غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

والحكم بالصحّة في مثل المقام من جهة كونه سترا ، فلا ينافي ما سيأتي من كونه مبطلا حتّى في صورة الجهل بلحاظ كونه متصرّفا في الثوب بهويّة إلى الركوع والسجود في الحركات المقومة للركوع شرعا وعرفا.

وأمّا الكلام في لبس الثوب المغصوب حال التستّر الصلاتي بغيره ، ويلحق به المغصوب المحمول في الحكم أيضا ، فالظاهر هو الحكم بالصحّة في صلاة من فرضه الإيماء في ركوعه وسجوده ؛ لكونه غاصبا حال الصلاة ، وليس غاصبا بنفس الصلاة.

أمّا من جهة الستر فالمفروض تحقّقه بثوب مباح.

وأمّا من جهة التصرّف فالمفروض أنّه ليس في صلاته تصرّف في هذا المغصوب بشيء أصلا.

نعم ، لو كان فرضه الركوع الحقيقي والسجود الحقيقي أيضا فإن قلنا بأنّ الهويّ إلى ركوعه وسجوده مقوّم لهما فالصلاة حينئذ تكون فاسدة ، وإن قلنا بأنّه مقدّمة فتبتني الصحّة حينئذ على تحريم مقدّمة الحرام وعدمها كما تقدّم. ولا يفرق بين صورة العلم والجهل حينئذ ؛ لأنّه إذا خرج هذا الفرد عن المحبوبيّة إلى المبغوضيّة فلا يفرق فيه بين صورة العلم والجهل ؛ لأنّ الجهل لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه ؛ إذ مع حرمة هذا الهويّ كيف يتوجّه الأمر نحوه؟ هذا تمام الكلام في كبرى باب الاجتماع وتطبيقها على صغرياتها.

وقد تلخّص : أنّ إطلاق القول بالامتناع كإطلاق القول بالجواز غير وجيه ، وأنّ الحقّ هو التفصيل الذي ذكرناه.

__________________

ـ إلّا الأجزاء ، فالركوع والسجود الحاليين ليسا من أجزائه حينئذ ، فالأحسن أن يكون الدليل على الصحّة حال الجهل الرواية الدالّة على صحّة الصلاة مع انكشاف العورة حال جهل المصلّي لا حديث : «لا تعاد» لما عرفت. (الجواهري).

٥٤١

بقي الكلام في توجيه ما استدلّ به بعضهم على الجواز : من توجّه النهي التنزيهي في العبادات قطعا ، والوقوع أدلّ دليل على الإمكان ، وتضادّ الأحكام مشترك بين الخمسة ، فما ذكر ليس إلّا برهانا في قبال الوجدان يرمى به عرض الجدار (١).

والجواب إجمالا : فباشتراك الإيراد بين القائلين بالجواز والقائلين بالامتناع في الإيراد ؛ لأنّ نوعها ممّا توجّه الأمر والنهي فيه بعنوان واحد ولا يلتزم به القائل بالجواز فضلا عن القائل بالامتناع.

وتفصيلا : أنّ هذه الموارد على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : ما توجّه الأمر فيه إلى عنوان والنهي فيه إلى عنوان آخر بينهما عموم من وجه ـ كمورد اجتماع الأمر والنهي ـ غير أنّ النهي تنزيهي لا تحريمي.

الثاني : ما توجّه النهي فيها إلى نفس ما توجّه إليه الأمر وليس له بدل شرعي ، كقوله : لا تصم يوم عاشورا ، ولا تصلّ عند طلوع الشمس وغروبها.

الثالث : نفس القسم إلّا أنّه له بدل كقوله : لا تصلّ في الحمّام.

أمّا الكلام في القسم الأوّل فنقول :

إنّه تارة يكون المأمور به مغايرا للمنهيّ عنه ؛ ويكونان وجودين متأصّلين أو متأصّلا وانتزاعيّا ومنشأ انتزاعه مغاير للمتأصّل ، أو انتزاعيّين ومنشأ انتزاع كلّ منهما مغاير لمنشا انتزاع الآخر ، وقد عرفت أنّه لا مانع من توجّه الأمر والنهي التحريمي في مثله فضلا عن التنزيهي.

واخرى يكون المأمور به متّحدا مع المنهيّ عنه ، لأنّ وجودهما المتأصّل واحد ، أو لكون منشأ انتزاعهما واحدا ، أو لكون الوجود المتأصّل هو المنشأ للانتزاع للثاني ، وهذا القسم قد عرفت امتناع توجّه الأمر والنهي فيه حيث يكون النهي تحريميّا.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٧١.

٥٤٢

وأمّا في النهي التنزيهي فهو على قسمين ؛ لأنّه قد يكون مع وجود المندوحة كما إذا كره استعمال الماء المسخّن في الشمس فتوضّأ أو اغتسل به مثلا مع وجود غيره ، واخرى لا مع المندوحة.

أمّا إذا كان هناك مندوحة فحيث إنّ أمر الصلاة متوجّه إلى الطبيعة لا الأفراد (*) ؛ لأنّه مأخوذ بنحو صرف الوجود والنهي انحلالي فالأمر متوجّه نحو الطبيعة ، والفرد الخارجي فرد للطبيعة لكنّه ليس فردا واجبا ؛ لأنّ الطبيعة بما هي واجبة لا تسري إلى الفرد ، كما لا تسري إليه بما هي كلّية في قولك : زيد إنسان. فالأمر متوجّه نحو الطبيعة ، فإذا وجد الفرد كان الانطباق قهريّا والإجزاء عقليّا ، ولكنّ الفرد الخارجي لا يتّصف بالوجوب ؛ ولذا لو صلّى الإنسان صلاة الظهر أوّل الظهر لا يكون ذلك الفرد بخصوصه فردا للواجب بحيث لو كان أخّره عنه كان خارج الوقت ، ولكنّ النهي بما أنّه انحلالي فهو يسري إلى كلّ فرد فرد من أفراد المنهيّ عنه ، فالكون في مواضع التهمة مثلا بتمام أفراده مكروه مثلا ، فالفرد الصلاتي بخصوصه منهيّ عنه وليس هو محطّ الأمر كما قرّرنا.

