غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

ضرورة أنّه عند ترك الحركة ساكن لا محالة ، فيكون قوله : إن لم تتحرّك فاسكن بمثابة إن سكنت فاسكن وهل هو إلّا طلب الحاصل؟ والمسألتان من هذا القبيل ، ضرورة أنّه إن لم يجهر يخفت وإن لم يقصّر يتمّ فيكون الطلب حينئذ طلبا للحاصل.

أقول : أمّا القصر والإتمام فليسا من قبيل ما ليس لهما ثالث لإمكان أن لا يقصر ولا يتمّ بأن يصلّي ثلاث ركع أو ثلاث ونصف.

ومع الغضّ عن هذا الجواب فالجواب العامّ للمسألتين أنّ المأمور به أوّلا الصلاة القصريّة والصلاة الجهريّة ، وحينئذ فضدّ الصلاة القصريّة الصلاة تماما وعدم الصلاة ، وضدّ الصلاة الجهريّة الصلاة الإخفاتيّة وعدم الصلاة ، وحينئذ فهما ضدّان لهما ثالث ، وحينئذ فيمكن أن يكون الأمر بالإتمام أو الجهر صارفا عن عدم الصلاة كلّية ، ومحرّكا نحو خصوص الإتمام والإخفاتيّة دون ترك الصلاة كلّية.

نعم ، لو كان أصل الصلاة أو القراءة مفروغا عن تحقّقها في الخارج وكان الكلام في الكيفيّات صحّ ما ذكره ، ولكنّه ليس كذلك ، فافهم.

الثالث من الامور التي ذكرها الميرزا النائيني قدس‌سره في نفي كون المسألتين من الترتّب هو : أنّ الترتّب هو أن يقيّد موضوع الأمر الثاني بعصيان الأوّل ، وفي المقام لا يمكن ذلك ؛ إذ المفروض كون المخاطب بالأمر الثاني [هو](١) الجاهل بالحكم ، والجاهل إن فرض عاصيا لأمر القصر صار عالما وخرج عن كونه جاهلا ، وهذا نظير ما ذكر في الناسي من أنّه لا يمكن توجّه الحكم نحوه بعنوان الناسي ؛ لأنّه لا داعوية له للناسي ؛ إذ لو لم يلتفت إليه فلا داعوية فيه له ، وإن التفت إليه خرج عن كونه ناسيا ، والسرّ أنّ داعوية كلّ أمر فرع وصوله والالتفات إليه ، فإذا لم يلتفت إليه فلا داعوية له.

أقول : ما ذكره قدس‌سره متين إن كان الأمر الثاني مقيّدا بعصيان الأمر الأوّل ولكن لا ملزم لذلك ، بل إنّ الأمر الثاني مقيّد بترك القصر مثلا أو الجهر مثلا ، أمّا أنّ الترك يلزم أن يكون عصيانا فلا مقتضي له ؛ ضرورة أنّ طلب الضدّين يرتفع بالتقييد

__________________

(١) أضفناه لاقتضاء السياق.

٤٨١

بالترك ، فاعتبار العصيان حينئذ لا داعي له ، والتعبير فيما تقدّم بالعصيان إنّما هو لغلبة كون الترك به لا لأنّ له موضوعيّة ، بل لا بدّ من كون القيد هو مطلق الترك ؛ ضرورة صحّة الصلاة لو لم يعلم بالنجاسة أو كان مضطرّا إلى تركها ، ضرورة صحّة صلاته حينئذ مع عدم تحقّق العصيان قطعا.

فالإنصاف أنّ ما ذكره كاشف الغطاء قدس‌سره متين من هذه الجهات وإن كان ليس من الترتّب في خصوص هذين المثالين إلّا أنّه ليس من جهة عدم الإمكان ، بل من جهة عدم الوقوع ، فإنّ لازم الترتّب كما قرّرنا استحقاق عقابين عند تركهما معا مع أنّه لو تركهما معا ليس عليه إلّا عقاب واحد في المقام.

والسرّ في ذلك أنّ شرطيّة القصر في السفر والجهر والإخفات شرطيّة علميّة ، ففي حال الجهل لا وجوب للمتروك وحينئذ فهو غير مأمور به ولا يستحقّ عقابا على تركه ؛ لظاهر الأخبار من قوله عليه‌السلام : وقد تمّت صلاته (١) ، فإنّ ظاهرها كون هذه الصلاة هي المأمور بها دون الفائتة أصلا.

التنبيه الخامس :

إنّا قد ذكرنا فيما تقدّم أنّه لا نحتاج إلى الترتّب حيث يكون المهمّ موسعا ؛ إذ لا معارضة إلّا بين إطلاق خطاب المهمّ وخطاب الأهمّ إن قلنا بتعلّقه بالأفراد ، وإن قلنا بتعلّقه بالطبيعة فلا معارضة ؛ ضرورة أنّ المزاحمة حينئذ بين الإزالة مثلا وفرد من الصلاة ، والفرد غير مأمور به كما ذكره المحقّق الثاني قدس‌سره (٢) فما هو مزاحم غير مأمور به ليقع التزاحم بين الأمرين ، والطبيعة لا تزاحم الإزالة ، فإذا تحقّق الفرد كان الانطباق قهريّا والسقوط عقليّا.

نعم ، حيث يكون المهمّ مضيّقا لا بدّ من القول بالترتّب حتّى يتحقّق الأمر حينئذ ، وقد تقدّم بعض الكلام ممّا يناسب المقام ، فتأمّل.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٧٦٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة ، الحديث الأوّل.

(٢) انظر جامع المقاصد ٥ : ١٣ ـ ١٤.

