غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

فرد غير مزاحم جوّز توجّه الأمر بالطبيعة ، وبعد توجّه الأمر بالطبيعة ففي أيّ فرد تحقّقت الطبيعة كان الانطباق قهريّا ، وسقوط الأمر عقليّا ، والقدرة إنّما تعتبر في المأمور به عقلا (١).

ولكن الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) حيث زعم أنّ القدرة إنّما تعتبر من نفس الأمر ـ بدعوى أنّه لا يتوجّه نحو غير المقدور ، فلا يكون الفرد المحرّم محلّا للأمر أصلا ، بل يكون المأمور به هو الحصّة المقدورة من الطبيعة ليس إلّا ، فلا يكون الممنوع عنه شرعا مأمورا به أصلا ـ زعم تحقّق التزاحم أيضا بين خطاب الوجوب وخطاب التحريم. فإن قدّمنا جانب الوجوب ـ يعني قدّمنا الأمر ـ فلا كلام في صحّة العبادة حينئذ ، لسقوط إطلاق النهي حينئذ. وإن قدّمنا جانب التحريم ؛ لأنّ عموم النهي شمولي وعموم الأمر بدلي ، فيكون هذا الفرد المتّحد مع الحرام ولو مسامحة منهيّا عنه ، فيخرج عن حيّز الأمر ؛ لعدم كونه مقدورا ، والمفروض أنّ الأمر لا يتوجّه إلّا نحو المقدور. ومن هنا ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) إلى فساد الصلاة في الدار المغصوبة مع المندوحة مع بنائه على جواز اجتماع الأمر والنهي وأنّ التركيب انضمامي.

أقول الكلام مع الميرزا النائيني قدس‌سره يقع في مقامين :

الأوّل : في المبنى المذكور وهو كون الأمر مقتضيا لمقدوريّة متعلّقه ، بل إنّ المقدوريّة إنّما تعتبر لقبح تكليف العاجز ، فالأمر بالطبيعة ممكن إذا قدر على بعض أفرادها ، وقد مرّ تفصيل الكلام في ذلك في مبحث الترتّب.

الثاني : في أنّا لو سلّمنا هذا المبنى إلّا أنّ هذه الكبرى الكلّية غير منطبقة على المورد ؛ لأنّا بعد أن فرضنا أنّا قائلون بجواز اجتماع الأمر والنهي ـ ومعناه كون

__________________

(١) انظر جامع المقاصد ٥ : ١٣ ـ ١٤.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٢٦.

(٣) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٧٧ ـ ١٨١.

٥٢١

التركيب بينهما انضماميّا ـ فالمأمور به غير المنهيّ عنه وإن انضمّا ، فيكون الصلاة حينئذ مقدورة ، فإذا كانت مقدورة فإطلاق الأمر حينئذ شامل لها ؛ لأنّ عدم المقدوريّة لهذا الفرد إمّا تكوينيّة والمفروض أنّها مقدورة تكوينا ، وإمّا تشريعيّة وعدم المقدوريّة شرعا إمّا من جهة النهي عن نفس العبادة ، والمفروض أنّ المنهيّ عنه في المقام أمر منضمّ إلى المأمور به ، وإمّا من جهة كون مقدّمته محرّمة وكانت أهمّ بالمراعاة من نفس الواجب الموقوف عليها ، وكلّ هذه الامور مفقودة في المقام. فالظاهر أن ليس المقام من مقامات التزاحم على كلا المبنيين.

لا يقال : إنّ ملازم المحرّم لا يكون واجبا.

فإنّه يقال : هذا في الملازم مسلّم ، ولكن لا ملازمة في المقام لفرض وجود المندوحة وهو الفرد الآخر الغير المنضمّ إلى المحرّم ، وإنّما بسوء اختياره عمد إلى هذا الفرد المنضمّ إليه المحرّم.

الأمر السادس : أنّ محور النزاع في المقام في أنّ متعلّق الأمر والنهي أمر واحد ، وأنّ العناوين المنطبقة عليه عناوين انتزاعيّة وأنّها لا تقتضي تعدّد المعنون وأنّها تعليليّة ، وأنّ التركيب تركيب اتّحادي ، أو أنّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي وأنّ أحدهما لا يسري إلى الآخر وأنّ العناوين عناوين أصيلة وأنّها تقتضي تعدّد المعنون وأنّه تقييديّة وأنّ التركيب انضمامي.

فعلى الأوّل لا بدّ من القول بالامتناع كما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره (١) وجماعة (٢).

__________________

(١) انظر الكفاية : ١٩٣ ـ ١٩٦.

(٢) منهم صاحب المعالم في المعالم : ٩٣ ، وقال : لا نعلم منه مخالفا من أصحابنا. وقال في القوانين : والقول بعدم الجواز هو المنقول عن أكثر أصحابنا والمعتزلة. القوانين ١ : ١٤٠ ، ومنهم العلّامة في نهاية الوصول : ١١٦ ، والفاضل التوني في الوافية : ٩١ ـ ٩٢ ، وصاحب الفصول في الفصول : ١٢٥.

٥٢٢

على الثاني فيبتني على القول بأنّ متعلّق الأمر هو الأفراد ـ بمعنى أنّ المشخّصات داخلة تحت الأمر ـ أو أنّ الأمر متعلّق بالطبائع بمعنى أنّ المشخّصات غير دخيلة ، وإنّما هي من لوازم وجود المأمور به.

فإن قلنا بالأوّل أيضا فلا بدّ من القول بالامتناع.

وإن قلنا بالثاني فلا بدّ من القول بالجواز.

فالقول بالجواز موقوف على أن يكون التركيب انضماميّا ، وأنّ التكليف لا يسري إلى المشخّصات.

والقول بالامتناع مبنيّ على القول بأنّ التركيب اتّحادي أو أنّ التركيب انضمامي إلّا أنّ الأمر متعلّق بالأفراد بمعنى سرايته إلى مشخّصاته.

