غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

بأنّ هذا الشيء بإزاء الشيء الفلاني ، ومبرز هذا الاعتبار النفساني ، والإمضاء من المحاكم العرفيّة العقلائيّة.

أمّا الاعتبار النفساني فهو عمل من أعمال النفس وفعل من أفعالها ، وهو غير موقوف على شرع وشريعة ، مضافا إلى أنّه لا يطلق عليه المعاملة ما لم يتحقّق مبرزه في الخارج.

وأمّا المبرز فهو الذي يطلق المعاملة عليه.

وأمّا الإمضاء فليس من أفعال المكلّف المنهيّ عن المعاملة ، بل هو من أفعال الممضي ، فإن كان هو الله فهو من أفعاله ، وإن كان من العقلاء فهو من أفعالهم.

فالنهي المتوجّه إلى المعاملة لا يتصوّر توجّهه إلى الإمضاء ، لعدم كونه فعله. فلو كره الشارع الإمضاء لا يمضي لا أنّه ينهى المكلّف عن المعاملة.

وأمّا الاعتبار النفساني فهو لا يتّصف بالصحّة والفساد ليتكلّم في دلالة النهي عن فساده وعدمها بل إنّما يتّصف بالوجود والعدم ، مضافا إلى أنّ النهي عن الاعتبار لم يتحقّق في مورد من موارد الفقه على كثرتها ، وأيضا فإنّ الاعتبار بنفسه ليس هو المعاملة ما لم ينضمّ إليها المبرز.

وأمّا المبرز فهو تارة ينهى عنه لذاته لا لكونه مبرزا ، كما إذا نهى عن بيع داره في الصلاة ؛ لكونه كلاما وهو مبطل محرّم ، ومثل هذا لم يتوهّم أحد دلالته على الفساد ، لعدم كونه نهيا عن المعاملة ، ولعدم الملازمة بين تحريمه لكونه كلاما وبين فساده.

واخرى ينهى عنه لكونه مبرزا ومعاملة كما في بيع الربا وبيع الغرر وبيع المحاقلة وغيرها من موارد النهي عن المعاملة ، فهل هذا النهي دالّ على الفساد أم لا؟ غاية ما يقال في وجه دلالته ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره : من أنّ نهي المولى عنه دفع لسلطنة العبد عليه ، فيكون نظير تعلّق حقّ الغرماء بمال المحجر عليه وتعلّق حقّ المرتهن بمال الراهن (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٥٨١

ولا يخفى : أنّ فساد المعاملة في موارد الحجر والرهن وغيرها ليس بدلالة عقليّة ، وإنّما هي بالأخبار الخاصّة الواردة في موردها (١) وإلّا فلولا تلك الأخبار لجوّزنا المعاملة وإن كانت العين متعلّقا لحقّ الغير كما في بيع العبد القاتل وغيره ، وفي ما نحن فيه ليس أخبار خاصّة بفساد المعاملة ، ولا ملازمة بين التحريم المدلول عليه بالنهي وبين الفساد ، وحينئذ فالحقّ أنّ النهي النفسي عن المعاملة لا يدلّ على فسادها كلّية.

وممّا ذكرنا ظهر فساد ما ذكره أبو حنيفة : من دلالة النهي على الصحّة بدعوى أنّ النهي إنّما يكون لإيجاد الزاجر فلا بدّ من كون المعاملة الصحيحة مقدورة وإلّا فلا معنى للنهي عنها ، ووجه فساده : أنّ المبرز بما هو مبرز مقدور كانت المعاملة صحيحة أم فاسدة ، فافهم.

بقي الكلام في الأخبار الواردة في تزويج العبد نفسه بغير إذن سيّده فقد استدلّ بها القائل بدلالة النهي على الفساد كما استدلّ بها القائل بعدم دلالة النهي على الفساد.

أمّا استدلال القائل بدلالة النهي على الفساد فتقريره : أنّ ورود جواب الإمام عليه‌السلام في مقام الردّ على إبراهيم النخعي وابن عيينة حيث حكما بفساد عقد العبد بقوله عليه‌السلام : إنّه لم يعص الله وإنّما عصى سيّده فإذا أجاز فهو له جائز (٢) ، يستفاد منه أنّ العقد حيث يكون عصيانا لله ابتداء كما في موارد النهي النفسي يكون فاسدا ، فهو ـ يعني هذا الاستدلال ـ مبنيّ على أخذ العصيان في كلا الفقرتين بمعنى العصيان التكليفي.

وأمّا تقرير عدم دلالته على الفساد فهو مبنيّ على التفكيك بين لفظي العصيان في الرواية بجعل الأوّل بمعنى الوضع وعدم الإمضاء وجعل الثاني تكليفيّا ،

__________________

(١) انظر الوسائل ١٣ : ١٢٤ ، الباب ٤ من كتاب الرهن و ١٤١ ، الباب الأوّل من كتاب الحجر.

(٢) الوسائل ١٤ : ٥٢٣ ، الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث الأوّل.

٥٨٢

فيكون معنى الرواية أنّه لم يصنع ما لم يمضه الله وإنّما عصى سيّده وعصيانه عصيان لله ، فيستفاد منه أنّ صنع ما لم يمضه الله موضوع الفساد دون ما نهى عنه.