لا يقال : هذا الكلام بحذافيره يجري في النهي التحريمي فلم قلتم بالامتناع حيث يتّحدان ، وهل يعقل اتّحادهما بناء على ما قرّرتم؟

__________________

(*) هذا ما قرّره في الدورة السابقة ، ولكنّه أيّده الله اختار في الدورة اللاحقة ما اختاره الآخوند من كون النهي إرشاديا إلى بقيّة الأفراد الغير المشخّصة بالمشخّص المنافر كما اختاره في الكفاية [كفاية الاصول : ١٩٩]. وقد عدل عن هذا الجواب ؛ لأنّ كون النهي نهيا عن الأفراد إن رجع إلى كونه نهيا عن الخصوصيّات الفرديّة فليس نهيا عن العبادات ذاتها ، وإن كان نهيا عن الطبيعة فالفرد عين الطبيعة فكيف يكون محبوبا ومبغوضا في آن واحد؟ وهذا الكلام بعينه جار في الشقّ الثاني من القسم الثاني ، وهو ما نهى عن ذات العبادة وله بدل.

٥٤٣

فإنّه يقال : نعم ، الأمر كما ذكرتم والتعبير بالاجتماع مسامحة إلّا أنّ الأمر إذا توجّه نحو الطبيعة فلازمه الترخيص في التطبيق حينئذ على تمام أفرادها ، وهو لا يجتمع مع التحريم المتوجّه نحو بعض الأفراد ؛ إذ الترخيص والتحريم لا يجتمعان في فرد ، وهذا هو المانع من الاجتماع هناك ، بخلاف النهي التنزيهي فإنّه يجتمع مع الترخيص قطعا.

ومن هنا ظهر : أنّ الاستدلال بالعبادات المكروهة على جواز اجتماع الأمر والنهي التحريمي ليس بصحيح ؛ إذ النهي التنزيهي يجتمع مع ترخيص التطبيق بخلاف النهي التحريمي. هذا كلّه مع وجود المندوحة بوجود ماء آخر غير المسخّن في الشمس ، أمّا إذا لم يكن غيره فلا ريب في ارتفاع كراهة خصوص هذا الفرد ؛ إذ لا يعقل حينئذ توجّه النهي التنزيهي عن خصوص هذا الفرد فلا يبقى إلّا ترخيص تطبيق الواجب عليه ، هذا تمام الكلام في القسم الأوّل.

وأمّا ما توجّه النهي فيه على ذات العبادة لكن مع وجود البدل له ، كما في : لا تصلّ في الحمام ، فيسري فيه عين الكلام المذكور في هذا القسم ، من كون النهي متوجّها نحو خصوص هذا الفرد لانحلاله ، ولكنّ الأمر متوجّه نحو صرف الطبيعة فلا يسري إلى الفرد ؛ إذ الطبيعة بما هي مأمور بها لا تسري إلى الفرد كما تقدّم ، ولو انحصر كما لو كان في آخر الوقت بحيث كان الخروج من الحمّام مفضيا للوقوع في خارج الوقت ارتفعت الكراهة حينئذ.

ويحتمل أن يكون مراد من قال : «إنّ الكراهة في العبادات بمعنى قلّة الثواب» هو ما ذكرنا ، بمعنى أنّ تطبيق الطبيعة على هذا الفرد أقلّ ثوابا من تطبيقه على غيره ممّا لا يبتلى بمزاحمة هذه الحزازة ، وإلّا فكون العبادة مكروهة بمعنى كونها أقلّ ثوابا من غيرها من الأفراد يفضي إلى تأسيس فقه جديد ، فتأمّل وافهم.

وأمّا القسم الثالث : وهو ما كان العنوان الذي تعلّق به النهي التنزيهي هو الذي تعلّق به الأمر إلّا أنّه لا بدل له ، كما في صوم يوم عاشوراء والصلاة عند طلوع الشمس وغروبها ؛ فبما أنّ الأمر في المقام ليس مأخوذا بنحو صرف الوجود ،

٥٤٤

بل بنحو ينحلّ إلى كلّ فرد فرد من أفراد الطبيعة نظير النهي ، وحينئذ فالأمر والنهي قد تعلّقا بفرد واحد ، النهي به بخصوصه والأمر بانحلال أمر الصوم في مثله إلى كلّ فرد ، فما ذكر من التخلّص في القسم الثاني لا يتصوّر هنا.

وأحسن ما قيل في التخلّص في هذا القسم هو ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) : من كون النهي في المقام ليس ناشئا عن مفسدة في الفعل على غرار سائر النواهي ، وإنّما النهي هنا للإرشاد إلى ما في ترك الصوم في المقام من المصلحة الأقوى الآكد ، كما يظهر من مداومة الأئمّة عليهم‌السلام على الترك وأمرهم شيعتهم بذلك ، فيكون الإفطار مستحبّا آكد من استحباب الصوم فيكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين ؛ ولهذا لو صام لحصل الثواب المعدّ لصوم أيّ يوم من أيام السنة بلا منقصة في صومه ، وحينئذ فمتعلّق الأمر غير متعلّق النهي ، كما أنّ متعلّق النهي غير متعلّق الأمر ، فالأمر بالصوم والنهي إن قلنا بأنّه طلب الترك فهو على حقيقته طلب الإفطار على هيئة خاصّة من الأكل آخر النهار ، وإن قلنا بأنّه زجر عن الفعل فقد استعمل في الإرشاد إلى ما في الترك من المصلحة بهذه القرينة العقليّة ، وهي استحالة توجّه الأمر والنهي ولو تنزيهيّا نحو عمل واحد.

وقد أورد الميرزا النائيني (٢) بأنّ الأمر بأحد الضدّين اللذين ليس لهما ثالث محال تعيينا لكونه طلب المحال ، وتخييرا لكونه طلب الحاصل ؛ إذ المكلّف لا يخلو من الفعل أو الترك كما في مثل النقيضين عينا.