الأمر السابع : أنّ الكلام في أنّ اجتماع الأمر والنهي ممكن وليس اجتماعا للضدّين ؛ لأنّه ليس اجتماعا في الحقيقة وإن كان له اتّحاد صوري ، أو أنّه مستحيل لأنّه جمع للضدّين وهو محال ، فالنزاع في أنّ التكليف محال أو ليس بمحال. وهذا النزاع لا يكون موقوفا على القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد كما عليه العدليّة وأغلب المعتزلة (١) ، بل يجري حتّى على قول الأشاعرة القائلين بعدم التبعيّة ؛ لأنّ النزاع في كونه جمعا بين الضدّين أم لا ، ولا يرى الأشعري (٢) جواز اجتماع الضدّين وإمكانه.

وبالجملة ، فالنزاع مشترك بين القولين.

فإن قلنا بأنّ التركيب اتّحادي فلا بدّ من تقييد أحد الإطلاقين ؛ لاستحالة الجمع بين الضدّين ، ويكون المقام من قبيل المتعارضين.

وإن قلنا بأنّ التركيب انضمامي فلا يخلو الحال بين أن يكون هناك مندوحة أو لا يكون هناك مندوحة ، فإن لم يكن هناك مندوحة فالمقام من قبيل المتزاحمين ،

__________________

(١) انظر كشف المراد : ٣٠٦ ، وشرح المواقف ٨ : ٢٠٢.

(٢) انظر المستصفى في علم الاصول ١ : ٧٦.

٥٢٣

وإن كان هناك مندوحة فعلى النزاع بيننا وبين الميرزا النائيني قدس‌سره لو اختار المكلّف الفرد المنهيّ عنه كما مرّ في الأمر الرابع.

ومن هنا ظهر أنّ ما ذكره صاحب الكفاية في الأمر السابع والثامن : من دوران النزاع مدار الملاك وأنّه لا يجري النزاع إلّا حيث يحرز إطلاق الملاكين (١) لا يخلو من تكلّف واضح.

الأمر الثامن : في ثمرة النزاع ، والكلام إمّا في العبادات وإمّا في المعاملات.

أمّا في العبادات فإن قلنا بالامتناع ؛ لأنّ المجمع واحد وجودا وماهيّة وأنّ تعدّد العنوان لا توجب تعدّد المعنون ؛ لأنّها عناوين انتزاعيّة ، فلا بدّ حينئذ إمّا من تقديم جانب الأمر أو تقديم جانب النهي.

فإن قدّمنا جانب الأمر لمرجّح يقتضيه فمعناه أنّا قيّدنا النهي بغير هذا الفرد ، فصار هذا الفرد مأمورا به ليس إلّا ، فهو عبادة صحيحة لا يشوبها شيء.

وإن قدّمنا جانب النهي لمرجّح ـ مثل كون عمومه شموليّا وعموم الأمر بدلي أو غير ذلك من المرجّحات ـ ففي صورة العلم والعمد لو صلّى في ذلك المكان المغصوب فلا ريب في عدم خروجه عن عهدة التكليف ؛ لأنّ تقديم النهي معناه جعل المجمع محكوما بالتحريم ، وبما أنّ الأحكام متضادّة فهو غير محكوم بالوجوب قطعا ، فلم يخرج عن عهدة الواجب لفرض عدم إطلاق يشمل هذا الفرد في أدلة الوجوب وعمل محرّما يستحقّ عليه العقوبة ، بل ولو قصد به الامتثال عوقب عقاب التشريع مضافا إلى عقاب المحرّم ، هذا كلّه في صورة العلم والعمد.

أمّا في صورة النسيان العذري أو الغفلة أو الجهل الموضوعي أو الحكمي حيث يكون الجهل عذريّا فهل يكون العمل صحيحا أم لا؟ ظاهر فتاوى الفقهاء الاتّفاق على الصحّة بحيث لم نظفر بمخالف ، بل في مفتاح الكرامة في مبحث الوضوء في الماء

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٨٨ ـ ١٨٩.

٥٢٤

المغصوب المجهول غصبيّته دعوى الإجماع على ذلك (١) ، إلّا أنّ الكلام كلّ الكلام في وجه هذه الفتيا ، فإنّ مقتضى تقديم جانب النهي خروج المجمع عن إطلاق الأمر فهو غير مأمور به ، فهو نظير ما إذا ورد : «أكرم العالم» و «لا تكرم الفاسق» فيما لو قدّمنا «لا تكرم الفاسق» ثمّ نسي فأكرم عالما فاسقا فهل يتوهّم أحد أنّه امتثل بهذا الفرد أمر أكرم العالم؟ كلّا فإنّ مقتضى تقديم النهي خروج المجمع عن إطلاق الأمر.

وقد ذكر لذلك وجهان :

أحدهما : ما في الكفاية من كفاية الملاك فإنّه إنّما خرج عن إطلاق الأمر ، وأمّا ملاكه فباق على ما كان فتصحيحه بملاكه (٢).

والجواب :

أوّلا : أنّا إنّما نحرز الملاك بتوجّه الأمر ، فإذا قيّد الأمر فمن أين نحرز أنّ المجمع ذو ملاك مع خروجه عن إطلاق الأمر.

وثانيا : أنّ وجود الملاك وإن سلّمناه إلّا أنّ هذا الملاك مغلوب بمفسدة أقوى قدّم النهي على الأمر لأجلها ، وإنّما يجدي الملاك حيث لا يكون مزاحما كما في الضدّ بناء على عدم صحّة الترتّب ، وأمّا حيث يزاحم كما في المقام فلا.

الوجه الثاني : أنّ تقييد الأمر في المقام إنّما كان بحكم العقل فيقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو صورة العلم والعمد ، وأمّا في غيرها فلم يعلم التقييد. وهذا بخلاف المخصّص اللفظي فإنّه لا يختصّ بخصوص حال العلم والعمد ، لإطلاقه المفقود في الدليل العقلي كما في المقام.

والجواب : أنّ هذا الكلام متين حيث يكون المقام من مقامات التزاحم بين الواجبين التي يكون المانع عن الإتيان بكلّ منهما عدم القدرة ، فلو جهل أحد

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١ : ٣٠٣.

(٢) انظر كفاية الاصول : ١٩٢.

