غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

وقد يكون الأقلّ له وجود مستقلّ في ضمن الأكثر إلّا أنّ لسان الدليل الدالّ على وجوب أحدهما اعتبر الأقلّ بشرط عدم الزيادة والأكثر بشرط الزيادة ، وهذا أيضا ممكن وواقع ، كما في التخيير بين القصر والإتمام في مواطن التخيير ، ولكنّه أيضا تخيير بين المتباينين ، فإنّ «شرط لا» و «شرط شيء» متباينان.

وقد لا يكون الأقلّ محدّدا بحدّ بل كان «لا بشرط» من حيث الزيادة وعدمها فهل يمكن التخيير فيه بين الأقلّ والأكثر أم لا يمكن ذلك؟ الظاهر استحالته فإنّ الأقلّ بمجرّد وجوده في ضمن الأكثر سقط الأمر به لحصول الغرض فسقط الوجوب التخييري ، فإنّ سقوط الأمر بحصول متعلّقه ليس اختياريّا أصلا ، بل متى تحقّق متعلّقه سقط الأمر لتحقّق الامتثال حينئذ.

فدعوى بقاء الأمر حتّى يؤتى بالأكثر كما في الكفاية (١) إن رجع إلى المتباينين فهو ، وإلّا فلا نعقله أصلا.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٧٥ ـ ١٧٦.

٥٠١

في الوجوب الكفائي وتصويره

كما ذكرنا في الفصل السابق أنّ ملاك الحكم والتكليف قد يكون متعلّقا بشيء معيّن يكون التخيير بين أفراده عقليّا ، وقد يكون متعلّقا بشيء يحصل بأحد امور فيؤمر بالجامع ويكون التخيير شرعيّا بين أفراد الجامع الانتزاعي ، فيسمّى الأوّل بالواجب التعييني ، والثاني بالواجب التخييري.

كذلك قد تقوم المصلحة بصدور فعل من كلّ فرد فرد من المكلّفين ، وتكون المصلحة في أن يعمل كلّ واحد من المكلّفين هذا العمل بنحو تكون المصالح متماثلة ، وقد اصطلح على ذلك بقيام المصلحة بمطلق الوجود أينما سرى.

وقد تكون المصلحة قائمة بصدور هذا الفعل من مكلّف بنحو صرف الوجود بلا أن يكون هناك غرض وخصوصيّة بمكلّف خاصّ. فالأوّل يسمّى بالوجوب العيني ، والثاني يسمّى بالكفائي.

ومن هنا ظهر أنّ الواجب الكفائي لو تركه جميع المكلّفين لكانوا جميعا مستحقّين للعقاب ؛ لأنّ كلّ فرد منهم قد توجّه التكليف إليه بما أنّه فرد من أفراد المكلّفين وقد ترك. ولو أتى به أحدهم كان ممتثلا ، وحينئذ يسقط الوجوب عن الجميع وإن لم يستحقّ الثواب غير ذلك الممتثل ، وهذا بحسب الظاهر واضح.

وقد أنكر بعضهم الواجب الكفائي وزعم أنّ كلّ ما يتصوّر أنّه من قبيل الواجب الكفائي فهو واجب عيني غير أنّه مشروط بترك بقيّة المكلّفين له (١).

وقد ارتضاه ثبوتا الميرزا النائيني قدس‌سره إلّا أنّه زعم أنّ الأدلّة في مقام الإثبات

__________________

(١) انظر هداية المسترشدين ٢ : ٣٧٢ ، فإنّه استظهره من الأصحاب وقال : بل المحكيّ عنهم في ذلك ...

٥٠٢

لا تساعد عليه ؛ لأنّ الغرض الواحد لا يستدعي أكثر من إيجاب واحد (١). والظاهر عدم تماميّته ثبوتا أيضا ؛ لأنّ الواجب الكفائي يكون على نحوين :

أحدهما : ما لا يمكن صدوره إلّا من واحد كأكل لقمة واحدة ، وهذا لا يرد على أخذه واجبا مشروطا إلّا ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره.

الثاني : ما يكون قابلا للصدور من متعدّد كالصلاة على الميّت ، وفي مثله يكون المانع ثبوتيّا أيضا ؛ لأنّه لو كان من قبيل الواجب المشروط بالترك فهل الترك آناً ما بحيث يسع الفعل شرط؟ فهذا يقتضي الوجوب على جميع المكلّفين إذا ترك زمانا يسع فعله لوجود شرطه حينئذ ، فلو لم يأت به بعضهم عوقب وإن أتى به الباقون لتركه الواجب ، وإن كان مشروطا بالترك في جميع الوقت فهذا يقتضي أنّه لو أتى به المكلّفون دفعة واحدة أن لا يكونوا ممتثلين ، بل أن لا يكون العمل واجبا عليهم ؛ لعدم حصول شرطه ، ولا يمكن الالتزام بهذه الامور في الواجبات الكفائيّة فليس من قبيل الواجب المشروط. نعم يبقى احتمال أن يكون مشروطا بأن لا يسبق بفعله ، وقد زعم الاستاذ أنّ هذا لا يخلو عن تعسّف ، فتأمّل.

