غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

الثاني : أنّه لو أمكن الجمع بين كلا الواجبين كالصلاة المضيّقة والإزالة في آن واحد في بعض أفراد الإزالة ، كما لو أزالها [بالأنبوب] ونحوه ممّا هو كالكثير ، فلو ترك الإزالة وصلّى يحكم بصحّة صلاته حتّى إذا كانت القدرة معتبرة من نفس الأمر ؛ لتحقّق القدرة حينئذ.

والثالث بالحلّ ، وهو : أنّ التكليف بنفسه لا يقتضي التحريك ، بل إنّما يحرّك إذا وصل إلى المكلّف ، والتكليف عبارة عن اعتبار شيء على ذمّة المكلّف إذا ابرز ، فهو إبراز الاعتبار وهو لا يقتضي بنفسه التحريك ليتمّ ما ذكره قدس‌سره من أنّ التحريك إنّما يكون نحو أمر قابل للتحرّك نحوه وهو المقدور ، فاعتبار القدرة إنّما هو بحكم العقل ليس إلّا وليس بأمر ذاتي ليتقدّم على الأمر العرضيّ ، (ولعلّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره مبنيّ على أنّ الوجوب هو الطلب الإلزامي فالطلب لا يكون متعلّقا إلّا بالمقدور) (١).

الأمر الثالث : أنّ هذا الفرد غير داخل تحت الطبيعة المأمور بها ؛ لأنّ شمول الطبيعة لهذا الفرد لغو.

والجواب : أنّ هذا الكلام تامّ في غير المقدور تكوينا ، أمّا غير المقدور من جهة أمر الشارع بضدّه فليس بلغو ؛ لأنّ هذا الفرد بعد أن كان كغيره في الوفاء بالغرض والمصلحة فكيف يكون شمول الطبيعة المأمور بها له لغوا ، مع أنّه لو أتى به لسهو أو جهل أو غفلة كان صحيحا ، فأين اللغويّة مع تحقّق هذه الثمرة المهمّة؟ نعم لا يصحّ أن يخصّ التكليف بالمنهيّ عنه شرعا ، للزوم جمع الضدّين. وما ذكر من أنّ الممنوع شرعا كالممتنع عقلا ممنوع.

الأمر الرابع : أنّ تمام الأفراد في ظرف المزاحمة غير مقدور ؛ لفرض أمر الشارع للمكلّف بصرف قدرته في صلاة الكسوف ، فتمام أفراد صلاة الظهر غير مقدورة حينئذ ، فكيف يؤمر حينئذ بطبيعة صلاة الظهر مع أنّ هذه الطبيعة غير مقدورة؟

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤٤١

والجواب : أنّ القدرة إن اعتبرت حال الأمر تمّ ما ذكر بناء على استحالة الواجب المعلّق ، أمّا بناء على إمكانه وأنّ القدرة إنّما تعتبر حال الامتثال فلا ؛ فإنّ صلاة الظهر مقدورة بعد الإتيان بصلاة الكسوف المضيّقة ، وهذا كاف في توجّه الأمر بالطبيعة ، فافهم.

ثمّ ليعلم أنّ ما كان من قبيل المثال المذكور ممّا كان أحد الواجبين موسّعا والآخر مضيّقا لا نحتاج فيه إلى الترتّب وإثبات إمكانه بل نصحّحه بما ذكره المحقّق الثاني قدس‌سره. وتوضيح هذا الكلام يأتي في الترتّب إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ كلام المحقّق الثاني قدس‌سره مبنيّ على عدم كفاية الملاك في تصحيح العبادة ولزوم قصد الأمر في صحّتها ، فيقع الكلام الآن في كفاية الملاك في تصحيح العبادة وعدم الكفاية وفي كيفيّة إحراز الملاك.