٥٢٥

الخطابين ـ وإن كان هو الأهمّ ـ صحّ الإتيان بالمهمّ حينئذ لفرض بقاء ملاكه ، بل وأمره حينئذ كما مرّ ذلك ، أمّا في مقامنا بناء على الامتناع كما هو محلّ الفرض ، فمعنى تقديم جانب النهي فرض المقام خاليا من الأمر ؛ لكون وجود النهي مع الترخيص في التطبيق للامتثال للأمر على المنهيّ عنه فهو بنفسه غير معقول ؛ لأنّ التكليف حينئذ محال لا أنّه تكليف بالمحال ، كما في صورة التزاحم ليرتفع بالجهل عدم القدرة حينئذ ؛ لأنّ عدم القدرة مستند فيه إلى وصول كلا التكليفين إليه ، فإذا لم يصلّ أحدهما لا يتحقّق العجز.

وبالجملة ، دعوى كون التخصيص في المقام عقليّا ممنوعة ، بل المخصّص لفظي وهو قوله : لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفس (١) ، وهو بإطلاقه شامل للعالم والجاهل ، فافهم.

فالإنصاف أنّ الذهاب إلى صحّة العبادة ـ كما هو المشهور ، بل المجمع عليه ـ في صورة الجهل بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي ممّا لم يعلم وجهه ، وقد أنكر الميرزا النائيني (٢) أن يكون المشهور بانين على الامتناع فزعم أنّهم بانون على جواز اجتماع الأمر والنهي ، وحينئذ فيقع الكلام في توجيه فتواهم بفساد العبادة مع العلم والعمد وإن صلحت فتواهم بصحّة العبادة في صورة الجهل. فنقول : وقبل الخوض في ذلك يقع الكلام في أنّ النسيان والاضطرار والإكراه ملحق بالجهل في الإشكال أم أنّ الإشكال مختصّ بخصوص صورة الجهل؟

__________________

(١) انظر الخلاف ٥ : ٥٠٩ ، وفي الوسائل : «فإنّه لا يحل دم أمر ومسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفس منه». راجع الوسائل ٣ : ٤٢٤ ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلّي ، الحديث الأول والثالث مع اختلاف.

(٢) فوائد الاصول ١ و ٢ : ٤٣٤.

٥٢٦

ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى الأوّل وأنّ الإشكال عامّ فالحكم في الجميع واحد ؛ لأنّ حديث الرفع (٢) إنّما رفع العقاب ، أمّا المفسدة فهي باقية على حالها غير مرتفعة ، ومع تحقّق المفسدة كيف يمكن أن يكون العمل مشمولا لإطلاق الأمر؟

والجواب : أنّ حديث الرفع وإن كان لم يرفع المفسدة وإلّا لم يكن مقتضى للحكم حينئذ فلا يناسبه التعبير بالرفع إلّا أنّا نسأل أنّ الحكم بالتحريم لمّا ارتفع واقعا في صورة الإكراه والاضطرار والنسيان كما مرّ في حديث الرفع فهل صار العمل مباحا واقعا أم لا؟ فإنّ مقتضى ارتفاع حرمته صيرورته مباحا واقعا ، بل ويقتضيه قوله : ما من محرّم إلّا وقد أحلّه الله في حال الاضطرار (٣). وإذا ثبتت الإباحة الواقعيّة فلا مقتضي لتقييد إطلاق الأمر الوجوبي ؛ لأن المقتضي لتقييده إنّما كان التحريم المفروض ارتفاعه واقعا في هذه الصور فلا مقتضي حينئذ لتقييده.

لا يقال : إنّ العمل لمّا كان مشتملا على المفسدة لم يكن صالحا للتقرّب به.

لأنّا نقول : إنّ المفسدة المغلوبة بمصلحة أقوى اقتضت دفع تأثيرها لا ترفع صلاحيّة العمل للتقرّب ، فحيث يرتفع التحريم الواقعي في صورة الإكراه والاضطرار والنسيان لا مانع حينئذ من الإطلاق في دليل الأمر. وهذا بخلاف الجهل فإنّ الرفع فيه ظاهري ، فالحكم الواقعي بالتحريم فيه موجود ، وبوجوده كيف يعقل الترخيص في تطبيق المأمور به على هذا الفرد؟ فافهم.

وإن شئت فطبّقه على مثال عرفي : إذا أمر المولى عبده بكتابة كتاب إلى بلد ونهاه أن يتصرّف بالحبر الفلاني مثلا حال اختياره أمّا إذا اكره فهو مرخّص بالتصرّف

__________________

(١) انظر فوائد الأصول ١ و ٢ : ٤٤٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.

(٣) لم نقف عليه بعينه ولكن ما ورد عنهم عليهم‌السلام هكذا : ليس شيء ممّا حرّم الله إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه. الوسائل ١٦ : ١٣٧ ، الباب ١٢ من كتاب الايمان ، الحديث ١٨.

٥٢٧

فيه ، فاكره على التصرّف فيه فكتب به ذلك الكتاب ، فهل يكون غير ممتثل أمر الكتابة عرفا؟ كلّا بل يكون ممتثلا ، بخلاف ما لو لم يكن مكرها فكتب به فإنّه لا يكون ممتثلا بناء على الامتناع ، وليس ذلك إلّا لأنّ المانع عن جواز التطبيق إنّما كان النهي ، فإذا فرض زوال النهي واقعا فأيّ مانع ، والمفسدة إذا لم تؤثّر في المبغوضيّة لا تكون مانعة.

بقي الكلام في أنّه إذا اكره أو اضطرّ إلى دخول الدار المغصوبة والمكث فيها ، فهل يصلّي حينئذ صلاة المضطرّ فيومئ إلى الركوع أو السجود ـ لأنّ نفس الركوع والسجود الحقيقيين تصرّف زائد لم يضطرّ إليه ، والضرورة تقدّر بقدرها كما اختاره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ـ أم يصلّي صلاة المختار بركوع وسجود حقيقيّين؟ وجهان مبنيّان على أنّ التصرّف بالركوع والسجود الحقيقيّين يعدّ عرفا تصرّفا زائدا أم لا؟ وتحقيق ذلك يتوقّف على امور :

الأوّل : أنّ سلطة هذا المحبوس في هذه الدار لا تختلف إن بقي جالسا بمكانه أو تجوّل في المحبس يمينا وشمالا ، فإنّ «على اليد» إن شملته فلا يفرّق فيها بين الصورتين.

الثاني : أنّ جسده يحتاج إلى حيّز يشغله ، ولا فرق في ذلك الحيّز المحتاج إليه بين أن يكون جالسا أو متمشّيا أو نائما ، فإنّ حيّز جسمه لا يختلف وتصرّفه فيه بحركته وسكونه لا يتفاوت.

