غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

الثاني : أنّه ربّما يبنى الكلام في تداخل الأسباب وعدمه على أنّ الأسباب الشرعيّة أسباب أم معرّفات ، فعلى الأوّل لا تداخل ، وعلى الثاني فالتداخل جائز (١) ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ كون الأسباب الشرعيّة من باب الأسباب لا معنى له فإنّ الكفّارة لا يحدثها الإفطار ، وإنّما يحدثها أمر الشارع بها فليس الإفطار سببا ، فليس علّة موجدة ولا علّة غائيّة ؛ لأنّ العلّة الغائيّة فيها هي المصالح المترتّبة عليها. كما أنّ كونها معرّفات بمعنى أنّها تكون معرفة عن موضوع الحكم بحيث يكون الحكم الشرعي عندها ؛ لأنّ عند الزوال مثلا يقترن الكوكب الفلاني مع الكوكب الفلاني ووجوب صلاة الظهر من تلك الجهة ، وقد جعل الزوال معرّفا لذلك خلاف ظاهر الأدلّة الشرعيّة ، فإنّ ظاهر الأدلّة الشرعيّة كون المأخوذ في الحكم هو نفس الموضوع. فالظاهر أنّ ما ذكر ونسب إلى فخر المحقّقين (٢) ليس هو الميزان في التداخل وعدمه ، وإنّما الميزان أنّ الجملة الشرطيّة لها ظهوران : أحدهما : الحدوث للجزاء عند حدوث الشرط ، الثاني : أنّه بما أنّ الطبيعة الواحدة لا يمكن أن يتوجّه الأمر نحوها مرّتين إلّا إذا حصّصت ، وإلّا لزم اجتماع المثلين وهو محال فلا بدّ عند توجّه أمرين من فرض تحصّصها بحصّتين يكون كلّ أمر متّجها نحو حصّة. وحينئذ فظهورها في كون الوجوب متّجها نحو الطبيعة من غير تحصّص مع ظهورها في الحدوث عند الحدوث لا يمكن ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما فيقع الكلام في ذلك ، ويكون هذا هو مبنى المسألة.

إذا عرفت هذين الأمرين فيقع الكلام فيما يستظهر من الأدلّة بعد أن عرفت أنّ مقتضى الأصل العملي هو وحدة التكليف لأصالة البراءة من التكليف الثاني ، فنقول : إنّ محلّ الكلام هو ما إذا كان السبب قابلا للتعدّد ، أمّا ما لا يقبل التعدّد مثل

__________________

(١) انظر المنتهى ١ : ١٠٧ ، والمسالك ١ : ١٩٩ ، وعوائد الأيام : ٢٩٤ وغيره.

(٢) انظر الإيضاح ١ : ٤٨.

٦٠١

قوله : «من أفطر في نهار شهر رمضان متعمّدا» بناء على أنّ المراد به نفس الإفطار لا كناية عن الأكل فليس داخلا في محلّ الكلام ؛ إذ بالأكل قد أفطر فلا يكون الأكل الثاني ولا الارتماس مفطرا حينئذ.

إذا عرفت هذا فنقول : الأقوال في المسألة ثلاثة : استظهار التداخل من الأدلّة. واستظهار عدم التداخل. والتفصيل بين تعدّد السبب جنسا فالتعدّد واتّحاده جنسا فالتداخل ، نظرا إلى أنّ الطبيعة هي موضوع الحكم والطبيعة لا تتعدّد بتعدّد أفرادها ، فلو أتى بالطبيعة مرّتين فالطبيعة لم تتعدّد فلم يتحقّق إلّا موضوع واحد ، بخلاف ما إذا كان الفردان من طبيعتين فإنّ كلّ فرد محقّق لطبيعة ، والمفروض أنّ كلّ واحدة من الطبيعتين موضوع لحكم الشارع ، فتكرّر الحكم حينئذ لتكرّر موضوعه.

ولا يخفى أنّ هذا التفصيل لا وجه له ؛ لأنّه إذا استظهرنا من الأدلّة كون كلّ من الموضوعين باستقلاله موضوعا لحكم الشارع مثلا فبإطلاقه يقتضي حدوث الحكم سبقه موضوع آخر أم لا ، فبحدوثه يحدث الحكم سواء سبقه موضوع آخر أم لم يسبقه. هذا إذا كان الجنس متعدّدا ، وكذا إذا تعدّد الفرد من جنس واحد فإنّ مقتضى جعل الحكم متعلّقا بالطبيعة كون الطبيعة موضوعا للحكم ، وحينئذ فهي منحلّة إلى كلّ فرد فرد من أفراد تلك الطبيعة ، فإنّها من قبيل القضايا الحقيقيّة كما في غير هذا المورد ، فإنّ كلّ موضوع لحكم شرعي ينحلّ الحكم فيه إلى أحكام بتعدّد أفراده من غير فرق بين كون القضيّة إخباريّة أم إنشائيّة. ولا يخفى أنّ هذا الظهور هو الذي يفهمه العرف من مثل هذه الجمل ، ومقتضاه نفي القول بالتفصيل ونفي القول بالتداخل. فيقع الكلام في أنّ هذا الظهور له معارض ليرفع اليد عنه أم لا؟

فنقول : ذكر القائلون بالتداخل أنّ هذا الظهور معارض بظهور الجملة بطلب صرف وجود الطبيعة وصرف الوجود غير قابل للاثنينيّة كما هو واضح ، فظهور الجزاء في الجملة الشرطيّة مثلا بصرف الوجود الغير القابل للاثنينيّة عقلا يكون رافعا لظهور الجملة الشرطيّة في تكرار الحكم ، فيرتفع ظهورها في الحدوث عند

٦٠٢

الحدوث ، وإلّا لزم اجتماع المثلين وهو محال ، فإذا ارتفع الظهور فالمرجع هو الأصل العملي وهو وحدة التكليف لأصالة البراءة.