[فرع] :

بقي الكلام في فرع ذكر في المقام بمناسبة الواجب المشروط وهو أنّه لو ابيح ماء لشخصين لا يكفي الماء إلّا أحدهما لرفع حدثه وكانا محدثين ، فهل يتيمّمان معا أو يتوضّأ أحدهما؟ الظاهر أنّ وجوب الوضوء به على أحدهما مشروط بعدم مزاحمة الآخر له ، فلو سبقه وجب عليه الوضوء ، فالوجوب هنا مشروط بعدم المزاحمة. وهذا واضح إلّا أنّ الكلام في أنّهما لو كانا متيمّمين لفقد الماء ثمّ ابيح لهما ذلك الماء فهل ينتقض تيمّمهما معا لصدق الوجدان بالإضافة إلى

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٧١.

٥٠٣

كلّ منهما؟ زعم الميرزا النائيني قدس‌سره ذلك بدعوى كون كلّ منهما واجدا ، وقد علّق الانتقاض بالوجدان المتحقّق في المقام في قوله عليه‌السلام : ما لم يحدث أو يجد ماء (١) ، وإنّ بطلان الوضوء ليس فيه تزاحم وإنّما التزاحم في الحكم وهو وجوب الوضوء ففيه يتحقّق التزاحم (٢).

أقول : لا يخفى أنّ مفاد قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)(٣) يستفاد منه أنّ القادر على استعمال الماء يجب عليه الوضوء ويبطل تيمّمه ، وأمّا غير القادر فيجب عليه التيمّم ، وحينئذ فالمتيمّمان إذا كان كلّ منهما إذا أراد استعمال الماء لا يمنعه الآخر وكذلك الثاني. فكلّ منهما قادر على استعمال الماء وأهملا ؛ إذ إنّ كلّا منهما على البدل قادر على استعمال الماء بغير مانع ؛ إذ المفروض أنّ الثاني لا يزاحمه. فلو مضت عليهما مدّة يمكنهما فيها الوضوء ، وهما على هذا الحال فقد انتقض تيمّمهما ووجب الوضوء عليهما بدلا ، فإذا استعمل بعد ذلك أحدهما الماء انعدم موضوع الماء للآخر فيجب عليه التيمّم ثانيا ؛ لأنّ تيمّمه السابق قد انتقض بالقدرة.

وإن كانا متزاحمين على استعمال الماء بحيث إنّ كلّا منهما مزاحم للآخر فلو غلب أحدهما ـ لقوّته مثلا ـ انتقض تيمّمه فيجب عليه الوضوء لوجدانه الماء حينئذ ، ويبقى تيمّم الثاني لانكشاف عدم كونه واجدا من أوّل الأمر ، وإنّما كان تخيّل وجدان. فانكشف أنّ بطلان التيمّم ملازم لوجوب الوضوء وبقاء التيمّم مساوق لعدم وجوب الوضوء وإنّهما لا يفترقان ، هذا تمام الكلام في الفرع.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٩٩٠ ، الباب ٢٠ من أبواب التيمّم.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٧٤.

(٣) النساء : ٤٣ ، والمائدة : ٦.

٥٠٤

في الواجب الموسّع والمضيّق

الواجب قد يكون مؤقّتا ، وقد لا يكون مؤقّتا. فغير المؤقّت قد يكون فوريّا كقضاء الدين مع المطالبة والإمكان ، وقد لا يكون فوريّا كما في صلاة القضاء على ما هو المشهور والمنصور من كونه موسّعا.

والمؤقّت قد يكون مضيّقا كصوم شهر رمضان ، وقد يكون موسّعا كالصلاة اليوميّة.

وكلّ هذه الأقسام واقعة في الشريعة المقدّسة قطعا ، وإنّما الكلام في تصوير وقوعها مع ما يرد عليها من الإشكال.

أمّا الإشكال في المضيّق فلأنّ الامتثال إنّما يكون بعد التكليف والعلم به والتصوّر له والانبعاث نحوه ، فالامتثال متأخّر بمراتب عن التكليف فلا بدّ من كون التكليف في زمن الواجب ، فلا بدّ من كونه أوسع من الفعل لتتحقّق هذه المراتب فيمتثل.

والجواب أنّا قد ذكرنا أنّ تأخّر الامتثال عن البعث والتكليف إنّما هو تأخّر طبعي ولا يلزم فيه التأخّر بحسب الزمان أصلا ، وثانيا أنّه يمكن أن يكون بنحو الوجوب المعلّق أو المشروط بالوقت مثلا أو غير ذلك بحسب اختلاف الموارد.

وأمّا الإشكال في الموسّع فهو ما قدّمناه : من أنّ الواجب هو ما لا يجوز تركه ، وإذا كان موسّعا فقد رخّص في تركه ، وهذا الإيراد أيضا وارد في الأفراد العرضيّة ، فمن وجب عليه الصلاة إذا ترك الصلاة في المسجد وصلّى في بيته فقد ترك الواجب أيضا.

والجواب أنّ الوجوب إنّما تعلّق بالطبيعة من دون خصوصيّة في الأفراد ، فهو بترك الفرد العرضي لم يترك الطبيعة لتحقّقها في الفرد الثاني ، وأمّا في مقامنا فإنّ الواجب هو صرف الوجود فيما بين هذين الحدّين وليس كلّ فرد من أفراد هذين الحدّين ، فبترك الفرد الأوّل لم يترك الواجب إذا أتى به بعد ذلك ؛

٥٠٥

ضرورة أنّ الملاك قائم بالعمل فيما بين هذين الحدّين فلا غرض بفرد وخصوصيّة فلا تجب ، وهذا كلّه لا ريب فيه.

