غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

ثانيها : ما إذا كان أحدهما محتمل الأهميّة بعينه دون الآخر ، فبناء على التخيير الشرعي يدخل تحت دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فكلّ على مبناه من براءة واشتغال ، بخلاف ما إذا قلنا بالتخيير العقلي فيتعيّن محتمل الأهميّة حتّى على القول بالبراءة في تلك المسألة ؛ لأنّه لو أتى بغير محتمل الأهميّة يشكّ في الامتثال ؛ لاحتمال إطلاق دليل محتمل الأهميّة ؛ لأنّه على تقدير كونه أهمّ لا يقيّد إطلاق دليله ، بل يبقى على إطلاقه ، وإنّما يقيّد على تقدير التساوي في الواقع ، ففي صورة احتمال الأهميّة لا يحرز الامتثال بغير الأهمّ.

أقول : لا يخفى أنّ هذه الثمرة غير تامّة ؛ لأنّه وإن كان الاشتغال جاريا على التخيير العقلي إلّا أنّه على التخيير الشرعي أيضا كذلك وإن قلنا بالبراءة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وذلك لأنّ البراءة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير إن كان الدوران للتردّد في مقام الجعل ، أمّا لو كان من جهة المزاحمة ـ كما في المقام ـ فإنّ المفروض كون كلّ من الخطابين في مقام الجعل تعيينيا ، وإنّما تحقّق الدوران بين التعيين والتخيير من جهة المزاحمة ، وحينئذ فإطلاق الدليل لا يحرز سقوطه إلّا إذا تحقّق التساوي في الملاك ، أمّا إذا لم يتحقّق فلا يعلم حينئذ التقييد فيبقى إطلاقه فلا يحرز الفراغ حينئذ إلّا بالإتيان بمتعلّقه ، فلا ثمرة بين القولين من هذه الجهة ، فافهم وتأمّل.

ثالثها : أنّا لو قلنا بالتخيير الشرعي بدعوى سقوط كلا الخطابين واستكشاف العقل حكم الشارع بالوجوب التخييري من جهة قبح تفويت الملاك الملزم ففي ما إذا كان الواجبان المتزاحمان طوليّين من حيث الزمان ، كأن وجب عليه التصدّق في هذا اليوم وفي غده إلّا أنّه لا يقدر عليهما معا ؛ لعدم المال ، وإنّما يقدر على أحدهما ، فعلى التخيير الشرعي له ترك التصدّق هذا اليوم فيتصدّق غدا ، بخلاف ما إذا قلنا بالتخيير العقلي فيتعين عليه فعل الأسبق زمانا ؛ لأنّ شرط تركه فعل الآخر ولم يتحقّق.

٤٦١

أقول : إنّ هذه الثمرة كسابقتها غير تامّة ، فإنّه كما يتخيّر المكلّف على التخيير الشرعي كذلك يتخيّر على التخيير العقلي أيضا ؛ لفرض التساوي بين الملاكين وسقوط إطلاق كلا الخطابين وتقييده بترك الآخر ولو في ظرفه سابقا أو لاحقا ، فله أن يترك التصدّق هذا اليوم ويتصدّق غدا ، وله أن يتصدّق هذا اليوم ويترك غدا ولا مقتضي لترجيح التصدّق هذا اليوم ، غاية الأمر أنّ وجوب التصدّق يكون مشروطا بالشرط المتأخّر تارة ، والمتقدّم اخرى فليست هذه ثمرة.

ثمّ إنّ الميرزا قدس‌سره (١) ذكر ما إذا تردّد أمر المكلّف بين جزء لواجب أو شرط لواجب آخر ، فذكر كلّيات كتقديم الركن على غيره وكتقديم الجزء على الشرط وتقديم الجزء على وصف الجزء في الأداء ، وما ذكره قدس‌سره إن دلّ الدليل التعبّدي عليه فهو ، وإلّا فصرف كونه ركنا لا يقضي بأهميّته مثلا.

بقي الكلام فيما ذكره الميرزا قدس‌سره (٢) من إعمال تراجيح التزاحم بين القيام مثلا في الركعة الاولى والقيام في الركعة الثانية من الصلاة ، وكذا غير القيام من أجزاء العمل الواحد أو شرائطه ، والظاهر أنّ ذلك ليس داخلا في باب التزاحم ؛ لأنّ الخطاب واحد متّجه نحو العمل بتمام أجزائه وشرائطه ، فإن تعذّر الجزء أو الشرط فلا وجوب ـ لو لا عدم سقوط الصلاة بحال ـ فيجب الباقي ، فإذا تردّد المكلّف بين ترك القيام ويأتي بالركوع والسجود ، وبين ترك الركوع والسجود والإتيان بالقيام فيومئ لهما كما قد يتّفق في ركوب القطار.

فحينئذ المكلّف يعلم بأنّ الصلاة المشتملة على القيام والركوع والسجود ساقطة في حقّه قطعا ، وقطعا أيضا يجب عليه صلاة مردّدة بين أن تكون ذات ركوع وسجود ولكنّها فاقدة للقيام ، أو ذات قيام لكنّها فاقدة للركوع والسجود إلّا إيماء ، فالشكّ في أصل الجعل وهو من مصاديق باب التعارض لا التزاحم ؛ لكون الكلام

__________________

(١ و ٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ٥٠.

(١ و ٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ٥٠.

٤٦٢

في الحكم في عالم الثبوت لا في عالم الإثبات ، وفي مقام الجعل لا في مقام الامتثال ، ومعلوم أنّ ميزان الفرق بينهما هو ذلك ، فإنّ التزاحم هو التنافي في مقام الثبوت ، والتعارض هو التنافي في مقام الإثبات وبين الدليلين كما هو واضح.

وبتقريب آخر : أنّ ملاك العمل الارتباطي الواحد واحد ، فمع فرض العجز عن بعض أجزائه أو شرائطه فمقتضى القاعدة فوات الملاك إن كان لكلّ منها دخل فيه حتّى حال العجز ، وهو خلاف الفرض ؛ لكون الصلاة لا تسقط بحال ، وعدم دخلها يوجب أن [يكون](١) له ترك كليهما ؛ لعدم دخلهما في الملاك. وهو خلاف الفرض أيضا فيبقى احتمالان : أحدهما دخل الجامع بينهما في الملاك. الثاني دخل أحدهما بخصوصه ، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير والمختار فيه البراءة من الخصوصيّة فيجب الجامع بينهما ، وكذا إذا احتمل الخصوصيّة في كلّ منهما واحتمل وجوب الجامع أيضا فتجري البراءة من كلّ من الخصوصيّتين. ولا يخفى أنّه إذا علمت الخصوصيّة في أحدهما من غير تعيين فلا بدّ من تكرار العمل احتياطا بكلّ من الخصوصيّتين للعلم الإجمالي.

