوت الحكم لبعضها أيضا لا يرتبط بثبوته للبعض الآخر. والمجازيّة في

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٥ ، وأجود التقريرات ٢ : ٣٠٩ ـ ٣١٠.

٦٢٥

المقام إنّما طرأت من خروج بعض الأفراد ، وبما أنّ الدلالة على كلّ فرد في عرض دلالته على الفرد الثاني فخروج البعض لا يوجب دفع دلالته عن الباقي ، فافهم (١).

ولا يخفى أنّ هذه المقدّمات وإن سلّمت من كون ثبوت الحكم ثبوتا لبعض الأفراد غير مرتبط بثبوته بالباقي ودلالة كذلك ، إلّا أنّ دلالة العامّ على كلّ من البعضين موقوفة على استعماله في العموم فإذا لم يكن مستعملا في العموم حسب الفرض فلا يعلم دلالته على الباقي لإمكان إرادة مرتبة أقل من تلك المرتبة مثلا فلا معيّن لإرادة الباقي ، مضافا إلى أنّ هذا إنّما يتمّ في الاستغراقي ، وأمّا العموم المجموعي فالحكم ثبوتا وإثباتا مربوط بتماميّة الأفراد والتمسّك بإرادة الباقي مشتركة بين كلا العمومين. نعم بناء على ما ذكرنا من كون الاستعمال حقيقة إمّا على مسلكنا أو مسلك الميرزا النائيني قدس‌سره يرتفع الإشكال ، فافهم وتأمّل.

بقي شيء لا بأس بالتنبيه عليه ، وهو أنّه لو علم إرادة المتكلّم للعموم جدّا وأنّ الإرادة الاستعماليّة المستندة إلى الوضع وهي إرادة تفهيم العموم والإرادة الجدّية المستندة إلى بناء العقلاء متوافقتان ولكن نعلم أنّ المتكلّم مخطئ قطعا مثلا إذا قال : «كلّ إناء في داري نجس» وعلمنا أنّه يريد العموم جدّا ولكنّه جاهل بطهارة الإناء الفلاني الذي شاهدنا وقوع المطر فيه ، فلا ريب في أنّ الدلالة المطابقيّة تسقط ، وهل تسقط الدلالة التضمّنية فلا يحكم بنجاسة بقيّة الإناءات التي لم يعلم إصابة المطر لها أم تبقى؟

الظاهر التفصيل بين كون العموم استغراقيّا منحلّا إلى إخبارات عديدة بالنجاسة وإنّما جمعها للاختصار في البيان فلا تسقط الدلالة التضمّنية حينئذ ؛ لأنّ العلم بعدم كون أحد الإخبارات صحيحا لا يوجب سقوط حجيّة بقيّة الإخبارات ، وبين ما إذا كان مجموعيّا وكان الإخبار إخبارا واحدا فلا يكون للدلالة التضمّنية حينئذ مجال ؛

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ١ : ١٣٣ ، وأجود التقريرات ٢ : ٣١١.

٦٢٦

لأنّها تابعة للدلالة المطابقيّة الزائلة قطعا الساقطة عن الحجّية. مثلا إذا قامت البيّنة على كونه قد نذر إطعام خمسين رجلا ليلة أوّل شهر رمضان وعلم أنّه لم ينذر إكرام خمسين قطعا فلا يقال : إنّه يجب عليه أن يكرم أربعين ؛ لأنّه يحتمل أنّه قد نذر إكرامهم كلّا ، لأنّ إكرام أربعين الذي قامت عليه البيّنة الأربعين في ضمن الخمسين لا مطلقا. وهذا بخلاف العموم الاستغراقي.

والسرّ في هذه التفرقة واضحة فإنّه في العموم الاستغراقي يكون الإخبار إخبارات متعدّدة بتعدّد الأفراد فسقوط أحدها عن الحجيّة لا يضرّ ببقاء الباقي من الإخبارات على حجّيته ، بخلاف العموم المجموعي فإنّ الإخبار فيه إخبار واحد فإذا فرض العلم بكذبه سقط عن الحجّية كلّية. هذا كلّه ـ يعني ما ذكرنا من حجّية العامّ المخصّص في بقيّة الأفراد ـ فيما إذا كان المخصّص معلوم المدلول.

وأمّا إذا كان مجملا فقد يكون مردّدا بين المتباينين كما إذا قال : «أكرم النساء إلّا ذات القرء» وقد يكون مردّدا بين الأقلّ والأكثر كما إذا قال : «أكرم العلماء إلّا الفسّاق» وشكّ في مفهوم الفاسق وأنّه مرتكب الكبيرة فقط أو مرتكب الصغيرة أيضا ، فحيث يكون مجملا ويكون متّصلا فلا ريب في سراية إجمال المخصّص إلى إجمال المراد من العموم بالإرادة الجدّية والاستعماليّة معا.