والجواب : أنّ صرف الوجود لا تدلّ عليه المادّة لعدم دلالتها على أزيد من الطبيعة ، ولا تدلّ عليه الهيئة لعدم دلالتها على أزيد من الطلب كما ذكره القوم. وعلى اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف على ما ذكرناه فصرف الوجود غير مدلول لمادّة الجملة الإنشائيّة ولا لهيئتها ، والاكتفاء بالوجود الأوّل من جهة انطباق الطبيعة على أوّل الوجودات ، فافهم.

وحينئذ فلا مانع من أن يعتبر المولى في ذمّة المكلّف الطبيعة مرّتين ويكون مقتضى اعتبارها مرّتين أن يأتي بها المكلّف مرّتين من غير تعيين للأوّل ولا للثاني ، وإنّما يأتي بالطبيعة مرّتين نظير من استقرض من شخص خمسة دراهم ثمّ أتلف له شيئا قيمته خمسة دراهم فقد شغلت ذمّته بخمسة دراهم مرّتين فإذا أدّى خمسة دراهم بقيت عليه خمسة اخرى من غير تعيين لها أنّها للقرض أو للإتلاف لعدم التمييز في الواقع أصلا.

ثمّ إنّه ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره أنّه على تقدير التنزل وتسليم أنّ صرف الوجود مدلول للجملة فإنّه من باب عدم البيان فظهورها في التكرار يكون بيانا (١) ، ولا يخفى ما في هذا التنزّل ، فإنّ الصحيح هو الأوّل ، يعني إنكار دلالة الجملة على صرف الوجود وبه يرتفع المحذور ، وهذا الذي ذكرناه هو توضيح كلام العلّامة قدس‌سره فراجع.

ثمّ إنّ هذا الكلام كلّه كان في بيان أنّ التكليف واحد أم متعدّد ، وقد ظهر أنّ مقتضى الأصل العملي هو وحدة التكليف ؛ لأصالة البراءة ممّا زاد على المتيقّن.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

٦٠٣

ومقتضى الظهور اللفظي هو تعدّد التكليف ، ثمّ إذا ثبت تعدّد التكليف فهل يمتثل التكليفان بفرد واحد أم لا؟ ومقتضى الأصل العملي هنا هو عدم السقوط لاستصحابه ، إلّا أنّ الكلام في الظهور اللفظي فنقول : إنّ الظهور في المقام مختلف فإنّ متعلّقي التكليف لهذين التكليفين لا بدّ أن يكون بينهما إحدى النسب الأربعة :

فإن كانا متساويين كما إذا قال : «أكرم رجلا» ثمّ قال ثانيا بتكليف ثاني : «أكرم رجلا» بحيث إنّ هناك عقابين بمخالفتهما فمقتضى القاعدة في المقام والظهور العرفي لزوم إكرامين لهذه الطبيعة ، فبأحد الإكرامين يمتثل أحد الإكرامين ، ويبقى الواجب الثاني بغير امتثال ، وإن لم يتعيّن ما امتثل ممّا لم يمتثل لعدم المائز الواقعي بينهما والتداخل في المقام ، مضافا إلى كونه خلاف ظاهر اللفظ عرفا غير معقول ، للزوم اللغويّة حينئذ في الأمر الثاني ، إذ لو كان غرض المولى يحصل بأحد الإكرامين يكون أمره الثاني لغوا.

وإن كانا متباينين فهو أجنبيّ عن باب التداخل لعدم وحدة في الامتثال ، نعم قد يكون امتثال أحد التكليفين موجبا لسقوط التكليف الثاني لكنّه محتاج إلى بيان ، وإلّا فصرف اللفظ لا يقتضي ذلك.

وإن كان بينهما عموم مطلق كما إذا ورد : أكرم عالما ، ثمّ ورد بتكليف ثاني غير الأوّل : أكرم عالما هاشميّا ، فهنا لو أكرم أوّلا عالما غير هاشمي فلا بدّ من إكرام العالم الهاشمي بعد ذلك ، لعدم سقوط أمره. أمّا لو أكرم عالما هاشميّا فلا ريب في التداخل حينئذ ؛ لأنّه بعد أن كان الأمر الأوّل مطلقا بالإضافة إلى كونه هاشميّا وعدمه فالترخيص في التطبيق إلى المكلّف ، وقد ذكرنا أنّ الفرد الخارجي ليس بمأمور به وإنّما يكون به الامتثال ، لانطباق الطبيعة المأمور بها عليه. فإكرام العالم الهاشمي يمكن أن يكون امتثالا للأمر الأوّل وللأمر الثاني أيضا ، فينطبق كلا المأمور بهما عليه ، ولا يرد مثله في المتساويين للزوم اللغويّة المنفيّة في المقام بإمكان إكرام عالم غير هاشمي أوّلا فيكون الأمر الثاني بمحلّه.

٦٠٤

وإن كان بينهما عموم من وجه فالكلام الكلام فإذا قال المولى : أكرم عادلا ، وقال ثانيا : أكرم عالما ، فلو أكرم العادل الغير العالم ، وأكرم العالم الغير العادل فقد سقط التكليفان لتحقّق امتثالهما ، وإن أكرم العالم العادل فقد سقط كلا التكليفين ؛ لأنّ أمر «أكرم عالما» مطلق بالإضافة إلى العادل وغيره ، وكذا أكرم عادلا مطلق بالإضافة إلى العالم وغيره ، فقد رخّص في تطبيق كلّ من الطبيعتين بما يجتمع مع الآخر بمقتضى الإطلاق. فهذا الفرد الخارجي ـ وهو إكرام العالم العادل ـ قد انطبق كلّ من التكليفين عليه ، فلا بدّ من سقوطهما معا. ومن هذا القبيل ما ذهب إليه بعضهم من إمكان نيّة صلاة الغفيلة بنافلة المغرب ؛ لأنّه لم يشترط في نافلة المغرب أن لا يقرأ فيها الآيات المعتبرة في صلاة الغفيلة والنسبة عموم مطلق ، فإذا أتى بها بنيّة نافلة المغرب فقد أتى بكلّ منهما (١) هذا في غير الامور القصديّة.