وحينئذ فدوران الأمر بين أجزاء العمل الواحد يتصوّر بوجوه :

أحدها : أن يدور الأمر بين جزءين قد تثبت جزئيّتهما بدليل واحد أو شرطين كذلك أو جزء وشرط كذلك كالقيام في الركعة الاولى والقيام في الركعة الثانية ، وكالطمأنينة في الركوع الأوّل أو الثاني ، ولا ريب في كون مقتضى القاعدة بعد سقوط الأمر بالمركّب منهما معا وقيام الدليل على لزوم الباقي هو التخيير بينهما من دون فرق بين السابق واللاحق أصلا ، نعم لو ظهر من الدليل تدريجيّة الجزء بحيث استفيد منه لزوم صرف القدرة في الأسبق بحسب الوجود تقدّم الأسبق كما هو غير بعيد في خصوص القيام ؛ لقوله : «إذا قوي فليقم» (٢).

__________________

(١) زيادة باقتضاء السياق.

(٢) الوسائل ٤ : ٦٩٨ ، الباب ٦ من أبواب القيام ، الحديث ٣.

٤٦٣

الثاني : أن يكون الجزءان أو الشرطان أو الجزء والشرط قد ثبتت جزئيّتهما أو شرطيّتهما أو جزئيّة أحدهما وشرطيّة الآخر بدليلين ، فبعد سقوط المركّب منهما لعدم القدرة ولزوم الإتيان بالباقي فقد يكون الدليلان مجملين معا فحينئذ يتساقطان ، ويرجع إلى الاصول ، كالطمأنينة في ذكر السجود وطهارة محلّه إذا دار الأمر بينهما. وقد يكون أحد الدليلين مجملا كالاجماع والآخر مطلقا أو عامّا ، وفي مثله لا ريب في تقديم المطلق أو العامّ ؛ لأنّ دليل الثاني هو الإجماع ، والقدر المتيقّن منه غير هذه الصورة فلا يكون شاملا لها فلا معارض للعامّ ولا للمطلق.

الثالث : أن يكون أحد الدليلين مطلقا والآخر عامّا ولا ريب في تقديم ما كان عامّا ؛ لأنّه بالوضع ، والمطلق بمقدّمات الحكمة ، والعامّ يصلح بيانا فلا تحرز عدم البيان.

الرابع : أن يكونا مطلقين معا ففي مورد الاجتماع يتساقطان ويرجع إلى أصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة فيتخيّر بين الواجبين ؛ للعلم بوجوب إتيان المقدور من الأجزاء.

الخامس : أن يكونا عامّين معا فهنا يرجع إلى مرجّحات باب التعارض ، وهي الأخذ بأشهر الروايتين إن كان أوّلا وإلّا فما خالف العامّة وإلّا فما وافق الكتاب وإلّا فالتخيير ، فإنّك حينئذ بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك.

وبالجملة ، فما يعتبر في واجب واحد ليس الدوران فيه من باب التزاحم كلّية وإنّما هو من باب التعارض والحكم فيه ما مرّ ، ولا فرق بين الركن فيه وغيره ، ولا بين السابق واللاحق ، هذا تمام الكلام فيما كان من قبيل ما يعتبر في العمل الواحد.

تنبيه : [التزاحم في مقام الجعل]

إنّ التزاحم بين الأحكام وهو الذي قد تكلّمنا فيه وقد ذكرنا مرجّحاته فيما تقدّم. وهناك تزاحم آخر في مقام الجعل وهو ما إذا كان في الفعل مصلحة من جهة

٤٦٤

ومفسدة من جهة اخرى ، وأحكام هذا التزاحم ليست راجعة إلينا ، وإنّما هي راجعة إلى نفس الجاعل فقد تكون المصلحة الملزمة والمفسدة الملزمة متساويتين في الأهميّة فلا بدّ من جعل الإباحة ، وقد تكون المصلحة الملزمة أهمّ فلا بدّ من ملاحظة أنّ الأهميّة بمقدار يتسامح فيه وغير ملزم فيجعل الاستحباب أو بمقدار ملزم فيجعل الوجوب ، وقد تكون المفسدة أهمّ فإن كانت بمقدار غير ملزم فلا بدّ من جعل الكراهة ، وإن كانت بمقدار ملزم فلا بدّ من جعل التحريم ، إلّا أنّ هذا كلّه ليس من وظائفنا وإنّما هو وظيفة المشرّع للأحكام.

في أقسام التزاحم :

ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) أنّ أقسام التزاحم ستّة ، والظاهر أنّها لا تزيد على ثلاثة كما سيظهر ذلك :

الأوّل : أن لا يقدر المكلّف على الامتثالين معا اتّفاقا كما إذا لم يكن قادرا إلّا على قيام واحد فهل يقوم في صلاة الظهر أم العصر؟

الثاني : ما إذا وقع التضادّ بين الواجبين اتّفاقا.

أقول : التضادّ من الامور الذاتية فلا يعقل تحقّقه اتّفاقا إلّا من جهة عدم جهة عدم قدرة المكلّف عليهما معا من باب الاتّفاق فيتضادّان من حيث قدرة المكلّف ، فهذا القسم ليس قسما في قبال القسم الأوّل ، بل هو هو وإن اختلف التعبير ، فافهم.

الثالث : ما إذا كان الحرام مقدّمة لواجب اتّفاقا فيتزاحم وجوب الواجب وحرمة الحرام ؛ إذ لا يمكن جعل الوجوب للواجب وتحريم مقدّمته ، ثمّ إنّه لا بدّ من كون التوقّف اتّفاقيا ، وإلّا فلو كان دائميّا فهما متعارضان.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٥٢ ـ ٥٣.