الثالث : أنّ تصرّفه في الأرض وإن كان تصرّفا زائدا على تصرّفه في الفضاء حقيقة إلّا أنّه في العرف لا يعدّ تصرّفا زائدا ، كما إذا تصرّف بسرير موضوع على جانب من الأرض فنام عليه فإنّ هذا تصرّف زائد ، بخلاف تقلّبه في الدار فإنّ نومه وإن أوجب شغل سبع أقدام من الأرض بخلاف وقوفه فإنّه لا يشغل أزيد من قدمين إلّا أنّ التصرّف عرفا فيهما واحد ، فبناء على ذلك لا مانع من أن يصلّي صلاة

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ١ و ٢ : ٤٥٣.

٥٢٨

المختار بركوع وسجود حقيقيّين ، بل في الجواهر (١) ما مضمونه : أنّه لو كلّف الاقتضاء على خصوص المضطرّ إليه فقد حبسه الله حبسا أشدّ من حبس ذلك الظالم ، بل لا يوجد مثل ذلك الحبس الإلهي إلّا أن يكون مثله يوم القيامة ، ثمّ عوذ الفقه من هذه الخرافات إلى آخر كلامه زيد في علوّ مقامه.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنعد إلى ما كنّا فيه من المطلب الثامن الذي عقدناه لثمرة هذه المسألة فنقول : إنّا إذا بنينا على الامتناع وأنّ التركيب اتّحادي فالمقام من مقامات التعارض ، فإن قدّمنا جانب الأمر فالعمل صحيح وليس فيه معصية أصلا. وإن قدّمنا جانب النهي فلو صلّى في الدار المغصوبة عالما عامدا فلا ريب في فساد صلاته ؛ لأنّ تقديم جانب النهي معناه إبقاء «لا تغصب» و «لا تتصرّف في مال الغير» على إطلاقها ، وتقييد أمر صلّ بما ليس متّحدا مع الغصب والتصرّف ، فيكون هذا الفرد المتّحد غير مأمور به أصلا. وإن صلّى مكرها أو مضطرّا أو ناسيا ، فلا ريب في صحّة صلاته أيضا ؛ لأنّ النهي عن التصرّف في ملك الغير ساقط واقعا فلا تحريم ، فيبقى إطلاق الأمر سليما عن المعارض. وإن صلّى جاهلا بالغصبيّة فبما أنّ الجهل لا يرفع الحرمة الواقعيّة وإنّما يرفع العقاب فقط ، فالنهي حينئذ موجود ، وبتقديمه كما هو الفرض يخرج الفرد عن إطلاق الأمر ، فلا بدّ من كون الصلاة حينئذ فاسدة ، فحكم الأصحاب بصحّتها مع بنائهم على الامتناع لم يعلم وجهه كما مرّ.

وإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي وإنّ التركيب انضمامي ، فإن لم يكن للمكلّف مندوحة بل هو لا يتمكّن إلّا من صلاة في دار مغصوبة فلا ريب في كون المورد من موارد التزاحم ؛ إذ إنّ هذا العمل وإن كان عملين في الحقيقة انضمّا إلّا أنّهما لا بدّ من أن يصدرا معا حيث يصدران ، فكيف يصدر الأمر بالصلاة مع أنّها حيث تصدر لا بدّ أنّ تجامع غصبا ، فإن كانت مصلحة الصلاة أهمّ من مفسدة الغصب فلا ريب في

__________________

(١) انظر الجواهر ٨ : ٣٠٠.

٥٢٩

أنّ الأمر بالصلاة يتقدّم فتصحّ الصلاة ولا يكون الغصب حينئذ حراما ، وإن كان مفسدة الغصب أهمّ من مصلحة الصلاة فلا ريب في جواز ترك الصلاة. إلّا أنّه لو غصب فصلّى فهل يحكم بصحّة صلاته أم لا؟ الظاهر هو الحكم بصحّة صلاته بناء على الترتّب ، غاية الأمر أنّ الترتّب المصطلح بين عصيان أمر وتوجّه أمر آخر ، وهنا بين عصيان نهي وتوجّه أمر آخر ولا إشكال في صحّته بناء على الترتّب. وقد زعم الميرزا النائيني قدس‌سره (١) عدم صحّته حتّى على الترتّب ، لزعمه أنّ وجودهما واحد فلا يكون الفعل قابلا لأن يتقرّب به إلى المولى مع كون وجوده ووجود المبغوض واحدا ؛ لاكتسابه القبح الفاعلي حيث يكون صدوره بنحو مبغوض للمولى لوحدة الإيجاد.

والجواب : أنّ مبنى الجواز كما هو محلّ الفرض كون العمل وجودين منضمّين ، وكونهما وجودين يقتضي أنّ هناك إيجادين ، لما تقدّم مرارا من أنّ التغاير بين الوجود والإيجاد اعتباري وبالنسبة ، وإذا كان هناك إيجادان فمحبوبيّة أحدهما موجبة لجواز التقرّب به ومحقّقة لقابليّته لذلك ، هذا كلّه مع عدم المندوحة.

وأمّا إذا كانت هناك مندوحة فالأمر أوضح ؛ وذلك لأنّا حيث سلكنا تبعا للمحقّق الثاني قدس‌سره (٢) بكفاية مقدوريّة الطبيعة لجواز الأمر بالطبيعة المطلقة ، فحيث يؤتى بالفرد المجامع للمحرّم يكون الانطباق قهريّا ، ويكون السقوط عقليّا فتكون الصلاة صحيحة من غير حاجة إلى الترتّب ، وإن لم نقل بمقالة المحقّق الثاني قدس‌سره كما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) فالصحّة للصلاة تكون مبتنية على الترتّب.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٣ : ٤٨ ، وفوائد الاصول ١ و ٢ : ٣٩٢.

(٢) جامع المقاصد ٥ : ١٣ ـ ١٤.