نعم يكون العامّ حجّة بالنسبة إلى ما قطع بعدم خروجه من الأفراد كما في غير مرتكب الصغيرة والكبيرة فإنّه واجب الإكرام قطعا بموجب العموم ، وأمّا ما احتمل دخوله تحت المخصّص فلا يمكن التمسّك فيه بالعموم لإجماله فيرجع فيه إلى الاصول العمليّة من غير فرق بين المتباينين والأقلّ والأكثر.

وأمّا إذا كان منفصلا فإن كان مرددا بين المتباينين فلا ريب في عدم كون العامّ حجّة في كلّ من المتباينين ، للعلم الإجمالي بعدم تحقّق الإرادة الجدّية بالنسبة إلى أحد المتباينين بمعنى كون الإرادة الجدّية مزاحمة بأظهر منها ، فنحن نعلم بأنّ العامّ ليس بحجّة في أحدهما قطعا فلا يكون العموم حجّة في أحدهما أصلا. وأمّا إذا دار الأمر

٦٢٧

بين التخصيص والتخصّص كما إذا ورد «أكرم العلماء» ثمّ ورد «لا تكرم زيدا» وهو مردّد بين زيد العالم وزيد البقّال فالظاهر التمسّك بعموم العامّ فيجب إكرام زيد العالم ؛ لأنّ عموم العامّ لم يعلم رافع له بحسب الإرادة الجدّية ، فيتمسّك بالعموم ويجب إكرام زيد العالم ويحرم إكرام زيد البقّال ، والعلم الإجمالي بحرمة إكرام أحدهما ينحلّ بأصالة العموم ويثبت بها وجوب إكرام زيد العالم وحرمة إكرام زيد الفاسق ؛ لأنّ لوازمها حجّة شرعا.

وأمّا إذا كان المخصّص مردّدا بين الأقلّ والأكثر فقد انعقد للعموم ظهور في العموم وبمقتضى بناء العقلاء وافقته الإرادة الجدّية فكانت موافقة لإرادة تفهيم العموم وقد زاحم هذه الحجّة حجّة اخرى أقوى فتتقدّم على تلك الإرادة الجدّية التي كانت للعموم إلّا أنّ هذه الحجّة الثانية حجّيتها بالنسبة إلى الأقلّ ، فإنّ «لا تكرم الفاسق» عند تردّد الفاسق بين كونه خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منه ومن مرتكب الصغيرة ـ مثلا ـ فدلالة «لا تكرم» إنّما تكون حجّة في خصوص ما علم دخوله في المفهوم ، وليست بحجّة بالإضافة إلى ما احتمل دخوله مع قطع النظر عن العموم. فإذا لم تكن حجّة فلم تزاحم العموم حجّة اخرى أقوى فيتمسّك بالعموم في وجوب إكرام مرتكب الصغيرة ؛ لأنّ عموم «أكرم العلماء» لم تزاحمه حجّة أقوى بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة.

وما يقال : من أنّ قوله : «لا تكرم الفاسق» بمنزلة التقييد بقوله : «أكرم العلماء غير الفسّاق» وإذا شكّ في القيد فقد شكّ في المقيّد فيسري إجماله إلى العامّ أيضا (١).

مدفوع بأنّه غير الفسّاق تكون حجّة في خصوص من علم فسقه ، أمّا من لم يعلم فسقه فليس حجّة فيه ، فيكون العموم حجّة فيه. فافهم. هذا كلّه حيث تكون الشبهة مفهوميّة.

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ١ : ١٥٥.

٦٢٨

وأمّا الشبهة المصداقيّة فإن كان المخصّص متّصلا فلا قائل بالتمسّك بالعموم حينئذ ؛ لأنّ القضيّة حقيقيّة كانت أم خارجيّة إنّما تثبت الحكم على تقدير تحقّق الموضوع ، وليست متكفّلة لتحقّق الموضوع وعدمه وإنّما تجعل الحكم بعد فرض تحقّق الموضوع.

وأمّا إذا كان المخصّص منفصلا في الشبهة الموضوعيّة فقد نسب (١) إلى المشهور التمسّك فيها بالعموم استنباطا له من تتبّع بعض الفروع الفقهيّة مثل حكمهم بالضمان فيما لو تلف ملك زيد بيد من يدّعي أنّ يده ليست يدا ضمانيّة وادّعى زيد كونها يدا ضمانيّة فقد حكموا بالضمان أخذا بعموم على اليد ، والمفروض تخصيصها باليد الأمانيّة المدّعاة. وسيأتي التكلّم في هذه الفروع بعد فراغنا عن حكم هذه المسألة الاصولية ونذكر إن شاء الله أنّ للتمسّك بالضمان في هذه المسألة وما شابهها وجها آخر غير التمسّك بالعموم ؛ ومن هنا لا يمكن المساعدة على ما نسب إلى المشهور من أمثال هذه الفروع ، نظير نسبتهم (٢) ذلك إلى صاحب العروة من بعض الفروع الغير المبتنية على ذلك أيضا.