٤٦٥

الرابع : ما إذا كان فعل الواجب ملازما لفعل حرام من باب الاتّفاق ، لما تقدّم من أنّه لو كان التلازم دائميّا دخل في التعارض ، مثال ذلك ما إذا كان استقبال القبلة واجبا ، واستدبار الجدي حراما ففي مكّة مثلا لا ملازمة بينهما ، وفي اليمن كذلك وفي كثير من أقطار الأرض يمكن أن يؤتى بالواجب ويترك المحرّم ، ولكنّه في العراق لا يمكن ذلك فيقع التزاحم بين فعل الواجب وترك الحرام.

الخامس : مورد اجتماع الأمر والنهي فإنّا إن قلنا بامتناع الاجتماع ـ إمّا لكون الفعل الخارجي حقيقة واحدة كما ذهب إليه صاحب الكفاية (١) ، أو لكونه حقيقتين لكنّ الأمر يسري إلى متعلّق النهي وبالعكس ـ فهما من باب التعارض لا التزاحم ، وإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي ـ لأنّهما حقيقتان ولا سراية ـ فهما متزاحمان.

أقول : إن فرض تحقّق المندوحة فلا تزاحم ؛ لإمكان الصلاة في غير الدار المغصوبة فيفعل الواجب ويترك الحرام ، وإن فرض عدم المندوحة كان من باب التزاحم إلّا أنّه ليس خارجا عن المتلازمين اتّفاقا.

السادس : ما إذا كان التزاحم من غير جهة القدرة ، وقد ذكر الميرزا قدس‌سره (٢) أنّ هذا القسم نادر التحقّق وأنّه لم يجد له مثالا إلّا واحدا ، هو ما إذا ملك خمسا وعشرين من الإبل في أوّل محرّم الحرام ثمّ في رجب ملك ناقة اخرى ثمّ بقي حتّى عاد رجب ثانيا فبما أنّ حول الخمس وعشرين قد تمّ فعليه خمس شياه ، وبما أنّ حول الستّة والعشرين قد تمّ أيضا فعليه بنت مخاض من الإبل ، وبما أنّا نعلم أنّ المال الواحد لا يزكّى في العام الواحد مرّتين فيقع التزاحم من غير جهة القدرة ؛ لأنّ المفروض قدرة المكلّف على تسليم الشياه وبنت المخاض معا.

__________________

(١) انظر الكفاية : ١٨٤ و ١٩٤ ـ ١٩٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٥٣.

٤٦٦

ولكن الظاهر خروج هذا القسم عن باب التزاحم ودخوله في باب التعارض ؛ لأنّ العلم بأنّ المال لا تجب فيه الزكاة مرّتين في حول واحد يوجب العلم بأنّ الجعل في المقام جعل لوجوب واحد مردّد بين الخمس شياه والبنت مخاض ؛ إذ لو كان الملاك موجودا في كلّ من الوجوبين لتحقّقا معا ، فالعلم بعدم تحقّقهما معا يدلّ على أنّ الجعل في مقام الثبوت واحد وإن تردّد بين أمرين ، نظير وجوب الظهر أو الجمعة في يومها.

وإذا علم أنّهما من قبيل المتعارضين فهل يرجع إلى مرجّحات باب المعارضة؟

المشهور كما عن الجواهر (١) تقديم زكاة النصاب الأوّل ، لا لأنّهما متزاحمان والعبرة بأسبقهما زمانا ، بل لأنّهما متعارضان ، ولكن تقديم أدلّة النصاب الأوّل لحكومتها على أدلّة النصاب الثاني فيخرج المورد عن موضوع وجوب زكاة نصاب الستّ والعشرين.

بيان ذلك : أنّ العلم بعدم وجوب زكاة المال الذي وجبت فيه الزكاة تقيّد أو تخصّص إطلاق أو عموم دليل وجوب بنت المخاض بما إذا لم تجب فيه الزكاة ، وحينئذ فبمجرّد تماميّة حول الخمس وعشرين تحقّق مصداق حول خمس وعشرين من الإبل وهي خمس شياه ، فإذا تمّ حول الستّ والعشرين لا يتحقّق موضوع وجوب زكاة الستّ والعشرين ؛ لأنّ موضوعها المال الذي لم تجب فيه الزكاة في ذاك الحول وقد وجبت في بعضه وهو الخمس وعشرين حسب الفرض ، وهذا متين وهو ظاهر.

فتلخّص أنّ أقسام التزاحم ثلاثة : تزاحم الواجبين وهو القسم الأوّل ، وتزاحم الواجب والحرام من جهة الملازمة وهو القسم الثاني ، أو من جهة المقدّميّة وهو القسم الثالث ، فيقع الكلام الآن وقد فرغنا من أقسام التزاحم في إمكان الترتّب في كلّ من هذه الأقسام الثلاثة الأوّل فالأوّل وعدم الإمكان ، ويقع الكلام الآن في الأوّل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٣.

٤٦٧

[القسم الأول من موارد الترتب : تزاحم الواجبين]

إذا تزاحم واجبان فإن تساويا بحسب الملاك ولم يكن أحدهما أهمّ من الثاني فيتخيّر المكلّف حينئذ في الإتيان بأيّهما شاء ، وإن كان أحدهما أهمّ فلا ريب في لزوم تقديم الأهمّ ، إلّا أنّ الكلام في أنّ تقديم الأهمّ يوجب سقوط خطاب المهمّ رأسا ، بحيث لو أتى به لم يكن إتيانا بواجب ، أو أنّ تقديم الأهمّ إنّما يوجب سقوط إطلاق خطاب المهمّ لا نفسه فيكون الأهمّ باقيا على إطلاقه فلو تركه عوقب على كلّ حال ، ويكون أمر المهمّ مشروطا بترك الواجب الأهمّ ، ولو ترك المهمّ بعد ترك الأهمّ فقد ترك واجبا ؛ لحصول شرط وجوبه وهو ترك الأهمّ.

ولا يخفى أنّ الترتّب إذا ثبت إمكانه لا يحتاج وقوعه إلى دليل آخر ؛ لإطلاق دليل كلا الواجبين ، وإنّما يرفع اليد عن إطلاقهما بالقدر الذي لا بدّ منه وهو الذي يستحيل من جهته بقاء الإطلاق ، فكلّما أمكن الترتّب فهو واقع ؛ لحصول دليل وقوعه وتحقّقه ، وإنّما المانع من الأخذ به الاستحالة فإذا فرض أنّه ليس بمستحيل فلا مانع من الأخذ بالإطلاق.