وأمّا الامور القصديّة فلا ريب في توقّفها على القصد كما ورد النصّ بذلك في الغسل (٢) ، فإذا قصد المكلّف بغسله الجنابة والحيض والجمعة والعيد ومسّ الميّت أجزأه ذلك الغسل قطعا ، وإن قصد بعضها لم يجزئ في غير الجنابة ، فإنّها مجزئة للنصّ بذلك أيضا (٣). وهل الوضوء كالغسل فيعتبر فيه قصد رفع الحدث من جهة النوم ، ومن جهة البول ، ومن جميع جهات الحدث ، فرفع جهات الحدث فيه موقوف على القصد أم لا؟ فلو قصد بعضها دون الآخر فهل يصحّ وضوؤه أم لا؟ وجهان بل قولان : فقول بالصحّة ؛ لأنّ قصد رفع الحدث متحقّق وهو لا يتبعّض ، وقول بالبطلان ؛ لأنّ قصد رفع حدث النوم بخصوصه دون حدث البول تناقض ، فيبطل لذلك لأوله إلى عدم قصد رفع الحدث. وقد اختار الميرزا النائيني

__________________

(١) انظر الجواهر ٧ : ٤٠ ـ ٤١.

(٢) انظر الوسائل ١ : ٥٢٥ ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة.

(٣) انظر المصدر السابق.

٦٠٥

البطلان لذلك (١) ، والظاهر صحّة الوجه الأوّل وصحّة الوضوء ؛ لأنّ التناقض وإن كان متحقّقا كما أفاده الميرزا النائيني قدس‌سره إلّا أنّه لا يعتبر في صحّة الوضوء ورافعيّته للحدث إلّا إتيان أفعال الوضوء بنيّة صالحة كما في الخبر (٢) ولا يضرّ نيّة عدم الرفع ؛ لأنّ ترتّب رفع الحدث على الوضوء الصحيح ترتّب قهري ، فافهم فإنّه لا يخلو عن دقّة وتأمّل.

فصل في مفهوم الوصف

إذا علّق الحكم على وصف فهل يقتضي انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف أم لا؟ وقبل ذلك والخوض فيه ينبغي ذكر امور :

الأوّل : أنّ الكلام في الوصف المعتمد على موصوف ، فمثل الوصف الغير المعتمد خارج عن محلّ الكلام. وما قيل : من أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية (٣) وإن كان صحيحا إلّا أنّ مجرّد العلّية لا يثبت بها المفهوم ما لم يعلم انحصارها وهو معلوم.

ثمّ إنّه لا بدّ من كون الوصف مقتضيا للتضييق بالنسبة إلى الموصوف ، فمثل الوصف المساوي للموصوف ـ كأكرم الإنسان الكاتب بالقوّة ـ أو الأعمّ مثل أكرم الإنسان الماشي بالقوّة فهو كغير المعتمد على الموصوف خارج عن محلّ الكلام ، فمحلّ الكلام هو الوصف الأخصّ مطلقا ـ كأكرم الإنسان العالم ـ أو الأخصّ من وجه كأكرم الرجل العادل. فيقع الكلام حينئذ في أنّ أكرم الرجل العادل هل يتكفّل بيان حكمين ـ أحدهما إيجابي وهو إكرام الرجل العادل ، والآخر سلبي وهو حرمة

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٧٢.

(٢) انظر الوسائل ١ : ٣٥ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٢.

(٣) انظر اللمعة الدمشقية وشرحها ١ : ٣٣ في مصادر التحقيق والحاشية على تهذيب المنطق : ٨.

٦٠٦

إكرام غير العادل ـ أو أنّه لا يتكفّل إلّا حكم المنطوق وأنّ موضوع حكمه مخصّص بهذه الخصوصيّة ويكون غير واجد الخصوصيّة مسكوتا عنه فجاز أن يثبت بدليل آخر وجوب إكرامه أيضا.

الثاني من الامور : أنّ مسألة مفهوم الوصف أجنبيّة عن مسألة أنّ الأصل في القيود كونها احترازيّة ، وكذا هي أجنبيّة عن أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية.

أمّا الثاني فواضح ، وقد مرّ أنّ صرف العلّية لا تقتضي المفهوم ، بل لا بدّ من انحصارها.

وأمّا كون الأصل في القيود كونها احترازيّة فهي أيضا أجنبيّة عن محلّ الكلام ؛ لأنّها قيلت في مقام احتمال أنّ المولى إذا قال : «ائتني بماء بارد» أنّ قصده وطلبه قد تعلّق بمطلق الماء ، وإن ذكر البارد ؛ لأنّ الحارّ مثلا بعيد المسافة لا لخصوصيّة في البارد. ولا ريب أنّ هذا خلاف ظاهر اللفظ ، فإنّ ظاهر قوله : «ائتني بماء بارد» كون قيد البرودة مقصودا بالطلب لا أنّ الطلب مطلق إلّا أنّ هذا لا يقتضي إلّا تقييد موضوع المنطوق.

وأمّا دلالته على المفهوم ـ وهو انتفاء سنخ الحكم عن غير محلّ الوصف ـ فلا ، ومن هنا نقول بكون القيد ظاهرا في الاحتراز ، ولا نقول بمفهوم الوصف كما سيأتي.