وكيف كان ، فغاية ما يمكن أن يقرّب قولهم به أن يقال : إنّ الحكم لا يتوجّه إلى المكلّف إلّا بعد إحراز كبراه وانطباقها ، فإحراز الكبرى مثل حرمة شرب الخمر مع عدم إحراز الصغرى وهو كون هذا المائع خمرا لا تجدي في تحريم هذا المائع ، كما أنّ إحراز الصغرى ككون هذا شرب تتن لا يجدي مع عدم إحراز الكبرى وهي حرمة شرب التتن ، والسرّ في ذلك أنّ الكبرى لا تجدي ما لم يتوجّه الحكم الشخصي إلى الموضوع الخارجي.

__________________

(١) انظر المصدر السابق وحكى النسبة إلى المشهور في الأجود ، انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٢٣.

(٢) انظر العروة الوثقى كتاب النكاح ، مسألة ٥٠ ، ومباني العروة الوثقى ١ : ١١٦.

٦٢٩

إذا عرفت هذه المقدّمة فاعلم أنّه إذا ورد «أكرم كلّ عالم» فقد تحقّقت الإرادة الجدّية بعد الإرادة الاستعماليّة وأصبح العامّ حجّة في جميع أفراده ، فإذا ورد «لا تكرم شارب الخمر» مثلا وشككنا أنّ زيدا شرب الخمر أم لا فالكبرى وحدها لا تجدي ما لم يحرز انطباقها ، فإذا لم يحرز الانطباق فلا تجدي الكبرى ولكن هذا الفرد كان داخلا تحت العموم صغرى وكبرى فيكون العموم حجّة فيه ، إذ لم تزاحمه حجّة اخرى ، وهذا عين ما قدّمناه في الشبهة المفهوميّة.

ولا يخفى أنّ استثناء شارب الخمر بالدليل المنفصل لا يجتمع مع تحقّق الإرادة الجدّية للعموم ، إذ يستحيل جعل حكم للعموم بسريانه ثمّ جعل حكم مضادّ له لبعض أفراد ذلك العامّ ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ، وبما أنّ الخاصّ أظهر يرفع اليد عن عموم العامّ بالنسبة إلى ذلك الفرد. فإذا تردّد الفرد بين كونه فردا للخاصّ أم لا فقد تردّد بين كونه مرادا بالإرادة الجدّية المتحقّقة للعموم أم لا ، وحينئذ فيشكّ في حجّية العامّ بالإضافة إلى هذا المصداق الخارجي.

وما ذكر : من كون العامّ حجّة فيه دون المخصّص لعدم إحراز الصغرى (١) خلط بين معاني الحجّية ، فإنّها قد تطلق الحجّية ويراد بها التنجّز ، ولا ريب في توقّفها على إحراز الصغرى والكبرى ؛ وقد تطلق الحجيّة ويراد بها قاطع العذر من الدليل الشرعي في مقام الفتيا ، ولا ريب في عدم توقّفه على إحراز الصغرى ، ضرورة كون الحكم في مقام الفتيا إنّما يحمل على المواضيع المقدّر وجودها وليس لها نظر إلى تحقّقها خارجا وعدمه.

لا يقال : كما يكون الخاصّ في الشبهة المصداقيّة معنونا للعامّ فيصير العامّ مجملا من ناحية انطباقه على المصداق الخارجي كذلك في الشبهة المفهوميّة.

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ٢ : ١٤٨ ، وأجود التقريرات ٢ : ٣١٩ ـ ٣٢١.

٦٣٠

فإنّه يقال : إنّ المخصّص في الشبهة المفهوميّة إنّما يعنون العامّ بمقدار ما هو حجّة فيه وليس حجّة بالإضافة إلى ما زاد على مرتكب الكبيرة في المثال المتقدّم ، فإذا لم يكن حجّة فيما زاد فعنوانه للعامّ بخصوص المتيقّن ، فكأنّ المولى قال : «أكرم العلماء الّذين لا يرتكبون الكبائر» ويبقى عموم العامّ والإرادة الجدّية بالإضافة إلى الباقي غير معارضة بأقوى أصلا ؛ ولأنّ المخصّص لا بدّ وأن يكون مقيّدا لموضوع العام ومبيّنا للمراد بالإرادة الجدّية منه يكون نتيجة التخصيص هو الحكومة ، غاية الأمر أنّ الحكومة المصطلحة هي أن يكون تفسير المراد مدلولا بالدلالة اللفظيّة وهنا بنتيجتها.

وقد استدلّ للتمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة بقاعدة المقتضي والمانع بدعوى أنّ العلم لشرفه مقتض لوجوب الإكرام وأنّ الفسق لانحطاطه مانع عنه ، فإذا احرز المقتضى في فرد وشكّ في المانع يجب إكرامه ، لبناء العقلاء على أصالة عدم المانع (١).