[في إمكان الترتّب وعدمه] :

وكيف كان ، فالقائل بالترتّب في الواجبين المتزاحمين لا بدّ له من مقدّمات لا بأس بالتعرّض لها :

المقدّمة الاولى : أنّ الساقط من جهة المزاحمة هو إطلاق خطاب المهمّ لا أصله ؛ لأنّ الموجب للتزاحم ليس صرف وجود الأمر بالأهمّ وإنّما الموجب للتزاحم هو امتثال الأمر ؛ إذ حينئذ يعجز عن إتيان الواجب الآخر ، وإلّا فصرف وجود الأمر بالواجب لا يعجز عن الواجب الآخر ، وحينئذ فشرط فعليّة الأمر بالمهمّ إنّما هو عصيان الأمر بالأهمّ فيقيّد إطلاق خطاب المهمّ بصورة عصيان الأمر بالأهمّ فيكون الأمر بالأهمّ مطلقا والأمر بالمهمّ مشروطا بعصيان الأمر بالأهمّ.

٤٦٨

وبالجملة ، إن كان الساقط من جهة المزاحمة أصل الخطاب فالترتّب مستحيل ، وإن كان الساقط إطلاقه فالترتّب ممكن بل واجب ، فالقائل بالترتّب لا بدّ له من إثبات الثاني.

ومن هنا ظهر أنّه إذا كان الخطاب بالمهمّ مشروطا بالقدرة الشرعيّة فالترتّب غير معقول كما في المتيمّم ، فإذا كان عنده مقدار من الماء تعيّن صرفه في إحياء نفس محترمة فإذا لم يصرفه في إحيائها وتوضّأ به لا يكون وضوؤه صحيحا ؛ لاشتراطه بالقدرة الشرعيّة والعقليّة فهو الآن غير قادر شرعا على الوضوء فوضوؤه باطل ؛ لسقوط أصل خطابه لعدم الملاك ؛ لكون ملاكه مختصّا بالمقدور شرعا ، ومع وجوب صرفه في رفع عطش المؤمن مثلا فليس بقادر شرعا حينئذ ، هذا ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١).

وحيث عرفت أن لا طريق لنا إلى إحراز الملاك أو نفيه إلّا أمر الشارع فحيث يوجد الأمر يوجد الملاك وحيث ينتفي ينتفي يعني لا نحرزه نحن ، فلا فرق بين ما أخذت القدرة فيه شرعا أو عقلا في أنّ المزاحمة بين المهمّ والأهمّ إن كانت رافعة للأمر بالأهمّ كلّية فلا أمر به ، وإن كانت رافعة لإطلاقه لصورة امتثال الأهمّ ففي صورة العصيان للأهمّ لم يرتفع إطلاق الأمر بالمهمّ فيصحّ الإتيان به ، كما أنّ ما ذكره ثانيا لمنع الترتّب في أمثال المقام من أنّ الأمر هنا بنفسه معجّز بخلاف موارد الترتّب فإنّ الامتثال للأهمّ فيها معجز ، لا يخفى ما فيه ، فإنّ فيه الامتثال أيضا معجّز والكلام فيما إذا عصى الأمر بالأهمّ في صحّة المهمّ. كما أنّ ما ذكره من جعله صورة الأمر بصرف الماء في الطهارة الخبثيّة من أمثلة الترتّب فلا يخفى ما فيه ، فإنّ الترتّب في صورة تزاحم الواجبات النفسيّة لا الغيريّة.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٩٠ ـ ٩١.

٤٦٩

المقدّمة الثانية : إنّ العصيان الذي هو شرط الأمر بالمهمّ [هل](١) هو العصيان المقارن أو المتقدّم أو المتأخّر؟ الظاهر أنّه المقارن ؛ لأنّ هذا الشرط لم يرد في نصّ لينظر النصّ وما يقتضيه لسانه ، وإنّما اعتبر هذا الشرط لتحقّق القدرة على إتيان المهمّ ، ومن المعلوم أنّ العصيان المحقّق للقدرة هو العصيان المقارن للمهمّ ، فهو الشرط ليس إلّا ولا ربط للعصيان المتقدّم أو المتأخّر أصلا ، ومن هنا ظهر أنّ الشرط إنّما هو العصيان المقارن فليس العزم عليه شرطا كما في الكفاية (٢).

المقدّمة الثالثة : إنّ الإطاعة والعصيان إنّما تكون للأمر الموجود ، وإلّا فالأمر المفقود فعلا سواء كان متقدّما ثمّ انعدم أو متأخّرا بعد لم يحدث فلا معنى لإطاعته أو عصيانه ؛ إذ أين الأمر حتّى يطاع أو يعصى.

ومن هنا ظهر أنّ الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ وعصيان الأهمّ وإطاعة المهمّ كلّها في زمان واحد ، فهي متقارنة بحسب الزمان وإن كانت متفاوتة بحسب الرتبة ؛ إذ الأمر بالمهمّ متأخّر عن الأمر بالأهمّ بمرتبتين : مرتبة وجوده ومرتبة عصيانه ، إلّا أنّ زمان الجميع واحد كما عرفت.

المقدّمة الرابعة : وهي أهمّ المقدّمات في مبحث الترتّب ؛ إذ بها يظهر أنّ القول بالترتّب يلزم منه الجمع بين الضدّين أم لا فنقول : إنّا قد أسلفنا مرارا أنّ الإطلاق والتقييد ليس بينهما تقابل العدم والملكة حتّى يكون استحالة أحدهما موجبا لاستحالة الآخر ، بل قد يكون نفي أحدهما موجبا لضرورية الآخر ، كما فصّلناه فيما سبق ، كما مرّ مرارا أيضا أنّ الإطلاق عبارة عن نفي القيود لا أنّ الإطلاق عبارة عن دخالة القيود بأسرها في الملاك ، ومرّ أيضا أنّ الانقسامات الأوّليّة والثانويّة لموضوعات الأحكام لا بدّ من كونها مأخوذة في موضوع الحكم واقعا ؛ لاستحالة الإهمال في الواقع كما مرّ.

__________________

(١) أضفناها لاقتضاء السياق.

(٢) انظر كفاية الاصول : ١٦٦ ـ ١٦٧.