والجواب : أنّ الصيام مع النيّة للتقرّب أمر محبوب ، والإفطار المتعارف أيضا محبوب ، وهناك ضدّ ثالث لهما وهو الإمساك بغير نيّة التقرّب إلى الليل وإن تحقّق القصد إلى الصوم ؛ لأنّه هو الكفّ ، ومن ثمّ عدّ من الواجبات فيمكن أن يأمر بالضدّين تخييرا لئلّا يفعلا الضدّ الثالث فأين اللغويّة؟

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ١ : ٦٤٥ ـ ٦٤٦.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٧٣.

٥٤٥

فالظاهر : أنّ ما ذكره الشيخ قدس‌سره متين جدّا ، وحيث إنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (١) لم يرتض جواب الشيخ المذكور فقد استقلّ قدس‌سره بجواب موقوف على مقدّمة مهّدها قدس‌سره ملخّصها : أنّ الأمرين إذا توجّها إلى شيء واحد ، فإمّا أن يكونا عرضيّين بمعنى كونهما متعلّقين بشيء واحد ذاتا ، وإمّا أن يكونا طوليّين.

فإن كانا عرضيّين ، كما إذا نذر المكلّف صلاة الليل مثلا فهنا أمران : أحدهما : استحباب صلاة الليل النفسي. وثانيهما : وجوب ذات صلاة الليل من جهة النذر. وفي مثل المقام يسري الوجوب إلى الأمر الاستحبابي ، كما تسري تعبّديّة الأمر الاستحبابي إلى وجوب الوفاء بالنذر ، فيكون توصّليّا.

وإن كانا طوليّين ، كما إذا استؤجر زيد على زيارة الحسين عن عمرو فهنا الأمر الإيجاري طولي ؛ لأنّه يجب الوفاء بالعقد الذي استؤجر عليه ، وهو العمل المستحبّ لذات المنوب عنه ، فالأمر الإيجاري قد تعلّق الأمر الاستحبابي بذات المنوب ، فإنّه استؤجر على تفريغ ذمّة المنوب عنه عن هذا العمل المستحبّ في حقّ المنوب عنه فهو طولي ، وفي مثل هذا المقام لا تتحقّق سراية من أحد الأمرين إلى الثاني ولا اندكاك ؛ لأنّ متعلّق أحدهما مغاير لمتعلّق الآخر ، فإنّ متعلّق الأمر الأوّل هو ذات العمل ومتعلّق الأمر الاستيجاري هو العمل الذي طلب من عمرو في ذمّته.

إذا عرفت هذه المقدّمة فقد ذهب الميرزا النائيني (٢) إلى أنّ القسم الثالث من قبيل الأمرين الطوليّين وأن لا منافاة بينهما ، فإنّ الأمر الاستحبابي المتوجّه إلى صوم يوم عاشوراء بمقتضى الانحلال يقتضي استحباب ذات الصوم في هذا اليوم ، ولكنّ النهي التنزيهي متّجه إلى الصوم المستحبّ المقصود به الامتثال ، فصار متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر فلا سراية أصلا.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٧٦.

٥٤٦

والجواب : أنّ هذه الكبرى غير مسلّمة ، فإنّ الأمر في مثالي النذر والإجارة من واد واحد ، وأنّ متعلّق كلّ منهما عين متعلّق الآخر وأنّهما عرضيّان. وأيضا لو سلّم أمر الكبرى فكون المورد من مصاديقها غير مسلّم.

أمّا الكبرى فإنّ في الإجارة ثلاثة أوامر :

أحدها : المتوجّه إلى المنوب عنه.

الثاني : المتوجّه إلى المنوب استحبابا ، فإنّ كلّ مستحبّ يستحب أن يؤتى به نيابة عن جميع المؤمنين ؛ لأنّه إحسان محض إليهم.

الثالث : الأمر المتوجّه إلى النائب من جهة الأمر الإجاري.

أمّا الأمر المتّجه إلى المنوب عنه فلا ربط له بالنائب ؛ إذ لا يعقل امتثال أمر متّجه إلى شخص من شخص آخر لم يخاطب بذاك الخطاب ، نعم الأمران المتوجّهان إلى النائب اللذان أحدهما استحبابي والآخر إلزامي وجوبي عرضيّان ، وهما من قبيل الأمر النذري ؛ إذ متعلّق كلّ منهما عين متعلّق الآخر ، وأحدهما تعبّدي وهو الاستحبابي والآخر توصّلي وهو وجوب الوفاء بالعقد ، فيتحقّق حينئذ الاندكاك والسراية من كلّ منهما إلى الآخر ، كما قرّرناه في النذر ، هذا ما كان من أمر الكبرى.

وأمّا الصغرى فلو سلّمنا ما ذكره قدس‌سره : من كون الأمر الإيجاري في طول الأمر الثاني لا في عرضه ، فكون المقام ـ وهو الكراهة في العبادة في القسم الثالث ـ من صغريات هذه الكبرى ممنوع.

بيان ذلك : أنّ الأمر المتوجّه إلى صوم يوم عاشوراء لم يتعلّق بذات العمل حتّى على مسلكه قدس‌سره فإنّ قصد القربة مأمور به شرعا بمتمّم الجعل على ما ذكره قدس‌سره وبنفس الأمر المتوجّه للعبادة على ما اخترناه ، فقصد التقرّب والامتثال ممّا تعلّق به الأمر الشرعي والنهي قد تعلّق بالتقرّب بالصوم إلى الله تعالى ، فمتعلّق كلّ منهما عين متعلّق الآخر ، فالصحيح في الجواب ما ذكرنا من جواب الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١).

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ١ : ٦٤٥ ـ ٦٤٦.

٥٤٧

ثمّ إنّ كراهة الصوم في المثال إذا أتى به بعنوان أنّه صوم.

وأمّا إذا أتى به تبرّكا بذلك اليوم وشكرا على ظفر أعداء الدين بأوليائه فهو محرّم قطعا بلا كلام ولا خلاف.

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ الاستدلال بكراهة هذه العبادات لا يصلح دليلا على جواز اجتماع الأمر والنهي بقول مطلق ، فالمعيار في جواز الاجتماع وعدمه ما ذكرناه فراجع.