(٣) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

٥٣٠

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّه بناء على الجواز فلا بدّ من القول بصحّة الصلاة من غير فرق بين العالم والجاهل ، وبناء على الامتناع لا بدّ من القول بفساد العبادة ، من غير فرق أيضا بين العالم والجاهل في غير الموارد الخاصّة الخارجة بدليلها الخاصّ كما في الصلاة بناء على شمول : «لا تعاد» (١) للجاهل كما هو الصحيح. فما ذكره المشهور : من الحكم بالصحّة في صورة الجهل في جميع العبادات والفساد في الجميع أيضا في صورة العلم ، ممّا لم يعلم وجهه. هذا تمام الكلام في المقدّمات والثمرة ، ويقع الكلام الآن في تحقيق القول بجواز الاجتماع أو امتناعه فنقول وبالله العون :

الكلام في أدلّة القائلين بالامتناع والجواز

ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) إلى امتناع اجتماع الأمر والنهي ومهّد لذلك مقدّمات أغلبها بديهيّة ، فإنّ كون الأحكام الخمسة متضادّة ـ بالمعنى العرفي للتضادّ ـ ممّا لم يتنازع فيه اثنان ، وإنّما القائل بالجواز يدّعي أنّه لا اجتماع ؛ لأنّ محلّ أحدهما غير محلّ الآخر.

وكذا كون متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف دون الاسم والعنوان أيضا ممّا لم يكن محلّا للخلاف ، وإنّما القائل بالجواز يدّعي أنّ الصادر منه في الخارج فعلان لا فعل واحد ، وكذا كون الموجود بوجود واحد ليس له إلّا ماهيّة واحدة وحقيقة فاردة أيضا غير قابل للتشكيك ، وإنّما يزعم القائل بالجواز أنّ هناك إيجادين ووجودين.

نعم ، عمدة خلاف القائلين بالجواز والامتناع ومركز نزاعهم هو المقدّمة الثالثة ، وهي : أنّ تعدّد الوجه والعنوان يقضي بتعدّد الموجه والمعنون أم لا؟ ولكن صاحب الكفاية قدس‌سره لم يستدلّ على إثباتها إلّا بالدعوى فإنّه ذكر فيها أنّه ربّما تنطبق العناوين المتعدّدة على المعنون الواحد (٣).

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٢٧ ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، الحديث الأوّل.

(٢ و ٣) كفاية الاصول : ١٩٣.

(٢ و ٣) كفاية الاصول : ١٩٣.

٥٣١

ولكن لا يخفى أنّ ربّما لا تجديه ؛ إذ أيّ مثبت لكون الصلاة والغصب من ذلك القبيل ، بل لا بدّ له من إثبات كلّيتها ليكون المورد من مصاديق تلك الكلّية ، فإنّ الشكل الأوّل من القياس لا بدّ فيه من كلّية الكبرى حتّى ينتج ، ومن هنا ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى أنّ تعدّد العنوان الذي يكون متعلّقا للأمر والنهي كافل بتعدّد المعنون.

وتوضيح ذلك : أنّ المأمور به والمنهيّ عنه قد يكون حقيقة واحدة كالإكرام ـ مثلا ـ إلّا أنّ محلّ الإكرام معنون بعنوان العالم مثلا في صورة الأمر بالإكرام ، وبعنوان الفاسق في صورة النهي عن الإكرام ، ففي مثل ذلك تكون الجهات تعليليّة ، وهي لا تقتضي تعدّد المعنون فإنّ زيدا العالم الفاسق واحد حقيقة وماهيّة ، ولكنّه يكون مصداقا لوجوب الإكرام ؛ لأنّه عالم ، ومصداقا للتحريم ؛ لعلّة كونه فاسقا ، ولهذا سمّيت هذه الجهات جهات تعليليّة. ومثل هذا المثال خارج عن مبحث اجتماع الأمر والنهي قطعا وإن ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره في التنبيه الثالث من تنبيهات الباب (٢) لحوق تعدّد الإضافات بتعدّد الجهات ، وجعل مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق من موارد الاجتماع في العالم الفاسق ؛ ولذا ترى الفقهاء يعاملون مثل هذا في موارد العموم من وجه في مورد الاجتماع معاملة المتعارضين ، فإمّا الترجيح أو التساقط ، ولم نر من زعم كونه ممتثلا عاصيا مع كثرة الذاهبين منهم إلى الجواز كما هو واضح. وقد يكون زيد هذا مصداقا لألف عنوان ككونه عالما فاسقا طويلا هاشميّا أبيضا أبا يزيد بن عمر أخا بكر إلى غير ذلك من العناوين المتكثّرة التي لا ينثلم بها وحدة المعنون كلّية أصلا ، بل هو واحد فهو نفس العالم الفاسق الطويل الأبيض إلى آخر.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٣٦.

(٢) كفاية الاصول : ٢١٦.

٥٣٢

نعم ، مبادئ هذه الامور متباينة فإنّ العلم غير الفسق ؛ ومن هنا قيل باستحالة صدق بعض الأعراض على البعض الآخر (١) إلّا أنّ الإكرام المتعلّق بهذه الذوات واحد ليس بمتعدّد.

وقد يكون متعلّق الأمر والنهي متعدّدا كما في «صلّ» و «لا تغصب» وهذا هو محلّ اجتماع الأمر والنهي ، ولكن تعدّد العنوان مقتض لتعدّد المعنون فيها ؛ فإنّ الصلاة الصادقة حيث لا غصب صادقة حال الغصب أيضا ، والغصب الصادق حيث لا صلاة صادق حال الصلاة أيضا ، فلا بدّ حينئذ من القول بجواز اجتماع الأمر والنهي.

ومجمل ما أفاده : أنّ العناوين إن كانت تعليليّة ـ بمعنى كون ثبوتها للذات معلولا لعلّة ـ فهي لا تقتضي تعدّد المعنون ، ولا ينثلم بتكثّرها وحدته كما في عنوان العالم والفاسق والطويل والأبيض إلى غير ذلك ، فإنّ صدق العالم على ذات زيد لعلّة حلول العلم بها ، وكذلك صدق الفاسق عليه إنّما هو لعلّة قيام الفسق به إلى غير ذلك ، ومثل هذا خارج عن باب الاجتماع وعن حكمه أيضا.