٤٧٠

فحينئذ الحكم بالإضافة إلى كلّ قيد إمّا أن يكون دخيلا في ملاك الحكم بحيث يكون مأخوذا في موضوع الوجوب كما في قوله : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، فالزوال مأخوذ في ملاك الحكم بحيث لا وجوب قبله ولا مصلحة في ذلك.

وإمّا أن يكون دخيلا في الموضوع لكن لا يدور الحكم مداره ، بل دخالته من جهة استحالة الإهمال وليس ينتفي الحكم بنفيه ، بل الحكم موجود ، وجد أم لم يوجد ، وذلك كما إذا قال المولى : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، فهذا بالإضافة إلى كون المكلّف طويلا أو قصيرا كذلك ، لهما دخل في متعلّق التكليف إلّا أنّ دخلهما لأجل عدم اعتبارهما في فعليّة الحكم لا من جهة اعتبارهما.

وإمّا أن لا يكون دخيلا في الملاك وجودا ولا عدما ولا دخيلا في الموضوع ، ولكنّه مأخوذ في الموضوع ولكنّه لا بنحو يكون له دخالة في الحكم كما في الإطاعة والعصيان ، فإنّ كلّ تكليف يقتضي إطاعة نفسه وعدم عصيانه فهما مأخوذان في الموضوع لكن لا يدور الحكم مدار الإطاعة ، بل الحكم موجود أطاع أو عصى ، وإلّا فلا طاعة ولا عصيان.

إذا عرفت هذه الأقسام فنقول : إنّ الحكم بأيّ معنى فسّر سواء كان إبراز الطلب كما عليه الآخوند قدس‌سره (١) أو إيقاع النسبة أو الاعتبار النفساني أو غير ذلك ، قد ذكرنا في بحث اجتماع الحكم الظاهري والواقعي أنّ المانع من اجتماع الحكمين إمّا أن يكون مانعا من حيث المبدأ أو من حيث المنتهى ، مثلا استحالة اجتماع الأمر والنهي لمانع من حيث المبدأ ، وهو اجتماع الإرادة والكراهة معا في وقت واحد نحو شيء واحد ، وقد يكون من حيث المنتهى كما إذا اشتاق إلى شيء واشتاق إلى شيء آخر كأن اشتاق إلى اللباس الجيّد واشتاق إلى الطعام الجيّد إلّا أنّه ليس له دراهم

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٨٤.

٤٧١

يشتريهما معا ، بل له ما يشتري أحدهما ، وحينئذ ففي المقام لا مانع من حيث المبدأ إذ لا مانع من أن يشتاق المولى إلى كلّ من الضدّين شوقا أكيدا فيبقى الكلام في المانع من حيث المنتهى.

فنقول : إنّ توجّه الطلب الأهمّ للإزالة مثلا إنّما يقتضي إطاعته بصرف قدرة المكلّف في إزالة النجاسة من المسجد ويقتضي أن لا يعصى ، ولكنّ الأمر بالمهمّ إذا كان مشروطا بعصيان الأمر بالأهمّ فهو لا يقتضي العصيان ؛ لأنّ المفروض كون العصيان شرطا له ، فهو قبل تحقّقه لا ملاك له ؛ ضرورة أنّ كلّ مشروط إنّما يكون واجدا للملاك بعد فرض تحقّق شرطه في الخارج.

وبالجملة ، الأمر بالأهمّ وهو الإزالة إنّما يقتضي وجودها ، ويقتضي أيضا عدم عدمها ، فلو سئل نفس خطاب الأهمّ فقيل له : لو عصيت ولم تتحقّق الإزالة في الخارج فهل تقتضي شيئا في الخارج؟ يقول : لا أقتضي شيئا من الأشياء ، فسواء أكل أو شرب أو صلّى أو نام لا يفرق علي فيما يهمّني أصلا ؛ وذلك لأنّه قد اقتضى الإطاعة وعدم العصيان ، ولكن الأمر بالصلاة الذي هو المهمّ لا يقتضي العصيان ؛ لأنّه شرطه فيلزم أن يكون مفروض الوجود حتّى يتحقّق الملاك ؛ إذ هو من قبيل ما كان دخيلا في ملاك الحكم الذي هو القسم الأوّل ، والأمر بالأهمّ من قبيل القسم الثالث وهو ما تعرض للإطاعة والعصيان ولكن لم يكن دخيلا في الحكم.

وحينئذ فنحن نقول بأنّ الأمر بالضدّين بنحو الترتّب لا مانع منه أصلا ؛ إذ لو اقتضى الأمر بالمهمّ عصيان الأمر بالأهمّ كان هناك محذور من حيث المنتهى ؛ إذ كيف يقدر على عدم العصيان بمقتضى الأمر بالأهمّ ونفس العصيان بمقتضى الأمر بالمهمّ إلّا أنّ فرض العصيان شرطا للملاك في المهمّ رافع لذلك كلّه ، وهذا بخلاف ما إذا كان كلّ من الأمرين مطلقا أو كان أحدهما مقيّدا بغير عصيان المطلق فإنّه في هاتين الصورتين يكون طلبهما طلبا للمحال فيكون محالا ، وأمّا لو كان أحدهما مطلقا والآخر مقيّدا بعصيانه فهو وإن اجتمع هناك أمران إلّا أنّهما

٤٧٢

غير متنافيين ، بيان ذلك : أنّ الأمر بالضدّين إنّما يكون باطلا إذا كان مستلزما لطلب الجمع بين الضدّين وإلّا فنفس طلب الضدّين بنحو الترتّب لا محذور فيه ؛ لأنّه ليس طلبا للجمع بينهما ، بل إنّ المهمّ مشروط بعصيانه الأهمّ فكيف يكون طلبا للجمع؟

وأوضح مثال به يتّضح عدم المنافاة مثال عرفي وهو ما لو كان شخص مريدا بيع داره فأراد جاره الذي هو على يمينه أن يشتريها وأراد جاره الذي هو على اليسار أن يشتريها أيضا فبينهما تمام المعارضة والمنازعة ، فإذا جاءه رجل ثالث فقال لصاحب الدار إن لم تبع دارك من أحد هذين فبعها لي فهل بين هذا الثالث وبين الأوّلين معارضة أو منافاة؟ وهل يتعرّضه أحدهما؟ كلّا ثمّ كلّا ، فهذا دليل أنّ الأمرين بنحو الترتّب لا مانع منهما ؛ لعدم المنافاة حينئذ.