فيما لو اضطرّ إلى المجمع :

بقي الكلام في أمرين :

أحدهما : ما نسب إلى المحقّق القمّي قدس‌سره من تصحيحه مورد الاجتماع ، بدعوى أنّ الأمر متوجّه نحو الطبيعة ، وأنّ الفرد الخارجي مقدّمة لها ، ولا مانع من حرمة المقدّمة حيث لا تكون منحصرة ، فيبقى الواجب على وجوبه (١).

وفيه :

أوّلا : أنّ وجود الطبيعي بوجود فرده ، وليس للفرد وجود مغاير لوجود الطبيعي ليصحّ ما ذكره في فرض عدم انحصار المقدّمة.

وثانيا : أنّا إن بنينا على أنّ وجود طبيعة الصلاة منضمّ إلى وجود طبيعة الغصب ـ مثلا ـ فنقول بصحّة العبادة من دون حاجة إلى حديث المقدّمة ، وإن بنينا على اتّحاد الوجود الخارجي ، فكما أنّ الطبيعتين متّحدتان كذلك الفردان أيضا متّحدان ؛ إذ ليس الفرد هو الغصب والطبيعة هي الصلاة ، بل الفرد فرد لهما والطبيعة أيضا لهما ، نعم لو كان الفرد ماهيّة اخرى غير الطبيعة أمكن هذا الكلام.

وبالجملة : فكلام المحقّق القمّي قدس‌سره موقوف على مقدّمتين :

__________________

(١) انظر القوانين ١ : ١٤١.

٥٤٨

إحداهما : أنّ وجود الفرد غير وجود الطبيعة.

الثانية : أنّ ماهيّة الفرد غير ماهيّة الطبيعة التي هو فرد لها ، وكلا المقدّمتين باطل.

الثاني من الأمرين : أنّه لو ارتفع التحريم لاضطرار أو نسيان أو غفلة فهل يكون الإتيان بالمجمع صحيحا أم لا؟ نسب (١) إلى المشهور الصحّة كما اختاروها في صورة الجهل ، ولكنّ الميرزا النائيني (٢) ألحق صورة النسيان والاضطرار بصورة الجهل بالبطلان ؛ لأنّ المبغوض لا يصير محبوبا وإن ارتفع الإثم ، وقد ذكر مقدّمة لا بأس بذكرها تبعا له وهي : أنّ النهي المتوجّه إلى المركّب قد يكون إرشاديّا إلى المانعيّة ، كما في قوله : لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه ، فإنّ ظهور النهي في التحريم قد يخرج عنه بالقرينة ولو كانت قرينة عامّة إلى الإرشاد إلى المانعيّة كما في المركّبات ، ومثل هذا القسم لا يفرق فيه بين صور العلم والجهل والغفلة وغيرها من الأعذار ، فإذا اضطرّ فمقتضى اضطراره ارتفاع وجوب المقيّد لا ارتفاع مانعيّة المنهيّ عنه. وكذا الأمر حيث يكون إرشادا إلى الشرطيّة ، فإنّ إطلاقه يقتضي التقيّد به فلو لم يتمكّن من القيد سقط المركّب إلّا أن يقوم دليل يقتضي وجوب الباقي ، كما في مثل : الصلاة لا تسقط بحال (٣).

ثانيهما : أن يكون ظاهرا في التحريم.

فتارة يكون اجتماع التحريم والوجوب من باب المزاحمة ، كما إذا كان الواجب ذا مقدّمة محرّمة وحرمتها أهمّ من وجوب الواجب ، فلو غفل وأتى بتلك المقدّمة

__________________

(١) انظر مجمع البرهان ٢ : ١١٠ ، ومفتاح الكرامة ١ : ٣٠٣ ، والجواهر ٨ : ٣٠١ وغيرها.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٦٣.

(٣) هذه الجملة قاعدة مستفادة من الروايات كما صرّح به السيّد الحكيم [المستمسك ٤ : ٣٨٢] والخوئي [والتنقيح (الطهارة) للسيّد الخوئي ٢ : ٣٨٣ ، ٤٠٤ ، وغيرها] وليست برواية وكثيرا ما استعملت في كلمات الفقهاء. انظر الجواهر ٧ : ٤١٨ ، ومصباح الفقيه ٢ : ٩١ ، ١٠٠ ، ١٠٢ ، ١٧٦ و ٦ : ٥٧٢ وغيرها.

٥٤٩

فلا ريب في صحّة ذلك الواجب ؛ لأنّ مزاحمة التحريم إنّما هي في صورة الوصول ، أمّا في صورة عدم الوصول فلا مزاحمة أصلا. وكذا الكلام في الأمر حيث يكون نفسيّا دالّا على وجوب واجب آخر أهمّ فإنّ مزاحمته للواجب الثاني إنّما هي فرع للوصول إلى المكلّف ، فلو لم يصل فلا مزاحمة ، ومن هنا حكمنا بصحّة الضدّ في صورة الجهل مع قطع النظر عن الترتّب.

واخرى يكون من باب المعارضة كما في مثل المقام فهل يلحق هذا القسم بالأوّل أم بالثاني؟ ذهب المشهور إلى اللحوق بالثاني ، وذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى اللحوق بالأوّل ، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك هو : أنّ التحريم قد يكون في عرض عدم الوجوب وقد يكون في طوله ، مثلا أنّ النهي في المقام إن قلنا بأنّه مقدّمة لرفع الوجوب لأهميّته ووجود أحدّ الضدّين مقدّمة لعدم ضدّه فالتحريم في طول عدم الوجوب ؛ لأنّه مقدّم عليه رتبة. وإن قلنا بأنّ النهي دالّ على التحريم ويلزمه عدم الوجوب فهما مدلولان عرضيّان للنهي ، وحيث بنى المشهور على الأوّل فارتفاع التحريم يقتضي ارتفاع عدم الوجوب فيعود الوجوب ؛ ولذا أفتوا بالصحّة في الفرض ، وحيث إنّ هذا المبنى فاسد عندنا وإنّ أحد الضدّين ليس مقدّمة لعدم الآخر وكذا العكس فهما في رتبة واحدة ومدلولان لدليل واحد فإذا جاء حديث الرفع فإنّما يرفع التحريم فلا يرتفع عدم الوجوب فيكون غير واجب فيكون باطلا (١) ، هذا ملخّص ما أفاده قدس‌سره.