٤٨٢

ومن المناسب التعرّض لامور ثلاثة :

الأمر الأوّل : أنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يكون أحدهما أهمّ من الثاني قد يكونان معا آنيّين ، نظير غريقين أحدهما نبيّ والآخر مسلم مثلا ، ففي مثله إذا ترك إنقاذ النبيّ وأنقذ المسلم مثلا فبناء على الترتّب وكون أمر إنقاذ المسلم مشروطا بترك إنقاذ النبيّ يكون عاصيا للأهمّ وممتثلا للمهمّ.

وقد يكون المهمّ آنيا والأهمّ مستمرّا ففي الآن الأوّل صحّة المهمّ موقوفة على الترتّب كما قرّرنا ، وبعد الآن الأوّل يكون الأهمّ حينئذ وحده وليس هناك أمر بالمهمّ.

وقد يكون الأهمّ آنيا والمهمّ مستمرّا فصحّة المهمّ حينئذ إن قلنا بمقالة المحقّق الثاني غير محتاجة إلى الترتّب ، وإن لم نقل بمقالة المحقّق الثاني فهي أيضا لا بدّ لها من القول بالترتّب ، وأمّا فيما بعد الآن الأوّل فالمهمّ حينئذ لا يعارضه الأمر بالأهمّ ؛ لانعدامه حسب الفرض.

وقد يكون كلاهما مستمرّا كالصلاة والإزالة ، فإنّ أهميّة الإزالة من جهة فوريّتها إلّا أنّها إذا لم يؤت بها فورا لا يسقط أمرها ، بل يبقى فورا ففورا ، فحينئذ يكون شرط الأهمّ حينئذ وهو الصلاة ترك الإزالة في تمام زمان أدائها من التكبير إلى التسليم.

الأمر الثاني : أنّه إذا عرضت النجاسة أثناء صلاة المصلّي في المسجد فقد زعم السيّد اليزدي في عروته (١) صحّة الصلاة من غير حاجة إلى الترتّب ، وتبعه الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) معلّلا بأنّه إنّما احتجنا إلى الترتّب في الابتداء لفوريّة الإزالة المنفيّة في المقام قطعا ؛ لحرمة قطع الصلاة.

__________________

(١) العروة الوثقى : في أحكام النجاسات ، فصل : يشترط في صحّة الصلاة ... ، المسألة ٥.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٠٠.

٤٨٣

أقول : إن كان دليل حرمة قطع الصلاة دليلا لفظيّا كقوله : تحريمها التكبير وتحليلها التسليم (١) ، أو غير هذا الحديث من الأدلّة اللفظيّة فالحكم كما أفادا ؛ ضرورة أنّ إطلاقه يشمل هذا المورد قطعا ولا إجماع على لزوم الإزالة أو فوريّتها في مثل المقام.

وأمّا إذا كان دليل حرمة قطع العمل هو الإجماع فإن تمّ الإجماع ولم يناقش فيه كما ناقش فيه جماعة كثيرة وزعموا أن لا إجماع أصلا ، وبالجملة فإن تمّ الإجماع على حرمة قطع العمل فذاك وإلّا فكما لا إجماع على لزوم الإزالة في المقام كذلك لا إجماع على حرمة قطع العمل فيه بالخصوص ، وحينئذ فمقتضى القاعدة التخيير بين إتمام الصلاة وقطعها وليس يتعيّن عليه الإتمام.

الأمر الثالث : أنّه لو كان الماء في آنية الذهب وكان الرجل محتاجا إلى الوضوء والغسلى فلا ريب في أنّه لو أخذ منه غرفة تكفيه لوضوئه أو غسله فوضوؤه أو غسله صحيح ، وإن لم تكفه فهل يمكن تصحيح وضوئه بالأخذ في غرفات متعدّدة؟ الظاهر عدم صحّته ؛ لكونه أيّ الوضوء موقوف على غرفات ثلاثة مثلا فإذا اغترف غرفة بيده فبأيّ نيّة يريقها على وجهه؟ إذ لا يعقل الأمر بالوضوء والنهي عن مقدّمته وهي الغرفة الثانية والثالثة ، وحينئذ فلا أمر بالوضوء كلّية. إلّا أنّه يمكن تصحيح الوضوء فيما لو فرض عدم انحصار الماء في خصوص هذا المذكور باعتبار القدرة في ظرف الغرفة الثانية ، وعدم اعتبار القدرة حين الشروع في العمل ، بل تكفي ولو كانت في أثنائه ؛ لكون العقل لا يقتضي أكثر من ذلك. هذا كلّه لو كان الماء مباحا.

أمّا لو كان مملوكا له وغصبه صاحب الآنية فهل يجوز وضوؤه لكونه مالكا ، فبعموم السلطنة ترتفع حرمة الاستعمال في آنية الذهب ؛ لكونه تخليصا لماله

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٧٥١ ، الباب الأوّل من أبواب تكبيرة الإحرام ، الحديث ١٠.

٤٨٤

كما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره (١)؟ الظاهر عدم جواز ذلك ؛ لأنّ حرمة الاستعمال في آنية الذهب والفضّة لا ترتفع بقاعدة السلطنة ، نعم لو أمكنه تفريغه بإناء آخر بتفريغ لا يعدّ استعمالا عرفا وجب ذلك كما هو واضح.

الكلام في جريان الترتّب في الطوليّين وعدمه :

إذا كان الواجبان طوليّين وكان المكلّف غير قادر عليهما معا كالقيام في صلاة الظهر أو العصر ، فإن كانا متساويين بحسب الملاك فلا بدّ من تقديم الأسبق زمانا ؛ لعدم المسوّغ له شرعا في ترك القيام في صلاة الظهر ، وإذا أراد صلاة العصر فترك القيام فيها حينئذ لعجزه ، وقد تقدّم الكلام في ذلك وعدلنا عن مثال الميرزا النائيني من القيام في الركعة الاولى أو الثانية ؛ لعدم صحته كما تقدّم ذلك.