والظاهر : أنّ هذين التقريرين معا غير تامّين ؛ لأنّ مبناهما فاسد فإنّ الظاهر أنّ المراد من العصيان في الفقرتين بمعنى عدم الإمضاء ، فيكون معنى الرواية أنّه لم يصنع شيئا لم يمضه الله ، وإنّما صنع شيئا لم يمضه سيده فإذا أجاز فهو له جائز ، ويكون مفادها أنّ في خصوص عقد العبد يحتاج إلى إمضاء المولى مضافا إلى إمضاء الله تلك المعاملة. والقرينة على إرادة العصيان الوضعي أنّ مجرّد التزويج من غير نهي المولى ليس عصيانا أصلا صادرا من العبد ولا يخرج العبد عن العدالة بذلك. هذا تمام الكلام في كون النهي دالّا على الفساد أم لا ، وقد ظهر دلالته في العبادات دون المعاملات مطلقا.

٥٨٣
٥٨٤

فصل في المفاهيم

قد يطلق المفهوم ويراد به ما يقابل الألفاظ المنطوقة فيكون عبارة اخرى عن المعنى ، وقد يطلق على معنى أخصّ من ذلك ، وهو ما يستفاد من الجملة التركيبيّة باعتبار دلالتها على خصوصيّة تستدعي تلك الإفادة.

وملخّص الكلام : أنّ المداليل أفراديّة وتركيبيّة ، وكلّ منهما قد يكون بالمطابقة وقد يكون بالالتزام ، والدلالة الالتزاميّة شاملة للتضمّنيّة إذ المراد بالالتزام أعمّ من أن يكون جزء المعنى أو لازمه الخارج عنه ، فالمداليل الأفراديّة بأسرها خارجة عن محلّ الكلام في المفاهيم.

والكلام في المداليل التركيبيّة في أنّ الجملة الشرطيّة مثلا هل تدلّ بالوضع أو القرينة العامّة على حكمين أحدهما إيجابي والآخر سلبي أم أنّها لا يدلّ إلّا على حكم إيجابي فقط وأمّا الحكم السلبي فمسكوت عنه؟ ومن هنا ظهر أنّ المفهوم من صفات الدلالة فإنّ الكلام في الدلالة فهل فيها دلالة أم لا؟ فهو بصفات الدلالة أنسب منه بصفات المدلول ، كما ظهر أنّ قولهم : «إنّ المفهوم حكم غير مذكور أو حكم لغير مذكور» واحد أيضا ، فإنّ قولك «أكرم زيدا إن جاءك» مفهومه إن لم يجئ لا تكرمه ، فحرمة الإكرام حكم غير مذكور وحكم لغير مذكور أيضا وهو زيد الغير الجائي. وكذا في مفهوم الموافقة فإنّ حرمة الضرب غير مذكورة في

٥٨٥

(فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١) كما أنّ الضرب الذي هو متعلّق الحرمة غير مذكور أيضا. والكلام في المفهوم من حيث تحقّق الدلالة على ذلك الحكم إمّا من حيث الوضع أو من حيث القرينة العامّة دون الخاصّة ، فإنّ الموارد الخاصّة لا تكون معيارا للحكم الكلّي كما في قوله عليه‌السلام في جواب سؤال السائل عن الماء الذي لا ينفعل بالنجاسة : هو الكرّ (٢) ، فإنّ في المقام قرينة على أنّ غير الكرّ منفعل بالنجاسة ، فإنّ سؤال السائل يقضي بكون الماء قسمين قد سئل من تعيين أحدهما ، لكن هذه الموارد الخاصّة لا تجدي في تعيين الحكم الكلّي. فيقع الكلام في الجمل التي وقعت محلّا للكلام في ثبوت المفهوم لها وعدمه.

وقد ظهر أنّ الكلام في تحقّق المفهوم وعدمه ، لا في حجّيّته بعد تحقّقه كما هو ظاهر بعض العناوين.

الكلام في مفهوم الشرط

هل الجملة الشرطيّة تدلّ على خصوصيّة تقتضي نفي الحكم عن غير موضوعها أم لا؟ وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من بيان أنّ دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم موقوفة على مقدّمات ثلاثة : أحدها أن يكون الترتّب بين الجزاء والشرط لزوميّا وليس اتفاقيّا ، وأن يكون بنحو ترتّب المعلول على العلّة. وأن تكون العلّة منحصرة.

والظاهر : أنّ استعمال الجملة الشرطيّة في الامور الاتّفاقيّة من دون ملازمة بين الشرط والجزاء يكاد أن يلحق بالغلط عرفا ، فالظاهر أنّ وضع الجملة الشرطيّة مفيد للملازمة بين الشرط والجزاء فإنّ قولك : «إن كان زيد نائما فأنا مالك

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

(٢) الوسائل ١ : ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧.

٥٨٦

لدينارين» يكاد أن يلحق بالهذر. وما ورد من قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)(١) فالجواب محذوف ، وهو فلا تحزن ، والمذكور علّة له ، والملازمة بين الجزاء المحذوف والشرط محقّقة.

ثمّ إنّ هذه الجملة هل تدلّ على أنّ هذا التلازم بنحو العلّية يعني بنحو يكون الجزاء معلولا للشرط والشرط علّة له؟ الظاهر عدم الدلالة فإنّ استعمالها في اللغة مختلف ، فيصحّ أن يقال : إن كان زيد محموما فهو متعفّن الأخلاط ، وإن كان متعفّن الأخلاط فهو محموم ، وإن كان سريع النبض فهو محموم ، فاستعماله في كون الشرط علّة للجزاء في كون الشرط معلولا للجزاء وفي كونهما معلولين لثالث على السواء. نعم في خصوص الأدلّة الشرعيّة بما أنّ الموضوع علّة لثبوت الحكم يستفاد أنّ الجزاء معلول للشرط ، وبقرينة التفريع في الفاء فبتبعيّة مقام الإثبات لمقام الثبوت يستفاد ذلك ، فهذا أيضا استفيد من القرينة العامّة في الجملة الشرطيّة في غير ما إذا كان الشرط حكما كالجزاء مثل : إذا أفطرت قصّرت وإذا قصّرت أفطرت ، فإنّه بقرينة ذكر الملازمة من الطرفين يستفاد عدم العليّة وإلّا لزم الدور ، كما هو واضح.