وإنّما الكلام في أنّ المؤقّت إذا فات وقته فهل يجب الإتيان به بمقتضى الأمر الأوّل أم لا يجب بنفس الأمر الأوّل ، بل لا بدّ من دليل دالّ على ذلك فبدونه لا يجب؟

ظاهر كلام صاحب الكفاية قدس‌سره التفصيل بين كون التقييد بالزمان بالقرينة المتّصلة فلا يجب القضاء خارج الوقت ؛ لأنّ الوجوب قاصر وبين كونه بمنفصل فيجب (١) ، والظاهر أنّ مراد الميرزا النائيني قدس‌سره من البعض الذي نسب إليه هذا التفصيل هو صاحب الكفاية قدس‌سره فأورد عليه قدس‌سره بعدم الفرق بين القرينة المتّصلة والمنفصلة في كونها لبيان المراد وتقييده بزمان خاصّ فلا يجب في غيره (٢).

وما ذكره الميرزا وإن كان متينا في نفسه إلّا أنّه إن كان مراده التعريض بصاحب الكفاية قدس‌سره. فالإنصاف أنّ التأمّل في كلامه يقضي بخلاف ما نسب إليه ، وأنّ ما ذكره هو الصحيح ، بيانه أنّه قد ذكر قدس‌سره قاعدة كلّية في جميع القيود ملخّصها : أنّه إن كان الدليل المنفصل الدالّ على التقييد بذلك القيد مطلقا ، كما هو الغالب في المقيّدات فلا بدّ من تقييد دليل الواجب الأوّل ، سواء كان مطلقا أم مهملا ، فإنّه يكون المقيّد المطلق مبيّنا له ، وإن كان الدليل المقيّد فاقدا للإطلاق كالإجماع مثلا فإنّ القدر المتيقّن من تقييده هو حال الاختيار ، فلو اضطرّ إلى ترك القيد فلا دليل حينئذ على اعتباره ، فينظر حينئذ إلى دليل الواجب فإن كان مطلقا فلا بدّ من الإتيان بفاقد القيد بمقتضى إطلاق دليله الذي لم يعلم تقييده في هذا الحال ، وإن لم يكن مطلقا بل كان كالإجماع ونحوه فلا بدّ حينئذ من الرجوع إلى الاصول العمليّة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧٨.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٧٧.

٥٠٦

ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) طبّق هذه القاعدة الكلّية على التقييد بالوقت.

وربما نسب (٢) إلى المحقّق القمّي التفصيل في القيود بين ما كان دليله بمثل الأمر مثل : صلّ إلى القبلة ، فيكون قيدا حال العمد والاختيار ، وبين ما كان بمثل ، لا صلاة إلّا بطهور أو بفاتحة الكتاب (٣) ، فيكون قيدا مطلقا ؛ لأنّ الأمر لا يتوجّه نحو غير القادر لقبحه ، بخلاف مثل : لا صلاة ، ممّا تنفى فيه الماهيّة. وجوابه واضح فإنّ هذه الأوامر ليست مولويّة وإنّما هي إرشاد إلى الجزئيّة والشرطيّة فلا فرق حينئذ بين المقامين.

ثمّ إنّه إذ انتهت النوبة إلى الاصول العمليّة فهل يمكن التمسّك بالاستصحاب في إثبات الوجوب؟ الظاهر لا ؛ وذلك أنّ الشاكّ تارة يعلم بأنّ الوجوب مقيّد بالوقت ، ومع ذلك يشكّ في وجوب العمل خارج الوقت أم لا ، فهذا لا يجري الاستصحاب ؛ لأنّه يعلم أنّ ذلك الوجوب مرتفع ويحتمل حلول وجوب آخر محلّه ، فهو القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، وهو غير حجّة كما يأتي إن شاء الله تعالى.

واخرى يحتمل بقاء الوجوب ؛ لأنّه يحتمل أنّ وجوب القيد ـ وهو الزمان ـ من باب تعدّد المطلوب لا وحدته فالوجوب لأصل العمل باق فهذا يحتمل كون الوجوب كذلك فكيف يجري فيه الاستصحاب؟ والاستصحاب لا بدّ فيه من إحراز كون المستصحب متيقّنا في السابق ولا متيقّن في المقام ؛ لأنّ هذا الوجوب بهذا النحو محتمل لا متيقّن ، هذا كلّه في الشبهة الحكميّة.

وقد ظهر أنّ مقتضى الأدلّة الاجتهاديّة والاصول العمليّة في الشبهة الحكميّة احتياج القضاء خارج الوقت إلى أمر جديد فيما إذا لم يكن دليل الواجب مطلقا ودليل المقيّد مهملا ، وأنّ المرجع في غير هذه الصورة إلى أصالة البراءة إن لم يرد دليل بالخصوص.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٧٨.

(٢) لم نتحقّقه.

(٣) مستدرك الوسائل ٤ : ١٥٨ ، الباب الأوّل من أبواب القراءة ، الحديث ٥ و ٨.

٥٠٧

وأمّا الشبهة الموضوعيّة كما لو قلنا بلزوم القضاء ولو بالأمر الجديد ، فشكّ في عدم الصلاة في الوقت مع قطع النظر عن قاعدة الحيلولة ، أو يفرض الكلام في الصوم فهل يمكن إثبات وجوب القضاء باستصحاب عدم الإتيان في الوقت؟ الظاهر عدم

إجداء الاستصحاب ؛ لأنّ موضوع القضاء لو كان عدم الإتيان بالصلاة لنفع الاستصحاب ، إلّا أنّ الظاهر أنّ موضوع القضاء هو الفوت ، وهو أمر ملازم لعدم الإتيان في تمام الوقت لا نفسه ؛ ولهذا يقال في العرف : لم نأت بالشيء الفلاني ففاتنا.

