غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

وأمّا الصلاة بالإيماء حيث لا يكون فرضه الإيماء لو صلّى خارج المكان المغصوب فلا ريب في بطلانها مع القدرة على الصلاة خارج المكان المغصوب ؛ لأنّ الصلاة المطلوب تحقّق صرف الوجود منها ، ومع القدرة على إتيان الفرد الكامل الجامع للركوع والسجود والطمأنينة لا يكفي الفاقد لها ، فالفاقد باطل قلنا بجواز الاجتماع أو امتناعه ؛ إذ البطلان ليس من جهته كما مرّ. وأمّا الصلاة إيماء حيث يكون فرضه الإيماء وبلا طمأنينة فالظاهر صحّتها مطلقا قلنا بجواز الاجتماع أو بالامتناع ؛ لعدم كون الصلاة ـ التي هي عبارة عن النيّة وباقي الأقوال ـ غصبا أصلا ، كما تقدّم بيان ذلك مفصّلا. نعم الركوع العادي من جهة حركة الأين والسجود من جهة الاعتماد يكون غصبا. أمّا الخالي منهما كما هو الفرض مع كون تكليفه هو ذلك حتّى لو صلّى في خارج المكان فلا غصب فيه ، فتأمّل. هذا تمام الكلام في حكم الصلاة حال الخروج من الأرض المغصوبة التي دخلها بسوء اختياره.

بقي الكلام في امور :

أحدها : أنّا لو قلنا بالامتناع وأنّ التركيب اتّحادي فهل يتقدّم الأمر أو النهي ؛ لأنّ المورد لا يمكن فيه توجّههما معا نحوه للتعارض؟ وقد ذكر لترجيح النهي وجوه :

أحدها : ما ذكره الميرزا النائيني : من أنّ النهي بما أنّه انحلالي فهو متوجّه إلى كلّ فرد فرد ، وبما أنّ الأمر المقصود فيه صرف الوجود فهو مطلق متوجّه نحو الطبيعة. وقولنا : «إنّ الفرد واجب على البدل» مسامحة في التعبير ، لما تقدّم من عدم كون الفرد واجبا حتّى بعد الإتيان به ، نعم هو مصداق للواجب ، فيكون النهي متقدّما لأقوائيّة دلالته الذي هو ميزان التقديم في المزاحمة (١).

__________________

(١) فوائد الاصول ١ و ٢ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠ و ٤٣٣.

٥٦١

والجواب : أنّ الأمر إذا كان مطلقا ففيه الترخيص في تطبيق الواجب على كلّ فرد فرد ، وهذا الحكم شمولي وهو لا يجتمع مع الحكم الشمولي بالتحريم ؛ إذ الترخيص في التطبيق مع التحريم لا يجتمعان ، فالباب باب التعارض لا باب التزاحم. مضافا إلى ما تقدّم من عدم أقوائيّة العموم الشمولي على البدلي إذا كان كلّ منهما بمقدّمات الحكمة ، نعم يتمّ تقديم ما كانت دلالته بالوضع ؛ لكونه بيانا رافعا لإطلاق الثاني الذي من جملة مقدّماته عدم البيان ، فافهم.

نعم ، في خصوص مثال «صلّ ولا تغصب» يتقدّم «لا تغصب» لأنّ له شبه الحكومة على العناوين الأوّليّة ، فيصير مفاد العناوين الأوّليّة تحقّق الحكم لها لو لا الغصب فإنّ النسبة بين «لا تغصب» وبين جميع الواجبات والمستحبّات العموم من وجه بل والمباحات أيضا ، والفهم العرفي يرى أنّ «لا تغصب» لها شبه الحكومة على جميع الواجبات والمستحبّات والمباحات ، فهي واجبة ومستحبّة ومباحة حيث لا غصب.

الثاني من وجوه ترجيح النهي ما قيل : من أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة (١).

وفيه ـ مع أنّه ليس لسان رواية لنتعبّد بها ، ولا هي مساعدة للاعتبار فإنّ المصالح كالمفاسد مختلفة ضعفا وأهمّية فلا يكون هذا معيارا ، مضافا إلى ما نراه من العقلاء من تحمّل الأخطار العظيمة لبعض المصالح كما هو معلوم ـ أنّ هذه القاعدة حيث يكون الفعل ذا مصلحة ومفسدة فيدور الأمر بينهما كما في باب التزاحم ، وفي المقام ، المجعول إمّا المصلحة أو المفسدة ، لأنّه باب التعارض كما مرّ.

الثالث من وجوه الترجيح : الاستقراء ، بالحائض في زماني الاستظهار ، ومن عنده الماء المشتبه ، حيث امرت الاولى بترك الصلاة والثاني بالتيمّم.

__________________

(١) انظر الفصول : ١٢٧ ، والقوانين ١ : ١٥٣.

٥٦٢

وفيه أوّلا : أنّ مسألة المتيمّم خارجة عن محلّ الكلام ؛ لعدم تحريم الوضوء بالماء النجس ذاتا ومحلّ كلامنا المحرّم الذاتي. وترك الحائض للصلاة إن قلنا بعدم تحريم الصلاة ذاتا عليها فهي خارجة عن محلّ الكلام أيضا ، وإن قلنا بالتحريم الذاتي عليها ـ كما هو ظاهر بعض الأخبار ـ فهي أيضا أجنبيّة عن محلّ الكلام ، ولأنّ وجوب الصلاة على الطاهر كتحريمها على الحائض مجعول والمصداق مردّد بينهما ومحلّ الكلام هو أنّ أحدهما مجعول فهو أجنبيّ ، ولو سلّم فالاستقراء بفرد واحد لا يتحقّق ، فافهم.

مضافا إلى عدم حجّية الاستقراء على تقدير تحقّقه. والتحريم للصلاة على الحائض إنّما هو لقاعدة الإمكان والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا ، وحينئذ فلا بدّ من الرجوع إلى الاصول العمليّة ، وهو البراءة بعد فرض تساقط أدلّة الوجوب والتحريم. أمّا صحّة العمل فلا يمكن إثباته.