في إحراز الملاك وكفايته وعدمهما :

والكلام يقع في مقامين :

أحدهما : في كفاية قصد الملاك أو لزوم قصد الأمر. وقد ذكرنا في مبحث التوصّلي والتعبّدي أنّ قصد الأمر غير لازم في صحّة العمل ، بل يعتبر في صحّة العمل بعد صلاحيّته لقصد التقرّب أن تكون له إضافة إلى المولى ، وليس في الأخبار ما يعيّن قصد الأمر ، بل فيها ما يظهر منه كفاية النيّة الصالحة كما ورد في الوضوء إذا كان بنيّة صالحة يريد بها ربّه (١).

__________________

(١) الرواية التي أشار إليها الميرزا في الصلاة لا في الوضوء وهي هذه : يونس بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قيل له وأنا حاضر : الرجل يكون في صلاته خاليا فيدخله العجب ، فقال : إذا كان أوّل صلاته بنيّة يريد بها ربّه فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك فليمض في صلاته وليخسأ الشيطان. الوسائل ١ : ٨٠ ، الباب ٢٤ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٣. راجع أجود التقريرات ١ : ١٦٣ و ٣ : ٥٤٢.

٤٤٢

وبالجملة ، فإذا احرز الملاك لا ريب في كفاية قصده إنّما الكلام في إحرازه.

وهو المقام الثاني : وذلك فإنّه يقال إنّ الملاك إنّما نحرزه نحن بالأمر انتقالا من المعلول إلى العلّة بناء على مذهب العدليّة من أنّ الله لا يأمر جزافا بل لا بدّ من مصالح في متعلّق أمره ومفاسد في متعلّق نهيه ، فإذا فرضنا أنّ إطلاق الأمر ليس شاملا لهذا الفرد فهذا الفرد خارج عن تحت إطلاق الأمر أو عمومه ، فمن أين يستكشف كونه واجدا للملاك؟ فإن ادّعي القطع بكونه باقيا على ملاكه وأنّ الأمر إنّما لم يشمله بإطلاقه لوجود المانع وهو تعلّق النهي ، لا لقصور في ملاكه وإلّا فهو على ملاكه ومصلحته فلا كلام لنا مع القاطع ؛ إذ القطع حجّة لكنّه لخصوص القاطع كصاحب الكفاية قدس‌سره.

وأمّا نحن فقد رجعنا إلى وجداننا فلم نجد لنا قطعا بذلك بل احتملنا أن لا يكون الفرد المزاحم ذا ملاك أصلا ، فلا بدّ لنا من برهان به نحرز الملاك ، وقد ذكروا لإحراز الملاك أمرين :

أحدهما : أنّ لكلّ لفظ دلالة مطابقيّة ودلالة اخرى التزاميّة والمراد بها ما يعمّ التضمّنيّة فإنّها أيضا التزاميّة ، ولا ريب في حجّية كلتا هاتين الدلالتين بنحو لا يفرّق بينهما في المحاورات أصلا بل يلتزم بهما في الأقارير كما هو ظاهر ، بل قد استدلّ الأئمة عليهم‌السلام بجملة من الدلالات الالتزاميّة في القرآن ، كما في آيتي أقصى الحمل (١) وقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها)(٢) على عدم كفاية العقد المنقطع في التحليل ، وحينئذ ففي الأمر المتوجّه بشيء دلالة مطابقيّة وهي كون ذلك الشيء في عهدة المكلّف ، ودلالة التزاميّة وهي وجود المصلحة في المأمور به ، فإذا كانت الدلالة المطابقيّة لا يمكن

__________________

(١) البقرة : ٢٣٣ ، والأحقاف : ١٥ ، وراجع تفسير كنز الدقائق ٩ : ٤٥٠ فقد ذكر أخبارا في تفسير الآية ، والكافي ١ : ٤٦٤ ، باب مولد الحسين عليه‌السلام.

(٢) البقرة : ٢٣٠.

٤٤٣

الأخذ بها لمانع عقلي وهو توجّه النهي إلى المأمور به فلا مانع من الالتزام بالدلالة الالتزاميّة ؛ لعدم المزاحم لها.