ولا ريب أنّ إجراء الاستصحاب لإثباته من أظهر أنحاء الأصل المثبت ، ولو شككنا في كون الفوت نفس عدم الإتيان أو أمرا ملازما له فلا ريب في عدم جريان الاستصحاب ؛ لعدم العلم بترتّب أثر شرعي عليه فهو شبهة مصداقيّة لا يعلم كونها من موارد التعبّد بالاستصحاب أم لا ، ولا عموم لتدخل تحته لتكون من موارد النزاع في جواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة في المخصّص ، بل هذه لا كلام في عدم جريان الاستصحاب فيها ، لعدم العموم. هذا تمام الكلام في الواجب المؤقّت.

نعم ، لو شكّ في الوقت وكان محدثا بالأصغر ، كما لو كان جنبا ثمّ غفل وصلّى صلاة الظهر مثلا ثمّ أحدث بالأصغر ثمّ شكّ بعد ذلك في أنّه اغتسل من جنابته قبل الصلاة أم لم يغتسل ، فهنا لا بد من إعادة ظهره بعد أن يغتسل ويتوضّأ لإحراز الطهارة ؛ إذ يعلم إجمالا بوجوب الوضوء عليه أو بإعادة الظهر ، ولا بدّ من الجمع بينهما تحصيلا للفراغ اليقيني بعد إحراز الشغل ، وليس كذلك ما لو كان محدثا بالأصغر وشكّ بعد الصلاة في تطهّره فإنّ قاعدة الفراغ لا تجري ؛ لمعارضتها باستصحاب الحدث ، إلّا أنّ أصالة البراءة عن الإعادة تجري فلا يجب إعادة الصلاة ، وأصالة الاشتغال تجري فيجب الوضوء للعصر ، ويجب الوضوء ؛ لقاعدة الاشتغال والعلم الإجمالي بوجوب إعادة الصلاة أو وجوب الوضوء لا ينافي جريان الاصول ؛ لعدم تعارضها فيجري كل في موضوعه ولا تنافي بينهما.

والعلم بالإجمال لا ينافي

فثمّ أصل مثبت ونافي

٥٠٨

في الأمر بالأمر بالشيء

هل الأمر بالأمر بالشيء أمر به أم لا؟ الظاهر أنّ صوره في مقام الثبوت ثلاثة :

الاولى : أن يكون الغرض قائما بصرف أمر الواسطة من دون أن يكون هناك غرض في المأمور به أصلا ، ولا ريب في عدم كونه أمرا بذلك الشيء فللمأمور الثاني أن لا يمتثل ؛ إذ أمر المولى مفقود وأمر الثاني ليس بواجب الاتّباع حسب الفرض.

الثانية : أن يكون الواسطة طريقا محضا ولا غرض في أمره إلّا إبراز أمر المولى وإيصاله والغرض قائم بنفس المأمور به ، وفي مثله لا ريب في لزوم الإتيان به حينئذ إذا اطّلع عليه المأمور الثاني ولو من غير طريق هذه الواسطة.

الثالثة : أن يكون الغرض قائما بالفعل الصادر عن أمر الواسطة بحيث لا غرض في الفعل المطلق ولا في الواسطة فقط بل فيهما معا ، وحكمها أنّه لو فعل ذلك الفعل بعد أمر الواسطة كان وافيا بالغرض ومأمورا به وإلّا فلا ، هذه هي الصور في مقام الثبوت ، ولكن الذي يفهمه العرف من الأمر بالأمر كونه من قبيل الصورة الثانية وأن لا غرض إلّا التبليغ ، ويرون الشخص مستحقّا للعقاب لو لم يمتثل بعد التبليغ ، وهذه المسألة مهمّة عملا فإنّ شرعيّة عبادات الصبيّ وتمرينيّتها مبنيّة عليها. والظاهر أنّ جميع الوجوه المذكور للشرعيّة مخدوشة إلّا هذا الوجه ، فإنّ أوامر الصبيّ إنّما هي ب «مروهم بالصلاة» (١) بالصلاة وشبهها. وبما أنّ العرف يفهم أنّ توسيط الأب بالأمر لمجرد التبليغ ليس إلّا ، فقد أمر الصبيان بالصلاة فتكون عباداتهم شرعيّة (*).

__________________

(١) البحار ٨٨ : ١٣٢ نقلا عن نوادر الراوندي.

(*) روى الشيخ الحرّ في وسائله عن محمّد بن يعقوب قدس‌سره ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن يحيى ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع ومشفّع ، فإذا بلغوا اثنتي عشرة سنة كتبت لهم الحسنات ، وإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات» ـ الوسائل ١٥ : ٩٤ ، الباب الأوّل من أبواب

٥٠٩

في الأمر بعد الأمر

إذا أمر المولى بعمل قابل للتكرار ، ثمّ أمر به ثانيا فإن أسنده في كلّ من الأمرين إلى سبب غير الآخر فلا ريب في ظهوره في الإلزام بتعدّد المأمور به ، كما إذا قال : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أنت أفطرت في يوم من شهر رمضان فأعتق رقبة ، فإذا فعل كلّا من السببين وجب عليه المسبّبان معا ، وهل يتداخلان أم لا؟ كلام يأتي التعرّض له في مبحث المفاهيم إن شاء الله تعالى.