ثمّ إنّ الوصف إذا كان أعمّ من وجه من الموصوف كما في أكرم الرجل الطويل مثلا ، فعلى تقدير القول بالمفهوم إنّما ينفي الحكم عن الرجل القصير بالدلالة المفهوميّة ، وأمّا المرأة القصيرة فلا يدلّ المفهوم على نفي الحكم عنها.

فما يظهر من بعض الشافعيّة (١) : من نفي الزكاة عن الإبل المعلوفة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : في الغنم السائمة زكاة (٢) ليس بصحيح ؛ لأنّ انتفاء الوصف عن الموضوع هو الدلالة

__________________

(١) انظر التذكرة ٥ : ٤٦ ، والمعتبر ٢ : ٥٠٥ في الشرط الثاني من شروط وجوب زكاة الأنعام.

(٢) انظر الوسائل ٦ : ٨٠ ، الباب ٧ من أبواب زكاة الأنعام ، وفي الحديث ٥ منه : «إنّما الصدقات على السائمة الراعية».

٦٠٧

المفهوميّة على تقديرها ، وأمّا نفي الحكم لنفي الوصف عن غير الموضوع فلا هو من دلالة المفهوم ولا المنطوق ، فافهم.

ثمّ إنّ الوصف الذي هو محلّ الكلام ليس خصوص الوصف النحوي ، بل مطلق ما يكون مقيّدا جيء به للاحتراز وإن كان جامدا ، فيدخل فيه مثل الجارّ والمجرور في قوله : صلّ إلى القبلة مثلا. فلو ابدل بالقيد فقيل : مفهوم القيد كان أوضح دلالة على المقصود (١).

ثمّ [إنّ] الظاهر أنّ الوصف الذي ذكرناه لا يدلّ على المفهوم أصلا ؛ (لعدم الفرق في نظر العرف بين قولنا : «أكرم إنسانا ، وأكرم حيوانا ناطقا» في كون المفهوم لزوم إكرام الإنسان ، أمّا إكرام غيره فمسكوت عنه من غير دلالة على نفيه. نعم لو اريد من المفهوم أنّ للوصف دخلا في الحكم فليس وجوب الإكرام في «أكرم الرجل العالم» ثابتا لمطلق الرجل ، بل للعلم مدخليّة فيه ، فلا ريب في ظهور الجملة الوصفيّة في ذلك ، فافهم) (٢).

نعم ، إن كان القيد قيدا للحكم فمقتضى تقييد الحكم بذلك القيد انتفاؤه عن غير مورد القيد ، وقد ذكرنا مرارا إمكان رجوع القيد إلى الحكم ؛ لأنّ الحكم الذي هو اعتبار شيء على المكلّف يمكن أن يكون ذلك الاعتبار مطلقا ، ويمكن أن يكون الاعتبار على تقدير من التقادير ، فلا مانع منه. وأمّا إذا كان القيد قيدا للموضوع أو قيدا للمتعلّق فالأوّل نظير قوله : «المالك لمائتي درهم يجب عليه الزكاة» والثاني مثل قوله : «صلّ إلى القبلة» فلا يدلّ إلّا على أنّ موضوع الحكم خاصّ بهذا ، فهو ساكت عن غيره لا أنّه يقتضي نفي الحكم عن غيره لعدم دلالته على انحصار علّة الحكم ولو استفيدت العلّية في بعض الأوصاف ـ وهي الأوصاف النحويّة ـ إلّا أنّ صرف العلّية لا يجدي ما لم يثبت الانحصار.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣٨ ، الباب ١٣ من أبواب مكان المصلّي ، الحديث ٣.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٠٨

وبالجملة ، فمحلّ الكلام في الوصف لا يدلّ على المفهوم إلّا أن يثبت انحصار علّة الحكم في الوصف.

وأمّا ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره : من ثبوت المفهوم في صورة انحصار العلّة وفي صورة كون القيد راجعا إلى الحكم (١) فصحيح بالنسبة إلى انحصار العلّة كما قرّرنا ، ولكنّه بالإضافة إلى رجوع القيد إلى الحكم فهو وإن صحّ كبرى إلّا أنّ هذه الكبرى لا مصداق لها فيما هو محل الكلام من الأوصاف ، فإنّ إرجاع القيد فيها إلى الحكم ولو بالقرينة ملحق بالغلط في المتفاهمات العرفيّة في اللغة العربيّة وغيرها.

هذا تمام الكلام في مفهوم الوصف.

(وقد استدلّ القائلون بحجّية مفهوم الوصف بلغويّة ذكر الوصف إن لم ينتف الحكم بانتفائه ، وهذا الدليل موقوف على عدم تحقّق فائدة لذكر القيد إلّا الانتفاء عند الانتفاء. وبكون القيود احترازيّة ، وقد تقدّم جوابه. وبكون تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية ، وقد تقدّم جوابه أيضا) (٢).

وقد وقع الفراغ من تحريره على يد محرّره محمّد تقي في الثلث الأوّل من ليلة الأربعاء المصادفة ليلة السادسة والعشرين من شهر ذي الحجة من شهور سنة الألف والثلاثمائة والحادية والسبعين هجريّة على مهاجرها أفضل الصلاة والتحيّة ـ نجف ـ محمد تقي آل صاحب الجواهر. ومن الله نستمدّ التوفيق فإنّه الكفيل بالهداية إلى سبيله لمن جاهد واجتهد وهو وليّ التوفيق ، والحمد لله أوّلا وآخرا ، والصلاة والسلام على محمّد وآله باطنا وظاهرا ، واللعنة الدائمة على أعدائهم غائبا وحاضرا.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٧.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٦٠٩

في مفهوم الغاية

هل الجملة المغيّاة بغاية تدلّ على انتفاء الحكم عمّا بعد الغاية أم لا؟ ولا يخفى أنّ الجملة المغيّاة بغاية فيها نزاعان :

أحدهما : راجع إلى المنطوق ، وهو أنّ الغاية داخلة في المغيّا في الحكم أم خارجة عنه؟

الثاني : نزاع المفهوم.