ودعوى : أنّ انتفاء المانع وهو النهي كاف في صحّة العمل ، مدفوعة بأنّ عدم المانع غير كاف في صحّة العمل بل لا بدّ من وجود المقتضي وشموله له ثمّ ارتفاع المانع ، نعم في مثل الصلاة لكونها لا تسقط بحال فحينئذ المقتضي موجود ، فإذا جرت البراءة فيما إذا تردّد الأمر بين الأقلّ والأكثر ينفي مانعيّة الغصب حينئذ بها ، فتكون الصلاة حينئذ صحيحة كما هو واضح.

وبالجملة ، فهذه الوجوه المذكورة غير صالحة لترجيح النهي ، نعم ما ذكرناه نحن : من كون لا تغصب ناظرة إلى العناوين الأوّليّة ، صالح ومتين.

الأمر الثاني : أنّ الآخوند قدس‌سره (١) ذكر في مسألة المتيمّم عند اشتباه الإناء أنّ الأمر بالإهراق إنّما هو تعبّد محض أو إرشاد إلى عدم الابتلاء بنجاسة البدن المتحقّقة بمجرّد ملاقاة الإناء الثاني قبل انفصال الغسالة فإنّه حينئذ يقطع بنجاسة بدنه إمّا بالإناء

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٦.

٥٦٣

الأوّل أو الثاني ويشكّ في ارتفاع تلك النجاسة ، فيكون استصحاب تلك النجاسة في ذلك الزمان المعيّن محكّما بخلاف ما لو كان الماء الثاني كثيرا فإنّه بمجرّد المماسّة لا يعلم التنجيس ؛ لاحتمال كون الأوّل هو النجس فقد طهر البدن حينئذ فلا علم له بالنجاسة ، فيجري استصحاب الطهارة اليقينيّة واستصحاب النجاسة اليقينيّة بناء على عدم اعتبار اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين فيتعارضان ويتساقطان فيرجع إلى أصالة الطهارة ، أو لا يجري الاستصحابان الكلّيان من حيث الزمان ، لعدم تعيّنه بناء على اعتبار اتّصال زمن الشكّ زمن اليقين كما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره (١) فيرجع إلى أصالة الطهارة في البدن.

أقول : الظاهر أنّ الأمر بالإهراق بالنسبة إلى الإناءين تعبّد محض لإمكان تحصيل صلاة بطهارة حقيقيّة معلومة ، كما لو توضّأ بأحد الإناءين وصلّى ثمّ غسل أعضائه بالإناء الثاني وتوضّأ وصلّى فهو يعلم حينئذ بوقوع صلاة صحيحة بطهارة صحيحة قطعا ، غاية الأمر أنّها غير معيّنة عنده وهذا لا يضرّ ؛ لأنّ الإخلال بالنيّة الجزميّة غير مضرّ قطعا كما في الصلاة في الثوبين المعلوم نجاسة أحدهما أو إلى جهتين يعلم بكون القبلة إحداهما أو بمسجدين يعلم نجاسة أحدهما. وحينئذ فالأمر بالإهراق وتعيين التيمّم عليه تعبّد محض. كما أنّ ما ذكره الآخوند قدس‌سره : من جريان استصحاب النجاسة حيث يكون الإناء الثاني قليلا دون ما إذا كان كثيرا أيضا (٢) مبنيّ على مبناه من اعتبار اتّصال زمن الشكّ بزمن اليقين وهو متحقّق عند مماسّة الإناء القليل الثاني. وإلّا فبناء على ما اخترناه : من عدم الاعتبار وجريان الاستصحاب الكلّي من حيث الزمان ، ففيه أيضا يتعارض الاستصحابان ، فإنّ الطهارة الكلّية المتحقّقة لا مانع من جريان استصحابها ، وحينئذ فيتعارض

__________________

(١) انظر كفاية الأصول : ٢١٦ و ٤٨٦.

(٢) انظر المصدر المتقدّم.

٥٦٤

الاستصحابان غير أنّ أحدهما شخصي من حيث الزمان ـ وهو النجاسة عند المماسّة للثاني ـ والثاني كلّي من حيث الزمان وعدم تشخّصه. كما أنّه بناء على هذا يجري كلا الاستصحابين حيث يكون الماء الثاني كثيرا أيضا ، ويتعارضان ويتساقطان.

وعلى كلّ حال ، فلا يرجع إلى أصالة الطهارة سواء كان الماء قليلا أم كثيرا ، للعلم الإجمالي بنجاسة بدنه عند إراقة الماء الثاني على وجهه ، إمّا لنجاسة رجله من مسح الوضوء الأوّل ، وإمّا لكون وجهه تنجّس الآن. نعم لو ارتمس مرّة واحدة حقيقيّة لا عرفيّة لا يكون له علم إجمالي حينئذ ، فافهم.

الأمر الثالث : ألحق الآخوند قدس‌سره في آخر أمر من لواحق اجتماع الأمر والنهي تعدّد الإضافات بتعدّد العنوانات في النزاع ، وذكر أنّ مثل «أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق» داخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي من جهة أنّ الإكرام في المقام وإن كان واحدا إلّا أنّه بالإضافة إلى العالم غيره بالإضافة إلى الفاسق ، ثمّ استشكل في معاملة الفقهاء معه معاملة تعارض العموم من وجه ، وأجاب بأنّه لعلّه من جهة بنائهم على الامتناع أو اطّلاعهم على فقدان الملاك في أحدهما ، فيخرجان عن باب التزاحم الذي هو باب الاجتماع بنظره ويدخلان في باب التعارض (١).

ولا يخفى أنّ كلامه قدس‌سره مخدوش من جهات :

الاولى : توجيهه لعمل المشهور في مثل المثال معاملة التعارض بعدم الملاك ، فإنّهم لو أنّهم في مسألة أو مسألتين عملوا ذلك أمكن أن يكون ذلك لاطّلاعهم على عدم الملاك ، وأمّا إنّهم اطّلعوا على عدم الملاك في تمام الفقه حيث يتحقّق مثل هذا المثال فأمر مقطوع بعدمه.