وإن أسنده إلى فعل واحد كأن قال : إن ظاهرت فأعتق ، ثمّ كرّرها أو كرّر الأمر بالعتق من غير ذكر سبب ولم يقيّده بقوله : مرّة اخرى ، فالظاهر التأكيد. وظهور الجملة في التأسيس وإن كان مسلّما إلّا أنّه في غير صورة مسبوقيّتها بمثلها ، أمّا في صورة المسبوقيّة فظهورها في التأكيد لا ينكر. ولو فرض تحقّق الشكّ في ظهورها في التأكيد فعدم ظهورها في التأسيس مسلّم فتكون حينئذ مجملة فيرجع إلى أصالة البراءة من التكليف بالتكرار ، هذا تمام الكلام في الأوامر.

__________________

ـ أحكام الأولاد ، الحديث الأوّل ـ وهذه الرواية تكفي لإثبات مشروعيّة العبادة للصبيّ بضميمة عدم القول بالفصل ، مضافا إلى جملة من الروايات ذكرها الحرّ في وسائله ـ الوسائل ٣ : ١١ ، الباب ٣ من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث ١ و ٢ و ٤ ـ خالية عن أمر الوالد ، فهذه الأخبار كافية في إثبات المشروعيّة من غير حاجة إلى إثبات أنّ الأمر بالأمر أمر أم لا. (الجواهري).

٥١٠

وأمّا الكلام في :

النواهي ومفاد النهي

ذكر جماعة أنّ النهي طلب الكفّ ؛ لأنّ عدم الفعل أزلي فلا يتعلّق النهي به (١).

وذهب المشهور إلى أنّ المطلوب بالنهي هو مطلق الترك وأن لا يفعل ، وأنّ الأزليّة المدّعاة في دليل الأوّل بالإضافة إلى عدم الفعل الأزلي الذي هو خارج عن اختيار المكلّف (٢). وأمّا استمرار ذلك العدم فهو مقدور للمكلّف ؛ لإمكان أن يفعل فينقطع الاستمرار ، وأن لا يفعل فيبقى حينئذ عدمه مستمرّا.

وهذا القول الثاني وإن كان متينا إلّا أنّ الظاهر أنّ باب النواهي ليست من أبواب الطلب كلّية ، وإنّما ذلك باب الوجوب الذي يكون الفعل فيه ذا مصلحة من دون أن يكون في الترك مفسدة وإنّما فيه فوات المصلحة ، وإنّما النواهي ما يكون وجود المنهيّ عنها فيه مبغوضا من دون أن يكون تركه محبوبا.

__________________

(١) منهم العلّامة في تهذيب الاصول : ١٢١ كما نسب إليه في المعالم ونسب إلى الحاجبي والعضدي وإلى الأشاعرة ، انظر هداية المسترشدين ٣ : ١٧.

(٢) انظر نهاية الاصول : ١١٥ ، والمعالم : ٩١ ، والقوانين ١ : ١٣٧ ، والفصول الغروية : ١٢٠.

٥١١

فالظاهر أنّ مفاد النهي إنّما هو الزجر كما أنّ مفاد الأمر هو البعث ، ومتعلّقهما نفس الطبيعة التي إن كانت محبوبة فهي متعلّق الأمر ، وإن كانت مبغوضة فهي متعلّق النهي ، فإنّ ظاهر النهي صدوره عن مبغوضيّة في العمل كما أنّ صدوره الأمر إنّما هو ظاهر في محبوبيّة الفعل نفسه.

نعم ، يمكن أن يكون في الترك مصلحة كتروك الإحرام وفي الفعل مفسدة فيكون الترك حينئذ واجبا ـ ولذا عدّ تروك الإحرام من واجبات الإحرام ـ إلّا أنّ الظاهر خلافه بحيث كان محتاجا إلى القرينة.

ثمّ إنّ ما كان الترك فيه واجبا يكون على أنحاء ثلاثة :

أحدها : أن يكون الترك واجبا بنحو الانحلال ، كأن يكون لكلّ واحد من التروك أمر مستقلّ.

وثانيها : أن يكون بنحو العموم المجموعي ، فيكون للجميع إطاعة واحدة أو عصيان واحد.

وثالثها : أن يكون المطلوب خلوّ الصفحة عن وجود هذه الطبيعة ، فيكون الواجب ترك كلّ منضمّا إلى بقيّة التروك ، بنحو يكون الواجب هو الأمر البسيط المنتزع من هذه التروك أو الملازم لها.

وتظهر ثمرة هذه الأقسام في الشبهة المصداقيّة ، فلو شكّ في ترك من التروك أنّه من أفراد تروك تلك الطبيعة أم لا؟

فعلى الأوّل تجري البراءة فيه باتّفاق المحدّثين والاصوليين.

وإن كان من قبيل الثاني بنى على أنّ المجرى فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر هو البراءة أو الاشتغال.

وإن كان من قبيل الثالث فلا ريب في إجراء قاعدة الاشتغال ، للشكّ في حصول ذلك العنوان البسيط بمجرّد بقيّة أفراد التروك ، والشغل اليقيني محتاج إلى فراغ يقيني.