وإن كان أحدهما أهمّ كشخص معه مقدار قليل من الماء ، ودار أمره بين أن يصرفه في رفع عطش شخص يتضرّر لو لا شربه وبين أن يبقيه إلى بعد ساعة يعلم أنّ زيدا يعطش فيها بحيث لو لم يشربه لمات فلا ريب في وجوب حفظه لزيد إلى بعد ساعة ليشربه ؛ لأنّ حفظ زيد عن الموت أهمّ من دفع الضرر عن الأوّل ، وهل وجوب الحفظ شرعي أو عقلي؟ تقدّم الكلام فيه وأنّه عقلي خلافا للميرزا النائيني قدس‌سره (٢).

ثمّ إنّ هذا الشخص الذي يملك الماء لو علم من نفسه أنّه لا يعطيه لزيد بعد ساعة لعداوة بينه وبين زيد فهل يكون صرفه في رفع ضرر الآخر ـ الذي هو المهمّ ـ واجبا من باب الترتّب أم يختصّ الترتّب بالعرضيّين؟ ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) إلى عدم

__________________

(١ و ٢) أجود التقريرات ٢ : ١٠٠.

(١ و ٢) أجود التقريرات ٢ : ١٠٠.

(٣) انظر فوائد الاصول ١ : ٣٧٦ و ٣٩٢.

٤٨٥

جريان الترتّب في المقام ؛ لأنّه إمّا أن يكون وجوب صرفه في رفع الضرر مشروطا بعصيان الأمر الثاني بعد ذلك ، وهو الشرط المتأخّر وقد بنى قدس‌سره على استحالة الشرط المتأخّر ؛ لأنّ الشرط لا بدّ أن يكون جزءا للموضوع ، ويستحيل فعليّة الحكم قبل وجود موضوعه.

أو يكون مشروطا بالتعقّب بتركه وهو الشرط المقارن ، وهو وإن كان ممكنا إلّا أنّه محتاج إلى دليل يدلّ على هذا الاشتراط ، مضافا إلى أنّ اشتراط المهمّ بترك الأهمّ في الدفعيين إنّما كان لتحقيق القدرة ، وليس للعصيان المتأخّر ولا للتعقّب المقارن مدخليّة في تحقيق القدرة في المقام.

أو يكون مشروطا بالعزم على العصيان وهو مستلزم لطلب الجمع بين الضدّين على ما أفاد قدس‌سره.

أو يكون مشروطا بعصيان خطاب حفظ القدرة وهو غير معقول ؛ لأنّ عصيانه إمّا بصرف الماء في المهمّ وهو لا يعقل كونه شرطا لوجوب المهمّ للزوم طلب الحاصل ، وإمّا بصرف الماء في غيره بإراقته مثلا ، ويستحيل أن يكون شرطا للزوم تكليف المحال حينئذ ؛ إذ بعد صرف الماء في غيره كيف يعقل صرف ذلك الماء فيه أيضا؟ فلا يعقل الترتّب في ذلك.

أقول : إنّا نختار الشق الثاني وهو التعقّب. ودعوى عدم الدليل في مقام الإثبات فنقول : إنّ إمكانه كاف في وقوعه ؛ ضرورة أنّ الأمر بصرف الماء لدفع الضرر مطلق ، وحيث إنّ بقاء إطلاقه مع لزوم حفظ القدرة على رفع الموت عطشا عن زيد مستحيل فيقتصر على رفع ما يرتفع به الاستحالة وهو رفع إطلاقه ؛ لأنّ الضرورة تقدّر بقدرها ، ولا مقتضي لرفع اليد عن أصل الخطاب مع ارتفاع الاستحالة برفع الإطلاق ، وحينئذ فإمكانه مساوق لوقوعه ؛ لجريان ملاك الترتّب الدفعي فيه عينا ، ولا ريب أنّ اعتبار العصيان إنّما كان في الترتّب السابق ؛ لصحّة توجّه الأمر به

٤٨٦

من المولى في هذا الحال ، وهذا بعينه موجود في المقام فلا ضير في الالتزام بالترتّب فيه ؛ لأنّ رفع اليد حينئذ عن ملاك المهمّ وتفويته بلا مقتض ، والمفروض أنّه ملاك ملزم لا مانع من الأمر به حال التعقّب الواقعي.

ولا يخفى أنّ في كلام الميرزا النائيني قدس‌سره مواقع للنظر تركنا التعرّض لها اعتمادا على ما في تعليقة سيّدنا الأستاذ (١) مدّ الله في عمره وأيّام إفاداته الزاهرة.

الكلام في القسم الثاني من موارد الترتّب ما دار الأمر بين الواجب والحرام

قد ذكرنا أنّ الكلام في إمكان الترتّب واستحالته يقع في موارد ثلاثة : ما إذا دار الأمر بين واجبين ، أو دار بين واجب وحرام ، أو كان من باب اجتماع الأمر والنهي ، وحيث انتهى الكلام فيما إذا دار الأمر بين واجبين ، فيقع الكلام الآن في الثاني وهو :

ما إذا توقّف إتيان الواجب على مقدّمة محرّمة أو توقّف ترك الحرام على ترك واجب ، مثلا إذا كان إنقاذ الغريق موقوفا على الاجتياز في الأرض المغصوبة فإن كان الواجب والحرام متساويين في الأهميّة فلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وإن كان الواجب المتأخّر أهمّ كما في إنقاذ الغريق فإنّه أهمّ من الغصب بالاجتياز فلا ريب في سقوط تحريم الاجتياز حينئذ ليصل المولى إلى غرضه الأهمّ.