والجواب : أنّ هذا الدليل ممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الكبرى فقاعدة المقتضي والمانع لم يثبت لها أساس في الشريعة المقدّسة لا تعبّدا ولا ببناء العقلاء ، وسيأتي التعرّض لها في الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

وأمّا الصغرى فليس مثال المخصّص المنفصل منحصرا بهذا المثال ، بل يجوز أن يكون المخصّص بلسان «وليكن العلماء عدولا» بعد قوله «أكرم العلماء» بمدّة وغير هذا المثال ممّا لا يكون مجرى لقاعدة المقتضي والمانع.

بقي الكلام في صحّة ما نسب إلى المشهور من تمسّكهم بالعموم في الشبهات المصداقيّة وعدم صحّته ، فإنّ من نسب ذلك إليهم إنّما استند إلى بعض فتاويهم.

__________________

(١) انظر معارج الاصول : ٩٩ و ٢٠٧.

٦٣١

وأقوى ما استند إليه حكمهم بالضمان فيما لو اختلف المالك ومن تلفت عنده عين المالك في كون يده يد ضمان حتّى يسلّم المثل أو القيمة أم أنّ يده ليست يد ضمان حتّى لا يجب عليه تسليم شيء؟ فقد حكم المشهور بالضمان حتّى يثبت أنّ يده لا توجب ضمانا ، ووجه التمسّك بالعموم في هذه الشبهة المصداقيّة أنّ عموم على اليد قد خصّص قطعا باليد الإجاريّة والعارية وغيرها ، فكيف يتمسّك بالعموم وهل هو إلّا تمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة؟

وقد أنكر الميرزا النائيني قدس‌سره نسبة ذلك إلى المشهور ، وزعم أنّ الفتيا بالضمان ليست مبنيّة على ذلك كما أنّها ليست مبنيّة على قاعدة المقتضي والمانع ، وقد ذكر مبنى حكمهم بالضمان وأنّ موضوع الضمان مركّب من الاستيلاء على مال الغير وعدم رضا المالك ، والاستيلاء في المقام محرز بالوجدان ، وعدم الرضا يحرز بالأصل ، فإنّ الرضا صفة مسبوقة بالعدم فيجري فيها استصحاب العدم. وكلّ موضوع مركّب إذا احرز بعضه بالوجدان وبعضه بالأصل ترتّب حكمه مثل المقام ممّا كان أحد الجزءين من صفات شخص والجزء الآخر من صفات شخص آخر (١) كما اختاره الشيخ الأنصاري قدس‌سره في بعض تحقيقاته في مسألة المؤتمّ إذا شكّ في إدراك ركوع الإمام وعدمه (٢).

ثمّ إنّ الميرزا النائيني أيّد مدّعاه بأنّ المقام من قبيل ما كان المخصّص فيه متّصلا ؛ لأنّ قوله : «على اليد ما أخذت» (٣) ظاهر في كون الأخذ بنحو الغلبة والاستيلاء لا مجرّد وضع اليد (٤).

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

(٢) انظر كتاب الصلاة (للشيخ الأنصاري) ٢ : ٤٢٧ ـ ٤٣٢.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ / ٢٤٠٠٠ ، سنن أبي داود ٣ : ٢٩٦ / ٣٥٦١ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٦٦ / ١٢٦٦ ، سنن البيهقي ٦ : ٩٠ ، ٩٥ و....

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٧.

٦٣٢

ولا يخفى أنّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره وإن كان متينا وأنّ حكمهم بالضمان ليس من باب التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة إمّا لما ذكره في معنى الأخذ أو لأنّ الوديعة خارجة من العموم قطعا ومن قبيل المخصّص المتّصل أيضا وقد حكموا بالضمان حتّى لو ادّعاها من تلفت العين عنده وقاعدة التمسّك بالعموم في المخصّص المتّصل لم يتوهّم بها أحد ، إلّا أنّه أيضا لا يمكن أن يكون مستند مذهب المشهور هو ما ذكره ؛ لأنّ المشهور لم يخصّوا الحكم بالضمان بخصوص من ادّعى استيجار العين وأنكر المالك وادّعى غصبها ، فإنّ ما ذكره الميرزا إنّما يتمّ بخصوص ذلك وفي خصوص الأمانة الشرعيّة أيضا يتمّ بأصالة عدم الإذن الشرعي ولكنّ المشهور قد حكموا بالضمان حتّى فيما اتّفقا على كون تصرّف المتصرّف كان برضا من المالك ، كما إذا ادّعى من تلفت العين عنده كونها عارية ، وادّعى المالك كونها إجارة ، فكلاهما في المثال متّفقان على كون التصرّف كان مقرونا بالرضا ، ومعلوم أنّ استصحاب عدم رضا المالك في المقام ممّا لا مجال له ، فكيف حكم المشهور بالضمان مع عدم إمكان إثبات الجزء الثاني من جزئي موضوع الضمان؟ بل وقد حكموا بالضمان أيضا فيما لو ادّعى المتلف كونها هبة وادّعى المالك كونها قرضا ممّا اتّفقا على كون تصرّف المتلف كان في ملكه إلّا أنّ العين مضمونة بالمثل أو القيمة على دعوى المالك الأوّل.