وما ذكره الميرزا قدس‌سره من كون المصلحة قائمة بالطبيعة وأنّ اعتبار القدرة في رتبة الطلب ، فلا يكون عدم القدرة كاشفا عن عدم الملاك ؛ إذ ليس في رتبته ، الظاهر ـ والله العالم ـ رجوعه إليه.

والجواب : أنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة ثبوتا وحجّيّة ، فإذا لم تكن الدلالة المطابقيّة حجّة لا تكون الدلالة الالتزاميّة حجّة أيضا. وتوضيحه بذكر مثاله : مثلا إذا كان درهم تحت يد زيد فقامت البيّنة على أنّ الدرهم لعمرو فالبيّنة لها دلالتان ، إحداهما مطابقيّة وهو كون الدرهم لعمرو ، [و] الثانية التزاميّة وهو أنّه ليس لزيد ، فلو اعترف عمرو بأنّ الدرهم ليس له ففي المقام لا قائل بأنّ الإقرار يعارض الدلالة المطابقيّة ولا يرفع الدلالة الالتزاميّة وهو عدم كونه لزيد ، فيؤخذ الدرهم من زيد ويعامل معاملة مجهول المالك. ومقتضى ما ذكر من أنّ سقوط الدلالة المطابقيّة لا يقتضي سقوط الدلالة الالتزاميّة ذلك. وأمثلة ذلك لا تحصى.

والسرّ في ذلك أنّ اللازم إنّما هو لازم خصوص ذلك المعنى لا مطلق ذلك الشيء ، فاللازم في المثال هو عدم ملكيّة زيد الملازمة لملكيّة عمرو لا عدم ملكيّة زيد مطلقا ؛ فإنّ المخبر عن النار يخبر عن حرارة النار لا عن مطلق الحرارة لتبقى بواسطة الشمس والحركة وما شابههما ، وكذا من أخبر بولوغ الكلب في الإناء إنّما يخبر بالنجاسة المستندة إلى الولوغ أمّا نجاسة اخرى فلا يخبر عنها ؛ ولذا لو انكشف خطأ المخبر يحكم بطهارته ولا يعتنى باحتمال نجاسة اخرى.

هذا ، وتطبيق ذلك فيما نحن فيه أن يقال إنّ الأمر دالّ على الملاك الذي يكون باعثا إلى تحقّقه خارجا ، فإذا لم يتحقّق الأمر في الخارج بقصور شمول الإطلاق أو العموم له لفرض أهميّة غيره في ذلك الوقت فيستحيل الأمر بالضدّين ، فالملاك الذي هو لازم الأمر انتفى بنفيه ، فمن أين يجيء حينئذ الملاك؟ فالحقّ أنّ الملاك لازم لتحقّق الأمر ولا سبيل إلى إحرازه غيره ، فإذا انتفى فلا سبيل إلى إحرازه.

٤٤٤

وما ذكره الميرزا النائيني إن رجع إلى هذا فجوابه جوابه ، وإن أراد إثبات الملاك بمقدّمات الحكمة فالجواب حينئذ أظهر ؛ إذ من شرط مقدّمات الحكمة كون المولى في مقام البيان للملاك ، فمعلوم أنّه ليس إلّا في مقام بيان متعلّق أمره. ولو سلّمنا أنّه في مقام بيان الملاك فخروج هذا الفرد عن حيّز الأمر بفعليّة الأمر لغيره ممّا يصلح للقرينة في نفي الملاك ، فمن أين يحرز أنّه لم يبيّن انتفاء الملاك ، ومن المحتمل أنّه اعتمد على عدم الأمر في بيان عدمه.