بقي الكلام في أنّه هل يمكن أن يستفاد من الجملة الشرطيّة بنفسها أو بقرينة عامّة أنّ الترتّب بنحو العلّة المنحصرة أم لا؟ أمّا الوضع فغير دالّ ؛ لأنّها تستعمل في غير المنحصرة كما تستعمل في المنحصرة ، كما في قولنا : إذا شرب زيد السمّ يموت مثلا (*).

وإنّما الكلام في القرينة العامّة.

ولا يخفى : أنّ محلّ الكلام بين القائلين بحجّيّة المفهوم وعدمها هي هذه المقدّمة ، فالقائل بالمفهوم يدّعي الانحصار ، والمنكر ينكر الانحصار فهو يجوّز حدوث علّة

__________________

(١) فاطر : ٤.

(*) لا يخفى أنّ استاذنا الخوئي قد اختار في دورته اللاحقة أنّ دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم وهو الانتفاء عند الانتفاء بالوضع وبناه على ما يأتي في الأمر الأوّل من الامور التي ينبغي التنبيه عليها من بيان مفاد الجملة الخبريّة والجملة الإنشائيّة كما سيأتي. (الجواهري).

٥٨٧

اخرى لهذا الحكم ، فلا يكون نفي هذه العلّة قاضيا بنفي المعلول. وأحسن ما قيل في بيان أنّ الجملة مفيدة لكون الانحصار محقّقا هو ابتناء المسألة على كون الشرط راجعا إلى المادّة ، كما عليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) فيكون معنى قوله : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، يجب الطهور والصلاة عند زوال الشمس. ولا يخفى : أنّه لا يدلّ على عدم الوجوب عند انعدام هذا الحال ، لإمكان ثبوته بدالّ آخر.

كما أنّا لو قلنا برجوع القيد إلى الهيئة الذي هو الوجوب وهو المعنى الحرفي ، فتارة يكون القيد واقعيّا ذكره الشارع لبيان محطّ الحكم نظير قولك : إن رزقت ولدا فاختنه ، فهو وإن أفاد نفي الحكم بنفي الولد إلّا أنّه من باب أنّ الحكم مرتفع لارتفاع الموضوع ؛ إذ لا يعقل بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه.

واخرى يكون القيد قيدا جعليّا للشارع المقدّس ، فبناء على كون الوجوب الذي هو المعنى الحرفي كالاسمي قابل لأن يكون مقيّدا وقابل لأن يكون مطلقا فظاهر تعليق الشارع له على قيد كونه محقّقا على هذا التقدير بحيث لا تحقّق له بدونه ، فمثل قوله عليه‌السلام : إذا زالت .. إلى آخره (٢) ، لمّا كان إيجاب الطهور والصلاة يمكن أن يكون بنحو الإطلاق غير مقيّد بقيد كذلك يمكن أن يكون مقيّدا ببعض القيود ، فالقيد في المقام جعلي ، وهو يقتضي انتفاء الوجوب عند انتفائه. فإذا كان المولى في مقام البيان ولم يذكر هنا شيئا آخر غير هذا الشرط فهو دليل على أنّه لا يؤثّر في وجوب الإكرام إلّا هذا الشرط ، بنحو لو كان غيره يؤثّر فيه لكان السكوت في مقام بيان تمام ما له دخل في وجوب الإكرام منافيا لكونه في مقام البيان.

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ١ : ٢٥٠ ، وأجود التقريرات ١ : ١٩٤.

(٢) انظر الوسائل ٣ : ٩١ ، الباب ٤ من أبواب المواقيت ، و ١ : ٢٦١ ، الباب ٤ من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.

٥٨٨

وبالجملة ، فذكر هذا الشرط وتعليق الجزاء عليه إذا كان المولى في مقام البيان ولم يذكر إلّا هذا القيد ـ وهو خصوص المجيء ـ فهو دليل على كون الجزاء مطلق من جهة غير المجيء ، نظير استفادة كون الوجوب تعيينيّا من عدم ذكر العدل ؛ لأنّ الوجوب التخييري يحتاج إلى ذكر العدل ، فعدم ذكر العدل يستفاد منه إذا كان المولى في مقام البيان عدم العدل ، وهو معنى كون الوجوب تعيينيّا.

وقد أشكل الآخوند قدس‌سره على هذا الوجه بالفرق بين مقامنا ومقام الوجوب بأنّ الوجوب في الخارج على نحوين : أحدهما التعييني ، والآخر التخييري. وبما أنّ التعييني لا يحتاج إلى مئونة زائدة بخلاف التخييري فعدم ذكر المئونة مع كون المتكلّم في مقام البيان يفيد بيان ما لا عدل له. وهذا بخلاف المقام فإنّ الترتّب واحد ، كان بنحو العلّة المنحصرة أو بنحو العلّة الغير المنحصرة ، فلا ينبغي استفادة الانحصار من المقام كما استفيد تعينيّة الوجوب (١).