أقول : ما أفاده قدس‌سره من كون عدم الضدّ في رتبة الضدّ الآخر ، متين جدّا. وكذا كون عدم الوجوب مع الحرمة في رتبة واحدة أيضا متين إلّا أنّه في مقام الثبوت فإنّهما في رتبة واحدة فيها ، وأمّا في مقام الإثبات فلا فإنّ دلالة النهي على التحريم مطابقة ودلالته على عدم الوجوب من جهة الملازمة ؛ إذ التحريم للفرد مع إيجابه أو

__________________

(١) فوائد الاصول ١ و ٢ : ٤٦٧.

٥٥٠

الترخيص في تطبيق الواجب عليه ممّا لا يجتمعان ، فبدلالة الملازمة لا يكون واجبا ، ومن المعلوم أنّ الدلالة الالتزاميّة تتبع المطابقة حدوثا وبقاء. فإذا فرض ارتفاع التحريم الذي هو المدلول المطابقي واقعا يرتفع لازمه واقعا أيضا ؛ لأنّ المانع عن الاتّصاف بالوجوب هو ، فإذا ارتفع ارتفع عدم الوجوب أيضا فيكون واجبا فيجزي حينئذ. وهذا نظير التخصيص ، فإنّ المخصّص إذا خصّص «أكرم العلماء» أو قيّد إطلاق «أكرم عالما» ب «لا تكرم زيدا» فهو يقتضي خروج زيد من أوّل الأمر غايته أنّ الكاشف صدر الآن ، فإذا فرضنا أنّ المخصّص قد خصّص فلا مانع حينئذ من بقاء هذا المخصّص تحت عموم العامّ ؛ لأنّ المانع كان هو المخصّص الأوّل وهذا الفرد كزيد يوم الجمعة قد خصّص من لا تكرم زيدا فزيد يوم الجمعة داخل تحت عموم أكرم العلماء من أوّل الأمر. فلا فرق بين التخصيص وبين حديث الرفع الحاكم على العناوين الأوّلية ، فإنّه مثمر لنتيجة التخصيص.

وتوهّم الفرق بين التخصيص الذي هو عدم الحكم من أوّل الأمر وبين حديث الرفع فإنّ الرفع إنّما يصدق مع تحقّق المقتضي وهو المبغوضيّة ومع تحقّق المبغوضيّة كيف يحكم بتحقّق الترخيص في تطبيق الواجب على ما هو مبغوض؟

مندفع بأنّ المقتضي متحقّق وهو المفسدة لا المبغوضيّة ، وهذه المفسدة قد تدوركت بالمصلحة الأقوى ، وهي مصلحة التسهيل على هذه الامّة المرحومة التسهيل الذي لم يكن على من تقدّمها من الامم. فلا فرق بين التخصيص وما نحن فيه في أنّه لا مبغوضيّة حين الاضطرار أو الإكراه أو النسيان ممّا رفع الحكم فيه بالتحريم واقعا وثبتت فيه الحلّية الواقعيّة ، كما هو صريح قوله عليه‌السلام : ما من محرّم إلّا وقد أحلّه الله في حال الضرورة ، فإنّ مقتضى هذا الحديث أنّ الحلّية المجعولة من سنخ التحريم المرتفع في حال الاضطرار لا بسوء الاختيار.

٥٥١

بقي شيء قد أسلفنا الإشارة إليه فيما سبق وهو : أنّ المضطرّ إلى المكث في المكان المغصوب هل يجب عليه الاقتصار على أقلّ ما تندفع به الضرورة فلا يجوز له أن يصلّي بركوع وسجود أم يجوز له أن يصلّي بركوع وسجود عاديّين؟ فنقول : إنّ هنا امورا ثلاثة :

أحدها : شغل الجسم للحيّز ، وهذا لا يفرق فيه بين جميع هيئات المكلّف من قيام وجلوس وغيرهما ، فإنّ مقدار الحيّز لا يختلف كثرة وقلّة فليس مانع من أن يصلّي من هذه الجهة.

ثانيها : المماسّة للأرض حال السجود ، وهذا وإن زاد حال السجود عنه حال القيام ؛ لأنّه حال القيام لم يمسّ الأرض إلّا بقدميه بخلافه حال السجود فإنّ المساجد السبعة حينئذ تمسّها إلّا أنّ مجرّد المماسّة ليست تصرّفا عرفيّا ، ومن ثمّ لا يقال لمن مسّ جدار الغير : إنّه تصرّف فيه ، فلا مانع من الصلاة العاديّة من هذه الجهة أيضا.

ثالثها : الاعتماد ، وهذا أيضا ليس مانعا ؛ لأنّ الثقل للإنسان لا يزيد حال جلوسه ، بل إنّ ثقله واحد سواء كان حال القيام والاعتماد على القدمين أم كان حال الجلوس والاعتماد على مجموع الرجلين أم حال الجلوس والاعتماد على المساجد السبعة ، فإنّ الثقل واحد ولا يتفاوت بتفاوت الحالات.

وقد أسلفنا ما نقله صاحب الجواهر ١ في هذه المسألة من أنّ تكليف الله عبده المحبوس بأن يقتصر على مقدار ما يضطرّ إليه من الوقوف على أطراف أصابعه أوّلا ثمّ إذ صار عسرا وحرجيّا ينتقل إلى تمام الأصابع وهكذا ... حبس أشد من حبس الظالم له (١). هذا تمام الكلام في الغفلة والنسيان والاضطرار حيث لا يكون بسوء الاختيار ، وقد تلخّص أنّ مقتضى القاعدة في مثلها ممّا رفع فيه الحكم الواقعي هو الصحّة ، بخلاف الجهل فإنّ رفع الحكم فيه ظاهري رافع للإثم ولكن المبغوضيّة باقية.

__________________

(١) انظر الجواهر ٨ : ٣٠٠.