وهذا هو الأمر الثاني الذي به يستكشف الملاك. فتلخّص أنّ قصد الملاك يجزي حيث يحرز الملاك ، ولكن لا طريق إلى إحرازه غير الأمر ، فالواجب يعتبر فيه القدرة ، فغير المقدور تارة يكون غير مقدور عقلا واخرى يكون غير مقدور شرعا والأوّل على قسمين :

تارة : يكون غير مقدور بتمام أفراده ، وهذا لا يجوز أن يكون موردا للتكليف ؛ لأنّه تكليف بما لا يطاق كالطيران إلى السماء فإنّه بتمام أفراده غير مقدور.

واخرى : يكون بعض أفراد الطبيعة مقدورا وبعضها الآخر غير مقدور ، فهنا لا ريب في عدم دخول الأفراد الغير المقدورة تحت الأمر ؛ لأنّها غير مقدورة عقلا فالأمر بها لغو. كما لو أمره بأكل حيوان فإنّه يقدر على أكل العصفور بتمامه والحمامة بتمامها إلّا أنّ البعير لا يمكنه أكله بتمامه ، وبما أنّ الإطلاق رفض القيود فالقيود والخصوصيّات تلحظ فترفض ، فهو في الحقيقة بيان لعدم دخل الخصوصيّات ، فشمول الأمر لمثل هذه الأفراد الغير المقدورة لغو صرف لا يترتّب عليه أثر ، فلا بدّ من اختصاص الأمر بالمقدور عقلا لئلّا تلزم اللغويّة.

نعم ، قد يكون الشيء غير مقدور ؛ لأنّه لا يقع بالإرادة والاختيار ، كما إذا زلقت قدمه فسقط في البحر فغسلت ثيابه النجسة ، فمثل هذه الأفراد من غير المقدور لا بأس بشمول إطلاق الأمر لمثله ؛ لعدم لزوم اللغويّة ؛ فإنّ ثمرته سقوط الوجوب

٤٤٥

بفعله قهرا على الفاعل ، وهذا بخلاف غير المقدور عقلا فإنّه لا يتصوّر وقوعه في الخارج أصلا.

وأمّا غير المقدور شرعا فهو على قسمين ؛ لأنّه قد يكون فردا واحدا وغير مقدور ، وقد يكون أفرادا بعضها مقدور وبعضها غير مقدور ، ففي الثاني لا ريب في صحّة الإتيان بالفرد الغير المقدور شرعا ، كما إذا أمر بصلاة الظهر في وقت موسّع وبصلاة الكسوف في وقت مضيّق ، فبما أنّ صلاة الكسوف مضيّقة فالأمر بها ، ففي هذا الحال لا أمر بصلاة الظهر ، إلّا أنّه لو عصى فلم يصلّ الكسوف وصلّى الظهر مثلا فلا مانع من صحّته بالأمر واستكشاف الملاك به بما مرّ من المحقّق الثاني قدس‌سره من أنّ الأمر بالطبيعة انطباقه عليه قهريّ فإجزاؤه عقليّ كما تقدّم. وحينئذ فهذا الفرد ممّا احرز ملاكه بنفس الأمر كما تقدّم.

وأمّا إذا كان فردا واحدا غير مقدور كما إذا كان الواجبان مضيّقين معا ، كما إذا كان وقت الظهر أيضا ضيّقا ، فبما أنّ ذات الوقت أهمّ فيكون الأمر بها ، فتخلو صلاة الكسوف عن الأمر ، فلو عصى وترك صلاة الظهر وصلّى الكسوف فلا يمكن إحراز صحّتها ؛ لعدم إحراز الملاك ؛ لعدم الأمر الذي به يحرز الملاك ، فينحصر وجه صحّتها بما سيجيء إن شاء الله تعالى من القول بالترتّب وإنّ الأمر به في ظرف ترك الآخر موجود ، فيقع الكلام في إمكان الترتّب وعدم إمكانه.