إلّا أنّ الكلام في أنّه لو عصى الواجب ولم ينقذ الغريق فهل يسقط التحريم أم لا؟ فيكون التحريم مشروطا بعصيان الواجب الأهمّ وهو الترتّب أم لا يكون هنا تحريم وهو القول بعدم الترتّب؟ الظاهر عدم جريان الترتّب في المقام لا لكون العصيان بعد يكون من قبيل الشرط المتأخّر ولا دليل عليه لوجود الدليل عليه كما عرفت بإطلاق دليله ، بل لكون الترتّب حينئذ اجتماع ضدّين.

__________________

(١) انظر المحاضرات ٣ : ٣٤٤.

٤٨٧

بيان ذلك : أنّا إن قلنا بأنّ الواجب من المقدّمة هو خصوص الموصلة ـ أي التوأمة مع الإيصال ـ فغير الموصلة لا وجوب لها ، فهي باقية على تحريمها السابق من غير حاجة إلى الترتّب ، وأمّا إن قلنا بأنّ مقدّمة الواجب واجبة مطلقا فالقول بكون التحريم مشروطا بالعصيان التزام بجمع حكمين متضادّين ، ضرورة كون المفروض فعليّة وجوب الإنقاذ فمقدّمته وهو الاجتياز واجب ، والمفروض أيضا حصول شرط التحريم وهو العصيان فيكون محرّما ، فيكون الاجتياز واجبا وحراما في آن واحد فيكون محالا ، ومحاليّته ليس لكونه طلبا للجمع بين الضدّين ، بل لكونه جمعا بين الضدّين المستحيل لاستحالة مبدئه ومنتهاه ، فإنّ الشوق إلى ذي المقدّمة شوق إلى المقدّمة وكراهتها لكونها محرّمة أيضا متحقّق ، وكذا من حيث المنتهى أيضا لعدم القدرة.

وقد دفع الميرزا النائيني قدس‌سره هذا الإيراد بدعوى : أنّ الحكمين مختلفان بحسب الرتبة ، وحينئذ فليس في المقام اجتماع ؛ لأنّ اجتماع الضدّين يعتبر فيه اجتماع الوحدات الثمانية ، وأضاف بعض المحقّقين إليها الرتبة ، فما لم يكن بينهما اتّحاد بحسب الرتبة لا اجتماع أصلا.

بيان اختلاف الرتبة : أنّ الوجوب بالإضافة إلى ذي المقدّمة نفسه ليس مقيّدا بوجوده ؛ لاستلزامه طلب الحاصل ، وليس مقيّدا بعدمه لاستلزامه طلب المحال. فليس مطلقا بالإضافة إليهما أيضا ؛ لأنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق فهو مهمل ، وإن كان الوجوب محفوظا في جميع الصور المذكورة فهو يقتضي إتيان متعلّقه وهدم عصيانه ، وكذا وجوب المقدّمة إنّما تقتضي إتيان ذي المقدّمة ؛ لعدم كونها مقصودة بالذات. وحينئذ فوجوب المقدّمة يكون كوجوب ذي المقدّمة أيضا من حيث الإهمال بالإضافة إلى هذه التقارير ، والتحريم لدخول الأرض المغصوبة مثلا إنّما هو على تقدير عصيان أمر ذي المقدّمة فقد اخذ في التحريم هدم موضوع الوجوب فهو متأخّر عنه رتبة فلا اجتماع (١).

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١١١.

٤٨٨

أقول يرد عليه :

أوّلا : أنّ اختلاف الرتبة لو سلّم فهو لا يوجب جواز اجتماع الضدّين في الخارج كالمثلين ، فلو فرض أنّ بياضا كان علّة لبياض آخر فإنّه مع ذلك لا يمكن أن يكون ذلك الجسم محلّا لبياضين ومتّصفا بهما معا.

وثانيا : أنّ الرتبة ليست مختلفة ؛ لأنّ اختلاف الرتبة كان مبنيّا على أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق ، وقد بيّنّا بطلانه غير مرّة وأثبتنا أنّ استحالة التقييد تستلزم ضروريّة الإطلاق ؛ لاستحالة الإهمال في الواقع. وحينئذ فلا مانع من قول المولى : «إنّ إنقاذ الغريق عليك واجب أنقذت أم لا» ففي صورة عدم الإنقاذ يجتمع الحكمان في رتبة واحدة.

وثالثا : أنّ المقدّمة إنّما تقتضي إتيان متعلّقها وهدم عصيان نفس المتعلّق ؛ إذ كلّ أمر إنّما يدعو إلى متعلّقه في الخارج لا إلى متعلّق غيره ، فليس الوجوب الغيري في رتبة الوجوب النفسي من حيث اقتضاء الوجوب الغيري تحقّق الواجب النفسي. وحينئذ الترتّب في وجوب المقدّمة على تقدير كونها واجبة مطلقا إنّما تتبع ذا المقدّمة على تقدير الإهمال كما ادّعاه قدس‌سره بالإضافة إلى عصيان ذي المقدّمة المتأخّر بنحو يكون العصيان شرطا متأخّرا ، فالوجوب لذي المقدّمة قبل تحقّق العصيان المتأخّر حاصل لعدم سقوطه إلّا بعد تحقّق العصيان والحرمة أيضا فعليّة لفرض كون شرطها حاصلا في ظرفه ، فاجتمع الحكمان الفعليّان.