والجواب : أنّ الكلام في الوجوب المنشأ من الجزاء وأنّه مطلق من غير جهة المجيء أو مقيّد ، ولا ريب أنّ المطلق من الوجوب سنخ يغاير المقيّد ، فهما سنخان في الخارج كالوجوب التعييني والتخييري. وكما يستفاد التعيينيّة مع عدم ذكر العدل يستفاد كون الوجوب غير مقيّد بقيد آخر غير المجيء من عدم ذكر قيد غير المجيء ، فلو كان هناك علّة اخرى له في نظر الشارع لقال : إن جاءك زيد أو طلعت الشمس فأكرمه. نعم لو كنّا في مقام إثبات الترتّب تمّ ما ذكره في الكفاية من كون الترتّب بنحو واحد في صورة الانحصار وعدمه.

وقد ذكر الميرزا قدس‌سره لإثبات الانحصار نحوا آخر وملخّصه : أنّا كما نثبت استقلال علّية المجيء لوجوب الإكرام في المثال بنحو لا يتحقّق احتمال كونه جزء علّة كذلك نثبت انحصار العلّية به ، فكما نرفع احتمال كونه جزء علّة بعدم ذكر «الواو» حرفا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٥٨٩

للعطف ، إذ لم يقل : «إن جاءك زيد وأكرمك فأكرمه» فننفي مدخليّة إكرام زيد لنا في وجوب إكرامه بعدم العطف بالواو ، كذلك يثبت انحصار العلّة بالمجيء بعدم العطف ب «أو» فنقول : إنّ عدم ذكر «أو» في مقام البيان ، إذ لم يقل : إن جاءك زيد أو أكرمك فأكرمه (١).

فاستدلّ قدس‌سره بإطلاق الشرط ، وقد ظهر أنّ استدلالنا إنّما هو بإطلاق الجزاء في مقام البيان ، وما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره وإن كان صحيحا بحسب المدّعى إلّا أنّ الدليل لا يخفى ما فيه.

وبالجملة ، فإفادة الجملة الشرطيّة للّزوم بين الجزاء والشرط بالوضع ولكون اللزوم بنحو العلّية بالقرينة العامّة ، ولكون العلّية منحصرة بالإطلاق ومقدّمات الحكمة. ودلالتها على المفهوم بحسب المتفاهمات العرفيّة ليست محلّ جدال وما ذكرناه كان لطريق ذلك ، بل يستفاد من بعض النصوص الاستدلال بمفهوم الجملة الشرطيّة حيث سأله عن الذبيحة لا تتحرّك بعد الذبح؟ فقال عليه‌السلام : لا تأكل ؛ لأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : إذا تحرّكت فكل منها (٢) ، فافهم.

ثمّ إنّه بقيت امور لا بأس بالإشارة إليها :

الأوّل : ربّما يقال : إنّ الجملة الشرطيّة إن كان جزاؤها مفهوما اسميّا كما إذا قيل : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، فبما أنّ الجزاء مفهوم عامّ يمكن أن يقال بأنّ مفاد المفهوم فيها رفع سنخ الحكم عند عدم الزوال. وأمّا إذا كان الجزاء مفهوما جزئيّا كما إذا قيل : إذا زالت الشمس فصلّ ، فإنّ شخص الحكم المنشأ يرتفع بارتفاع موضوعه قهرا ولو لم نقل بالمفهوم بل كلّ حكم شخصي

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٢.

(٢) الوسائل ١٦ : ٢٦٢ ، الباب ١١ من كتاب الصيد والذبائح ، الحديث ٦ و ٧ ، والباب ١٢ ، الحديث الأوّل مع اختلاف في العبارة.

٥٩٠

يرتفع بارتفاع موضوعه قهرا ، وسنخ الحكم غير مذكور في القضيّة لتدلّ على نفيه (١).

وقد أجاب الآخوند قدس‌سره عنه بأنّ المنشأ في مفاد الهيئة كلّي وإن كان بالإنشاء يصير شخصيّا كما في المفاهيم الاسميّة (٢).

كما أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره :

تارة بأنّ انتفاء سنخ الحكم هو مقتضى العلّية المنحصرة ؛ إذ الحكم الشخصي ينتفي وإن لم تكن علة منحصرة (٣).

وفيه : أنّ العلّية المنحصرة لشخص هذا الحكم لا للسنخ الغير المذكور.

واخرى بأنّ التعليق إنّما هو لنتيجة الجملة الشرطيّة لا لخصوص الوجوب ، فلا يفرق بين كون الجزاء معنى اسميّا أم حرفيّا (٤).

والصحيح أن يقال : إنّ أصل الإشكال مبنيّ على كون الجملة الإنشائيّة موجدة لمعناها ، وقد ذكرنا في الفرق بين الجملة الإنشائيّة والإخباريّة أنّ الجملة الإنشائيّة غير موجدة لمعانيها وإن اشتهر ذلك في لسان القوم ، إذ ما توجده ليس من سنخ الجواهر ولا الأعراض باعترافهم ولا من سنخ الاعتبارات إذ اعتبار الله أو العقلاء ليس من أفعال المنشئ ليوجده بإنشائه ، واعتبار نفس المنشئ وإن كان بيده إلّا أنّه قبل الإنشاء موجود فإنّه يعتبر كون ماله لزيد بعوض أو بغيره ثمّ يبرز ذلك الاعتبار بالإنشاء ، فاللفظ حينئذ في الجملة الخبريّة مبرزة لقصد الحكاية ، وفي الجملة الإنشائيّة مبرزة للاعتبار النفساني. وحينئذ فهذا الاعتبار النفساني في الجملة الشرطية هو الوجوب على تقدير الزوال من غير فرق بين كون المبرز لذلك الاعتبار المفاد الاسمي أو الحرفي ؛ لأن العبرة بالمنكشف لا الكاشف.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٣٧.

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٥٤.