وقبل الخوض في ذلك نتكلّم في التزاحم بين الواجبين وفي التعارض وبيان موضوعهما وحكمهما ؛ لأنّ بعض الأصحاب على ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) توهّم أنّ تقديم أحد الأمرين لأهميّته يقتضي سقوط الأمر الثاني كما في تعارض الدليلين ، ولا بدّ من بيان أنّ ذلك حكم المتعارضين وأنّ المتزاحمين ليس تقديم أحدهما مقتضيا لكون الآخر كالعدم فنقول :

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٢.

٤٤٦

في التزاحم والتعارض :

ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) أنّ بعضهم ذكر التزاحم والتعارض وأصّل أصلا في مقام دوران الأمر بينهما. ثمّ ذكر الميرزا النائيني في مقام الردّ عليه أنّه لا جامع بينهما كي يدور الأمر بينهما ، فهو نظير أن يقال هل الأصل في الأشياء الطهارة أم الأصل البطلان في البيع الفضولي؟ فلا يمكن تصادقهما على مورد ما ليكون الأصل فيه التعارض أو التزاحم. وما ذكره قدس‌سره صحيح ومتين. فإنّه لا جامع بينهما إلّا مفهوم التنافي.

وتوضيح ذلك : أنّ التنافي إن كان في مقام الجعل بحيث كان صدق أحد الدليلين مستلزما لكذب الثاني وإنه غير مجعول فهو باب التعارض ، وهذا التنافي قد يكون بالذات وقد يكون بالعرض :

فالأوّل كأن يدلّ دليل على جزئيّة السورة في الصلاة ، ويدلّ دليل على عدم الجزئية ، فإنّ الجزئيّة وعدمها لا يمكن جعلهما في الشريعة المقدّسة ذاتا ؛ للزوم جمع الضدّين.

والثاني كأن يدلّ الدليل على وجوب الجمعة يوم الجمعة ويدلّ الدليل الآخر على وجوب الظهر يوم الجمعة ، فإنّ الإجماع على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد أوقع التكاذب بين الدليلين بعد أن لم يكن بالذات ، فصدق أحدهما يستلزم كذب الآخر وإن لم يلزم من كذب أحدهما صدق الآخر ؛ لإمكان كذبهما معا ويكون الواجب صلاة اخرى غيرهما.

وأمّا التنافي في التزاحم فليس في مقام الجعل وإنّما هو في مقام الامتثال ، فإنّ جعل صلاة الكسوف على القادر لا ينافي جعل وجوب صلاة الظهر على القادر أيضا ، وإنّما التنافي بينهما في الامتثال إذا كان مضيّقا زمانهما بحيث لا يسع إلّا

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٢.

٤٤٧

أحدهما ؛ فإنّ قدرة المكلّف حينئذ لا يمكن صرفها فيهما معا ، فإن صرفها في صلاة الكسوف انتفى موضوع صلاة الظهر ؛ لعدم كونه قادرا حينئذ. وهذا بخلاف باب التعارض فإنّ تقديم أحدهما تعيينا أو تخييرا يوجب أن ينتفي حكم الآخر عن نفس الموضوع مع حفظ الموضوع.

وبالجملة ، فالتقديم في باب التزاحم يوجب انعدام موضوع الآخر ، وفي باب التعارض يوجب نفي حكمه مع بقاء الموضوع. وقد ذكر الميرزا قدس‌سره للتزاحم من غير جهة القدرة مثالا يأتي الكلام فيه ، وأنّه ليس من باب التزاحم وإنّما هو من باب التعارض ، غاية الأمر أنّ التنافي بينهما عرضي لا ذاتي ، فالتزاحم مختصّ بما إذا كان تقديم أحدهما سالبا للقدرة على الثاني فيكون رافعا لموضوعه ؛ إذ موضوعه القادر والمكلّف ومع تقديم أحدهما لا يكون قادرا على الثاني فتنتفي فعليّته ؛ لأنّ فعليّة كلّ حكم بتحقّق موضوعه في الخارج فافهم. فظهر بما ذكرنا أنّ باب التعارض وباب التزاحم بابان متباينان فيقع الكلام في أحكامهما.