وبالجملة : فلو كان محذور هذا القسم من أقسام التزاحم هو طلب الضدّين ، فالجواب عنه بمنع ذلك وأنّ تقدير العصيان رافع لذلك كما مرّ ، إلّا أنّ المحذور في الحقيقة نفس الجمع بين الضدّين ولا يرتفع بما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١). فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة لا بدّ من القول بكون الدخول في الأرض المغصوبة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٠٦ ـ ١١٥.

٤٨٩

حيث يكون إنقاذ الغريق متوقّفا عليها مباحا وإن لم يرد هو إنقاذ الغريق كما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

ومن هذا الكلام يظهر الكلام فيما لو توقّف الواجب الأهمّ على ترك واجب آخر فإنّ عين الكلام فيه جار وإنّ غير الأهمّ يرتفع وجوبه ويكون فعله محرّما ؛ لأنّه مفوّت للأهمّ إلى آخر الكلام المزبور. هذا تمام الكلام في القسم الثاني من أقسام التزاحم ، وقد عرفت عدم جريان الترتّب فيه ، فافهم.

القسم الثالث من أقسام التزاحم : وهو باب اجتماع الأمر والنهي

فلو لم يكن هناك مندوحة أصلا وقدّم النهي ، فلو عصى ذلك النهي فهل يمكن حينئذ أن يأتي بالمأمور به من باب الترتّب بنحو يكون الأمر به مشروطا بعصيان النهي أم لا يمكن ذلك؟ مثلا إذا نهي عن الغصب وامر بالصلاة فلو قدّم النهي فالعمل منهيّ عنه ولكن هل يمكن أن يؤمر بالصلاة مشروطا بعصيان نهي الغصب أم لا يمكن؟ ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى استحالة الترتّب ؛ لأنّ العصيان لنهي الغصب إمّا أن يكون بالغصب بنفس الصلاة أو بغيرها من الأفعال ، ويستحيل جعلهما شرطا للصلاة ، لرجوع الأوّل إلى قولك : «إن صلّيت فصلّ» وهو طلب الحاصل ، والثاني إلى قولك : «إن لم تصلّ فصلّ» ، وهو طلب المحال (٢).

أقول : إنّ باب اجتماع الأمر والنهي إن قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي لوحدة المتعلّق أو لسريان الأمر من متعلّقه إلى متعلّق الثاني وبالعكس فليس من باب التزاحم وإنّما هو داخل في باب التعارض ؛ إذ المفروض أنّ جعل الأمر والنهي فيهما محال قطعا فليس الامتناع لعدم المقدوريّة فلا يتصوّر فيه الترتّب كما ذكره

__________________

(١) انظر كفاية الأصول : ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١١٤ ـ ١١٥.

٤٩٠

النائيني قدس‌سره. وإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي لفرض كون التركيب بينهما انضماميّا ولا يسري متعلّق الأمر إلى متعلّق النهي ولا العكس فحينئذ نقول : إن كان حرمة الغصب أهمّ من وجوب الصلاة والمفروض أنّه لا يقدر أن يترك الغصب ؛ لأنّه حينئذ يترك الصلاة ، ولا يقدر أن يصلّي ؛ لأنّه حينئذ يغصب ، فإذا فرض حرمة الغصب أهمّ فتكون أولى بالمراعاة ، لكن لو عصى وغصب لا مانع حينئذ من القول بوجود أمر بالصلاة مشروطة بالغصب. وما ذكره النائيني قدس‌سره غير وارد ؛ لأنّ الغصب ليس بالصلاة لفرض كونه أمرا آخر مباينا لها لكنّه ملازم لها ، فدعوى لزوم طلب الحاصل حينئذ لا وجه له أصلا. نعم لو بنينا على الامتناع صحّ ما ذكره قدس‌سره.

٤٩١

في أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط

هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط أم لا يجوز؟ والكلام يقع في مقامين :

أحدهما : مقام الإنشاء المعبّر عنه في لسان الميرزا النائيني قدس‌سره بمقام الجعل. الثاني : في مقام الفعليّة المعبّر عنها في لسانه بمقام المجعول (١).

أمّا انتفاء شرط الإنشاء فلا مدخليّة للعلم والجهل به ، بل متى فقد أحد شرائط الإنشاء ـ من وجود المنشئ أو إرادته ـ فقد الإنشاء والجعل قطعا.

وأمّا انتفاء شرائط الفعليّة فتارة يكون انتفاء شرائط الفعليّة مستندا إلى جعل هذا الحكم كما إذا ورد مثلا (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(٢) فكان ورود هذا القانون مانعا من أن يقتل أحد أحدا فمثل انتفاء مثل هذا الشرط أعني الموضوع ، إذ كلّ شرط يرجع إلى كونه موضوعا ، وكلّ موضوع يرجع إلى كونه شرطا لا يمنع من جعل الحكم. وإن كان انتفاء الشرط ـ يعني الموضوع ـ أمرا غير مستند إلى جعل نفس الحكم كان جعل الحكم حينئذ لغوا من حيث متعلّقه. نعم قد يجعل مثل هذا الحكم للاختبار والامتحان كما في الموالي العرفيّة ، وقد عرفت غير مرّة أنّ الاختبار والامتحان ليس من جعل الحكم ، فافهم.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ١٥٨.

(٢) البقرة : ١٧٩.