٥٥٢

وأمّا الاضطرار بسوء الاختيار :

كمن دخل أرض الغير بغير إذنه فهو مضطرّ إلى الخروج منها فهل يرتفع النهي بهذا الاضطرار أم لا؟ والكلام هنا يقع في مقامين :

أحدهما : حكم الخروج في نفسه.

الثاني : حكم الصلاة في حال الخروج.

فالكلام الآن يقع في حكم الخروج نفسه ؛ لأنّ حكم الصلاة متفرّع عليه.

فنقول : ذهب جماعة (١) إلى أنّ الخروج منهيّ عنه ليس إلّا وأنّ حكمه قبل الاضطرار بعينه باق بعده لم يرفعه الاضطرار ؛ لأنّه بسوء الاختيار ، ولا قبح في التكليف بحرمة جميع ما يمكن أن يفعله المكلّف الآن من الخروج والبقاء والولوج أكثر ممّا هو والج فيه الآن ؛ لأنّ المكلّف قادر أن يترك الجميع بترك الدخول الذي كان اختياريّا له.

وذهب آخرون إلى أنّه مأمور به مع إجراء حكم المعصية عليه حيث يصدر العمل مبغوضا (٢).

وآخرون إلى أنّه مأمور به ليس إلّا ، واختاره الشيخ الأنصاري قدس‌سره وقوّاه الميرزا النائيني قدس‌سره (٣).

وآخرون إلى أنّه مأمور به ومنهيّ عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار ، واختاره الميرزا القمّي تبعا لأبي هاشم الجبائي (٤).

__________________

(١) راجع نهاية الوصول : ١١٧ ، والمدارك ٣ : ٢١٧ ، وضوابط الاصول : ١٥١.

(٢) وهو المحكي عن الفخر الرازي ، راجع القوانين ١ : ١٥٤ ، وجنح إليه صاحب الفصول : ١٣٨.

(٣) مطارح الأنظار ١ : ٧٠٩ ، وأجود التقريرات ٢ : ١٨٦.

(٤) القوانين ١ : ١٥٣ ، وانظر نهاية الوصول : ١١٧.

٥٥٣

وذهب صاحب الكفاية قدس‌سره إلى أنّه غير محكوم بحكم أصلا وإن كان مبغوضا للنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار ، وأنّ حكم العقل بالخروج حذرا من الوقوع في أشدّ القبيحين وتخلّصا بأخفّ القبيحين (١). فهذه الخمسة هي جملة الأقوال في المسألة.

أمّا القول الأوّل فمبنيّ على جواز التكليف بالمحال إذا كان المكلّف سببا له ، وهو باطل ، بل الظاهر أنّ التكليف بالمحال قبيح على كلّ حال لا يصدر من حكيم أصلا ؛ ولذا لا يحسن من المكلّف أن يقول : «إذا صعدت السطح فطر إلى السماء ، أو فاجمع بين النقيضين» وحينئذ فلا يمكن أن يكلّف المولى بعمل لا يقدر عليه المكلّف في هذا الحال ؛ لأنّ التكليف بعث وتحريك فلا بدّ أن يكون إلى عمل يمكن البعث نحوه والتحريك إليه.

وأمّا القول الثاني فيرد عليه :

أوّلا : أنّه إن كان الخروج محبوبا فما معنى إجراء حكم المعصية عليه ، وإن كان مبغوضا فما معنى الأمر به.

وثانيا : أنّه تكليف بالمحال.

وثالثا : أنّه لا مقتضي للأمر كما سيأتي.

وأمّا القول الرابع ـ وهو أنّه مأمور به ومنهيّ عنه وهو ما ذهب إليه الميرزا القمّي تبعا لأبي هاشم الجبائي ـ فيرد عليه :

أوّلا : أنّه لا مقتضي للأمر.

وثانيا : أنّه طلب الضدّين واختلاف زمان صدور الأمر مع زمان صدور النهي لا يجدي مع اتّحاد زمان المتعلّق وإنّما يجدي اختلاف زمان المتعلّق وإن اتّحد زمان صدورهما ؛ لأنّ الأحكام التكليفيّة ناشئة من مصالح ومفاسد في المتعلّق

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٠٤.

٥٥٤

ويستحيل أن يكون فيه مصلحة ومفسدة في آن واحد لتكون منشأ للأمر والنهي ، فإنّهما إن تساويا تساقطا فلا يؤمر ولا ينهى وإن رجّحت إحداهما اندكّت الاخرى واضمحلّت.

نعم ، هذا يمكن في الأحكام الوضعيّة بأن يتّحد الموضوع زمانا ويختلف حكم الشارع عليه بأن يصدر يوم الخميس الحكم بالملكيّة لزيد ثمّ يصدر يوم الجمعة حكم الشارع على ذلك المال في ذلك الظرف الذي حكم يوم الخميس بملكيّته لزيد أنّه ملك عمر مثلا ، والسرّ في إمكانه أنّ مصلحة الحكم الوضعي في نفس الحكم ولا مانع من أن تكون المصلحة اليوم في أن يحكم بملك زيد له يوم الجمعة والمصلحة غدا أن يحكم بملك عمر له يوم الجمعة أيضا لتستوفى المصلحتان معا بالحكمين المحقّقان لهما. وعلى هذا جوّزنا الكشف في بيع الفضولي فإنّه قبل الإجازة محكوم بكونه ملك المالك وبعده يحكم بكونه ملك المشتري من حين العقد.

وثالثا : أنّ توجّه الأمر والنهي إلى واحد بعنوان واحد محال حتّى عند القائلين بجواز الاجتماع ، هذا تمام الكلام في بطلان هذه الأقوال الثلاثة.

بقي الكلام في قول الشيخ الأنصاري وقول الآخوند قدس‌سره وهما القول الثالث والخامس وهما أهمّ الأقوال في المقام.

فنقول : ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره ـ لمّا ارتضاه من قول الشيخ الأنصاري ـ دليلين : أحدهما مثبت لمختاره ، والآخر ناف لما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره.