في أحكام التعارض والتزاحم :

المتعارضان إن كان أحدهما بحسب العرف قرينة على الآخر ومفسّرا له ومبيّنا للمراد منه فليس بينهما حينئذ تعارض أصلا كما في العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد والحاكم والمحكوم وغيرها. وإن لم يكن أحدهما قرينة عرفيّة على الآخر كما في العامّين من وجه بالإضافة إلى مورد الاجتماع ، وكما في المتباينين كما في أكرم زيدا ولا تكرم زيدا ، فهنا لا يمكن أن يشملهما معا دليل الحجيّة ؛ للزوم جعل الحجيّة في أمرين متناقضين وهو محال ، وجعل الحجيّة لأحدهما الغير المعيّن يعني لمفهوم أحدهما محال أيضا ؛ إذ ليس له وجود في الخارج ، وجعل الحجيّة لأحدهما المعيّن يعني الفرد الخارجي ترجيح من غير مرجّح ، فلا يشملهما حينئذ دليل الحجيّة

٤٤٨

فيتساقطان ويرجع إلى عموم أو إطلاق فوقهما لو كان وإلّا فالمرجع الاصول العمليّة. هذا بناء على القول بالطريقيّة ؛ إذ الواقع لا يعقل ارتسام المتناقضين فيه.

وأمّا بناء على السببيّة الأشعريّة أو المعتزليّة ففي مؤدّى كلّ من الأمارتين مصلحة إلزاميّة لازمة التحصيل ، وحينئذ فلا تكاذب بينهما ؛ ضرورة أنّ مؤدّى كلّ من الأمارتين إن كانت فيه مصلحة إلزاميّة يجب تحصيلها على القادر فيكون بينهما حينئذ التزاحم في مقام الامتثال كما في التزاحم ، فيكون فعليّة كلّ منهما موجبا لعدم فعليّة الآخر ؛ لعدم موضوعه وهو القادر.

وأمّا على القول بالسببيّة الإماميّة فلا بدّ من القول بالتعارض وإعمال عمله ؛ لأنّ القائل بالمصلحة السلوكيّة من الإماميّة إنّما يقول بها في سلوك الحجّة ، والمفروض أنّ دليل الحجيّة يستحيل أن يشملهما معا. هذا كلّه مقتضى القاعدة في المتعارضين المتكاذبين وقد عرفت أنّه التساقط. نعم ورد في خصوص تعارض الخبرين مرجّحات يعمل بها إن وجدت ، وإلّا فالشارع حكم بالتخيير مع عدمها فيخرج عن مقتضى القاعدة في خصوص الخبرين المتعارضين ، وفي غيرهما المرجع التساقط كما تقدّم.

وهذا بخلاف باب التزاحم فإنّ دليل الحجيّة شامل لهما معا وكلّ منهما واجد لشرائط الحجيّة ، غاية الأمر أنّ امتثال أحدهما يوجب انعدام القادر الذي هو موضوع الدليل الثاني ، فبعد شمول دليل الحجيّة لهما يكون التخيير لو لم يمكن مرجّح والترجيح عند تحقّق المرجّح بمقتضى القاعدة ؛ لأنّ الضرورة فيه تقدّر بقدرها ، فالعجز عن أحدهما لا عنهما ، فحينئذ يحكم العقل بترجيح أحدهما فتتقدّم على الثاني ، وإن لم يكن مرجّح فالتخيير.