الثانية : أنّ المثال ممّا لا يمكن أن يكون من أمثلة اجتماع الأمر والنهي لخصوصيّة فيه فإنّ «أكرم العلماء» ممّا ينحلّ إلى وجوبات متعدّدة بتعدّد الأفراد لمكان عمومه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٦ ـ ٢١٧.

٥٦٥

الأفرادي ، فهو بمثابة أن يقول : أكرم العلماء حتّى الفاسق منهم. وكذلك «لا تكرّم الفساق» بمثابة أن يقال : لا تكرم كلّ فاسق حتّى العالم منهم. وحينئذ فمثل هذا التكليف لا يمكن امتثاله ، فهو ممّا لا مندوحة فيه ؛ ولهذا إنّ مسألة الاجتماع لا يفرضها العلماء إلّا حيث يكون الأمر متّجها نحو المطلق لا العموم لتتحقّق المندوحة حينئذ.

الثالثة : أنّه لا يمكن إلحاق تعدّد الإضافات بتعدّد العنوانات في النزاع ؛ لأنّ الكلام في أصل المسألة دائر مدار وحدة الوجود وتعدده كما مرّ ، وهذا في العنوانات أمر قابل للنزاع ، ولكنّه في تعدّد الإضافات غير ممكن ولو فرض توجّه الأمر نحو المطلق لا العموم ؛ وذلك لأنّ الإكرام واحد قطعا وزيد الذي هو العالم الفاسق أيضا واحد قطعا ، نعم العلم والفسق متعدّدان وهما غير المأمور به والمنهيّ عنه بل هما من قبيل العلّة للوجوب والتحريم ، وحينئذ فمع وحدة المتعلّق قطعا لا يمكن أن يسري النزاع فيها أصلا. هذا تمام الكلام في باب اجتماع الأمر والنهي والحمد لله كما هو أهله.

في أنّ النهي يقتضي الفساد أم لا؟

هل النهي عن العبادة أو المعاملة يقتضي فساد تلك العبادة أو المعاملة المنهيّ عنها أم لا يقتضي ذلك؟ وقبل الخوض في ذلك نتكلّم في جهات :

الاولى : أنّ الفرق بين هذه المسألة والمسألة المتقدّمة واضح ، فإنّ الكلام في المتقدّمة في التوجّه وعدمه ، وهنا الكلام بعد فرض التوجّه فهل يقتضي الفساد أم لا؟ نعم لو قلنا بالامتناع وتقديم النهي كانت من صغريات هذه المسألة ، وقد مرّ تفصيل ذلك.

الثانية : أنّ هذه المسألة عقليّة صرفة ؛ لأنّ الكلام في تحقّق الملازمة بين الحرمة والفساد وعدمها ، وذكرها هنا بمناسبة أنّ الكلام في النواهي وأنّ الحرمة غالبا

٥٦٦

مدلولة للنهي وإلّا فهي ـ يعني المسألة ـ أجنبيّة عن مباحث الألفاظ ؛ إذ لا دلالة للنهي المولوي المبحوث عنه في المقام على الفساد من حيث نفسه. نعم من حيث لازمه وهو الحرمة.

نعم ، إذا كان النهي إرشاديّا إلى مانعيّة المنهيّ عنه كان دالّا على فساد العمل حيث يقترن بذلك المنهيّ عنه كدلالة الأمر الإرشادي إلى الجزئيّة على فساد المركّب الخالي من ذلك الجزء ، وهذه الدلالة في المقامين مستندة إلى مدلول لفظ النهي والأمر لفقد المركّب بفقد جزئه والمشروط بفقد شرطه وهو عدم المانع ، ولكن هذا النحو من النهي الإرشادي ليست دلالته على الفساد محلّا للمناقشة أصلا ، بل هي مسلّمة عند الخاصّ والعامّ.

الجهة الثالثة : هل النهي المبحوث عنه في المقام خاصّ بالنفسي أم يعمّ الغيري؟ وعلى الأوّل فهل يختصّ بالتحريمي أم يعمّ التنزيهي؟ صرّح صاحب الكفاية قدس‌سره بعموم الملاك للغيري والنفسي بقسميه (١).

والظاهر : الاختصاص بالنفسي التحريمي وقسم من التنزيهي دون الغيري والقسم الآخر من التنزيهي.

أمّا خروج الغيري فواضح ؛ لأنّه لا ينشأ عن مفسدة في المنهيّ عنه إذ لا يوجب قربا ولا بعدا فلا يفيد تحريما ليقع الكلام في الملازمة بينها وبين الفساد كما هو واضح ، مضافا إلى أنّا ذكرنا في بحث الضدّ (٢) تصحيح الضدّ المنهيّ عنه عرضا من جهة كون تركه مقدّمة لفعل الضدّ الأهمّ بالترتّب ، وصحّحها في الكفاية (٣) بالملاك كما تقدّم ، وتقدّم الإشكال في الملاك.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٨.

(٢) راجع الصفحة : ٣٩٧ ـ ٣٩٩.

(٣) انظر الكفاية : ١٦٦.

٥٦٧

وأمّا التنزيهي فهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون نهيا عن تطبيق الواجب على هذا الفرد بحيث يكون الأمر متّجها نحو طبيعة بنحو صرف الوجود ، ومقتضاه الترخيص في التطبيق على جميع الأفراد ، والنهي التنزيهي لا يمنع من ذلك ، إذ فيه أيضا ترخيص في الفعل المنهيّ عنه بالنهي التنزيهي. فهذا الفرد من النهي التنزيهي خارج عن محلّ الكلام ، إذ لا منافاة فيه للأمر إذ لا جمع للضدّين ، إذ الفرض توجّه الأمر نحو الطبيعة لا الأفراد ، وتوجّه النهي التنزيهي نحو فرد لا ينافي الترخيص في التطبيق المستفاد بالملازمة من الأمر بالطبيعة المطلقة.