ولنقدّم الكلام في الثاني ، فنقول : هل تدلّ الجملة المغيّاة بغاية على أنّ ما بعد الغاية أو أنّ الغاية وما بعدها محكوم بخلاف الحكم المذكور قبل الغاية أم لا تدلّ؟ قد ذكرنا في مفهوم الشرط ضابطة للقول بالمفهوم وعدمه ، وهو : أنّ القيد إن كان قيدا للحكم فلا بدّ من انتفاء الحكم عند انتفائه ، وإلّا لم يكن قيدا له وهو خلاف الفرض ، وإن كان قيدا للموضوع أو للمتعلّق فلا يدلّ على أزيد من حكم المنطوق ؛ إذ إثبات شيء لشيء لا يلزم منه نفيه عمّا عداه. وقد استظهرنا أنّ الشرط راجع إلى الحكم فحكمنا بحجّية المفهوم في الجملة الشرطيّة ، وأنّ القيد راجع إلى الموضوع أو المتعلّق في الجملة الوصفيّة ومن ثمّ لم نحكم فيها بحجيّة المفهوم.

ولكن مفهوم الغاية وسط فلا يمكن أن يدّعى ظهوره في أحد الأمرين بل يختلف باختلاف المقامات :

فإن علم رجوع القيد فيها إلى الموضوع أو المتعلّق مثل قوله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) فإنّ اليد لمّا كانت قد تطلق على المجموع إلى الكتف وتطلق على بعضها كالكفّ والأصابع وإلى المرفق حدّد الموضوع فيها فحكم بوجوب غسل هذا الموضوع فلا تدلّ الجملة على نفيه عمّا عداه كمفهوم الوصف.

__________________

(١) المائدة : ٦.

٦١٠

وإن لم يعلم ذلك فإن كان الحكم في الجملة مستفادا من الهيئة الذي هو معنى حرفي فالظاهر من جميع القيود كونها راجعة إلى الفعل ومادّة الهيئة ؛ لأنّها من ملابسات الأفعال وحينئذ فلا دلالة لها على المفهوم ، وإن لم يكن مستفادا من معنى حرفي بل من معنى اسمي فإن لم يكن المتعلّق مذكورا في الكلام ـ كأن قال : يحرم الخمر إلى أن يضطرّ إليه مثلا ـ فهو ظاهر في رجوع القيد إلى الحكم فتدلّ على المفهوم ، وإن كان المتعلّق مذكورا كأن قال المولى : «يجب الصيام إلى الليل» فالجملة محتملة لأن يرجع القيد فيها إلى الوجوب وأن يرجع فيها القيد إلى الواجب أيضا ولا معيّن من ظهور عرفي في أحدهما ، وحينئذ فإن كان هناك معيّن من قرينة حاليّة أو مقاليّة تدلّ على رجوعه إلى الوجوب عمل به فحكم بالمفهوم ، وإن كان هناك قرينة حاليّة أم مقاليّة تدلّ على رجوعه إلى الواجب حكم بمقتضاه وأن لا مفهوم ، وإن لم يكن قرينة أصلا كان الكلام مجملا فلا يدلّ على المفهوم. هذا تمام الكلام في النزاع في دلالة الغاية على المفهوم وعدم الدلالة.

وأمّا الكلام في النزاع الثاني (١) وهو دلالة المنطوق من أنّ الغاية داخلة في المغيّا أم أنّها خارجة عنه ، ولا يخفى أنّ هذا النزاع إنّما يتصوّر حيث تكون الغاية غاية للموضوع مثل قوله : (إِلَى الْمَرافِقِ) فيتكلّم في أنّ المرفق داخل في اليد حتّى يجب غسلها أم غير داخل فلا يجب غسل المرفق.

أو تكون غاية للمتعلّق مثل «صم إلى الليل» فإنّ الليل وإن لم يتصوّر كونه داخلا في الصوم إلّا أنّه داخل فيه حكما ، بناء على دخول الغاية في المغيّا.

وأمّا إذا كانت الغاية غاية للحكم فلا يتصوّر أن تكون غاية الحكم داخلة في الحكم موضوعا أو حكما ، ومن هنا ينحصر النزاع في دخول الغاية في المغيّا فيما تكون الغاية غاية للموضوع أو غاية للمتعلّق ولا مجال له حيث يكون غاية للحكم أصلا.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : الأوّل.

٦١١

وبالجملة : فالأقوال في المسألة كثيرة ، منها : القول بالدخول على الإطلاق ، والقول بالخروج على الإطلاق ، والتفصيل بين كون الغاية من جنس المغيّا فتدخل أو من غير جنسه فلا تدخل ، والتفصيل بين كون أداة الغاية «حتّى» فتدخل الغاية ؛ لأنّها موضوعة لإدخال الفرد الخفيّ أو «إلى» فلا تدخل الغاية ، واستقربه الميرزا النائيني قدس‌سره (١).

والظاهر أن لا قاعدة كلّية يمكن أن يستند إليها في دخول الغاية في المغيّا وخروجها عنه فلا بدّ من الاستناد في ذلك إلى قرائن المقام ، ومع انتفائها يحكم بإجمال اللفظ والرجوع إلى الأصل العملي. وما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره لا يخفى ما فيه فإنّ «حتّى» المستعملة في إدراج الفرد الخفيّ هي «حتّى» العاطفة كما في قولك : مات الناس حتّى الأنبياء ، وليس فيها دلالة على الغاية أصلا.