أمّا إذا كانت العناوين تقييديّة ـ بمعنى كون ثبوتها للذات غير معلول لعلّة ـ فمثل هذه هي باب الاجتماع والحكم فيها جواز الاجتماع ، وهذا نظير الصلاة والغصب فإنّ ثبوت الصلاتيّة للصلاة ليس معلولا لشيء ، وكذا ثبوت الغصبيّة للغصب ، ونظير صفة العلم والفسق فإنّ ثبوت صفة العلم للعلم والفسق للفسق تقييدي ، بمعنى كونه ذاتيّا غير معلول لشيء ، وبما أنّ هذه يستحيل انطباق عرضين فيها على معروض واحد ، فحيث يصدق العنوانان فهو كاشف عن تحقّق معنونيهما ، وحينئذ فهما موجودان ، فلا مانع من توجّه الأمر نحو أحدهما وتوجّه النهي نحو الثاني منهما ، ولا يلزم اجتماع للضدّين.

__________________

(١) انظر الأسفار الأربعة ٤ : ٣.

٥٣٣

قال الاستاذ الخوئي أيّده الله تعالى : والحقّ في هذه المسألة التفصيل لا القول بالجواز على الإطلاق ولا القول بالامتناع كذلك ، بل إن كان العنوانان موجبين لتعدّد المعنون فالجواز وإلّا فالامتناع ، فلا بدّ من ملاحظة كلّ مورد بخصوصه ثمّ الحكم فيه بالجواز والامتناع لاختلافها.

بيان ذلك : أنّ العناوين التي تكون متعلّقا للأمر والنهي.

تارة تكون من العناوين المتأصّلة في الوجود وهي الأعراض التسعة المعلومة.

واخرى تكون من العناوين الانتزاعيّة.

وثالثة يكون أحد العنوانين أصيلا والآخر انتزاعيّا.

فإن كانا أصيلين فلا ريب في جواز الاجتماع ، لاستحالة اتّحاد عرضين في الخارج ، بل الأعراض كالجواهر في استحالة انطباق نوع على نوع آخر ، بل فردين يستحيل انطباقهما.

وإن كانا من نوع واحد كما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) فحيث ينطبقان يستكشف حينئذ تحقّقهما وكونهما وجودين وإيجادين أحدهما متعلّق للأمر والآخر للنهي ولا مانع منه ؛ إذ لم يتحقّق اجتماع في الحقيقة ؛ إذ متعلّق كلّ منهما غير متعلّق الآخر وإن كان الموجد واحدا.

وإن كان أحد العناوين متأصّلا كالصلاة ـ فإنّ تركيبها وإن كان اعتباريّا إلّا أنّ مجموع أفعالها من الأعراض التسعة من الكيف النفساني والكيف المسموع وغيرها من الأعراض المتأصّلة ـ وكان العنوان الآخر انتزاعيّا كالغصب فإنّ الغصب ليست حقيقته إلّا التعدّي على مال الغير ، وهو قد يكون بالأكل وقد يكون بالنوم وقد يكون باللبس وقد يكون بالركوب ، ومعلوم أنّها أعراض متعدّدة فيستحيل أن يتحقّق بينها جامع أصيل ، بل لا بدّ من كونه انتزاعيّا ، فحيث يكون المأمور به أصيلا

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٤٨.

٥٣٤

والمنهيّ عنه انتزاعيّا ينظر إلى منشأ الانتزاع ، فإن كان هو عين المأمور به فلا بدّ من القول بالامتناع ، كما إذا أمره بالقيام ونهاه عن إكرام زيد الذي هو منتزع من القيام له ومن ابتدائه بالتحيّة ومن تصبيحه بالخير ومن سؤال أحواله ومن إعطائه مالا إلّا أنّ هذا المكلّف احترمه بإكرامه بالقيام فالمنشأ هو القيام فلا بدّ من القول بالامتناع ، فإنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ولا تنثلم به وحدته كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

فما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) من أنّ المأمور به قد يتفرّد عن المنهيّ عنه وقد يجتمع معه ، كما أنّ المأمور به كذلك لا يرفع وحدته الخارجيّة الحقيقيّة أصلا.

نعم ، حيث لا يكون منشأ الانتزاع منطبقا ومتّحدا مع المأمور به ، بل كان منضمّا إليه كما إذا كان قائما بالقيام المأمور به فأكرم زيدا بالتحيّة ، فحيث إنّ التحيّة غير القيام حقيقة ، وليس بمتّحد معها حقيقة أيضا لا مانع من الاجتماع الذي هو في الحقيقة ليس اجتماعا. ومن هنا إذا أمر بالصلاة ونهى عن التصرّف في مال الغير بغير إذنه إلّا أنّ الصلاة المأمور بها إيمائيّة ـ لمرض مثلا ـ فصلّى في الأرض المغصوبة لا مانع من صحّة الصلاة ؛ لأنّ الصلاة بهذه الكيفيّة ليست تصرّفا ، وليس الإيماء باعتبار اقتضائه تموّج الهواء عرفا تصرّفا. بخلاف ما إذا كانت الصلاة بركوع وسجود فإنّ الاعتماد في السجود من مقولة الفعل ، وهو منشأ انتزاع التصرّف المنهيّ عنه ، ومأخوذ في مفهوم السجود المأمور به ، فلا بدّ من القول حينئذ ببطلان الصلاة ؛ لاتّحاد المأمور به مع المنهيّ عنه حقيقة في اعتماد السجود. وكذلك الهويّ إلى السجود والنهوض إلى القيام إن قلنا بجزئيّتهما للصلاة ، وإن قلنا بخروجهما عنها وكونهما مقدّمة ـ كما هو الظاهر لاستحالة الطفرة ـ فلا مانع من كون المقدّمة محرّمة إذا لم تكن منحصرة ، ولا أمر بها شرعا ؛ لعدم كونها جزءا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٩٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٥٨.

٥٣٥

وكذلك الكلام حيث يكون المأمور به عنوانا انتزاعيّا كإكرام العادل والمنهيّ عنه عنوانا انتزاعيّا كإكرام الفاسق فإنّه ينظر إلى منشأ الانتزاع ، فإن كان واحدا فلا محيص عن الامتناع ، وإن كان متعدّدا فلا مانع من الجواز. فإذا دخل عادل وفاسق في مكان فأكرمهما أحد ، فإن أكرمهما بعمل واحد كقيام واحد فلا بدّ من القول بالامتناع ولزوم تقييد أحد الإطلاقين ، وإن أكرمهما بعملين كأن قام للعادل وحيّا الفاسق بتحيّة فلا مانع حينئذ من توجّه الأمر نحو القيام وتوجّه النهي نحو التحيّة ؛ لأنّهما شيئان لا ربط لأحدهما بالآخر ، غاية الأمر أنّه انضمّ أحدهما إلى الآخر في الوجود ، وهذا غير ضائر كما هو واضح.