الثاني : أن يكون الأمر والإيجاب متوجّها نحو كلّ فرد بنحو العموم الاستغراقي ، كما إذا قال : أكرم كلّ عالم. والنهي التنزيهي في المقام عن فرد من أفراد العالم يؤدّي إلى اجتماع الوجوب والكراهة في فرد واحد بخصوصه ، وهو معنى اجتماع الضدّين ، إذ الأحكام الخمسة متضادّة بأسرها. والظاهر أنّ مراد الآخوند قدس‌سره بعموم ملاك المنع هذا القسم من التنزيهي لا الأوّل ، إذ هو بمثابة اجتماعهما في فرد بخصوصه وبطلانه غنيّ عن البيان.

الجهة الرابعة : في بيان مركز النزاع ، وقد ذكر الآخوند قدس‌سره أنّ المراد بالعبادة إمّا العبادة الذاتيّة ـ كالخضوع والسجود لله تعالى ـ أو ما لو أمر به لكان أمره عباديّا لا يسقط إلّا بقصد القربة كصلاة الحائض وصوم يومي العيدين لا العبادة التي أمر بها بالفعل ؛ لاستحالة اجتماع الأمر والنهي عن عبادة بعنوان واحد (١).

والظاهر : أنّ المراد من العبادة ما كان التقرّب بها إلى الله هو الأثر المقصود منها وإن كان بعد توجّه النهي يكون التقرّب بها إلى الله مبغوضا في تلك الحال مثلا أو من ذلك الشخص أو في هذا اليوم ، فإنّ الظاهر أنّ صوم العيدين إنّما حرم بقصد التقرّب

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٨ ـ ٢١٩.

٥٦٨

به إلى الله ، وإلّا فصرف الإمساك عن المفطرات لا حرمة فيه. وكذا صلاة الحائض بناء على حرمتها الذاتيّة فإنّ التحريم بالتقرّب بها من الله تعالى ، وإلّا فلو أنّ حائضا أتت بصورة الصلاة لتعليم بنتها من دون إسناد أو تقرّب إلى الله تعالى فلا أظنّ أنّ أحدا يلتزم بتحريمها ، وهو واضح.

وأمّا المعاملات فلا ريب في دخول العقود في النزاع في دلالة النهي على الفساد وعدمها ؛ لأنّه المتيقّن منها ، كما أنّه لا مخصّص لخصوص المعاملات بالمعنى الأخصّ ممّا يحتاج إلى إيجاب وقبول ، بل الظاهر التعميم إلى المعاملات بالمعنى الأعمّ كالإيقاعات من العتق والطلاق وغيرها ممّا يحتاج إلى إيقاع يحقّقه. فيقال : إنّ الطلاق المنهيّ عنه هل يدلّ النهي على فساده بمعنى عدم ترتّب الأثر المقصود منه ـ وهو الفرقة مثلا ـ أم لا؟

وهل يختصّ محلّ الكلام بهذا أم يتسرّى إلى بقيّة الامور القصديّة ممّا لا يحتاج إلى إيقاع أيضا كالصيد والحيازة وغيرها؟ فيقال : هل النهي فيها يدلّ على عدم ترتّب الأثر المقصود منها من الحقّ أو الملك على اختلاف المقامات أم لا فيكون المراد من المعاملات تمام الامور القصديّة؟ زعم الميرزا النائيني قدس‌سره أنّه لم يتوهّم أحد التعميم لهذا (١) ولا أرى بأسا في العموم ، فالظاهر جريان النزاع فيه. نعم لا يجري فيما لا يكون قصديّا كغسل الثوب مثلا ، فمحلّ النزاع العبادات التي يقصد بها التقرّب الفعلي لو لا النهي أو الامور القصديّة من المعاملات.

الجهة الخامسة : في المراد من الصحّة والفساد ويقع الكلام في مقامين :

أحدهما : في بيان معنى الصحّة والفساد.

الثاني : في أنّهما وصفان حقيقيّان أو انتزاعيّان أو غير ذلك.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٣.

٥٦٩

أمّا الكلام في المقام الأوّل فقد تطلق الصحّة في قبال العيب فيقال : هذا الكأس صحيح وذاك معيب ، ومعلوم عدم إرادة هذا المعنى منه في المقام ؛ إذ لم يدّع أحد دلالة النهي على العيب ، بل المراد الصحّة في مقابل الفساد اللذان هما منتزعان من ترتّب الأثر المقصود من ذلك العمل وعدم ترتّبه.

توضيح ذلك : أنّ العمل قد يكون بسيطا غير مركّب ولا مشروط ، وهذا لا يتّصف بالصحّة والفساد ، بل بالوجود والعدم. وقد يكون مركّبا مقيّدا لكنّ الأثر لا يترتّب على المجموع بل كلّ جزء له أثر نظير الدار فإنّها بفقد السرداب لا تكون فاسدة ولا بوجوده صحيحة ؛ لأنّ الأثر المطلوب منه ليس مستفادا من المجموع بل من كلّ جزء بالإضافة إلى أثره ، وهذا لا يقال له : فاسد عند فقده جزءا أو شرطا. وكذا الكلام في الكتاب حيث ينقص ورقة مثلا إذا لا يفوت إلّا الأثر المترتّب على خصوص هذه الورقة المفقودة دون الأثر المترتّب على بقيّة الأوراق.

ومن هنا ظهر : أنّ الصحّة والفساد ليستا بمعنى التماميّة والنقصان وإلّا لصدقت الصحّة والفساد بالإضافة إلى الكتاب. كما أنّه قد يكون الأثر مترتّبا على المجموع لكن ليس أثر مقصودا ومحبوبا للمولى كما في موضوعات التكليف كما في الرجل المستطيع فإنّه وإن كان الأثر المقصود منه في المقام هو ترتّب وجوب الحجّ عليه إلّا أنّ وجوب الحجّ عليه ليس أثرا مقصودا محبوبا للشارع ؛ لأنّ الإيجاب ليس محبوبا وإن كان يتحقّق بتحقّق موضوعه. ومن هنا لا يقال للرجل المستطيع : إنّه صحيح ، ولا لفاقد الاستطاعة : إنّه فاسد ، وإلّا لفسدت الطلبة بأسرها ، بل المراد بالصحّة والفساد ترتّب الأثر المقصود من المركّب المحبوب عند تحقّقه.