ومن هنا ظهر أنّ ما ذكره في الكفاية (١) من أنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ طلب للمهمّ إلّا أنّه في رتبة طلب المهمّ طلب الأهمّ محفوظ فهذا هو المانع ليس كما ينبغي ؛ فإنّ القائل بالترتّب ليس منكرا لوجود أمرين ، بل لا يرى بينهما منافاة.

وكذا ما ذكره صاحب الكفاية (٢) ثانيا من أنّ القائل بالترتّب لا ينكر كونه طلب المحال إلّا أنّه لا يرى به بأسا إذا كان سببه المكلّف نفسه ، فإنّه لو لم يترك الأهمّ لم يقع في محذور طلب المحال ، وردّه قدس‌سره على القائل بذلك بأنّ طلب المحال محال على كلّ حال وإن كان سببه المكلّف نفسه أيضا ليس كما ينبغي ، فإنّ القائل بالترتّب ليس يرى في اجتماع الأمرين محالا ، ولا يرى بين الأمرين تنافيا حتّى يدّعي أنّ المحال إذا كان سببه المكلّف فلا يضرّ ، بل لا يرى منافاة ولا ممانعة.

__________________

(١) انظر الكفاية : ١٦٧.

(٢) انظر المصدر السابق.

٤٧٣

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) مثالا لبيان أن ليس في الترتّب جمعا بين المتضادّين ولا بأس بذكره وهو أنّه لو قال المولى : ادخل المسجد فإن لم تدخل المسجد فصلّ على محمّد وآل محمّد خمس مرّات فلو أنّ هذا الشخص دخل المسجد وصلّى على محمّد وآله العدد المذكور فهل يعدّ هذا ممتثلا لكلا الأمرين؟ كلّا ، ولو كان الترتّب مقتضيا لطلب الضدّين لكان امتثالا لكلّ منهما ، كما لو كانا مطلقين ولم يقيّد أحدهما بعصيان الآخر وإن قيّد بغيره فإنّه حينئذ يكون امتثالا لكلّ منهما بلا ريب وتوقّف من جهة.

وبعبارة اخرى : أنّ الأمر بالواجبين إن كانا مطلقين فلا ريب في استحالته ؛ لكونه طلب الجمع بين الضدّين ، وكذا لو كانا معا مقيّدين بغير العصيان ، كأن يقول المولى : إن طلعت الشمس فتحرك نحو الجنوب ، وإن طلعت الشمس فتحرّك نحو الشمال ، وكذا لو كان أحدهما مطلقا والآخر مقيّدا بغير العصيان ضرورة أنّه بعد حصول القيد يتنافيان ، وإن كان أحدهما مطلقا والآخر مقيّدا بعصيان الأوّل وتركه فلا منافاة بين الأمرين حينئذ ؛ إذ إنّه ليس هنا طلب الجمع بين الضدّين وإن كان الأمران فعليّين ، والذي يدلّ أن لا أمر بالضدّين أنّه إمّا أن يأتي المكلّف بالأهمّ أو المهمّ أو بهما أو يتركهما معا ، فإن أتى بالأهمّ فقد ارتفع موضوع المهمّ وأصبح فاقدا للملاك ؛ لعدم حصول شرطه وهو عصيان الأهمّ ، فإنّ أمر الأهمّ دائما يدعو إلى إعدام موضوع المهمّ ، وإن أتى بالمهمّ بعد ترك الأهمّ فقد عصى الأمر بالأهمّ فتوجّه الأمر بالمهمّ لحصول موضوعه حينئذ ، وإن تركهما معا فقد استحقّ عقابين ، وإن فعلهما معا كان المهمّ لغوا غير مطابق للأمر المتعلّق به ؛ لفقد شرطه وهو موضوعه أعني عصيان الأهمّ وتركه.

وبالجملة ، فقد وقع الأمر بنحو الترتّب في العرف والشرع ، فقول الإنسان لابنه اذهب إلى المكتب وإن لم تذهب فاكتب في الدار صحيفتين مثلا فهل في هذا الكلام

__________________

(١) لم نقف عليه.

٤٧٤

تناف أو طلب للجمع بين الضدّين؟ والسرّ في ذلك أنّ ترك كتابة الصحيفتين في الدار يكون له حصصا ، فالحصّة الملازمة مع الذهاب إلى المكتب غير مطلوبة ، وما عداها مطلوب ، ولا بدّ من إيجاد الكتابة فيه ، فإذا ترك الكتابة حينئذ كان عاصيا مضافا إلى ترك الذهاب إلى المكتب المحقّق للعصيان الأوّل.

والمثال الشرعي لذلك ما إذا وجب السفر بأمر المولى مثلا فعصى أمر السفر وبقي في بلاده وكان السفر

واجبا حدوثا وبقاء فدخل شهر رمضان فهل يجب الصوم على هذا أم لا؟ وهل يتمّ صلاته أم لا؟ فأمر الصوم وإتمام الصلاة لا يكون إلّا مترتّبا على عصيان الأمر بالسفر حدوثا وبقاء.

ومن هنا ظهر أنّ شرط الأمر بالمهمّ يلزم أن يكون هو العصيان المستمرّ إلى آخر زمان فعل المهمّ لا العصيان آناً ما ، وإلّا فلو كان العصيان آناً ما هو الشرط لكان طلبا للضدّين بعده ، وكأنّ منشأ توهّم استحالة الترتّب هو تخيّل كون الشرط هو العصيان آناً ما فيورد بكونه بعده يتحقّق طلب الجمع بين الضدّين ، ولو تأمّلوا كلام القائل بالترتّب وأنّ العصيان المقارن للمهمّ إلى آخر أجزائه هو الشرط لسلموا إمكانه وعدم تحقّق المنافاة فيه. نعم ، بعد الإتيان بالمهمّ لو فرض بقاء الأمر بالأهمّ فأتى به كان حينئذ موافقا لأمره بلا ريب.