(٤) انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٥٥.

٥٩١

الثاني : قد ذكرنا أيضا أنّ الجملة إن لم يمكن الإطلاق في جزائها كما في «إن رزقت ولدا فاختنه» فهي مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ، وإن أمكن الإطلاق في جزائها كما في «إن جاءك زيد فأكرمه» فهي مفيدة للانتفاء عند الانتفاء بمقتضى الفهم العرفي كما تقدّم. هذا إذا كان الشرط واحدا كما في المثالين ، وإن كان الشرط متعدّدا بنحو يكون المجموع قيدا واحدا مثل «إن جاءك زيد وكان اليوم يوم الجمعة فأكرمه» فالمفهوم يكون أوسع في المقام ، فإنّ المفهوم يكون جملتين وهي : إن لم يجئ لا يجب إكرامه ، وكذا إن جاء ولم يكن اليوم يوم جمعة ، إلّا أنّ هذا حيث يمكن الإطلاق بكلّ واحد من القيدين. أمّا إذا لم يمكن مثل «إن رزقت ولدا وكان اليوم يوم جمعة فاختنه» فبالنسبة إلى ما لا يمكن الإطلاق فيه يكون القيد مسوقا لتحقّق الموضوع وبالنسبة إلى ما يمكن الإطلاق فيه وهو القيد الثاني بأن رزق ولدا يوم السبت فلا يجب ختانه ، ولا يكون عدم الإطلاق في البعض حينئذ رافعا لإطلاق الباقي لعدم المقتضي لذلك ، فافهم وتأمّل.

الأمر الثالث : أنّ الجزاء قد يكون حكما واحدا شخصيّا ، وقد يكون الجزاء عموم الحكم كما إذا قال : «إن طلعت الشمس فالحكم الفلاني» عامّ مثلا ، ومعلوم أنّ انتفاء الشرط في المقام يوجب ارتفاع الحكم في الجملة الشرطيّة ولو كان هو العموم. أمّا لو كان الجزاء الحكم بالعموم كما في قوله عليه‌السلام : إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء (١) فهي جملة تنحلّ إلى قولنا : لا ينجّسه البول ولا الدم ولا الميتة ... إلى آخر النجاسات ، فهل المفهوم في المقام هو الموجبة الجزئيّة ؛ لأنّ نقيض السالبة الكلّية في المقام هو الموجبة الجزئيّة فيكون المفهوم أنّه إذا لم يكن قدر كرّ ينجّسه شيء ما ، أو أنّ المفهوم هو أنّه ينجسه كلّ شيء؟

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٧ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ و ٢ و ٥ و ٦ (بتفاوت يسير).

٥٩٢

ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره في المقام كلاما اختار فيه الثاني ملخّصه : أنّ المنطقيّين لبنائهم على البراهين الغير القابلة للتخلّف ذكروا أنّ السالبة الكلّية نقيضها الموجبة الجزئيّة ، ولكنّ الاصوليّين لبنائهم على الأخذ بمفاهيم الألفاظ وظهوراتها وإن لم تساعدها البراهين المنطقيّة فلا تنافي بين كون السالبة الكلّية موجبة جزئيّة ولكن ظهورها في ثبوت الموجبة الكلّية عند انتفاء ذلك الشرط المأخوذ فيها ، وحينئذ فالحكم العامّ في الخبر بما أنّه ينحلّ إلى عدم تحقّق النجاسة بملاقاة البول وإلى عدم تحقّق النجاسة بملاقاة الدم ... إلى آخر النجاسات ، فالمعلّق على الكرّية هو نفي كلّ واحد واحد من التنجّسات ؛ إذ المعلّق هو ثبوت عدم الحكم بالتنجيس على ملاقاة كلّ واحد واحد من النجاسات ، فيكون المفهوم أيضا كلّيا ، فيكون المعنى ينجّسه كلّ واحد من النجاسات إن لم يكن قدر كرّ.

ثمّ ذكره قدس‌سره أنّ في خصوص هذا المثال لا تترتّب ثمرة عمليّة ؛ لأنّه إذا ثبت أنّ غير الكرّ يتنجّس بنجاسة ما ، فبعدم القول بالفصل بين ذلك الفرد وبقيّة الأفراد يتمّ المطلوب. ثمّ أورد على نفسه بظهور الثمرة بملاقاة المتنجّس ، فإن كان المفهوم موجبة كلّية يثبت التنجيس وإلّا فلا. وأجاب بأنّه ليس المراد من الشيء عموم الشيء بل عموم النجاسات من الأعيان النجسة ، وأمّا المتنجّس فيلحظ دليله فإن كان يقتضي نجاسة الملاقي فلا حاجة إلى المفهوم ، وإن لم يقتض النجاسة فلا يتنجّس الملاقي لعدم دخول المتنجّس في عموم الحكم (١).

أقول : لا يخفى أنّ الحكم المنشأ في القضيّة واحد بحسب الدلالة ، وانحلاله إلى الأفراد الكثيرة لا يوجب كون الحكم المنشأ أحكاما كثيرة ؛ إذ اللفظ إذا كان واحدا كما في المقام فالمعنى أيضا واحد ، وحينئذ فالمفهوم هو نفي ذلك الحكم الثابت في المنطوق ، فيكون المفهوم في الرواية أنّه إذا لم يبلغ كرّا ينجّسه شيء ، وهو وإن كان

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٥ ـ ٢٥٨.

٥٩٣

بالإضافة إلى الأعيان النجسة لا يترتّب عليه ثمرة فقهيّة لما أفاده قدس‌سره من عدم القول بالفصل إلّا أنّه تظهر الثمرة بالإضافة إلى المتنجّس.