أمّا المثبت لمختاره : فإنّه قدس‌سره زعم أنّ جامع التصرّف في مال الغير بغير إذنه وإن اضطرّ إليه الداخل باختياره إلّا أنّه ليس بمحرّم بتمام أفراده بل قد ينطبق عنوان على بعض أفراده ، فلا يكون محرّما من جهة انطباق ذلك العنوان عليه كما في المقام ، فإنّ الخروج ينطبق عليه عنوان التخلية لمال الغير وهذه التخلية واجبة ، فلا يكون الخروج من أوّل الأمر محكوما بالحرمة وإن حرم الدخول المسبّب له ، فالدخول لعدم انطباق عنوان التخلية عليه كالمكث والزيادة في الولوج محرّم

٥٥٥

قطعا إلّا أنّ عنوان التخلية موجب لئلّا يقع الخروج محرّما أصلا بل هو واجب قطعا ليس إلّا (١).

والجواب : أنّه لا مقتضي لاتّصاف الخروج بالوجوب لا نفسيّا ولا غيريّا.

أمّا عدم الوجوب النفسي فلأنّ الخروج عبارة عن تعاقب الأقدام حتّى منتهى أرض الغير ، ومن المعلوم أنّه ليس تخلية بل هو إشغال كالدخول فليس بواجب وجوبا نفسيّا. وأمّا عدم الوجوب الغيري فلأنّ الخروج مقدّمة للكون خارج الأرض وليس هو واجبا بل الواجب عنوان التخلية والكون خارج الدار ملازم لها ، وهذا هو الذي ذكره الآخوند في هامش الكفاية في الردّ على دليل الشيخ من أنّ ... (٢) فما ذكره الآخوند في متن الكفاية كان تنزّلا وإلّا ففي الحقيقة لا مقدّمية ، هذا هو دليل الميرزا المثبت وجوابه.

وأمّا دليله النافي لكلام صاحب الكفاية قدس‌سره فهو : أنّه ينفي كون المورد من صغريات الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وإن كان ينافيه خطابا التي استدلّ بها الآخوند على تحقّق العقاب الفعلي من جهة المبغوضيّة بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار. وقد أفاد في بيان كون المورد ليس من مصاديقها أدلّة أربعة ، نذكر الرابع منها أوّلا ؛ لأنّ جوابه جواب الكل فنقول : ذكر في الدليل الرابع أنّ القاعدة إنّما تنطبق حيث لا يمكن الأمر بالفعل كما إذا ترك السفر مع الرفقة إلى الحجّ حتّى ضاق الوقت فهنا حيث لا يمكن الأمر بالخروج تنطبق قاعدة الامتناع بالاختيار ، بخلاف المقام فإنّ الخروج مقدور وكذا البقاء أيضا والدخول أزيد من هذا المقدار كلّه مقدور تكوينا ؛ ولذا ذكرت أنّ الخروج واجب بحكم العقل إرشادا إلى أخفّ المحذورين (٣).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) انظر الكفاية : ٢٠٤ وهامشها الرقم ٤.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ١٩٤.

٥٥٦

والجواب : أنّ قاعدة الامتناع بالاختيار المراد بها امتناع امتثال التكليف ، فقد يكون التكليف وجوبيّا فالامتناع بامتناع الفعل ، وقد يكون تحريميّا فالامتناع بامتناع الترك ، ومقامنا من الثاني ، والبقاء والدخول أزيد من هذا المقدار ممنوع منه شرعا ، والممنوع شرعا كالممتنع عقلا فقد امتنع عليه غير الخروج ، فإذا كان مبغوضا بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار فقد امتنع عليه ترك الخروج لكنّه باختياره الدخول وهو لا ينافي الاختيار عقابا وإن نافاه خطابا. نعم في مثال الحجّ الامتناع تكويني وهو هنا تشريعي بالمنع شرعا عن الخروج كالبقاء والدخول أكثر ممّا هو داخل ، وهذا الفرق لا يمنع من جريان القاعدة.

الثاني من الوجوه التي ذكرها الميرزا النائيني قدس‌سره لبيان أنّ المقام ليس من صغريات قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار : أنّ مورد القاعدة هو حيث يكون العمل والتكليف ممتنعين وليس الخروج في المقام ممتنعا ؛ ولذا وجب عقلا باعترافكم ، وإذا وجب عقلا ففيه قابليّة الوجوب الشرعي لاعتبار القدرة في التكليف العقلي كالشرعي (١).

والجواب : أنّ ما كلّف به في المقام هو ترك الخروج لا الخروج نفسه وهو غير قابل للنهي عنه عقلا ولا شرعا بعد النهي عن المكث والدخول أزيد ممّا دخل ، وهذا خلط بين كون الواجب المكلّف به هو الخروج أو تركه ، وحينئذ فترك الخروج لا يمكن التكليف به فهو ممتنع شرعا ولكن باختياره الدخول ، ولا مقتضي للتكليف الوجوبي بالخروج وإن كان ممكنا فإنّ تحريم الضدّ وإيجاب ضدّه لا مانع منه ، فليس الخروج محكوما بحكم أصلا ولكن بما أنّ الامتناع بالاختيار وهو لا ينافي العقاب نقول بأنّه معاقب عليه.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٩٦ ، وفوائد الاصول ١ و ٢ : ٤٥٢.

٥٥٧

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن الوجهين الباقين اللذين ذكرهما الميرزا وأحدهما يرجع إلى الثاني وملخّصهما : أنّ القاعدة إنّما تجري حيث يفعل المكلّف أمرا لا يمكن معه التكليف بذلك الشيء كأن يترك السير مع الرفقة فيمتنع عليه حينئذ فعل الحجّ ، وهذا عكس المورد الذي نحن فيه ، فإنّ الدخول الذي صدر من المكلّف هو الذي مكّنه من الخروج ، فإنّه لو لا دخوله لم يتمكّن من الخروج فهي عكس موردنا تماما.

ووجه ظهور الجواب ممّا مرّ : أنّ المكلّف به الذي لا يمكن التكليف به حسب ادّعاء الآخوند هو ترك الخروج لا الخروج وهذا الدخول هو الذي أوجب استحالة التكليف به ، فهو من موارد القاعدة لا عكسها وحيث أن لا مقتضي لإيجاب الخروج كما مرّ لم يحكم بحكم فعلا وإن كان مبغوضا ومعاقبا عليه ، لقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وإن نافاه خطابا.