٥١٢

ثمّ إنّه بعد ما ذكرنا من أنّ متعلق الأمر ومتعلّق النهي واحد وأنّها الطبيعة المطلقة فربّما يشكل بأنّه لما ذا في صورة الأمر بالطبيعة يكتفى بفرد واحد في مقام الامتثال ولا يكتفى في صورة النهي بترك واحد مع أنّ متعلّق كلّ من الأمر والنهي واحد وما هو المائز بين المقامين؟

وقد أجاب عن هذا صاحب الكفاية قدس‌سره (١) تبعا لغيره (٢) بأنّ الطبيعة توجد بأوّل الأفراد ولا تعدم إلّا بانعدام جميع الأفراد ، فهذا هو الفارق بين المقامين.

أقول : لا يخفى أنّ الطبيعة لها وجودات بعدد أفرادها ، ففي صورة الأمر يصدق وجدت الطبيعة باعتبار وجودها في ضمن الفرد الموجود ، ويصدق أنّها معدومة في ضمن الفرد الذي لم يتحقّق ، وكذا الكلام في متعلّق النهي ، فإنّه إن ترك أحد أفراد متعلّق النهي وأوجد فردا فقد ترك الطبيعة في ضمن الفرد المتروك وأوجدها في ضمن الفرد الموجود أيضا. فدعوى أنّها توجد بأوّل الوجودات ، كلام شعري فإنّها حينئذ يصدق أنّها موجودة ومعدومة ، كما في صورة النهي يصدق أنّه ترك الطبيعة بترك فرد تتحقّق الطبيعة في ضمنه ، وأوجد الطبيعة باعتبار الفرد الآخر الذي وجدت الطبيعة في ضمنه ، والطبيعة مع قطع النظر عن الأفراد لا وجود لها ، وباعتبار الأفراد تابعة لتلك الأفراد في الوجود والعدم.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ الفارق بين الأمر والنهي هو وجود القرينة على كون المتعلّق في النهي مأخوذا بنحو الطبيعة السارية ، وفي الأمر مأخوذ بنحو صرف الوجود المنطبق على أوّل الوجودات ، والقرينة أمران :

الأوّل : أنّ الغالب في الغرض أو المصلحة الداعية إلى الأمر تحقّقها بصرف الوجود ، بحيث تكون هذه الغلبة قرينة عامّة عند المتكلّم والمخاطب لا يعدل عنها إلّا

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٣.

(٢) انظر هداية المسترشدين ٣ : ٢٦.

٥١٣

بقرينة خاصّة كأن يقول : «ائتني بماء» مرّتين ، فهذا هو الذي اقتضى الكفاية في الأوامر بصرف وجود المتعلّق ، وهذا بخلاف النواهي فإنّ الغلبة فيها بعكس ذلك فإنّ الغرض والمفسدة الباعثين على الزجر غالبا قائمان بمطلق وجود تلك الطبيعة ، بحيث كانت هذه الغلبة قرينة عامّة لا يعدل عنها إلّا بقرينة خاصّة على خلافها ، فهذا هو السبب في ذلك. (وهذا الوجه مبنيّ على القول بوجود المصالح والمفاسد في متعلّقات الأحكام لا فيها نفسها كما اخترناه في الأحكام الظاهريّة ، مع أنّ الملاك إنّما يعرف بالأمر والنهي ولا طريق إلى معرفتهما غيره ، والمفروض أنّ مفادهما واحد فيعود السؤال عن الفرق بين الأمر والنهي) (١).

الأمر الثاني : ممّا هو قرينة لذلك هو أنّه في مقام الأمر حيث إنّ تمام أفراد المأمور به غير مقدورة للمكلّف فالأمر لم يتعلّق بها قطعا ، فامتنع كون متعلّق الأمر مأخوذا بنحو مطلق الوجود أينما سرى ، فتعيّن كونه مأخوذا بنحو صرف الوجود.

وفي مقام النهي حيث إنّ ترك بعض أفراد المتعلّق لا بدّ منه حتّى لو لم ينهه عنه فلا بدّ من كون المنهيّ عنه مطلق الوجود ؛ إذ لو كان خلوّ صفحة الوجود من فرد ما وافيا بغرض المولى لم يحتج إلى النهي ؛ لانتراك البعض قهرا فيحصل الغرض ، فتوجّه النهي كاشف عن كون الغرض متعلّقا بانعدام كلّ فرد من أفراد المتعلّق في النهي. وهذه القرينة عامّة لا تختصّ بخصوص الأوامر والنواهي ، بل هي جارية حتّى في الإخبارات ، فمن قال : عندي درهم ، بما أنّ وجود كلّ درهم عنده مستحيل عقلا فلا بدّ من كون إخباره بصدد صرف الدرهم المنطبق على أوّل الوجودات من الدراهم ، بخلاف ما إذا قال : ليس عندي درهم ، فإنّ فقدانه لبعض دراهم العالم غير محتاج إلى أخبار لمعلوميّته ، فلا بدّ من أن يكون بصدد الإخبار عن خلوّ صفحة الوجود عن درهم عنده ، فيكون مفاده نفي الوجود الساري ، هذا كلّه في الأفراد الدفعيّة.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥١٤

وبعين الكلام يتمّ في الأفراد التدريجيّة أيضا ، وهذا هو مفاد قولهم : إنّ النهي مفيد للعموم.