بيان ذلك : أنّ المتنجّس إن دلّ دليله على كون الملاقي له يكون متنجّسا حتّى الماء القليل فلا حاجة حينئذ إلى المفهوم ، وإن دلّ دليله الخاصّ على أنّه لا ينجّس خصوص الماء القليل كما ذهب إليه الآخوند (١) ، وتبعه بعض تلامذته المحقّقين (٢) مستظهرين ذلك من الروايات فلا حاجة أيضا إلى المفهوم. وأمّا إذا كان دليل المتنجّس قد دلّ على تنجيسه لما يلاقيه في الجملة من غير تعرّض للماء نفيا ولا إثباتا فهنا يثمر النزاع ، فإنّ المفهوم إن كان موجبة كلّية فيكون المفهوم إنّ الماء إن لم يكن قدر كرّ ينجسه كلّ شيء قابل لأن يكون منجّسا ، ولا ريب أنّ المتنجّس فرد من هذه الكلّية إذ قابليّته بالحكم بتنجيسه في الجملة محقّقة. وأمّا إن كان المفهوم موجبة جزئيّة فمعناه أنّ الماء القليل ينجّسه شيء ، وبما أنّه ليس كلّيا فلعدم القول بالفصل بين الأعيان النجسة يستفاد أنّ الأعيان النجسة تنجّسه كلّها ، أمّا المتنجّسة فلا لعدم الدخول تحت كلّية لعدم الكلّية. والقول بالفصل بين الأعيان النجسة والمتنجّسات مشهور ، وإن لم يكن قول بالفصل بين المتنجّسات كالنجاسات فلا تكون ملاقاة المتنجّس موجبة للتنجيس ، وهذه ثمرة عظيمة لهذه المسألة. فما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره : من عدم الثمرة حتّى في المتنجّس إذ العبرة بدليله ، متين حيث يفصح الدليل بالتنجيس للماء القليل أو عدمه ، أمّا مع عدم الإفصاح فالثمرة محقّقة قطعا كما ذكرنا.

الأمر الرابع : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء مثل «إذا خفي الأذان فقصّر وإذا خفي الجدران فقصّر» فإن كانا متلازمين بحسب الوجود كما في الكرّ الوزني

__________________

(١) اللمعات النيرة للآخوند الخرساني : ١٢.

(٢) لم نقف عليه.

٥٩٤

والشبري فلا إشكال ؛ لأنّهما حينئذ متساويان بحسب المورد. وكذا إذا كانا متباينين بحسب المورد بحيث لا يجتمعان مثل قولك : «إن كنت عند طلوع الفجر عند زيد في داره فصم ، وإن كنت عند طلوع الفجر عند عمر في داره فصم» فلا بدّ من كون الشرط أحدهما ، إذ لا يمكن كونهما معا شرطا قطعا. وكذا لا إشكال إذا كان بين المنطوقين عموم مطلق فإنّ ظهور الأخصّ في التحديد ينافي ظهور الأعمّ في التحديد ، فيقع التعارض بين المنطوقين.

ومن هنا ظهر أنّ المثال المذكور في ألسنة القوم «إذا خفي الأذان فقصّر وإذا خفي الجدران فقصّر» ليس صغرى لمحلّ الكلام ، إذ خفاء الأذان العادي غالبا يكون قبل خفاء الجدران فتكون النسبة العموم المطلق. نعم مثل «إن بلت فتوضّأ ، وإن نمت فتوضّأ» صحيح ؛ لأنّ بينهما عموما من وجه موردا بحيث يمكن افتراق كلّ منهما عن الآخر كما يمكن اجتماعهما وقلنا بأنّ الجملتين مشتملتان على المفهوم ، فحينئذ يقع الكلام في علاجهما ؛ لأنّ مقتضى «إن بلت فتوضّأ» إن لم تبل فلا تتوضّأ ، ومقتضى «إن نمت فتوضّأ» وجوب الوضوء عند عدم البول ، فيقع التعارض بين منطوقي كلّ منهما ومفهوم الآخر.

وقد ذهب بعضهم بأنّ الجملة الشرطيّة حيث تتعدّد كما في المثال لا يكون لكلّ منهما مفهوم ، نعم يكون لها مفهوم إذا انفردت (١).

ولا يخفى ما في هذه الدعوى ؛ إذ أنّ الضرورة إنّما تقدّر بقدرها فرفع اليد عن المفهوم كلّية لا مقتضي له ، بل لا بدّ من رفع اليد عن المفهوم في صورة وجود الشرط الثاني بمعنى تقييد المنطوق بكلمة أو لينتج ذلك ، وإلّا فالمفهوم غير قابل للتقييد بغير تقييد المنطوق ، فافهم.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٥٩٥

وذهب بعضهم إلى تقييد كلّ من المفهومين بمنطوق الآخر فمثل «إن بلت فتوضّأ» مفهومه إن لم تبل فلا يجب الوضوء فيقيّد بقوله : إلّا إذا نمت ، وكذا العكس (١).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ المفهوم لازم عقلي للمنطوق ، ومع حفظ ظهور المنطوق لا يمكن تقييد اللازم العقلي.

وذهب بعضهم بقرينة أنّ الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد إلى أنّ الجامع بينهما هو الشرط (٢).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ هذا إنّما يصحّ إذا احرز أنّ كلّا منهما بانفراده سبب ومؤثّر للوجوب ، والكلام بعد في تشخيص ذلك فإنّه من المحتمل أن يكون كلّ واحد بشرط الآخر مؤثّر لا باستقلاله.