فظهر ممّا ذكرنا أمران :

أحدهما : أنّ الصحّة والفساد ليس بمعنى التماميّة والنقصان ، كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٠.

٥٧٠

الثاني : أنّها بمعنى ترتّب الأثر المقصود المحبوب من ذلك المركّب فإنّ المصلّي إنّما يقصد فراغ ذمّته من التكليف وهو أثر مرغوب مترتّب على المركّب ، ومن يبيع يقصد ترتّب الأثر وهو النقل والانتقال وهو محبوب ومقصود لذلك الشخص من ذلك المركّب ، فافهم. فظهر : أنّ القابل للاتّصاف بالصحّة والفساد هو العبادات والمعاملات بالمعنى الأعمّ بنحو يشمل الامور القصديّة كما مرّ.

وأمّا الكلام في المقام الثاني : وهو بيان أنّ الصحّة والفساد أمران انتزاعيّان أم مجعولان ، ربّما يقال بأنّهما انتزاعيّان من المطابقة للمأتيّ به مع المأمور به وعدمها والمطابقة وعدمها أمر واقعي فهما منتزعان من الأمر الواقعي فهما واقعيّان. وربّما يقال بالتفصيل ـ كما في الكفاية ـ بين العبادات فهما انتزاعيّان ؛ لأنّ المطابقة وعدمها في العبادات واقعي ، وبين المعاملات فهما جعليّان ؛ لأنّ ترتّب الأثر فيها مجعول من قبل الشارع (١) والظاهر : أنّ ترتّب الأثر فيها إنّما هو أيضا من جهة انطباق ذلك الكلّي الذي جعله الشارع محقّقا للأثر على المعاملة المأتيّ بها ، فهما من هذه الجهة من واد واحد.

والظاهر : التفصيل بين أن يكون المأتيّ به بحسب الواقع منطبقا على المأمور به كما إذا أتى بالمركّب بتمام أجزاءه وشرائطه خاليا عن موانعه واقعا فالصحّة أمر انتزاعي من ترتّب الأثر المتحقّق بالانطباق الواقعي ، وبين أن يكون انطباق المأتيّ به على المأمور به جعليّا كما إذا حكم الشارع بتحقق الانطباق بمقتضى قاعدة التجاوز أو الفراغ فالصحّة أمر مجعول من قبل الشارع بجعله المورد من موارد الانطباق الواقعي تعبّدا. وإلى هذا الحدّ من التفصيل نشترك مع الميرزا النائيني قدس‌سره في التفصيل (٢) ونفترق في أنّ الصحّة المجعولة إن ظهر بعد ذلك الخطأ في الانطباق وإنّه لم يكن آتيا بما

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٢.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٩.

٥٧١

دلّت قاعدة التجاوز على إتيانه فإن حكم الشارع بصحّته أيضا كما إذا شكّ في السورة وهو في القنوت فأجرى قاعدة التجاوز ثمّ بعد الركوع تذكّر أنّه لم يكن آتيا بالسورة ، فحينئذ ترتفع الصحّة الظاهريّة ؛ لأنّها ما دام الشكّ باقيا ، أمّا بعد ارتفاع الشكّ فلا وتكون الصحة حينئذ واقعيّة ؛ إذ لا يمكن صحّة العمل مع بقاء هذا الجزء على جزئيّته ، فلا بدّ أن ترتفع جزئيّته حينئذ بحكم الشارع بالإضافة إلى هذا الشخص ، ولا بدع في ذلك إذ أمر أجزاء المركّب الشرعي بيد الشارع فيجوز أن يجعل أجزاءه حال الذكر غير أجزائه حال الغفلة والنسيان. وبالجملة : الانطباق حينئذ للمأتيّ به على المأمور به هذا الشخص يكون واقعيّا.

فتلخّص : أنّ الصحّة والفساد وصفان عارضان ينتزعان من مطابقة المأتيّ به للمأمور به واقعا ، وجعليّان حيث ينتزعان من انطباق تعبّدي بجعل الشارع المقدّس ما لم يرتفع الشكّ.

الجهة السادسة في تأسيس الأصل : أمّا في الجهة الاصوليّة فلا أصل ؛ إذ الملازمة على تقديرها أزليّة بين الحرمة والفساد ، وعلى تقدير عدمها فعدمها أزلي أيضا فلا تكون مجرى للأصل. وأمّا في المسألة الفرعيّة فيفرق بين المعاملات والعبادات.

أمّا المعاملات فالأصل فيها الصحّة ؛ لأنّها وإن كان الأصل الأوّلي فيها عدم ترتّب الأثر إلّا أنّ العمومات والإطلاقات مثل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ومثل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) و (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٣) ونحوها أصّلت فيها أصلا ثانويا وهو الصحّة ، فحيث يشكّ في المعاملة المنهيّ عنها أنّها فاسدة أم لا يتمسّك فيها بالصحّة بموجب الأصل الثانوي للشكّ في تخصيص هذا العموم وتقييد

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) المائدة : ١.

(٣) النساء : ٢٩.

٥٧٢

ذلك الإطلاق فيتمسّك بالعموم فيه لعدم إحراز الملازمة بين الحرمة المحقّقة والفساد. وإن شئت قلت : إنّ العموم شامل والشكّ في التخصيص.

وأمّا العبادات فحيث إنّها توقيفيّة فالأصل فيها الفساد لحرمة التشريع ، فالعبادة التي تكون منهيّا عنها تكون فاسدة وإن كان هناك عموم يقتضي تشريعها ؛ لأنّ العموم يقتضي شمول تمام الأفراد وهو مع تحريم البعض لا يمكن ؛ إذ تشريع كلّ فرد مع المنع عن بعض الأفراد لا يجتمعان فلا بدّ من كون النهي مخصّصا لهذا الفرد من العموم ، وحينئذ فلا تشريع ؛ إذ تخصيص أدلّة التشريع توجب عدم تشريع هذا الفرد ، فيكون هذا الفرد خارجا عن تحت الأمر والعمل الغير المأمور به فاسد.