٤٩٢

في أنّ الأمر متعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟

وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من ذكر المباني لهذا النزاع ليعلم معنى النزاع ونقطة الخلاف فإنّهم متّفقون على أنّ الطبائع من حيث هي لا تصلح أن تكون متعلّقة للطلب ؛ لأنّ الطبائع من حيث هي ليست إلّا هي. وكما أنّهم متّفقون أيضا على أنّ مفاد الأمر طلب الإيجاد وأنّ الأمر لا يتوجّه نحو الطبيعة الموجودة ؛ لأنّه طلب الحاصل. فإذا عرفنا هذين الاتّفاقين فيقع الكلام في مباني هذا النزاع :

فنقول : يمكن أن يكون مبنى هذا النزاع هو أنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج بوجود الأفراد أو أنّه ليس موجودا وإنّما الموجود في الأفراد الخارجيّة حصص منه ، فبناء على وجود الكلّي الطبيعي في الخارج بدليل صحّة حمله على الفرد المستدعية للاتّحاد بحسب الوجود ؛ لعدم الاتّحاد المفهوميّ بينهما فالأمر على ظاهره من كونه متعلّقا بالطبيعة ؛ ضرورة أنّ مفاد الهيئة ولو التزاما طلب الوجود ومفاد المادّة الطبيعة. وبناء على عدم وجود الكلّي الطبيعي في الخارج يعدل عن ظاهر الخطاب بهذه القرينة وهي استحالة وجود الطبيعة ويقال بأنّ المطلوب هو الفرد ، وإنّما عبّر بالطبيعة للاقتصار ولبيان أن لا خصوصيّة لفرد من الأفراد. وهذا المبنى مبنى حسن.

ويمكن أن يكون مبنى المسألة ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره : من أنّه بناء على أنّ الطبيعة موجودة بوجود الأفراد فهل التشخّص في مرتبة سابقة على الوجود اعتمادا على أنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد أو أنّ تشخّصه بنفس الوجود ، فعلى الأوّل لا بدّ من كون الأمر متعلّقا بالأفراد ، وعلى الثاني لا بدّ من تعلّقه بالطبائع (١) ، وبما أنّه اختار أنّ التشخّص بنفس الوجود اختار تعلّق الأمر بالطبائع.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٧.

٤٩٣

أقول : لا أظنّ أحدا يختار أنّ التشخّص سابق على الوجود ، لوضوح بطلانه فكيف يكون مبنى لهذه المسألة التي قام النزاع فيها على قدم وساق؟ فليس هذا مبنى لهذه المسألة.

ويمكن أن يكون مبنى هذه المسألة ما تقدّم في مبحث الضدّ : من أنّ اللوازم بحسب الوجود لشيء يلزم أن تكون محكومة بحكمه أم اللازم أن لا تكون محكومة بخلاف حكمه؟ فعلى الأوّل فالأمر متعلّق بالأفراد ، وعلى الثاني بالطبائع.

بيان ذلك : أنّ الموجود في الخارج لا بدّ من أن يتشخّص ويحصل في ضمن مشخّصات ـ من زمان أو مكان أو غيرها ـ وهذه يعبّر عنها بالعوارض مسامحة ، وإلّا فهي كلّيات أيضا إلّا أنّها على البدل. فإن قلنا بأن الأمر بالشيء أمر بلوازمه فالأمر متعلّق بالفرد ، وإن لم نقل بذلك بل قلنا بأنّ الأمر بالشيء لا يكون أمرا بلوازمه بل يلزم أن لا تحكم اللوازم بخلاف حكمه فالأمر متعلّق بالطبائع. وهذا المبنى الأخير أقرب المباني لهذه المسألة ، وسيأتي بيان ثمرة هذه المسألة في مبحث اجتماع الأمر والنهي ، فافهم وتأمّل.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ الأمر متعلّق بالطبائع دون الأفراد ؛ لأنّ الأمر مشتمل على مادّة مفادها الطبيعة ، وهيئة مفادها الطلب بالالتزام ، ولا مقتضى للعدول عن ظاهر الأمر.

٤٩٤

في أنّ نسخ الوجوب مقتض للجواز أم لا؟

هل لدليل الناسخ أو المنسوخ أو هما معا دلالة على بقاء الجواز أم لا؟ والكلام يقع في مقامين :

أحدهما : دلالة الأدلّة الاجتهاديّة.

الثاني : دلالة الاصول العمليّة.

أمّا الكلام في الأوّل فنقول :

أمّا دليل الحكم المنسوخ وحده فلا يقتضي أكثر من إثبات الوجوب ، وأمّا أنّه ما يخلفه من الحكم عند ارتفاعه فلا يدلّ عليه.

وأمّا دليل الناسخ وحده فلا يدلّ على أكثر من رفع الحكم الذي هو الوجوب ، ولا يدلّ على أكثر من ذلك.

وأمّا مجموع الناسخ والمنسوخ فقد يقال بدلالتهما ، بدعوى أنّ الدليل الدالّ على الوجوب دلّ على امور ثلاثة :

أحدها الإباحة ، الثاني الرجحان ، الثالث الإلزام ، ودليل الناسخ يحتمل أن يرفع الجميع فلا بدّ من القول بالتحريم ، وقد يرفع خصوص الإلزام فيبقى الاستحباب ، كما قد يرفع الإلزام والرجحان فتبقى الإباحة بالمعنى الأخصّ فالقدر المتيقّن من رفع الناسخ هو رفع الإلزام فيبقى الاستحباب.

وفيه أوّلا : أنّ الأحكام ليست من سنخ الجواهر ولا الأعراض ، وإنّما هي اعتبارات محضة فكيف تكون مركّبة من امور مع كونها اعتبارات؟ وهذه الاعتبارات امور بسيطة متباينة بعضها يباين بعضا ، فالوجوب مباين للاستحباب ، وهما مباينان للإباحة وهكذا ، وحينئذ فإذا ارتفع الوجوب الذي هو أمر بسيط اعتباري فما هو الدليل على ثبوت الإباحة بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ؟

٤٩٥

وثانيا : أنّا قد ذكرنا أيضا أنّ المدلول بالدلالة الالتزامية تابع للدلالة المطابقيّة في الثبوت والسقوط ، فإذا كان المدلول المطابقي قد نسخ وهو الوجوب فكيف يبقى المدلول الالتزامي؟ وقد مرّ الكلام في ذلك مفصّلا.