وما ذكره الميرزا النائيني في الأفراد التدريجيّة : من أنّ انتراك الأفراد في بعض الأزمان متحقّق ، فلا يكون النهي حينئذ إلّا لغوا لو اريد به تركه في بعض الأزمان (١) فيمكن المناقشة فيه بأنّه يمكن ارتفاع اللغويّة بإرادة الترك في يوم مثلا أو شهر فلما ذا نلتزم بلزوم تركه إلى الآخر؟

ثمّ إنّه بهذه القرينة المذكورة يستفاد أنّ المتعلّق في النهي إذا وجد مرّة عصيانا فلا يرتفع النهي عن بقيّة الأفراد ؛ لأنّ النهي حيث كان مأخوذا بنحو الطبيعة السارية في أفراد المتعلّق ، فكلّ فرد منها يكون منهيّا عنه بانحلال النهي إلى تمام الأفراد ، فكلّ فرد له امتثال خاصّ وعصيان خاصّ لا ربط له في ذلك ببقيّة الأفراد ، وإطلاق المتعلّق بالإضافة إلى أفراده مسلّم.

ومن هنا يعلم أنّ ما ذكره في الكفاية : من لزوم كون الطبيعة مطلقة بالإضافة إلى حال العصيان أيضا ، وأنّه لا يكفي إطلاقها من سائر الجهات (٢) غير محتاج إليه ، بل يكفينا إطلاق المتعلّق من حيث الأفراد ، هذا تمام الكلام في مبحث النهي من حيث كونه نهيا.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٢٢ ـ ٢٣.

(٢) كفاية الاصول : ١٨٣.

٥١٥
٥١٦

وأمّا الكلام في باب :

مبحث اجتماع الأمر والنهي

ويقع الكلام والنزاع في امور :

الأوّل : أنّ الأمر هل يسري إلى متعلّق النهي وبالعكس حيث يتّحد المتعلّقان في الخارج أو لا يسري؟ وبعبارة اخرى هل المتعلّق فيهما واحد أم متعدّد؟ وعلى تقدير التعدّد فهل يسري الأمر إلى متعلّق النهي وبالعكس أم لا؟ أو أنّه واحد ويجوز ذلك كما يظهر من كلام بعضهم (١)؟ ومن هنا ظهر أنّ عنوان بعضهم (٢) لمحلّ النزاع في أنّه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد أم لا يجوز؟ ليس كما ينبغي ؛ إذ الكلام في أنّه واحد أم متعدّد. نعم من لا يرى الوحدة مانعة لأنّ هذا الفرد ليس مأمورا به ولا منهيّا عنه ، يتمّ عنده ذلك.

ومن هنا يظهر الفرق بين هذه المسألة والمسألة الآتية من أنّ النهي عن العبادة موجب للفساد أم لا ، وأنّهما ليس بينهما جامع ، فإنّ الكلام هنا في توجّه النهي وعدمه ، وهناك بعد الفراغ عن التوجّه يقع الكلام في الفساد وعدمه.

__________________

(١) كالمحقّق الخوانساري في تداخل الأغسال من المشارق : ٦٦ وغيره.

(٢) انظر القوانين ١ : ١٤٠.

٥١٧

نعم ، على تقدير القول بالامتناع وقدّمنا جانب النهي كان المنهيّ عنه من صغريات تلك المسائل.

الثاني : في أنّ هذه المسألة اصوليّة أو فرعيّة أو كلاميّة أو من المبادئ التصديقية أم من المبادئ الأحكامية؟ ذهب صاحب الكفاية إلى كونها اصوليّة وإن وجدت فيها هذه الجهات بأسرها (١) ، والظاهر أنّها لا تصحّ إلّا أن تكون مسألة اصوليّة وليس فيها جهات غيرها.

أمّا عدم كونها فرعيّة فلأنّ البحث في المقام إنّما هو عن اجتماع حكمين في موضوع واحد وعدمه ، وصحّة العبادة وفسادها من ثمراته وليس البحث عنه.

وأمّا عدم كونها كلاميّة فلأن ليس كلّ مسألة عقليّة كلاميّة وإن كان كلّ مسألة كلاميّة عقليّة وهو واضح.

وأمّا عدم كونها من المبادي التصديقيّة وإن أصرّ عليه الميرزا النائيني قدس‌سره بدعوى أنّ القول بعدم جواز الاجتماع يحقّق موضوع باب التعارض فلا بدّ من رفع اليد عن أحد الإطلاقين فهو وإن كان صحيحا إلّا أنّ ملاحظة أنّه لو بنى على الجواز صح العمل تصحّح كونها مسألة اصولية ويكفي فيها ترتّب استنباط الحكم الشرعي على أحد طرفيها كما سيأتي.

وأمّا عدم كونها من المبادي الأحكاميّة ، والمراد بالمبادئ الأحكاميّة لوازم الحكم من حيث هو حكم ومقتضياته مع قطع النظر عن الحاكم ككون وجوب الشيء مقتضيا لوجوب مقدّمته أم لا مثلا فيتكلم هنا في أنّ الأمر يستلزم عدم النهي أم لا فهو وإن أمكن ذلك إلّا أنّ البحث ليس عن الاستلزام وعدمه ، بل عن نفس اجتماع الحكمين وعدمه مضافا إلى أنّا لا نعقل المبادئ الأحكامية ؛ لعدم خروجها عن المبادئ التصوريّة أو التصديقيّة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٥.