بقي الكلام في أنّه يمكن أن يؤتى به بالملاك أم لا؟ الظاهر العدم لعدم إحراز الملاك ، فإنّ الأمر محرز للملاك فحيث لا أمر كيف يحرز الملاك. وكونه من قبيل الأفراد الواجدة للملاك لا يقتضي وجدانه ؛ لأنّا نرى الأفراد مختلفة فبعضها ذات ملاك ملزم كصوم شهر رمضان وبعضها ذا ملاك غير ملزم كصوم رجب وشعبان وبعضها فاقدة للملاك أو أنّ ملاكها مزاحم بمفسدة أقوى حتّى نهى عنه الشارع فلا ملاك يمكن أن يصحّح العمل. وهذا المقدار من الكلام هو المناسب للمقام ، وما زاد على هذا خروج عن محلّ الكلام.

الجهة السابعة : في أنّ النهي تارة يتوجّه إلى ذات العبادة باعتبار تخصّصها بخصوصيّة من زمان كصوم يوم العيد ، أو مكان كالصلاة في المغصوب ، أو شخص كصلاة الحائض ، ولا ريب في أنّ هذا داخل في محلّ النزاع.

واخرى يكون نهيا عن جزء العبادة ، فإن كان من قبيل الرياء فهو مفسد قطعا لقوله : إذا دخل الرياء عملا أفسده (١) وإن لم يكن من قبيل الرياء : فإن كان

__________________

(١) لم نقف عليه في المجامع الروائيّة بل هو مضمون الروايات الواردة في مبطليّة الرياء للعمل ، انظر الوسائل ١ : ٤٣ ـ ٥٤ ، الباب ٨ و ١١ و ١٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، ومستدرك الوسائل ١ : ٩٨ ـ ١١٤ ، الباب ٨ و ١١ و ١٢ من أبواب مقدّمة العبادات.

٥٧٣

استبداله ممكنا بغير محذور فلا ريب في أنّ النهي يفسده بخصوصه دون العمل ، لإمكان استبداله. وإن لم يمكن استبداله كما في أجزاء الصوم من النهار فإنّ فساد الصوم في جزء من النهار مفسد للصوم كلّه ، فهذا ـ وهو الجزء المنهيّ عنه ـ لو فعله فهو داخل في محلّ الكلام في دلالته على فساد العمل كلّه أم لا.

وأمّا ما يمكن استبداله فالنهي إنّما يفسده له ، نعم قد يفسد العمل كلّه من جهة اخرى خاصّة كما في الصلاة لقوله عليه‌السلام : من زاد في صلاته فليستقبلها استقبالا (١) لكنّه لدليل خاصّ فهو من جهة الدليل الخاصّ لا من جهة قاعدة دلالة النهي على الفساد ، فافهم.

وللميرزا النائيني قدس‌سره وجوه ثلاثة تقتضي بطلان العمل بالزيادة : أحدها في مطلق الأعمال ، والآخرين في خصوص الصلاة.

أمّا الأوّل فتقريره : أنّ كلّ واجب بالإضافة إلى كلّ شيء يقارنه إمّا أن يكون وجوبه بالإضافة إلى ذلك المقارن مشروطا بتحقيقه أو بعدمه أو مطلقا ، فالعمل بالإضافة إلى الجزء المحرّم مشروط بعدمه لا محالة ، فيكون إتيانه في ضمنه موجبا لفقد شرط العمل ، والمشروط عدم عند عدم شرطه (٢).

ولا يخفى : أنّ الواجب مشروط بشرط لا بالإضافة إلى كون هذا جزءا له ، فإن أراد من كونه ب «شرط لا» بالإضافة إليه هذا المعنى فهو مسلّم لكن لازمه عدم الاكتفاء به ، والمفروض أنّه لا يكتفي به في المقام أيضا باستبداله. وإن أراد كون العمل ب «شرط لا» بالإضافة إلى مقارنة العمل له فهو غير مسلّم ، بل العمل بالإضافة إليه غير مشروط بشيء بل مطلق ، فإنّ أمر الصوم مطلق بالإضافة إلى

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٣٢ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل ، مع اختلاف في العبارة.

(٢) انظر فوائد الاصول ١ و ٢ : ٤٦٥ ـ ٤٦٦.

٥٧٤

الكذب المقارن وعدمه ، وكذا الصلاة بالإضافة إلى النظر إلى الأجنبيّة ، ويدلّ على كونه مطلقا بالإضافة إلى مقارنته صحّة الإطلاق تصريحا كما إذا قال : صم كذبت في النهار أم لم تكذب.

وأمّا الوجه الثاني : فهو أنّ الإتيان بصورة العمل الذي هو من سنخ أعمال الصلاة مبطل لها حيث يكون منهيّا عنه وإن لم يكتف به ؛ لصدق الزيادة عرفا ، ويشهد له ما ورد من أنّ السجود للعزيمة زيادة في المكتوبة (١).

وفيه : أنّ الزيادة في العمل موقوفة على أن يؤتى بها بقصد جزئيّة ذلك العمل وحيث يخلو عن قصد الجزئيّة به لا يكون زيادة ، نعم في خصوص السجود قد وردت رواية وأثبتت كون السجود زيادة وإن لم يقصد به الجزئيّة (٢) وألحق بها الركوع بعموم التعليل ويبقى غيره باقيا على حكم القاعدة من عدم صدق الزيادة بمجرّد الفعل من دون قصد الجزئيّة.

وأمّا الوجه الثالث ففي خصوص الأذكار وتقريبه : أنّ مقتضى المنع عن الكلام في الصلاة حرمة الكلام وإبطاله عمدا ، خرج منه الذكر والقرآن والدعاء الحلال ، فيبقى الباقي مقتضيا للإبطال كما لو دعا على مؤمن (٣).

وفيه : أنّ الكلام المنهيّ عنه كلام الآدميّين بقرينة أخبار كون السلام من سنخ كلام الآدميّين (٤) أمّا الدعاء بالحرام فليس من كلام الآدميّين فلا يكون مبطلا ؛ لأصالة عدم إبطاله. هذا تمام الكلام في العبادة وجزئها.

وأمّا الوصف فهو على قسمين : ملازم ومفارق.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٧٧٩ ، الباب ٤٠ من أبواب القراءة ، الحديث الأوّل.