في مفهوم الحصر

لا ريب في دلالة «إنّما» على الحصر وإن اختلف في كونها كلمة برأسها أو مركّبة من «أن» و «ما». كما أنّه لا ريب في دلالة «إلّا» على الحصر حيث تكون استثنائيّة لا وصفيّة ، وتكون دالّة حينئذ على مخالفة حكم المستثنى منه للمستثنى. وهل دلالتها على الحصر مستند إليها وإنّها موضوعة لذلك مثل «إنّما» أم إنّها موضوعة لإثبات خصوصيّة في المستثنى منه تستدعي تلك الخصوصيّة تخصيص الحكم بالمستثنى منه فينتفي عن المستثنى؟ لا يترتّب على ذلك ثمرة مهمّة تستدعي البحث عن ذلك.

وقد نسب الخلاف إلى الإمام الرازي فزعم أنّ «إنّما» لا تدلّ على الحصر وقد ذكر ذلك في تفسيره في آية : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(٢) فإنّه بعد أن رمى كلّ سهم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٩.

(٢) المائدة : ٥٥.

٦١٢

في كنانته في منع نزولها في عليّ عليه‌السلام ، وبعد تسليم نزولها زعم أن لا حصر ؛ لأنّ إنّما لا تدلّ على الحصر. واستدلّ على عدم إفادتها الحصر بقوله تعالى : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ)(١) فإنّ الحياة الدنيا ليست منحصرة في ذلك بل فيها عبادة وتقوى وصلاح وعلم وغير ذلك (٢)(*).

وفيه : أوّلا النقض بقوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)(٣) مع تسليمه دلالة إلّا على الحصر.

__________________

(١) الحديد : ٢٠.

(٢) التفسير الكبير ١٢ : ٢٥ ـ ٣٠.

(*) لا يخفى أنّ الموجود في تفسير الرازي إصراره على عدم دلالة هذه الآية على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام وقد ذكر في توجيه مدّعاه امورا لا تليق بمقامه العلمي ، منها : إنكار دلالة (إنّما) على الحصر ، وقد استدلّ بورودها لغير الحصر في القرآن بآيتين :

الاولى : هي قوله : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ) [يونس : ٢٤] بتقريب أنّه لا ينحصر مثل الحياة الدنيا بذلك بل كلّ فان فهو مثل من أمثال الحياة الدنيا.

وفيه : أوّلا : أنّ المراد من الدنيا (فعلى) صفة للحياة لا الإضافة ، وثانيا : أنّه إنّما حصر مثلها بمشابه الماء فكأنّه قال : كلّ مثل يذكر للحياة الدنيا هو مضافة مثل الماء إلى آخره. وهذا لا إيراد عليه ، نعم لو حصر مثل الحياة الدنيا بنفس الماء لكان الإيراد متوجّها إلّا أنّ الكاف بقوله : (كَماءٍ ...) إلى آخره ، رفع الإشكال.

الثانية : الآية التي ذكرناها بتقريب أنّ اللهو واللعب ليس منحصرا في الدنيا بل يجوز أن يكون في الجنّة لهو ولعب أيضا. والجواب هو ما ذكرناه في المتن. وأمّا الحصر فهو حصر الحياة الدنيا في اللهو واللعب لا حصر اللهو واللعب في الدنيا كي يتمّ ما ذكره من وجود اللهو واللعب في الجنّة أيضا ، فافهم وتأمّل.

(٣) الحديد : ٢٠.

٦١٣

وثانيا بالحلّ ، والظاهر أنّ تعصّبه أعماه عن الحقّ فإنّ الحياة في المقام ليست مضافة إلى الدنيا ليكون المراد بها الحياة في الدنيا ، وإنّما الدنيا بمعنى الدنيّة صفة للحياة ، والمراد إنّما الحياة الدنيئة لعب ولهو ، ولا ريب في أنّ الحياة الدنيئة منحصرة بما ذكر ، كيف تكون مضافة مع اقترانها باللام الذي لا يجتمع مع الإضافة كما قرّر في النحو ، ولكنّ التعصّب قد يبلغ بالإنسان حدّا يعمي فيه بصره مضافا إلى عمي بصيرته. اللهمّ إنّي أعوذ بك من هذا التعصّب الأعمى فإنّ إنكار دلالة إنّما على الحصر إنكار لبداهة اللغة العربيّة وضرورتها ، والرازي لا ينكر أدبه ومعرفته باللغة وأدبيّاتها ولكنّ التعصّب يعمي ويصمّ ويخرس.

وأمّا «إلّا» فدلالتها على الحصر وكون ما بعدها مخالفا لما قبلها حكما أمر عرفي لا يرتاب فيه ذو مسكة أصلا ، وقد خالف أبو حنيفة فزعم أنّها لا تفيد الحصر واستدلّ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا صلاة إلّا بطهور» (١) وأنّه لو دلّت على الحصر للزم أن يكون الطهور صلاة وإن لم يضمّ إليه بقيّة الأجزاء والشرائط (٢).

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الضعف فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقل : «لا صلاة إلّا طهور» ليتوهّم هذا المعنى وإنّما قال : «لا صلاة إلّا بطهور» فقرنه بالباء التي هي بمعنى «مع» أي لا صلاة إلّا مع الطهور نظير قوله : «لا عمل إلّا بنيّة» (٣) فهو لا يقتضي أنّ النيّة هي العمل إلى غير ذلك من الأمثلة.

وقد استدلّ على إفادة إلّا الحصر بقبول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من نطق بكلمة التوحيد ، فلولا إفادتها الحصر لم يكن معنى للقبول (٤). ولا يخفى أنّ دلالة «إلّا»

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٥٦ ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث ١ و ٦.