فبقي أمران : أحدهما أن نقيّد المنطوق ب «أو» فيكون معناها إذا خفي الأذان أو خفي الجدران فقصّر ، فيكون الشرط أحدهما. أو تقييد المنطوق بالواو فيكون المعنى إذا خفي الأذان وخفي الجدران فقصّر ، فيكون الشرط هو مجموعهما. فيقع الكلام في ترجيح أحدهما على الآخر.

ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى أنّ في كلّ من الجملتين ظهورا في استقلال كلّ من الشرطين في الحكم في الجزاء ، كما أنّ لهما ظهورا آخر في الانحصار ، وبما أنّ كلا الظهورين لا يمكن أن يرادا من كلّ من الجملتين فإمّا أن يرفع اليد عن الظهور في الاستقلاليّة فيقيّد المنطوق بكلمة «و» فيكون معنى قوله : «إذا بلت فتوضّأ» إذا بلت ونمت فتوضّأ فيكون الشرط عبارة عن مجموعهما فقد رفعنا اليد عن ظهور كلّ من الشرطين بالاستقلاليّة في تأثير الوجوب للوضوء ، أو يرفع اليد عن الظهور في الانحصار فيقيّد المنطوق بكلمة «أو» فيكون معنى الجملة : إذا بلت أو نمت فتوضّأ ،

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ٢ : ٤٧.

(٢) هو صاحب الكفاية ، انظر كفاية الاصول : ٢٣٩.

٥٩٦

فيكون الشرط حينئذ أحدهما. وبما أنّ لنا علما إجماليّا بعدم إرادة أحد هذين الظهورين من غير تعيين فيسقطان عن الحجيّة ، ولكن إذا بال ونام فهو حينئذ قاطع بوجوب الوضوء ؛ لأنّ الشرط إن كان مجموعهما فقد حصل ، وإن كان أحدهما فقد حصل أيضا (١). وأفتى في بعض حواشي العروة باعتبار خفاء الأذان والجدران معا في وجوب التقصير (٢) بانيا على ذلك.

وبالجملة : فبعد سقوط كلا الظهورين إذا اجتمع الشرطان فقد تحقّق شرط التقصير عنده ، وإن لم يجتمع الشرطان فيتمسّك بأصالة التمام.

(لا يخفى : أنّ ما ذكره الميرزا ممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى ـ وهو خصوص المثال ـ فمع فرض تساقط كلا الظهورين من جهة العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما فإنّه يرجع إلى القصر المستفاد من عموم وجوب القصر على المسافر ، ولا يرجع إلى أصالة التمام ؛ لأنّ عموم وجوب القصر على المسافر محكّم ، يخرج عنه بالدليل وهو ما دلّ على اعتبار حدّ الترخّص ، ولولاها لحكمنا بوجوب القصر بمجرّد وضع رجله في خارج سور البلد لصدق المسافر بذلك.

نعم ، بناء على أنّ بلوغ حدّ الترخّص به يتحقّق السفر عرفا ، وقبل بلوغه لا يتحقّق كما احتمله بعضهم (٣) يتمّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره.

وأمّا الكبرى فبما سيأتي في بيان تحقّق كون الحصر هو الموجب للتعارض لا الاستقلال) (٤).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٢) العروة الوثقى ٣ : ٤٦٠ (ط. مؤسسة النشر الإسلامي) في صلاة المسافر : الثامن : الوصول إلى حدّ الترخّص.

(٣) انظر مجمع الفائدة ٣ : ٤٠٢ ، والجواهر ١٤ : ٢٨٤.

(٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٩٧

وبالجملة : فما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره موافق في النتيجة للتقييد للمنطوق بالواو ، والظاهر أنّه يرجّح التقييد ب «أو» فيكون الشرط أحدهما. والوجه في ذلك : أنّ التعارض إنّما هو بين الظهورين في الانحصار ، وإلّا فلو فرض ورود المثال : يجب الوضوء عند البول ويجب الوضوء عند النوم لم يكن بينهما تعارض أصلا ، وإنّما نشأ التعارض من النفي المستفاد من الشرط الذي استفيد منه الانحصار ، وإلّا فظهور كلّ منهما في الاستقلال لا يلزم منه تعارض أصلا كما مرّ في المثال. وحينئذ فيرفع اليد عن الانحصار بمقدار مدلول معارضه فإنّ قوله : «إن بلت فتوضّأ» بمفهومها إن لم تبل فلا تتوضّأ ، فيرفع اليد عن الإرادة الجدّيّة لهذا العموم بأن يقال : إلّا إذا نمت فحينئذ يجب الوضوء. وكذا الكلام في «إن نمت فتوضّأ» فإنّ مقتضى الحصر فيها إن لم تنم فلا تتوضّأ فيخصّص بقوله : إلّا إذا بلت ، فيقيّد المنطوق بما يفيد ذلك وهو كلمة «أو بلت» مثلا.

وما ذكر من رفع اليد عن الاستقلال في التأثير وإن كان يرتفع به محذور التعارض بل موضوعه إلّا أنّه لا وجه له بعد كون التعارض بين كلّ جملة والحصر في الثانية ، مثلا إذا ورد «أكرم العلماء ولا يجب إكرام زيد العالم» فالتعارض بين ظهور «كلّ» في العموم والجملة الثانية فمقتضى الجمع العرفي هو تخصيص العموم بالخصوص بلا توقّف ، وإن كان رفع اليد عن ظهور الأمر في «أكرم» للوجوب أيضا يرفع موضوع التعارض إذ لا تعارض بين يستحبّ إكرام العلماء ولا يجب إكرام زيد العالم ، إلّا أنّه لا يصار إلى هذا التصرّف لعدم التعارض بينهما من جهة ظهور الأمر في الوجوب ، وإنّما هو من جهة العموم ، فافهم.