وبالجملة ، فقد اتّضح بحسب الظاهر أنّ الترتّب لا منافاة فيه فهو ممكن في مقام الثبوت ، ولا محذور فيه كلّية ، فيقع الكلام الآن في بعض الامور التي مرّت الإشارة إليها في طيّ كلماتنا السابقة ، وها نحن نشير إليها في ضمن امور :

وينبغي التنبيه على امور :

[التنبيه] الأول :

أنّ لازم القول بالترتّب تعدّد العقاب عند ترك المهمّ والأهمّ ، بيان ذلك : أنّ المكلّف إمّا أن يترك الأهمّ ويأتي بالمهمّ أو بالعكس أو يتركهما معا ، فإن ترك الأهمّ

٤٧٥

وأتى بالمهمّ فيعاقب حينئذ على ترك الأهمّ ، وإن أتى بالأهمّ وترك المهمّ فلا عقاب ، أمّا على الأهمّ فلفرض إتيانه به ، وأمّا على المهمّ فلعدم فعلّية تكليفه ؛ لعدم شرطه وهو ترك الأهمّ وإن تركهما فيعاقب على ترك الأهمّ وعلى ترك المهمّ أيضا ؛ لتحقّق شرطه وهو ترك الأهمّ حينئذ فيعاقب بعقابين.

وتوهّم أنّه ليس له إلّا قدرة واحدة فهو لا يقدر على المهمّ والأهمّ معا فكيف يعاقب عليهما؟ مندفع بأنّ ترك الأهمّ موجب للعقاب ، وترك المهمّ في فرض ترك الأهمّ مقدور ؛ لأنّه حينئذ يمكنه أن يفعل المهمّ وأن يتركه ، فالعقاب في الحقيقة على الجمع في الترك لا على ترك الجمع ليقال إنّه غير مقدور ، فإنّ الجمع في الترك مقدور وعدمه أيضا حينئذ ـ أي حين ترك الأهمّ ـ مقدور ، فالعقاب في المهمّ على ضمّ تركه إلى ترك الأهمّ.

وقد وقع نظير هذا في الشريعة المقدّسة في الواجبات الكفائيّة التي لا يمكن أن يقوم بها إلّا واحد ، فإنّه لو ترك الجميع فعقاب بعض معيّن من المكلّفين ترجيح من غير مرجّح والبعض الغير المعيّن لا وجود له ، فيعاقب الجميع مع كون الجميع غير قادرين عليه ، فليس العقاب إلّا على الجمع في الترك وضمّ تركه إلى ترك بقيّة المكلّفين مع كونه عند ترك غيره قادرا على أن يقوم بهذا الواجب فيعاقب على ترك هذا القيام وضمّ تركه إلى ترك بقيّة المكلّفين فيعاقب كلّ من المكلّفين على ذلك وهذا بحسب الظاهر واضح جدّا.

التنبيه الثاني :

إنّ إمكان الترتّب كافل بوقوعه ؛ لأنّ المفروض إطلاق الأمر في كلّ من الواجبين ، وحيث يستحيل بقاء الأمرين معا على الإطلاق فلا بدّ من عمل يرفع الاستحالة ، فرفع إطلاق خطاب المهمّ إذا كان كافيا في رفع الاستحالة فلا بدّ من تقييده بالعصيان للأهمّ فإذا جاز ذلك وقع ؛ لفرض رفع اليد بمقدار ترتفع المحاليّة عقلا فلا موجب حينئذ لسقوط خطاب المهمّ ؛ لعدم ضرورة تقتضي ذلك.

٤٧٦

كما أنّ الأمرين مع فرض مساواتهما في الأهميّة لا بدّ من سقوط إطلاق خطابهما معا ، فصرف إمكان الترتّب مغن عن إثبات وقوعه.

التنبيه الثالث :

إنّ الترتّب إنّما يصحّ حيث يكون امتثال خطاب الأهمّ رافعا لموضوع المهمّ وأمّا إذا كان نفس الأمر بالأهمّ رافعا لموضوع المهمّ فلا يجري ، كما في موارد يعتبر في موضوع الأمر بالمهمّ القدرة الشرعيّة بحيث لا ملاك بدونها ، فإنّه حينئذ يكون الأمر بالأهمّ رافعا للقدرة الشرعيّة ، ففي مثل الوضوء إذا وجب صرف الماء في رفع عطش مؤمن ، إذا عصى لا يكون من الترتّب في شيء ، وذلك لأنّه فهم من آية التيمّم في قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا)(١) أنّ المراد من عدم الوجدان عدم الوجدان الشرعي ، فيفهم بقرينة المقابلة أنّ الذي يجب عليه الوضوء الواجد الشرعي ، وهذا الشخص بعد وجوب بذل الماء للمؤمن ليس واجدا شرعا ، فلو توضّأ كان وضوؤه بلا أمر.

فما نسب إلى العروة للسيّد اليزدي قدس‌سره (٢) من التزامه بصحّة الوضوء حينئذ من باب الترتّب ليس على ما ينبغي ، وإن كنّا لم نتحقّق صحّة ما نسب إليه قدس‌سره بل الموجود في عروته (٣) في باب الوضوء الحكم بالبطلان عند خوف العطش ، وكذا في مسوّغات التيمّم إذا عارض الوضوء واجب أهمّ فقد حكم بالبطلان معلّلا بكونه مأمورا بالتيمّم (٤) ، إلّا أنّا قد ذكرنا في تعليقتنا على العروة (٥) إمكان جريان الترتّب

__________________

(١) النساء : ٤٣ ، والمائدة : ٦ وفيهما (فلم تجدوا).

(٢) لم نقف عليه.

(٣) انظر العروة الوثقى : مسوّغات التيمّم : الخامس.

(٤) انظر المصدر السابق : السادس.

(٥) انظر المصدر السابق ، الهامش رقم ٨.

٤٧٧

في المقام ؛ وذلك لأنّ المشروط بالقدرة الشرعيّة إنّما هو الوضوء للصلاة ، أمّا الوضوء لبقيّة الغايات أو لاستحبابه النفسي فغير مشروط إلّا بالقدرة العقليّة ، وهذا معنى قولنا في التعليقة : «وللصحّة وجه حتّى على القول بوجوب صرف الماء في رفع الخبث» فافهم.