(٢) انظر المستصفى من علم الاصول : ٣٢٩ ، ونهاية الوصول (مخطوط) : ١٥١ ، وشرح مختصر الاصول ١ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٣) الوسائل ١ : ٣٣ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث الأوّل.

(٤) مطارح الأنظار ٢ : ١٠٦.

٦١٤

الاستثنائيّة على الحصر ليست محتاجة إلى إقامة الدليل كي يحتجّ بما ذكر ليردّ بأنّ القبول كان للاحتفاف بالقرينة مثلا.

بقي الكلام في الإشكال المعروف في كلمة التوحيد وأنّ الخبر إن قدّر موجود فلا ينفي إمكان الغير فلا تنفي الشريك ، وإن قدّر ممكن فهو مثبت لإمكان «الله» لا لوجوده إذ ليس كلّ ممكن موجودا.

والجواب : أنّ الإمكان الخاصّ لا يمكن أن يتحقّق لله تعالى ؛ إذ المفروض أنّ لفظ «إله» بمعنى واجب الوجود ، ولا يمكن أن يثبت لواجب الوجود الإمكان الخاصّ ؛ لأنّ الكلام يتنافى ، فلا بدّ من أن يراد من الإمكان الإمكان العامّ. وحينئذ فنفي الإمكان العامّ عن غيره نفي لوجود غيره ، وإثبات الإمكان العامّ له إثبات لوجوده. فلا مانع من تقدير الخبر «ممكن» ويثبت التوحيد بوجوده ونفي إمكان الشريك له ، كما أنّه يمكن أن يقدّر «موجود» ونفي الوجود عن الواجب الوجود نفي لإمكانه. فاتّضح أنّه يمكن أن يقدّر كلمة «ممكن» ولا إيراد ، كما يمكن أن يقدّر لفظ «موجود» ولا إيراد أيضا. ثمّ إنّ الكلام في «بل» و «اللام» وإفادتهما الحصر وعدمها كالكلام في مفهوم اللقب والعدد قد كفانا مئونتها صاحب الكفاية قدس‌سره بكفايته (١)(*).

فيقع الكلام في العموم والخصوص.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٠.

(*) وقد نقل عن واعظ كان يعظ في بعض مساجد أصفهان وكان يبالغ في فضل التهليل فدخل حينئذ الجاحظ وجلس تحت منبره مقدارا ثمّ قال له : أيّها الشيخ إنّ لي إشكالا ، فقال له الواعظ بداهة : الذي كان يبلغنا عنك أنّ لك إشكالا في الولاية ولم يبلغنا عنك أنّ لك إشكالا في التوحيد أيضا ، وعاد الشيخ إلى وعظه. (الجواهري).

٦١٥
٦١٦

في العموم والخصوص

العموم الاصولي هو اللفظ الدالّ على شمول ما تحته من الأفراد بالوضع ، وأمّا ما يفيد الشمول بواسطة مقدّمات الحكمة كما في مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) حيث إنّ حلّية بيع غير معيّن لا فائدة فيه ولا وجود له ، وواحدا معيّنا عنده غير معيّن عندنا لا جدوى فيه. فتعيّن إرادة العموم بمقدّمات الحكمة ، فهذا لا يسمّى بالعموم الاصولي ، بل يصطلح عليه الاصوليّون بالمطلق الشمولي ، ولا ثمرة في بيان هذا الاصطلاح إلّا ما سيأتي في باب الترجيح حيث يتعارض العامّ الاصولي مع الإطلاق الشمولي فقد ذكرنا هذا الاصطلاح لمعرفة مرادهم هناك.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ لفظ رجل بالنسبة إلى أجزائه ليس من قبيل العامّ الاصولي وإن صدق عليه العموم اللغوي باعتبار شموله لأجزائه إلّا أنّه ليس عامّا اصوليّا ؛ لأنّه لم يدلّ على شمول ما تحته من الأفراد بل من الأجزاء كألفاظ الأعداد من عشرة ومائة فإنّ ما تحتها أجزاء لها. نعم لو اضيف إليها كلمة «كلّ» فقيل كلّ عشرة خمستان كانت عامّة لكلّ فرد من أفراد العترة ، وهذا واضح جدّا.

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٦١٧

ثمّ إنّ العموم يختلف فإنّ المتكلّم قد يلحظ الطبيعة ويحكم عليها ملاحظا لها فانية في كلّ فرد فرد من الأفراد ، وهو المعبّر عنه بمطلق الوجود وبالعموم الاستغراقي ، وحكمه أنّه ينحلّ الحكم إلى أحكام بعدد الأفراد ، فيكون لكلّ فرد امتثال وعصيان مستقلّ.

وقد يلحظ الطبيعة فانية في جميع الأفراد فناء واحدا ويحكم عليها بهذا اللحاظ ، ويسمّى بالعموم المجموعي ، ويكون الامتثال عبارة عن الإتيان بإكرام مجموع العلماء حيث يقول : «أكرم العلماء» بهذا اللحاظ ؛ إذ المأمور به إكرام المجموع فلو أكرمهم إلّا واحدا فلم يمتثل ذلك التكليف ، إذ هو واحد ليس إلّا ، فإمّا أن يمتثل وأمّا أن يعصى.

وقد يلحظ الطبيعة فانية في أوّل وجود فرد من أفرادها ، وهو المعبّر عنه بصرف الوجود وبالعموم البدلي.

فمثال الأوّل أن يقول : أكرم كلّ عالم ، ومثال الثاني أن يقول : أكرم مجموع العلماء ، ومثال الثالث أن يقول : أكرم أيّ عالم. ويلزم العموم البدلي الترخيص في التطبيق على كلّ فرد من الأفراد.