والذي يمكن توجيه كلام المشهور به من حكمهم بالضمان في جميع فروع المسألة هو استصحاب العدم الأزلي ، فإنّه عامّ لجميع فروع المسألة. فإن أجرينا استصحاب الأعدام الأزليّة ـ كما هو الحقّ ـ صحّت فتوى المشهور بالضمان في تمام الفروع ، وإن لم نجزه لم تتمّ ؛ وذلك لأنّ التسليط من المالك إذا كان بنحو المجانيّة كان التصرّف غير مضمون ، وهذا التسليط هو وصفة المجانيّة لم يكونا قطعا قبل التسليط وقد انتقض عدم التسليط القطعي بالتسليط القطعي ويشكّ في تحقّق صفة المجانيّة وعدمها ، فاستصحاب العدم الأزلي لصفة المجانيّة ينفي صفة المجانيّة ، فيكون التسليط تسليطا ليس مجانيّا ، وهو موضوع الضمان شرعا.

٦٣٣

ثمّ إنّ الكلام يقع الآن في جريان الاستصحاب في العدم الأزلي وعدمه.

ذكر الآخوند قدس‌سره جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة فيما كان الموضوع للعامّ غير مقيّد بعنوان وجودي بل بعنوان غير الخاصّ ، وهذا يكون في المخصّصات المنفصلة أو بالاستثناء من المتّصلة مثلا إذا ورد أن «كلّ امرأة تحيض إلى الخمسين» وورد «أنّ القرشيّة تحيض إلى الستّين» فإذا تردّدت المرأة الخارجيّة بين كونها قرشيّة أم لا ، فنقول : إنّه قد اخذ في موضوع التحيّض إلى الخمسين أن تكون امرأة غير قرشيّة ، فأصل المرأة كانت مسبوقة بالعدم إلّا أنّ عدمها انتقض بالوجود ، وأمّا كونها غير قرشيّة فلم يعلم انتقاضه ، فالاستصحاب يقضي بكونها غير قرشيّة ويقضي بعدم تحقّق النسبة بينها وبين قريش ، فتبقى تحت عموم ما دلّ على أنّ المرأة تحيض إلى الخمسين. نعم لو احتاج إلى انتسابها لغير قريش لم يكف استصحاب العدم الأزلي إلّا بالأصل المثبت (١).

وقد أنكر الميرزا النائيني قدس‌سره إجراء استصحاب العدم الأزلي في مثل المقام ، وقد مهّد لكلامه مقدّمات لا بأس بأن نشير إليها :

الاولى : أنّ العامّ إذا خصّص فلا بدّ من أن ترفع اليد عن عموم العامّ ، ضرورة أنّ بقاء عمومه مع العلم بتخصيصه متنافيان ؛ إذ العموم معناه وجوب إكرام كلّ فرد فرد من أفراد العالم سواء كان عادلا أم كان فاسقا ، وهذا لا يجتمع مع قوله : «إلّا الفاسق» أو قوله بدليل منفصل : «لا تكرم فسّاق العلماء» ضرورة أنّ أخذ العلماء على الإطلاق موضوع الحكم معناه أنّه بأقسامه المنقسم إليها موضوع حكمه والتخصيص مناف لذلك قطعا ، فكل تخصيص يستدعي تعنون العامّ بغير عنوان الخاصّ قطعا.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٦١.

٦٣٤

نعم ، هناك فرق بين المخصّص المتّصل كما في الاستثناء فإنّه يرفع الظهور في العموم حقيقة ، وأمّا ما كان بدليل منفصل فلا يرفع الظهور في العموم وإن رفع المراد الجدّي إلّا أنّه لا فرق بينهما في أنّهما يقتضيان تعنون موضوعهما الواقعي وهو العامّ بغير عنوان الخاصّ.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره بعض الأساطين : من كون التخصيص لا يقتضي تعنون العامّ وأنّه نظير موت فرد من أفراد العلماء لا يقتضي أن يتعنون العامّ بما عداه لخروجه عن الموضوع ، ليس بجيّد ؛ لأنّ الكلام في القضايا الحقيقيّة وليس الوجود الخارجي هو الملحوظ فيها ، وإنّما الملحوظ في القضايا الحقيقيّة المواضيع المقدّر وجودها من غير نظر إلى الوجود الخارجي وعدمه.

المقدّمة الثانية : أنّ الموضوع المركّب قد يتركّب من جوهرين أو من عرضين أو من جوهر وعرض لغير ذلك الجوهر ، وفي هذه الصور يمكن إحراز أحد جزأي ذلك الموضوع المركّب بالوجدان والآخر بالأصل.