(٢) المصدر المتقدّم.

(٣) انظر الوسائل ٤ : ١١٦٤ ، الباب ٥٣ من أبواب الدعاء ، الحديث ٢.

(٤) انظر مستدرك الوسائل ٨ : ٣٥٨ ، الباب ٣٢ من أبواب أحكام الشعر ، الحديث ١٠.

٥٧٥

أمّا الملازم كالجهر والإخفات بالنسبة إلى القراءة فإنّ الجهر في القراءة ملازم للقراءة كالإخفات في القراءة بالإضافة إلى القراءة أيضا وإن كان الجهر قد ينفكّ عن القراءة كالإخفات كما في الكلام جهرا أو إخفاتا فالملازمة ، من أحد الجانبين. والوصف الملازم على قسمين :

أحدهما : أن يكون ملازما لجزء العبادة كما في الجهر في قراءة الصلاة ، وحكمه حكم النهي عن جزء الصلاة.

الثاني : أن يكون ملازما لنفس العبادة كما في الجهر في قراءة القرآن ، وحكمه حكم النهي عن ذات العبادة.

وأمّا الوصف المفارق كما في النظر إلى الأجنبيّة فإنّ النظر إلى الأجنبيّة في الصلاة من أوصاف الصلاة المقارن لها ؛ إذ قد ينفكّ كلّ منهما عن الآخر ، فهما أمران متقارنان ولا يكون النهي عن الوصف نهيا عن الموصوف ، فلا يكون النهي دالّا على الفساد إلّا أن يكون إرشاديّا إلى المانعيّة كما مرّ ، فيدلّ على الفساد حينئذ بلا كلام وخلاف. هكذا قيل في الأوصاف.

والإنصاف أن يقال : إنّ الوصف قد يكون منوّعا أو مصنّفا للموصوف بحيث يكون متّحدا معه عرفا ويكون محصّصا له ، ولا بدّ فيه من القول بفساد العمل المنهيّ عن وصفه المحصّص له منوّعا أو مصنّفا ، فلو أجهرت المرأة في القراءة أو في الصلاة بحيث يسمع الأجنبيّ صوتها فسد عملها ؛ لأنّ النهي عن الجهر في القراءة عرفا نهي عن القراءة الجهريّة. وإن لم يكن محصّصا له لا منوّعا ولا مصنّفا فمعناه أنّه لا اتّحاد له معه ، فلا يكون النهي عن ذلك الوصف نهيا عن موصوفه لعدم الاتّحاد عرفا حينئذ ، فهذا هو المعيار لا ما تقدّم من الملازمة ، فافهم.

وأمّا الشرط المنهيّ عنه فهو على قسمين : أحدهما : أن يكون الشرط تعبّديّا واخرى يكون توصّليا. فإن كان الشرط تعبّديّا كما في الطهارة بالإضافة إلى الصلاة فالنهي عنها يوجب فسادها فيفسد المشروط لفساد شرطه ، من غير

٥٧٦

فرق بين القول بكون ذوات الغسلات والمسحات شرطا كما هو الظاهر وبين القول بكون الشرط هو الأثر المتولّد منها كما لعلّه المشهور ؛ لأنّ الأثر إنّما يترتّب على العمل الصحيح دون الفاسد قطعا. وما ذكره الميرزا النائيني : من كون الشرط دائما توصّلي وأنّه الأثر المتولّد (١) لا يخفى ما فيه ، فإنّ الأثر إنّما يتولّد من العمل الصحيح كما مرّ.

وأمّا الشرط التوصّلي فهو على قسمين :

أحدهما : ما يكون الشرط هو الأثر المتولّد منه كما في الطهارة الخبثيّة فإنّ الغسل السابق للثوب والبدن ليس شرطا وإنّما الشرط هو الطهارة المترتّبة عليه حال الصلاة ، والنهي عن هذا القسم ليس داخلا في محلّ النزاع في كون النهي مفسدا للصلاة أم لا ، فلو غصب ماء وغسل به ثوبه وبدنه وصلّى فيهما بعد الجفاف فلا تكون صلاته فاسدة أصلا.

ثانيهما : أن يكون الشرط نفس العمل كما في الستر في الصلاة ، فلو ستر في ثوب منهيّ عنه فهذا القسم داخل في محلّ النزاع قطعا ؛ لأنّ الفرد المنهيّ عنه خارج بمقتضى تقييد الأمر بما عدا المحرّم قطعا ، فهذا الفرد من الستر ليس فردا مأمورا به ، فهو في حكم العدم ، فتكون الصلاة فاسدة حينئذ.

وما في الجواهر : من أنّ صفة المستوريّة هي الشرط وهي حاصلة وإن كانت مقدّمتها ـ وهي ما به تتحقّق ـ محرّمة فهي نظير غسل الثوب (٢) لا يخفى ما فيه ، فإنّ الشرط في الصلاة ليس صفة المستوريّة كما في غيرها بل الستر بالثوب أو غيره ممّا يلبس ويعدّ ثوبا ، فإذا قيّد الثوب بغير الحرير صار مفاد الشرط الستر بالثوب الغير الحرير ، فإذا كان حريرا انتفى الشرط كما هو واضح ، فافهم وتأمّل.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

(٢) انظر الجواهر ٨ : ١٤٤ ـ ١٤٥.

٥٧٧

الكلام في العبادات

ويقع الكلام في العبادات تارة ، وفي المعاملات اخرى. أمّا العبادات فلا ريب أنّ المشهور بنوا على دلالة النهي على فساد المنهيّ عنه فيها وهو الصحيح. بيان ذلك : أنّ العبادات صحّتها موقوفة على أمرين :

أحدهما : قصد القربة.

الثاني : قابليّة العمل لأن يتقرّب به من المولى.