فتلخّص أنّ الأدلّة الاجتهاديّة لا تقتضي ثبوت الإباحة بعد نسخ الوجوب لا بالمعنى الأخصّ ولا بالمعنى الأعمّ.

فيبقى الكلام في جريان الاصول في إثبات الإباحة ، فإنّه قد يقال : إنّ الإباحة كانت قبل نسخ الوجوب فتستصحب. والظاهر عدم جريان الاستصحاب إلّا على القول بجريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي فإنّ الإباحة السابقة كانت في ضمن الوجوب وقد ارتفعت بارتفاعه ، وهذه الإباحة على تقدير تحقّقها فهي فرد آخر في ضمن حكم آخر ، وليست الأحكام من قبيل مراتب السواد والبياض المستتبعة لعدّ الباقي من مراتب السابق وأنّه هو هو عرفا.

٤٩٦

في الواجب التخييري

وقد وقع الكلام في تصويره بعد الفراغ عن تحقّقه ـ كما في خصال الكفّارة ومواطن التخيير في قصر الصلاة ـ فذهب جمع إلى أنّه كيف يكون الواجب التخييري واجبا مع جواز تركه ، فذهبوا إلى أنّ الواجب هو خصوص ما يختاره المكلّف ، وقد ذكر في المعالم تبرّي كلّ من هذا القول ونسبته له إلى خصمه (١) وهذا كاف في بطلانه ، مضافا إلى أنّه في صورة العصيان أيّ واجب ترك مضافا إلى كونه خلاف واقع الواجب التخييري بحسب مرتكزاتنا وظهور الأدلّة.

وذهب جماعة إلى أنّ الواجب أحدهما (٢) ، وآخرون إلى أنّه واحد على البدل (٣).

وفصّل صاحب الكفاية قدس‌سره فحكم بوجوب الجامع حيث يكون هناك غرض واحد مترتّب على أحد امور ؛ لأنّ وحدة الغرض كاشفة عن وحدة الواجب ؛ لاستحالة صدور الواحد من المتعدّد لاعتبار نحو من السنخيّة بين العلّة والمعلول. وإن كان هناك غرضان في شيئين إلّا أنّ بينهما تمانعا بحسب الوجود فالوجوب متوجّه نحو أحدهما على البدل وأنّه سنخ وجوب يقتضي إتيان متعلّقه أو تركه إلى بدله لا مطلقا ، ويكون التخيير بينهما شرعيّا في الأخير ، بخلاف الأوّل فالتخيير فيه عقلي إذ الواجب هو الجامع (٤).

ولا يخفى أنّه لا يمكن المساعدة على ما ذكره من كلا الشقّين :

أمّا الأوّل : فلأنّا لو سلّمنا استحالة صدور الواحد من المتعدّد فإنّما نسلّم في الواحد الشخصي ، وأمّا الواحد بالنوع فلا ، ونعني بالواحد بالنوع ما كان يجمعه نوع واحد ، فلا مانع من أن يستند الواحد بالنوع إلى متعدّد. وليس ما ذكر برهانا على الاستحالة

__________________

(١) انظر المعالم : ٧٢.

(٢) انظر هداية المسترشدين ٢ : ٢٨٨ ، ومفاتيح الاصول : ٣٠٩.

(٣) انظر هداية المسترشدين ٢ : ٢٩٣.

(٤) انظر كفاية الأصول : ١٧٤.

٤٩٧

ـ من لزوم السنخيّة بين العلّة والمعلول ـ شاملا له أصلا ، فإنّ من طلب حرارة بدنه يمكن أن تحقّق بمقابلة الشمس وبمواجهة النار وبشرب الشاي وبالحركة السريعة وبالغضب وبمقابلة القوّة الكهربائيّة وبالسرور الكثير وبلبس الصوف وغير ذلك ، فإنّ الواحد مستند إلى جميع هذه ، وليس هذا إلّا لأنّ الوحدة بالنوع والسنخيّة حاصلة بين كلّ سبب وفرد من أفراد حرارة الجسم ، وإلّا فأيّ جامع هو ماهوي بين هذه الامور المذكورة؟ وكيف يعقل الجامع الماهوي بين الجوهر كالنار والعرض كالحركة مثلا؟

وثانيا : أنّ مثل هذا الجامع الذي لا يدركه عامّة الناس غير قابل لأن يوجّه الوجوب نحوه ؛ لأنّ الوجوب إنّما يتوجّه نحو المفاهيم التي يفهمها العرف.

وأمّا الشقّ الثاني : فكون غرضين متعاندين بحسب ذاتيهما بحيث مع استيفاء أحدهما لا يمكن استيفاء الآخر أنياب أغوال لا واقع له وإنّما هو صرف تصوّر لا واقع له ولا حقيقة ، [هذا أوّلا].

وثانيا : إن فرضناهما متنافيين حيث يقعان متعاقبين فيجب على المولى إيجاب إتيانهما عرضا حيث يمكن محافظة على الغرضين معا ، وإن فرضناهما متنافيين مطلقا حتّى عرضا فلازمه عدم حصول واحد من الغرضين لو أتى بهما معا ؛ لأنّ تنافيهما يوجب عدم تحقّقهما في الخارج حيث يوجد السببان معا ، وممّا لا ريب فيه أنّ الواجبات التخييريّة ممّا تسقط لو أتى بخصلتين دفعة واحدة ، فليس ما ذكره منطبقا على الواجبات التخييريّة التي عندنا.

وذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى أنّ الواجب التخييري هو ما توجّه الوجوب فيه إلى واقع أحدهما ، وذكر أنّ الإرادة التكوينيّة تفترق عن الإرادة التشريعيّة باشتراط كون متعلّقها شخصيّا بخلاف التشريعيّة فإنّها تتعلّق بالكليّات غالبا وأيضا تفترق بهذا وهو أنّها ـ أي التكوينيّة ـ لا بدّ أن تتعلّق بمشخّص ، والتشريعيّة تتعلّق بفرد مردّد في الواقع (١).

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٦٦.

٤٩٨

أقول : إن رجع هذا القول إلى القول الأوّل وهو كون الواجب معيّنا عند الله غير معيّن عندنا فجوابه جوابه ، وإلّا فلا يعقل أن يتعلّق الوجوب بأمر ليس له تحقّق في الواقع أصلا ، فإنّ واقع أحدهما ليس له وجود أصلا.

وذهب بعض المحقّقين ـ قدس‌سره ـ إلى أنّ الواجب التخييري هو أن يكون في كلّ من الواجبين ملاك ملزم ، إلّا أنّ الله تعالى إرفاقا بعبده يسقط عنه وجوب الثاني عند إتيانه بالأوّل (١).

وفيه أوّلا : أنّ الواجب التخييري ليس أمرا مبهم الحقيقة ، بل هو أمر نعرفه بوجداننا عند أمرنا بشيئين على سبيل التخيير فإنّا لا نرى أنفسنا قد أوجبنا وجوبين نسقط الثاني على تقدير الإتيان بالأوّل إرفاقا بالمأمور.

وثانيا : أنّ لازم ذلك هو أنّه لو تركهما معا لاستحقّ عقابين لتفويته لملاكين ملزمين على هذا ، ولا يلتزم به هذا المحقّق.

فالتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الواجب التخييري يمكن أن يكون بنحو تكون هناك مصلحة في الجامع بين هذه الخصال المذكورة في لسان الشارع المقدّس ، ويمكن أن يكون الواجب هو ذلك الجامع ، وهو في هذه المقامات مفهوم «أحدها» الذي هو من المفاهيم الانتزاعيّة المنطبقة على أيّ الخصال الموجودة في الخارج.

لا يقال : إنّ مفهوم أحدها لا يمكن أن يتوجّه التكليف ويتعلّق الاعتبار بها.

فإنّه يقال : إنّ هذا المفهوم قابل لتعلّق الصفات الحقيقيّة به مثل تعلّق العلم الإجمالي في أطراف العلم الإجمالي فإنّ المعلوم الإجمالي هو مفهوم أحدها ، وكذا يتعلّق الشوق مثلا بأحد الطعامين من غير مرجّح له على عدله ، وكذا نعلم عدالة أحد الرجلين وغيرها من الأمثلة ، فإذا تعلّق الصفات الحقيقيّة بهذه المفاهيم

__________________

(١) انظر نهاية الدراية ٢ : ٢٧١.

٤٩٩

فلا مانع من جواز تعلّق الوجوب بمفهوم «أحدها» وهو كلّي انتزاعي يتعلّق به الوجوب ، ووجوده في الخارج بوجود أفراده. فالظاهر أنّ الواجب التخييري ليس إلّا وجوب الجامع المنطبق على كلّ واحد من الأفراد ، ويكون التخيير بين الأفراد عقليّا.

والفرق بين التخيير الذي اصطلح عليه الأصحاب أنّه شرعي ـ كما في المقام ـ والذي اصطلحوا عليه أنّه عقلي هو : أنّه إن عبّر عنه بلفظ بسيط كالصلاة مثلا فالتخيير عقلي ، وإن عبّر عنه في لسان الشارع بألفاظ كالخصال في الكفّارة كان تخييرا شرعيّا من غير فرق بينهما في الأثر أصلا ، فافهم. كما أنّه يمكن الفرق بأنّ التخيير العقلي ما يكون تطبيق أفراده بنظر العقل وهنا بيان الأفراد إلى الشارع ثمّ بعد بيان الأفراد ينتزع الجامع بينها ، وهذا هو حقيقة الواجب التخييري بحيث ليس له حقيقة غيرها فإنّا إذا راجعنا أنفسنا لا نجد غير ذلك في أوامرنا العرفيّة.

ودعوى : أنّ هذه الخصال في الكفّارة لا جامع بينها بل لا يتصوّر. مدفوعة بأنّ هذا إنّما يخلّ بالجامع الحقيقي لا الانتزاعي.

بقي الكلام في أنّه هل يمكن التخيير بين الأقلّ والأكثر أم لا يمكن فلا بدّ من حمل الأقلّ على الوجوب والأكثر على الاستحباب؟ يعني على استحباب الزيادة.

فنقول : إنّ الأقلّ والأكثر يختلف : فقد يكون الأكثر بنفسه وجودا واحدا والأقلّ وجودا واحدا أيضا بحيث ليس الأقلّ في ضمن الأكثر بل هما وجودان أحدهما أقلّ من الآخر ، كما في الخطّ الطويل بمقدار شبر والخطّ القصير بمقدار نصف شبر ، فإنّه لو أمر المولى برسم واحد من خطّين أحدهما بقدر شبر والآخر بمقدار نصفه فهذا لا ريب في صحّته وإمكانه ، لكنّه في الحقيقة تخيير بين المتباينين ؛ لأنّ القصير له وجود آخر ليس في ضمن الأكثر.

٥٠٠