فإذا كان الموضوع مركّبا من جوهرين كوجود زيد ووجود عمر وزيد محرز الوجود وجدانا لكن عمرا كان موجودا ويشكّ في بقائه موجودا فحينئذ باستصحاب وجوده يكمل موضوع الحكم.

وكذا إذا كانا عرضين كما في الاجتهاد والعدالة اللذين هما موضوع جواز التقليد فيحرز أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل. وكذا إذا كان الموضوع مركّبا من جوهر وعرض لغير ذلك الجوهر كما إذا كان الموضوع وجود زيد وموت عمرو في الإرث مثلا فيحرز الموت بالوجدان ووجود زيد بالأصل. ففي جميع هذه الموارد يمكن إحراز ذلك الموضوع بعضا بالوجدان وبعضا بالأصل ، كما يحرز كلا جزئيه بالوجدان فقط أو بالأصل فقط ؛ لأنّ الجوهرين والعرضين والجوهر مع عرض الآخر ليس بينهما ارتباط واتّصاف. فأخذهما في الموضوع إنّما يكون بصرف تحقّق وجودهما ، وأخذ عنوان بسيط منتزع عن اجتماعهما مثل عنوان المقارنة والاجتماع

٦٣٥

والمعيّة خلاف ظاهر جعلهما جزأي الموضوع. وهذا بخلاف ما إذا اخذ الموضوع مركّبا من العرض ومحلّه كالمرأة القرشيّة ، فإنّه يستلزم تقييد العامّ بالمرأة المتّصفة بكونها غير قرشيّة. ولا يكفي في تحقّق موضوع العامّ إحراز عدم القرشيّة بنحو العدم المحمولي الذي هو مفاد ليس التامّة ، بل لا بدّ من إحرازه بنحو العدم النعتي الذي هو مفاد ليس الناقصة ، كما أنّه بالإضافة إلى المخصّص أيضا لا بدّ من كون الوصف مأخوذا بنحو الصفتيّة ومفاد كان الناقصة لا التامّة. وقد برهن على ذلك بما لا حاجة إلى ذكره لما ستعرفه إن شاء الله.

المقدّمة الثالثة : أنّ الوجود المحمولي والعدم المحمولي بالإضافة إلى شيء واحد لا يمكن تحقّقهما للزوم الجمع بين الضدّين ولا يمكن نفيهما للزوم ارتفاع الضدّين ، إلّا أنّ الوجود الناعتي والعدم الناعتي لا يمكن جمعهما ولكن رفعهما ممكن فيقال : زيد المعدوم غير متّصف بالعلم ولا بعدمه ، والطفل قبل بلوغه ليس متّصفا بالعدالة ولا بعدمها ، لعدم قابليّة المحلّ. فالشيء قبل تحقّقه يمكن أن لا يتّصف بكلّ من الوجود الناعت والعدم الناعت ؛ لأنّ الوصف من عوارض ، الموضوع وثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له وتحقّقه في الخارج (١).

هذه هي المقدّمات التي ذكرها الميرزا النائيني قدس‌سره وقد رتّب عليها عدم جريان استصحاب الأعدام الأزليّة ، فإنّه بمقتضى المقدّمة الاولى يتعنون عنوان العامّ في المثال بالمرأة الغير القرشيّة ، وبمقتضى المقدّمة الثانية أنّها تتّصف بغير القرشيّة ، وبمقتضى المقدّمة الثالثة أنّها قبل وجودها غير متّصفة بكل من القرشيّة ولا عدمها ، فكيف يمكن استصحاب عدم القرشيّة؟

ولا يخفى أنّ المقدّمة الاولى ـ وهي أنّ تخصيص العموم يقتضي تعنون العامّ بغير أفراد الخاصّ بمقتضى الإرادة الجدّية أو تقييد المدخول ـ مسلّمة لا مناقشة فيها ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٩ ـ ٣٣٧.

٦٣٦

كما أنّ المقدّمة الثانية ـ وهي أنّ الموضوع إذا كان مركّبا من العرض ومحلّه فلا بدّ من أخذ الاتّصاف في الموضوع ـ أيضا مسلّمة ، لا لما ذكره قدس‌سره من أنّه لو لم يؤخذ وصفا ومفاد كان الناقصة للزم التنافي أو الخلف ، بل لأنّ جعل الموضوع هو العرض ، ومحلّه هو ذات جعل العرض وصفا من أوصاف المعروض ، ضرورة أنّ أخذ مطلق الوصف وإن لم يكن عارضا على ذات ذلك المعروض ليس أخذا للعرض ومحلّ ذاك العرض ، بل هو أخذ لعرض محل آخر ، إلّا أنّ نقطة النزاع بيننا وبين الميرزا قدس‌سره التي يدور جريان العدم الأزلي في مثل المقام وعدمه عليها هي أنّ تقييد الموضوع بعدم الوصف هل يقتضي تعنون العنوان بالاتّصاف بعدم ذلك العنوان أو بعدم الاتّصاف بذلك العنوان (*)؟