وبالجملة ، فليس إطلاق القول بالجواز في محلّه كإطلاق القول بالامتناع ، بل الحقّ هو التفصيل الذي فصّلناه ، هذا كلّه حال الكبرى.

وأمّا تطبيقه على الصغريات : ففي الوضوء بالماء المغصوب بما أنّ الوضوء أمر انتزاعي من الغسلات والمسحات والتصرّف المنهيّ عنه أيضا أمر انتزاعي ، وحيث إنّ منشأ انتزاعهما هو نفس الغسل فلا محيص عن القول بالامتناع وبطلان الوضوء ، إلّا أنّ مقتضى ذلك التسوية بين صورتي العلم والجهل ؛ لأنّ الجهل لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه ، وإنّما هو رافع للمؤاخذة والعقاب ، إلّا أنّ الأصحاب أفتوا بالصحّة في صورة الجهل ، وقد ادّعى صاحب مفتاح الكرامة الإجماع على الصحّة في صورة الجهل (١) فإن تمّ الإجماع وكان تعبّديّا (*) ، فبها ونعمت ، وإلّا فلا بدّ من القول بالبطلان كما هو الظاهر ؛ لأنّه بعد أن كان التصرّف مبغوضا واقعا فقد خرج عن إطلاق الأمر ، والجهل لا يوجب دخوله تحت الإطلاق ، فافهم وتأمّل في المقام فإنّه واضح.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١ : ٣٠٣.

(*) أشار بقوله وكان تعبّديّا ، إلى أنّ الإجماع إنّما كان لشبهة حصلت عندهم من أنّ النهي إنّما يرفع الفعليّة إلى آخره وليس تعبّديّا.

٥٣٦

وأمّا إذا كان الماء مباحا إلّا أنّ المكان الذي يتوضّأ به مغصوب.

فتارة ينحصر المكان بذلك المكان فلا ريب في بطلان الوضوء ؛ لعدم الأمر به.

أمّا إذا لم ينحصر المكان به فتارة يكون محلّ وقوف المتوضّئ مغصوبا إلّا أنّ المصبّ ومحلّ الحركات مباح ، وفي مثله لا ريب في صحّة الوضوء الذي هو عبارة عن الغسلات والمسحات ؛ لعدم كونها غصبا.

واخرى يكون محلّ المتوضّئ مباحا والمصبّ مغصوب ، فتارة يراق الماء في مكان مباح يستطيع حبسه فيه عن السيلان إلى المحلّ المغصوب ولكنّه لم يحبسه ، فلا ريب أيضا في صحّة وضوئه وإن عصى بعدم الحبس.

واخرى يكون المصبّ مغصوبا رأسا ، ففي هذه الصورة تبتني صحّة الوضوء وعدمها في صورة عدم انحصار المصبّ بهذا المصبّ على سريان حرمة ذي المقدّمة إلى حرمة مقدّمته وعدم السريان ، وحيث بنينا على عدم السريان فالوضوء أيضا صحيح ، بل ولو بنينا على حرمة مقدّمة الحرام فليس نفس الوضوء مقدّمة ، بل إنّ صبّ الماء مقدّمة للوضوء ومقدّمة للصبّ المحرّم ، فالوضوء حينئذ صحيح إن لم ينحصر المصبّ بهذا.

وأمّا الوضوء من آنية الفضّة والذهب المحرّم استعمالها ، فحيث ينحصر الماء بها لا ريب في عدم وجوب الوضوء منها ووجوب التيمّم. وإن اغترف غرفة لا تكفي له لوضوئه فلا يجب عليه غسل الوجه بها ؛ لعدم التكليف بالوضوء لفرض انحصاره في المحرّم استعماله. وإن توضّأ منها حيث لا انحصار فحيث إنّ الاغتراف ليس وضوءا ، وإنّما الوضوء هو الغسلات والمسحات فاغترافه وإن كان محرّما إلّا أنّ الوضوء بعده ليس استعمالا لآنية الذهب والفضّة ، فلا ينبغي الريب في الصحّة ، وطريق الاحتياط غير خفيّ.

نعم ، الأكل منها محرّم بخصوصه ولو كان بالواسطة لصدق الأكل من الإناء وإن أخذه بيده ثمّ وضعه في فيه ؛ لأنّه متعارف الأكل من الإناء ، وقد ورد النهي عن

٥٣٧

الأكل في آنية الذهب والفضّة ولكن الاغتراف من الإناء وإن كان استعمالا محرّما إلّا أنّ الوضوء بعده ليس استعمالا للآنية فافهم. وكذا الكلام حيث تكون الآنية مغصوبة والماء مباح.

وأمّا الصلاة في المكان الذي يحرم المكث فيه ، فتارة يقع الكلام فيما يحرم المكث فيه من جهة الغصب ، واخرى فيما يحرم المكث فيه من جهة اخرى غير الغصب ، كما في الوقوف بين الصفّين الذي يكون مظنّة للهلاك ، أو كمكث الزوجة في مكان لا يرضى زوجها بمكثها فيه ، أو كخروج المعتكف في اليوم الثالث من المسجد ومكثه خارج المسجد ، فلو صلّى أحد هؤلاء في المكان الذي يحرم المكث فيه من غير جهة الغصب فالصلاة صحيحة ؛ لأنّ الصلاة عبارة عن التكبير والقراءة والركوع والسجود إلى آخرها ، وليس شيء منها متّحدا مع الكون المنهيّ عنه ، نعم هو مقارن لها فالصلاة حينئذ تكون صحيحة وطريق الاحتياط غير خفيّ.