إذا عرفت هذا ، فالعبادة المنهيّ عنها إن اعتبرنا الأمر في صحّتها ـ كما ذهب إليه صاحب الجواهر قدس‌سره (١) وهو الصحيح لما تقدّم من عدم إحراز الملاك بغير الأمر ـ ففسادها واضح لعدم الأمر ؛ لأنّ المأمور به لا ينهى عنه ، وإن قلنا بكفاية الملاك فكذلك ؛ لأنّ وجود النهي الفعلي كاشف عن عدم الملاك أو وجود الملاك المغلوب. هذا لو قلنا بالملاك لو لا النهي ، وإلّا فقد مرّ أن كشف الملاك من غير طريق الأمر محتاج إلى علم الغيب كما تقدّم ، لما نراه من اختلاف أفراد العمل بالإضافة إلى الزمان والمكان والمكلّف وغيرها كما هو ظاهر. وحينئذ فالعمل لفقده الملاك أو وجدان الملاك المغلوب فيه غير قابل لأن يتقرّب به إلى المولى ، مضافا إلى أنّ التقرّب به فعلا مستحيل من الملتفت ؛ لأنّ المنهيّ عنه مبغوض ولا يمكن التقرّب بعمل مبغوض أصلا ؛ إذ كيف يتقرّب إلى أحد بإتيان ما يعلم أنّه يبغضه وهذا ممّا لا كلام فيه. هذا إذا كان النهي عن الشيء نهيا ذاتيّا.

وأمّا إذا كان النهي نهيا تشريعيّا فتارة يكون النهي التشريعي عن فرد بخصوصه كما في الصوم المستحب سفرا ، وهذا لا كلام في اقتضاء نهيه التشريعي الفساد ؛ لعدم الأمر وعدم الملاك أو كونه مغلوبا فلا قابليّة للعمل أن يتقرّب به ، ولعدم إمكان التقرّب بما هو مبغوض.

__________________

(١) الجواهر ٨ : ٢٨٥.

٥٧٨

وإنّما الكلام حيث يكون النهي التشريعي نهيا عامّا كما في الموارد التي لم يعلم الأمر بها كما في صلاة خمس ركع مثلا فهنا في الموارد الخاصّة يشكّ في وجود الأمر بها ، ولكنّ الظاهر كون هذا النهي العامّ أيضا دالّا على الفساد لأمرين : أحدهما أنّ هذا العمل بنفسه تشريع محرّم ؛ لأنّه لم يعلم أمر الشارع به وليس التشريع أمرا قلبيّا بل نفس ما به التشريع تشريع محرّم وحينئذ فهو غير قابل للتقرّب. مضافا إلى أنّ المكلّف لا يستطيع أن يتقرّب به أصلا ؛ لأنّه مبغوض قطعا ومحرّم بالأدلّة الأربعة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا كما هو واضح ، وحكم الجزء حيث يكون عبادة حكم الكلّ في جميع ما مرّ من الكلام ، فلا يحتاج إلى الكلام مستقلّا.

هذا تمام الكلام في العبادات وقد ظهر أنّ النهي فيها مطلقا مولويّا وإرشاديّا دالّ على الفساد.

الكلام في المعاملات

وقد قسّم النهي عنها إلى أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن ينهى عن السبب وهو الإيجاب والقبول في العقود والإنشاء في الإيقاع.

الثاني : أن يكون النهي عن المسبب ، كما في تملّك الكافر المصحف والمسلم وطلاق الحائض.

الثالث : أن يكون النهي عن التسبيب بحيث لا يكون السبب مبغوضا ولا المسبّب بنفسه مبغوضا وإنّما المبغوض جعل هذا الأمر سببا لهذا المسبّب ، وهذا القسم الثالث يرجع إلى الثاني باعتبار رجوعه إلى النهي عن المسبّب عن هذا السبب ، فقيل باقتضاء النهي الفساد في تمام الأقسام (١) وقيل بالعدم مطلقا كما هو قول

__________________

(١) قال العلّامة : قال جمهور فقهاء الشافعيّة ومالك وأبو حنيفة والحنابلة وأهل الظاهر كافّة وجماعة من المتكلّمين : إنّ النهي يدلّ على الفساد مطلقا. انظر نهاية الوصول : ١١٨.

٥٧٩

صاحب الكفاية (١) وقيل باقتضائه الفساد في النهي عن المسبّب سواء كان مبغوضا بذاته أو بسببه وهو القسم الثالث دون مبغوضيّة السبب بنفسه كما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) أو أنّه دالّ على الصحّة كما ذهب إليه أبو حنيفة بدعوى أنّه إنّما ينهى عن البيع الصحيح فلو لم يكن مقدورا لما نهى عنه وأوجد الداعي لتركه (٣).

ولا يخفى : أنّ محلّ الكلام النهي النفسي الكاشف عن الحرمة بحيث تكون دلالته على الفساد بملازمته للحرمة كما هو واضح دون الإرشادي إلى الفساد لفقد جزء أو وجود مانع ، فإنّه دالّ على الفساد بلا كلام من غير جهة الحرمة كما هو واضح ، فافهم.

وقد استدلّ الميرزا النائيني قدس‌سره بأنّ صحّة البيع مثلا موقوفة على امور ثلاثة :

أحدها : ملك المتبايعين العوضين أو ما في حكم الملك كما في الوكيل.

الثاني : سلطنته على النقل وإلّا فلو ملك العين إلّا أنّها كانت غير قابلة للنقل كالأمة المستولدة أو مال المحجر عليه فلا يكون صحيحا.

الثالث : الإمضاء الشرعي لهذه المعاملة ، فمعنى نهي الشارع عن معاملة عدم قدرة العبد على المسبّب وهو الملكيّة لفقد السلطنة شرعا على هذه المعاملة ، وإذا لم يتسلّط فهي فاسدة لفقد السلطنة فلا مسبّب (٤).

والتحقيق أن يقال : إنّ النهي عن المعاملة إمّا أن يكون نهيا عن الالتزام أو المبرز أو الإمضاء ؛ لأنّ المعاملة تتكوّن من هذه الامور الثلاثة : الالتزام القلبي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٨ ـ ٢٣٣.

(٣) انظر المستصفى ٢ : ٢٨ ، والأحكام للآمدي ٢ : ٢١٤ ، ونهاية الوصول : ٢٢ ، والقوانين ١ :

١٦٣ ، ومطارح الأنظار ١ : ٧٦٣.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٨.

٥٨٠