__________________

(*) وقد استدلّ الميرزا قدس‌سره على مدّعاه : من أنّ الباقي تحت العامّ هو المتّصف بالعدم لا غير المتّصف ، بأنّ العامّ بالإضافة إلى هذا الاتّصاف إمّا أن يلحظ كونه متّصفا به أو كونه غير متّصف به أو مطلقا لاستحالة الإهمال في الواقع ، ولا ريب أنّ ملاحظة العامّ مطلقا كملاحظته متّصفا بالوجود مقطوع العدم من جهة وجود المخصّص حسب الفرض بالقرشيّة ، فلا بدّ أن يكون الباقي متّصفا بغير القرشيّة من جهة استحالة الإهمال في الواقعيّات.

والجواب بالنقض أوّلا : بأنّ كلّ مركّب حينئذ لا يمكن استصحابه حتّى الجوهرين ، ضرورة أنّ الموضوع إذا كان زيد وعمرو فهما في الواقع إمّا أن يلاحظا بالإضافة إلى صفة الاقتران مقيّدين بها أو بعدمها أو مطلقا ، ويأتي فيه الكلام حرفا بحرف.

وبالحلّ ثانيا : وهو أنّه قد لا يكون الموضوع مقيّدا بشيء ولا بعدمه ولا مطلقا ولا مهملا بل يكون التقييد به لغوا زائدا كما مثّلنا له فيما تقدّم مثلا مستقبل القبلة في العراق لا بدّ أن يكون مستدبرا للجدي ويده اليمنى إلى المغرب واليسرى إلى المشرق إلّا أنّ تقييده به لغو لا فائدة فيه ، وحينئذ فإذا قيّد الموضوع بعدم الانتساب إلى قريش ، فالتقييد حينئذ بالانتساب إلى غير قريش لازم له ، فالتقييد به لغو ، فافهم. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

٦٣٧

الظاهر أنّ المستفاد عدم الاتّصاف لا الاتّصاف بالعدم ؛ لأنّ الاتّصاف إنّما اعتبرناه في العرض ومحلّه ؛ لأنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لغيره. وهذا بخلاف عدم ذلك العرض كما في محلّ الكلام ، فإنّ العامّ يتعنون بالمرأة التي لا تكون قرشيّة لا التي تكون متّصفة بغير القرشيّة ، والسرّ في ذلك أنّ الشارع يلاحظ الموضوع الواقعي الذي لا يخرج عن كونه متّصفا بكذا أو غير متّصف به فيلاحظ المرأة الواقعيّة ، فإن كانت قرشيّة ومتّصفة بهذا الوصف كان حكمها التحيّض إلى ستّين ، وإن لم تكن متّصفة بكونها قرشيّة فهي موضوع التحيّض إلى خمسين. وحينئذ ففي مقام الشكّ في المرأة الخارجيّة فكونها مرأة محرز بالوجدان وعدم الاتّصاف بالقرشيّة محرز باستصحاب العدم الأزلي ؛ لأنّ قرشيّة هذه المرأة كانت معدومة بانعدامها قطعا إلّا أنّ القطع بالعدم بالنسبة إلى ذات المرأة انقلب إلى القطع بالوجود إلّا أنّ انتسابها إلى قريش يشكّ في تحقّقه وانقلاب عدمه إلى الوجود ، فيستصحب عدم الانتساب إلى قريش ويتمّ الموضوع.

ومن هنا ظهر أنّ عدم القرشيّة وعدم الانتساب إلى قريش واحد ، فلا وجه لما ذكره الميرزا قدس‌سره إيرادا على الآخوند قدس‌سره : من أنّه لم لم تستصحب عدم القرشيّة واستصحبت عدم الانتساب إلى قريش ، فإنّ ملاك الاستصحاب جار فيه بعينه (١).

ووجه عدم ورود هذا الإيراد : أنّ القرشيّة باعتبار اشتمالها على ياء النسبة عين الانتساب إلى قريش وهو معنى واحد ، فتأمّل جيّدا.

كما ظهر أنّ ما ذكره الميرزا النائيني في المقدّمة الثالثة : من أنّ الوجود النعتي والعدم النعتي قد تخلو صفحة الوجود عنهما وليس من قبيل ارتفاع النقيضين فإنّ نقيض الاتّصاف عدم الاتّصاف لا الاتّصاف بالعدم ، متين ومسلّم ، ولكنّه حيث يكون مفاد الدليل الاتّصاف بالعدم بمعنى كون القضيّة من قبيل الموجبة المعدولة

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٢٩ و ٣٤٠.