ثمّ إنّه لا يكاد يشتبه العموم البدلي بأحد القسمين الأوّلين إلّا أنّ العموم الاستغراقي مع المجموعي كثيرا ما يشتبه المراد منه فهل هناك أمر يعيّن أحد العمومين؟ ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره أنّ الأصل في العموم الاستغراقي ، فإن علم إرادة المجموعي وإلّا فيحمل على الاستغراقي. وقد ذكر في وجهه أنّ المجموعي يحتاج إلى لحاظ المجموع والأصل عدمه (١). ولا يخفى أنّ المقام ليس من قبيل الأقلّ والأكثر بل من قبيل المتباينين ، فإنّ العموم المجموعي كالاستغراقي لا بدّ في كلّ منهما من لحاظ الطبيعة فانية فتارة في كلّ فرد فرد واخرى في المجموع فليسا من قبيل الأقلّ والأكثر ، وحينئذ ففي موارد الاشتباه لا بدّ من الرجوع إلى الاصول العمليّة لإجمال اللفظ ، فافهم.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٥.

٦١٨

في صيغ العموم

للعموم ألفاظ تخصّه مثل لفظ «كلّ» و «جميع» والجمع المحلّى باللام ، وللخصوص أيضا ألفاظ تخصّه أيضا مثل «بعض» وقد تستعمل ألفاظ العموم في الخصوص.

وقد ادّعى بعض أنّ جميع الألفاظ المفيدة للعموم موضوعة للخصوص ، لكونه قدرا متيقّنا ، ولكثرة التخصيص حتّى قيل : ما من عامّ إلّا وقد خصّ ، ولأنّه يلزم أن يكون المجاز أكثر من الحقيقة (١).

ولا يخفى ما في هذا الكلام ، فإنّ كونه متيقّنا لا يقتضي وضعه له ، كما أنّ كثرة التخصيص لا تستلزم ذلك ، وكون المجاز أكثر من الحقيقة ممنوع ، إذ التخصيص المتّصل ليس اللفظ مستعملا إلّا في ذلك المقدار من أوّل الأمر ، وأمّا المنفصل فغاية ما يدلّ على أنّ الإرادة الجدّية لم تكن موافقة للظاهر ، وكيف كان فالأمر أوضح من أن يحتاج إلى توضيح.

بقي الكلام في أنّ إفادة العموم في هذه الألفاظ المذكورة ـ من الجمع المحلّى باللام والنكرة في سياق النفي أو النهي ومن لفظ كلّ وجميع ـ هل هي بالوضع أم بمقدّمات الحكمة؟

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره أنّ لفظ «كلّ» و «جميع» موضوعة لعموم المدخول ولكن لا تبيّن هي أنّ مدخولها ما هو ، فإذا قيل : «أكرم كلّ رجل» احتمل إرادة مطلق الطبيعة ، واحتمل إرادة نوع خاصّ منها تأخّر بيانه إلى وقت آخر واقتضت المصلحة تأخيره ، فلولا إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول لم يتحقّق إرادة جميع الرجال.

__________________

(١) نسب ذلك إلى بعض المرجئة ، انظر المعتمد في اصول الفقه ١ : ١٩٤ ، والعدّة ١ : ٢٧٨.

٦١٩

وبالجملة ، فعموم مدخول كلّ موقوف على إجراء مقدّمات الحكمة فيه ثمّ عطف عليه في ذلك النكرة في سياق النفي والنهي والجمع المحلّى باللام (١). ووافقه على ذلك الميرزا النائيني قدس‌سره (٢).

والظاهر : التفصيل فإنّ النكرة في سياق النفي أو النهي كما أفادوا فإنّ «لا» النافية أو الناهية إنّما تنفي مدخولها وهو يختلف سعة وضيقا والنكرة في سياقه وإن اريد بها العموم إلّا أنّه عموم المدخول ، فتعيين المدخول يحتاج إلى معيّن وليس إلّا مقدّمات الحكمة. ولهذا إذا وردت النكرة في حكم إثباتي ووردت في نفي نفس ذلك الحكم وقع التعارض بينهما ، وليس إلّا لأجل أنّ النكرة في سياق النفي كالنكرة في الإثبات لا دلالة فيها على ما اريد منها سعة وضيقا إلّا أنّ لفظ «كلّ» و «جميع» ليس كذلك ، فإنّ الظاهر أنّ لفظ «كلّ» و «جميع» موضوعة لبيان عموم المدخول ، فهي بوضعها دالّة على إلغاء احتمال الخصوصيّات في المدخول. فلا يحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في إفادة عموم المدخول ؛ ولذا لو قال : «أكرم كلّ عالم» فسأله : من غير فرق بين العادل والفاسق؟ يقول : نعم. فإذا كرّر عليه السؤال يقول له : ألم أقل لك كلّ عالم فما معنى السؤال عن هذه الخصوصيّات إذ الظاهر أنّ لفظ «كلّ» و «جميع» بيان لذلك. وكم فرق بين ما كان العموم فيه من جهة بيان العموم وبين ما كان العموم فيه من جهة عدم بيان الخصوص. ومن ثمّ قدّمنا العموم فيها على العموم المحتاج عمومه إلى مقدّمات الحكمة عند تعارضهما ؛ لأنّ الثاني موقوف على عدم البيان وذاك بيان ، فافهم.

وأمّا الجمع المحلّى باللام فلا ريب في إفادته العموم ، ومن أنكر إفادته العموم فقد كابر وجدانه ، إلّا أنّ الكلام في أنّ هذه الإفادة مستندة إلى الوضع أم إلى مقدّمات الحكمة؟ الظاهر أنّها مستندة إلى الوضع لعين ما ذكر في لفظ «كلّ» من كونها

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٥٥.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٩٢.

٦٢٠