وينفتح من هذا الباب أبواب كثيرة :

منها : عدم وجوب الحجّ عليه ؛ لعدم الاستطاعة إذا كان مدينا بدين حالّ يقتضيه صاحبه ، وإن عصى بترك الأداء ؛ لفقد الاستطاعة شرعا ؛ لوجوب صرفه في أداء الدين ، ولكن يمكن أن يقال إنّ هذا الكلام ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) بناء على ما فهمه المشهور من الاستطاعة في آية الحجّ وإنّ المراد بها القدرة الشرعيّة والعقليّة ، وهذا الشخص ليس بقادر شرعا ؛ لوجوب صرف المال في أداء الدين فلا يكون قادرا على الحجّ ، ولكن الاستطاعة مفسّرة في الأخبار بالزاد والراحلة أو ثمنهما (٢) ، وهذا الشخص واجد لثمنهما فيتزاحم وجوب الحجّ ووجوب أداء الدين فيقدّم الدين لأهمّيته ؛ لكونه حقّ الناس ، فإذا لم يؤدّ الدين عصيانا وجب عليه الحجّ حينئذ ؛ لعدم ارتفاعه في غير صورة أداء الحجّ. على أنّا لو فسّرنا الاستطاعة في الآية بالقدرة الشرعيّة فلا تكون مرتفعة ؛ لأنّ الأمر بالدين لا يقتضي النهي عن الحجّ الذي هو ضدّه كما تقدّم.

ومنها : عدم وجوب الخمس في أرباح المكاسب إذا كان مدينا كما تقدّم بقدر الأرباح ؛ لوجوب صرفها في الدين الحال ، وكذا إذا لم يؤدّ إلى الزوجة نفقتها عصيانا بخلاف الوالدين أو الولد فإنّه لو عصى وجب الخمس والحجّ ، ثمّ لو كان عليه ديون من السنين السابقة فهل يخرجها من أرباح هذه السنة فلا خمس قبل إخراجها

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٧٨.

(٢) انظر الوسائل ٨ : ٢١ ، الباب ٨ من أبواب وجوب الحجّ.

٤٧٨

أو لا يخرجها؟ فالأحوط إن لم يكن أقوى إخراج الخمس بعد إخراج ديون هذه السنة وأداء ديون السنين السابقة إلى أربابها وإخراج خمسها من كيسه الخاصّ ، وتمام الكلام في الفقه.

التنبيه الرابع :

ذكر كاشف الغطاء قدس‌سره (١) على ما نقله الشيخ الأنصاري في رسائله (٢) أنّه وجّه ما ذهب إليه الأصحاب ونهضت به الروايات المعتبرة من صحّة صلاة التمام في مورد القصر جهلا بالحكم وصحّة الصلاة جهرا في موضع الإخفات وبالعكس جهلا أو نسيانا كما صرّحت به الأخبار (٣) وأفتى به الأصحاب ملتزمين بترتّب العقاب على فوات الواجب الأوّلي بأنّه مبنيّ على الترتّب وإمكانه ، وأنّ العقاب إنّما هو لعصيان الأمر الأوّل وكفاية الإخفات في موضع الجهر ولو مع بقاء الوقت ؛ لأنّه مأمور به في هذا الظرف.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري ردّه باستحالة الترتّب ؛ لأدائه إلى الأمر بالضدين وأنّه قدس‌سره لا يتعقّل الترتّب.

ولكنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (٤) ذهب إلى أنّ هذا ليس مربوطا بباب الترتّب وأنّ الترتّب وإن قلنا بإمكانه ووقوعه إلّا أنّ هاتين المسألتين لا يمكن توجيههما بالترتّب أصلا وذلك لامور ذكرها :

الأوّل : أنّ الترتّب إنّما هو في مورد التنافي الاتّفاقي كما في الإزالة والصلاة ، حيث إنّ عدم قدرة المكلّف عليهما معا في زمان واحد فلا بدّ من رفع اليد حينئذ عن إطلاق

__________________

(١) كشف الغطاء ١ : ١٧١.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٤٣٩.

(٣) الوسائل ٤ : ٧٦٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة.

(٤) انظر أجود التقريرات ٢ : ٩١.

٤٧٩

المهمّ وإبقاء إطلاق الأهمّ لأهمّيته. نعم ، في صورة عصيان الأمر بالأهمّ يتحقّق موضوع الأمر بالمهمّ ؛ لأنّه مقيّد بعدم الإتيان بالأهمّ وقد تحقّق حينئذ.

وأمّا في مسألة الجهر والإخفات والقصر والإتمام فالتنافي دائمي بحيث إنّ الأمر لو كان بهما معا كان الأمران متعارضين فهما أجنبيّان عن باب التزاحم وداخلان في باب التعارض فلا ترتّب فيهما أصلا.

أقول : إنّ ما ذكره قدس‌سره متين من جهة وغير وارد على كاشف الغطاء من جهة اخرى :

بيان ذلك : أنّ الترتّب الذي ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره ـ وذكر أنّ إمكانه مساوق لوقوعه ؛ إذ الدليلان للأهمّ والمهمّ مطلقان فلا يرفع اليد إلّا بمقدار الاستحالة العقليّة ، وأنّ تقييد المهمّ بعصيان الأهمّ وعدم إتيانه رافع للاستحالة العقليّة فتتقدّر الضرورة بقدرها ويبقى إطلاق الأهمّ بحاله ؛ لأهمّيته ـ وإن كان مختصّا بباب التزاحم وبباب التنافي الاتّفاقي إلّا أنّ علّة الإمكان فيه بعينها موجودة في المتعارضين عينا ، وهو أن يتوجّه أمر بالصلاة قصرا أو جهرا فإذا لم يأت بها فيتوجّه أمر حينئذ بالتمام أو الإخفات ، فإمكان الترتّب فيما تقدّم مستلزم لإمكانه فيما نحن فيه ، ولكن الفرق بينه ـ وبين الترتّب الذي التزم الميرزا النائيني قدس‌سره به أنّ إمكان ترتّب الميرزا كاف في وقوعه ، بخلاف هذا الترتّب فإنّه محتاج إلى دليل في مقام الإثبات ونصوص المقام في المسألتين وافية بالدليل.

الثاني من الامور التي ذكرها الميرزا لنفي الترتّب في المسألتين أنّ الترتّب إنّما يكون في الضدّين اللذين لهما ثالث كما في مثل الصلاة والإزالة ، فعند ترك الإزالة يمكن أن يشتغل بالصلاة وأن يشتغل بالأكل والشرب ، فهنا يأمره المولى بالصلاة ليحرّكه نحوها ويصرفه عن غيرها من الأضداد.

وأمّا الضدّان اللذان ليس لهما ثالث فترك أحدهما هو فعل للآخر ، فطلبه يكون طلبا للحاصل وهو محال ، مثلا الحركة والسكون لا يعقل فيهما الأمر بنحو الترتّب ،

٤٨٠