٥١٨

وأمّا كونها مسألة اصوليّة فلأنّ الميزان في كون المسألة اصوليّة وقوع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي ، أو كبرى لو ضمّ إليها صغراها لأنتجت حكما شرعيّا ، وهذا بعينه موجود في المقام ، فإنّا لو قلنا بجواز الاجتماع فهو ينتج صحّة الصلاة ، وكونها على الامتناع لا يقع في طريق استنباط الحكم ، وإنّما تدخل في المتعارضين فيثبت لها حكمهما لا يخرجها عن كونها مسألة اصوليّة ؛ لأنّ وقوع أحد طرفي المسألة وبعض تقاديرها في طريق الاستنباط كاف في عدّها مسألة اصوليّة ، فحجّية الخبر مثلا الدالّ على وجوب السورة مسألة اصوليّة مع عدم ترتّب الوقوع في طريق الاستنباط لو قلنا بعدم حجّيته ، نعم يكون المورد من موارد عدم البيان فيكون صغرى لقاعدة البراءة العقليّة لقبح العقاب بلا بيان.

وبالجملة ، وقوع بعض تقادير المسألة في طريق الاستنباط كاف في عدّها اصوليّة ، وإلّا لم تبق عندنا مسألة اصوليّة أصلا.

الأمر الثالث : ذكر الآخوند قدس‌سره (١) اطّراد الكلام فيما إذا كان النهي غيريّا تخييريّا كفائيّا ؛ وأنّه لا يختصّ فيما إذا كان النهي نفسيّا تعيينيّا عينيّا ، إلّا أنّ الكلام في إمكان تصوير نهي كفائي أو تخييري ، نعم يمكن أن يكون النهي غيريّا حيث يقع مقدّمة وعلّة تامّة لمحرّم ، إلّا أنّ تصوير كونه تخييريّا في غاية الإشكال.

وما ذكره الآخوند قدس‌سره في التمثيل لا يجدي ؛ لكونه من قبيل تحريم المجموع من حيث المجموع لا من قبيل النهي التخييري ، كما في النهي عن صوم يوم العيد فهو يؤول إلى كون صوم مجموع اليوم محرّما فله أن يترك الصوم كلّية وأن يصوم إلى الظهر ثمّ يفطر أو إلى العصر ثمّ يفطر.

ومن هنا يظهر الإشكال في تصوير النهي الكفائي أيضا ؛ لأنّه يؤول إلى تحقّق المفسدة بفعل جميع المكلّفين بحيث لا مفسدة بفعل البعض كلّية ، فالفرد الأوّل حيث يفعل ذلك المنهيّ عنه لم يرتكب محرّما أصلا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٦.

٥١٩

وبالجملة ، أنّ ملاك النزاع في جواز الاجتماع وعدمه هو سراية الأمر إلى متعلّق النهي وبالعكس ، وهذا الملاك يشمل جميع أقسام الوجوب والتحريم إلّا أنّ تصوّر التحريم التخييري غير معقول كالكفائي ؛ لرجوعه إلى تحريم المجموع أو التحريم على المجموع ، والتخيير يكون في الامتثال لا في أصل التحريم. والتكليف الغيري التحريمي وإن أمكن تصويره إلّا أنّ التحريم الغيري لا ينافي التقرّب بالملاك ، كما أنّ الأمر الغيري لا يقتضي التقرّب وإنّما يقتضيه الأمر النفسي ، فتأمّل فإنّه دقيق.

الأمر الرابع : في أنّ المسألة عقليّة لا لفظيّة ؛ لأنّا ذكرنا أنّ محور البحث هو سراية النهي إلى متعلّق الأمر وعدم سرايته ، وهو أمر عقلي لا مدخليّة للألفاظ فيه ، نعم يرجع إلى العرف بما أنّهم عقلاء. وما ذكره بعضهم من القول بالامتناع العرفي (١) في الحقيقة قول بالجواز وليس تفصيلا في المسألة ، فافهم.

الأمر الخامس : اعتبر بعضهم في جريان النزاع وجود المندوحة (٢) ، والظاهر كما ذكر في الكفاية (٣) عدم مدخليّتها في محور النزاع ـ وهو السراية وعدمها ـ لأنّ سراية الأمر إلى متعلّق النهي وعدمه لا يتوقّف على وجود المندوحة ، فإذا قلنا بالامتناع فلا أثر للمندوحة أصلا ، وإذا قلنا بالجواز وتقديم جانب الأمر اعتبر حينئذ وجود فرد آخر غير مزاحم بالتحريم ليمكن توجّه الأمر بالطبيعة حينئذ. فإذا قلنا بالجواز الفعلي ولم تكن ثمّة مندوحة كان من باب التزاحم قطعا فيقدّم ما هو أقوى ملاكا ، وأمّا إن كانت ثمّة مندوحة ومع ذلك أتى المكلّف بالفرد المنهيّ عنه فهل يكون من باب التزاحم أم لا؟ ذكر المحقّق الثاني قدس‌سره أنّه لا يكون من باب التزاحم ؛ لأنّ وجود

__________________

(١) الظاهر هو المحقّق الأردبيلي. انظر مجمع الفائدة ٢ : ١١٢.

(٢) الذي أخذ قيد المندوحة صريحا في موضع النزاع هو صاحب الفصول قال : في صدر المسألة ما هذا لفظه : وإن اختلفت الجهتان وكان للمكلّف مندوحة في الامتثال فهو موضع النزاع ، راجع الفصول : ١٢٤.

(٣) كفاية الاصول : ١٨٧.

٥٢٠