وفي بعض نسخ الكفاية ما يظهر منه كفاية رفع اليد عن أحد المفهومين في رفع التعارض (١) ولا يخفى ما فيه ، فإنّ بقاء مفهوم الثانية محقّق للتعارض بينها وبين

__________________

(١) انظر الكفاية : ٢٣٩.

٥٩٨

المنطوق في الثانية كما هو واضح. وقد نسب ذلك إلى ابن ادريس أيضا (١) وضعفه ظاهر ، وأظنّ أنّه من سهو قلم الكاتب ، والله العالم.

ثمّ إنّه يقع الكلام في مسألة اخرى متّحدة مع هذه المسألة في العنوان لكنّها مباينة لها في المعنون.

الأمر الخامس : فإنّهم عنونوه بعين عنوان المسألة السابقة وهو قولهم : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ، ومرادهم تعدّده في الخارج بأن بال مرّتين مثلا فهل يجب وضوءان أم وضوء واحد؟ بخلاف تلك المسألة فإنّها في بيان أنّ الحكم الواحد المنشأ هل علّته هذا أم ذاك أم المجموع أم أحدهما بعد الفراغ عن كونه واحدا؟ وفي هذا الأمر يتكلّمون بعد الفراغ عن كون الشرط الذي هو العلّة واحدا ولكن تحقّق في الخارج مرّتين فهل يجب حينئذ وضوءان مثلا أم لا؟

ثمّ في ذيل هذه المسألة يتعرّض إلى أنّه بعد الفراغ عن اقتضاء تعدّد الشرط خارجا تعدّد الوجوب في الجزاء فهل يكتفى بفرد واحد ، ويعبّر عنه بتداخل المسبّبات أم لا؟ فالكلام فيها في امتثال الأمرين بفرد وعدمه وهذه المسألة كمسألة اقتضاء تعدّد الشرط خارجا تعدّد الجزاء لا تختصّ بالمفهوم ، بل في جميع الأحكام سارية سواء افيد بالمفهوم أم بغيره.

فلنتعرّض للمسألة السابقة ـ وهي أنّ تعدّد الشرط في الخارج هل يقتضي التعدّد أم لا؟ ـ ولمسألة تداخل المسبّبات أيضا من حيث الأصل العملي أوّلا ثمّ من حيث الظهور اللفظي ، فنقول : مقتضى الأصل العملي في الاولى البراءة ؛ لدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر فإنّ مثل قوله عليه‌السلام : «إن جامعت في نهار شهر رمضان فكفّر ، وإن ارتمست فكفّر» (٢) فإن فعل كلّا منهما فوجوب الكفّارة الواحدة متيقّن ، ووجوب

__________________

(١) انظر السرائر ١ : ٢٥٨.

(٢) لم نعثر عليه في المجامع الحديثة.

٥٩٩

الأكثر مشكوك منفيّ بالبراءة. ومقتضى الأصل العملي في الثانية هو لزوم الإتيان بالكفّارة ثانيا أيضا ؛ لأنّه مقتضى الاستصحاب لشغل الذمّة. هذا كلّه في الأحكام التكليفيّة ، وأمّا الوضعيّة فقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره عدم ضابط كلّي لها وأنّها يراعى فيها مناسبات الموارد (١) ولم نعلم معنى محصّلا لهذا الكلام ، فإنّ الأحكام الوضعيّة كالتكليفيّة فحيث يشكّ في حدوث سببين للضمان مثلا الأصل هو الواحد لأنّه متيقّن ، بخلاف تداخل المسببات فإنّ الأصل عدم حصول مبرئ الضمان بأداء أحد الضمانين ، هذا كلّه في الأصل العملي.

وأمّا ما يستظهر من الأدلّة فقبل الخوض فيه يذكر أمران :

أحدهما : أنّ الجزاء لا بدّ أن يكون قابلا للتعدّد حقيقة أو حكما ، بيان ذلك : أنّ الجزاء قد يكون قابلا للتعدّد حقيقة كما في قولك : «أكرم زيدا إن جاءك» فإنّ الإكرام قابل للتعدّد حقيقة. وقد لا يكون قابلا للتعدّد كحقّ الفسخ بالخيار فإنّه غير قابل للتعدّد ؛ لأنّ حقّ الفسخ أمر واحد والعقد لا يفسخ مرّتين إلّا أنّ له حكم التعدّد فحيث تجتمع الخيارات فالخيارات بالإضافة إلى الحيثيّات التي تحقّق الخيار من جهتها محكومة بالتعدّد فتترتّب أحكام جميعها على تقدير اختلافها في الأحكام ، ومن هذا الباب حقّ القصاص إذا كان الشخص قاتلا لاثنين فمع عفو الأوّل وقبوله الدية للثاني حقّ القصاص. وقد لا يكون قابلا للتعدد لا حقيقة ولا حكما ، ولكنّه قابل للتأكّد كما في الوجوب ، فإنّ توجّه الوجوب مرّتين نحو طبيعة واحدة لا يمكن إلّا بتقييد الثاني بنحو «مرّة اخرى» إلّا أنّ الوجوب قابل للتأكّد. وقد لا يكون قابلا حتّى للتأكّد كما في الماء إذا تنجّس بالبول فإنّ إصابة البول له ثانيا لا توجب تأكّد النجاسة. وكيف كان فهذان القسمان خارجان عن محلّ الكلام.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ٢٦٤.

٦٠٠