وأمّا إذا كانت حرمة المكث من جهة الغصب ، فإن قلنا بكون الهويّ إلى الركوع مقدّمة للركوع فلا ريب أيضا في الصحّة من هذه الجهة ؛ لأنّ حرمة المقدّمة مع عدم الانحصار لا ترفع وجوب ذي المقدّمة. وإن قلنا بأنّ الهويّ دخيل في حقيقة الركوع فإنّ الركوع هو الانحناء عن هويّ ؛ إذ من كان جالسا فقام منحنيا حتّى بلغ حدّ الركوع لا يصدق عند العرف أنّه ركع قطعا ، وحينئذ فهنا أمران :

تبدّل في الوضع ، وهو تغيير هيئته من القيام إلى كلّ مرتبة من مراتب الانحناء حتّى يصل إلى حدّ الركوع الذي بلغه.

وتبدّل في حركة الأين ، وهو تحوّل جسمه من مكان إلى مكان كذلك. فإن كان الدخيل في الركوع عرفا حركة الأين فالهويّ كنفس الركوع ليس غصبا. وإن كان هو الوضع فيشكل الحال في صحّة الركوع من جهة حرمة مقدّمته ؛ إذ هي تصرّفات في الفضاء فهذا الهويّ تصرّف في الفضاء فيكون محرّما فيتّحد الواجب والحرام.

وأيضا فإنّ السجود إن كان عبارة عن مجرّد الانحناء ومماسّة الجبهة ما يصحّ السجود

٥٣٨

عليه كان الكلام السابق من صحّة الصلاة من جهته متّجها ، إلّا أنّه قد اعتبر فيه الوضع الذي قد اخذ الاعتماد في مفهومه ، والاعتماد تصرّف في الأرض المغصوبة فيكون متّحدا مع الحرام ، فالصلاة متّحدة مع الحرام في الهويّ والاعتماد فتكون من موارد اجتماع الأمر والنهي ، وتكون الصلاة حينئذ باطلة من هاتين الجهتين. وأمّا لو خلت الصلاة من هاتين الجهتين ـ كما إذا كانت إيمائيّة بالعين ـ فهي بمقتضى هذا الكلام صحيحة ؛ لعدم اتّحادها مع عمل منهيّ عنه ، بل هي مقارنة ، فتأمل (*).

هذا كلّه حال العالم ، وأمّا الجاهل بغصبيّة المكان فظاهر الأصحاب الحكم بصحّة صلاته ، بناء على ما تقدّم من زعمهم أنّ باب اجتماع الأمر والنهي من باب المزاحمة المرتفعة بجهل التحريم ، وحيث ذكرنا أنّها ليست من باب التزاحم ، وأنّها من باب التعارض فمقتضى القاعدة بطلان الصلاة حتّى في صورة الجهل أيضا ، إلّا أنّ الكلام في أنّ حديث : «لا تعاد» ، يقتضي صحّة الصلاة أم لا؟

وتفصيل الكلام في ذلك : أنّ حديث : «لا تعاد» دلّ على صحّة الصلاة حيث يكون المفقود من أجزاء الصلاة غير الخمسة ، ودلّ على بطلانها حيث يكون المفقود أحد الخمسة ، إلّا أنّ الكلام في أنّ الركوع والسجود اللذين تبطل الصلاة بنقصانهما هل هما طبيعة الركوع والسجود أو خصوص ما كان منهما جزءا صلاتيّا مأمورا به؟ والظاهر هو الثاني ؛ لأنّ الإمام في صدد بيان أجزاء الصلاة وشرائطها المفقودة ، وقد استثنى الركوع والسجود وظاهر الاستثناء كونه متّصلا ، وحينئذ فلا يجري حينئذ حديث : «لا تعاد» (١) لأنّ هذه الصلاة قد فقدت الركوع الشرعي والسجود الشرعي ، وفقدهما ممّا يوجب الإعادة بحكم الاستثناء. ولو تنزّلنا عن دعوى

__________________

(*) أشار بالتأمّل إلى أنّ التصرّف أمر عرفي ولا ريب في صدقه بالصلاة وإن كانت إيمائيّة. (الجواهري).

(١) الوسائل ٣ : ٢٢٧ ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، الحديث الأوّل.

٥٣٩

الظهور فلا أقلّ من الإجمال ، فالمرجع هو القاعدة الأوّلية المقتضية للبطلان ، لخروج الركوع أو السجود عن أفراد المأمور به بتوجّه النهي نحوه ، والجهل به لا يغيّره عن واقعه ليدخل في أفراد المأمور به كي يحكم بالصحّة ، هذا كلّه في المكان.

وأمّا اللباس إذا كان مغصوبا :

فتارة يقع الكلام في الساتر بالفعل.

واخرى في مطلق اللباس.

أمّا الكلام في الساتر بالفعل كما إذا تستّر بثوب مغصوب فالظاهر بطلان الصلاة مع العلم دون الجهل ، والوجه في ذلك : أنّ الستر المعتبر في الصلاة ليس كالستر المعتبر في غيرها من تأدّيه بكلّ ما يستر البشرة عن الناظر المحترم ـ كالظلمة والماء والطين ـ بل لا بدّ من كونه بثوب ، وحينئذ فإذا كان الثوب مغصوبا فاللبس من أظهر أفراد الغصب. وحينئذ فيستحيل أن يكون مأمورا به ؛ لاستحالة الاجتماع ، حيث يتّحد الوجود ـ كما قرّرنا ـ فهذا الستر ليس مأمورا به فهو في حكم العدم ، فهو كمن صلّى عاريا مع قدرته على الستر ولا ريب في بطلان صلاته.

ومن هنا ظهر ما في كلام صاحب الجواهر قدس‌سره : من كون مقدّمة الستر وهو لبس الثوب محرّما فيبتني على مبحث المقدّمة (١) ؛ وذلك لأنّ لبس الثوب ليس مقدّمة للستر الواجب في الصلاة ، بل هو نفسه ، نعم لبس الثوب مقدّمة للستر عن العيون في غير حال الصلاة.

وأمّا وجه الصحّة في حال الجهل فإنّما هو لحديث : «لا تعاد» إذ لم يذكر فيها الستر فيكون محكوما بالصحّة ، فتأمّل (*).

__________________

(١) انظر الجواهر ٨ : ١٤٣.

(*) أشار بالتأمّل إلى أنّ استثناء الركوع الشرعي والسجود الشرعي كاف في لزوم الإعادة ؛ لأنّه قد اشترط الستر في أجزاء الصلاة ؛ لأنّه معنى اشتراطه في الصلاة ؛ إذ هي ليست

٥٤٠