فتلخّص : أنّ ما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره في هذه المسألة ـ من كون الخروج غير محكوم بحكم أصلا وإن عوقب عليه للنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار (١) ـ هو الصحيح في هذه المسألة.

هذا كلّه حيث لا يكون الخروج من الأرض المغصوبة مقدّمة لواجب كما ذكرنا ذلك ، أمّا لو كان مقدّمة لواجب فهل يكون حينئذ كما لو لم يكن مقدّمة غير محكوم بحكم فعلي أصلا وإن كان مبغوضا منهيّا عنه بالنهي الساقط بحدوث الاضطرار كما ذهب إليه صاحب الكفاية أم يكون واجبا؟ الظاهر ابتناء الكلام على الكلام في وجوب مقدّمة الواجب وعدمه ، فإن بنينا على وجوب مقدّمة الواجب كان الخروج واجبا ، وإلّا فلا ؛ وحيث بنينا على العدم فالخروج كما لو لم يكن مقدّمة في كونه غير محكوم بحكم أصلا وإن كان مبغوضا بالنهي الساقط بحدوث الاضطرار.

وتوضيح ذلك موقوف على بيان أمرين :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٥٥٨

أحدهما : أنّا إذا بنينا على الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته عقلا فيكون وجوب المقدّمة من قبيل لوازم الماهيّة لوجوب ذي المقدّمة فوجوبها عقلي ، والوجوب العقلي غير قابل للتخصيص في مورد أصلا. وما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره : من أنّ الوجوب إنّما هو في ظرف عدم الحرمة (١) غير تامّ ؛ إذ بعد فرض كون وجوب المقدّمة بحكم العقل والمفروض فعليّة وجوب ذي المقدّمة كيف يعقل أن لا يحكم بوجوب المقدّمة حينئذ؟ وأحكام العقل غير قابلة للتخصيص ؛ إذ المفروض تحقّق الملازمة بين كلّ مقدّمة وذيها في الوجوب.

الثاني : أنّه قد يقال ذكرتم في ردّ كلام صاحب الفصول القائل بكون الخروج واجبا ومبغوضا بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار (٢) أنّ العبرة بزمان الفعل فإن كان عند صدوره حسنا وذا مصلحة لم يحسن أن ينهى عنه وإن كان قبيحا لم يحسن أن يأمر به ، وهذا الكلام بعينه جار في المقام حرفا بحرف ، فإنّ الخروج المقدّمي إن كان حسنا فلم يجري عليه حكم المعصية ، وإن كان مبغوضا فلم يأمر به المولى.

والجواب : أنّ ما ذكر متين في الواجبات النفسيّة فإنّ المصلحة إن وجدت فيه وكانت أهمّ فلا معنى للنهي وإلّا فلا معنى للأمر ، إلّا أنّ هذا في الواجب الغيري لا يضرّ كما هو محلّ الكلام. والسرّ في ذلك أنّ الواجب النفسي ما كانت المصلحة في ذاته والمحبوبيّة لذاته وهما لا يجتمعان مع المفسدة الذاتيّة والمبغوضيّة النفسيّة فلا بدّ من الكسر والانكسار والحكم بفعليّة الأهمّ ملاكا ، وهذا بخلاف الوجوب والمحبوبيّة الغيريّة فإنّهما يجتمعان مع المبغوضيّة الذاتيّة.

وأحسن شاهد لذلك الوجدان فإنّ المبغوض قد يلجأ المولى إلى إيجابه وجوبا غيريّا كما في المقام ، فإنّ الخروج حيث يكون مقدّمة للواجب بناء على وجوب

__________________

(١) انظر كفاية الأصول : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) انظر الفصول : ١٣٨.

٥٥٩

المقدّمة يلجأ المولى إلى أن يوجبه غيريّا على المكلّف حيث يكون المكلّف سببا لإلجائه لدخوله فيها بسوء اختياره ، مثلا إذا كان المولى يكره أن يمسّ العبد زوجته فألقاها العبد في البحر والمولى لا يعرف السباحة نعم يعرفها العبد فقط ، ففي هذا المقام العبد بعمله يلجئ المولى إلى أن يأمره بإخراجها المستلزم لمسّها ، فيكون المسّ المبغوض ذاتا مأمورا به عرضا أمرا غيريّا وهو على مبغوضيّته الذاتيّة ومفسدته النفسيّة فهو مبغوض ذاتا مأمور به بالأمر الغيري ، فالأمر من المولى لعبده بإخراجها لا ينافي استحقاق العبد العقاب ؛ لأنّه ألجأ المولى بإلقائها في البحر إلى أمره بإخراجها. ومثله أن ينمّ العبد على مولاه بما يقتضي مصادرة أمواله فليلتجئ المولى إلى أن يأمر عبده بإعطاء الرشوة لتخلية الأموال ، فإنّ إعطاء الرشوة كان مبغوضا للمولى ذاتا ولكنّه صار محبوبا عرضا ولا ينافي استحقاق العبد للعقاب ؛ لأنّه نمّ على مولاه بذلك وأمثلة ذلك كثيرة. هذا كلّه حكم الخروج من حيث نفسه.

وأمّا حكم الصلاة حال الخروج : فالصلاة تارة تكون بركوع وسجود ، واخرى تكون بالإيماء.

والصلاة بالإيماء تارة تكون فرض المصلّي وتكليفه حتّى لو صلّى في خارج المكان المغصوب لخوف أو عدم قدرة عليهما وعلى الطمأنينة ، واخرى لا تكون فرضه.

أمّا الصلاة بالركوع والسجود فصحّتها موقوفة على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ؛ لأنّ الخروج وإن سلّمنا كونه مأمورا به إمّا لكونه مقدّمة للتخلية أو لكونه مصداقا لها إلّا أنّ الركوع والسجود العاديّين يحتاجان إلى مكث زائد على الخروج ، فإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي وإنّ التركيب انضمامي فالصلاة صحيحة ، وإن لم نقل بجواز اجتماع الأمر والنهي بأن قلنا بالامتناع وإنّ التركيب اتّحادي فالصلاة باطلة.

٥٦٠