٦٣٨

المحمول فإنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، وأمّا إذا كان مفاد الدليل عدم الاتّصاف من قبيل السالبة المحصّلة فلا تحتاج إلى وجود الموضوع لعدم ثبوت شيء له من الأوصاف ، بل المراد عدم اتّصافه وعدم الاتّصاف لا يحتاج إلى وجود الموضوع. هذا تمام الكلام في إجراء استصحاب الأعدام الأزليّة.

[الصلاة في اللباس المشكوك]

بقي الكلام في مسألة من المسائل الفقهيّة مبتنية على استصحاب الأعدام الأزليّة لا بأس بالتعرّض لها تبرّكا وهي مسألة الصلاة في اللباس المشكوك ، ولا يخفى أنّه قد اخذ في اللباس الذي يلبسه المصلّي أن لا يكون من غير مأكول اللحم ، إلّا أنّ الكلام في أنّ مفاد الدليل ما هو؟ وهل مفاده أنّه يعتبر في المصلّي أن لا يكون لابسا لغير المأكول ، وعليه يجرى استصحاب عدم كونه لابسا لغير المأكول حتّى على القول بعدم جريان استصحاب الأعدام الأزليّة ؛ لأنّ العدم في المقام نعتي للمصلّي.

أم أنّ مفاد الأدلّة اعتبار كون اللباس في غير غير المأكول كما هو ظاهر بعض النصوص (١) وعليه فيفرّق بين ما إذا شكّ في نفس اللباس فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم العلم باتّصاف مادّته بكونها من غير غير المأكول بناء على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي ، وبين ما إذا شكّ في شعرة وقعت عليه أنّها من أجزاء غير المأكول أو غيره فيستصحب عدم وقوع غير المأكول عليه الذي كان قطعيّا قبل وقوعها.

أم أنّ مفاد الأدلّة اعتبار كون الصلاة غير واقعة في غير المأكول ، كما هو ظاهر رواية ابن بكير الموثّقة (٢) وعليه فبناء على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي لا يجري الاستصحاب لا في نفس الصلاة لعدم اتّصافها قبل بشيء لعدم تحقّقها

__________________

(١) انظر الوسائل ٣ : ٢٥٠ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث الأوّل وغيره.

(٢) انظر المصدر السابق.

٦٣٩

ولا في اللباس ولا في عارضه ، وبناء على ما اخترناه من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة فيمكن تصحيح الصلاة على جميع هذه الاحتمالات.

وإنّما الكلام في أنّه بناء على عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة فهل يمكن تصحيح الصلاة باللباس المشكوك؟ الظاهر إمكان ذلك ، وذلك بتقريب مقدّمة ، هي : أنّ الاستصحاب كما يجري في الأعراض المفارقة ـ كالقيام والقعود والبياض والسواد ـ كذلك يجري في الصور النوعيّة كما في خمريّة الخمر ومائيّة الماء ، فمتى شكّ في زوال خمريّة هذا المائع تستصحب الخمريّة ويترتّب عليها آثارها ، وكذا مائيّة هذا المائع الذي كان ماء تستصحب أيضا ، وكذا إذا شكّ في انقلاب الكلب ملحا إذا كان في المملحة تستصحب كلبيّته. وحينئذ فقد ثبت بمقتضى الأخبار أنّ الغذاء الذي يأكله الإنسان أو بقيّة أفراد الحيوان هو الذي يتحلّل إلى أجزاء الجسم كما يظهر ذلك من أخبار الجلّال وأكل الحرام من الربا وغيره (١) وحينئذ فمتى يشكّ في أنّ ذلك الغذاء الذي تحلّل إلى جسم هذا الحيوان تحلّل إلى جسم حيوان غير مأكول فالأصل يقضي بعدم تحلّله إلى جزء حيوان غير مأكول اللحم ، ولا يعارضه أصالة عدم تحلّله إلى جزء حيوان مأكول لعدم الأثر له ؛ لأنّ الأثر مترتّب على مانعيّة جزء غير المأكول لا على شرطيّة كونه جزء مأكول. ولو تنزّلنا عن هذا الاستصحاب فحيث استظهرنا من الأخبار المانعيّة وبما أنّها انحلاليّة ففي مقام الشكّ في مصداق أنّه مانع أم لا الأصل البراءة من مانعيّته ، وسيأتي في مبحث البراءة إن شاء الله جريانها في المانعيّة.

هذا تمام الكلام في جواز الصلاة في اللباس المشكوك ، وآخر الكلام في استصحاب الأعدام الأزليّة ، وقد عرفت أنّ الأقوى جريانها.

__________________

(١) انظر الوسائل ١٦ : ٣٠٤ ، الباب ٢٧ و ٢٨ من أبواب الأطعمة والأشربة و ١٢ : ٤٢٧ ، الباب الأول من أبواب الربا ، الحديث ١٥ و ١١٩ ، الباب ٣٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢ وغيره.

٦٤٠