فالحاكم بالترجيح والتخيير في باب التزاحم هو العقل على طبق القاعدة ، والحاكم في باب التعارض بالتخيير والتراجيح الشرع على خلاف القاعدة. وحينئذ فيقع الكلام في مرجّحات باب التزاحم فنقول :

٤٤٩

في مرجّحات باب التزاحم :

المرجّح الأوّل : ما إذا كان لأحد الواجبين بدل ولم يكن للآخر بدل فيقدّم ما لا بدل له ، وهو يكون على نحوين :

أحدهما : أن يكون البدل عرضيّا كما إذا تردّد أمره بين صوم الكفّارة فيفوته الحجّ وبين السفر إلى الحجّ فيفوته صوم الكفّارة. ولا ريب في تقدّم سفر الحجّ ؛ إذ الحجّ لا بدل له بخلاف صوم الكفّارة فإنّ له بدلا ، وهو بقيّة خصال الكفّارة من عتق أو إطعام ، مضافا إلى أنّه ليس من باب التزاحم ؛ إذ الواجب التخييري ـ كما سيأتي الكلام فيه ـ راجع إلى وجوب الجامع بين الخصال ، وحينئذ فكلّ واحد من الخصال لا أمر به وإنّما الأمر بالجامع ، وحينئذ فهذا الصوم ليس واجبا فلا مزاحمة أصلا.

الثاني : أن يكون البدل طوليّا كما في من كان عنده ماء بقدر وضوئه وهناك نفس محترمة تموت من العطش لو توضّأ به ، فبإطلاق أدلّة وجوب حفظ النفس المحترمة لهذه الصورة يتقدّم على الوضوء فيشرب الماء ثمّ يتيمّم للصلاة ، وحينئذ فلم تفته مصلحة كلّية ؛ لأنّ الصلاة مع الطهارة المائيّة مشروطة بالقدرة الشرعيّة على الاستعمال ، بخلاف حفظ النفس فإنّه ليس القدرة فيه إلّا شرطا عقليّا كما سيأتي أنّه من صغريات تلك القاعدة ، وحينئذ فقد أدرك مصلحة حفظ النفس وملاك الصلاة بتمامه بالطهارة الترابيّة ، كما هو مقتضى التقسيم في الآية القاضي بالتنويع كما في المسافر والحاضر ، غير أنّا علمنا من الخارج أنّ إدخال النفس تحت العجز بالاختيار محرّم ، بخلاف المسافر والحاضر فإنّه جائز ولو اختيارا.

ثمّ إنّه تفريعا على ذلك ذكر السيّد اليزدي قدس‌سره (١) في عروته ويتبعه جملة من المحشّين أنّه إن كان عنده ماء بقدر الطهارة المائيّة ودار أمره بين استعماله في الطهارة المائيّة

__________________

(١) العروة الوثقى : فصل في أحكام النجاسات ، المسألة ١٠.

٤٥٠

وغسل ثوبه النجس المحتاج إليه في ستر الصلاة ، فأفتوا بلزوم صرفه في غسل الثوب أو البدن النجس والتيمّم عوض الطهارة المائيّة ؛ لأنّها لها بدل ، بخلاف غسل الثوب فإنّه ليس له بدل ؛ إذ الصلاة عاريا أو في الثوب النجس على الخلاف ليس بدلا وإنّما هو صلاة فاقدة لشرطها.

هذا ، ولنا في المقام كلام ملخّصه : أنّ الأمر بالستر في الصلاة والأمر بالطهارة فيها كبقيّة أوامر الأجزاء والشرائط أوامر ضمنيّة ولا يقع التزاحم بينها ، وإنّما التزاحم بين الأوامر بالمركّبات أو المقيّدات ، فهنا أمر بالصلاة مع الطهارة المائيّة وبدلها الأمر بالصلاة بالطهارة الترابيّة ، كما أنّ هنا أمرا أيضا بالصلاة في الثوب الطاهر ومع تعذّره وعدم القدرة عليه يصلّي عاريا أو في الثوب النجس ، فهذه الصلاة أيضا بدل عن تلك الصلاة ، وحينئذ فكلّ من الصلاتين ذات بدل فلا مقتضي لتقديم أحدهما على الاخرى فيتخيّر ، فتأمّل.

قال الاستاذ الخوئي ـ تعليقا على أصل الترجيح بما ذكر من كون ما ليس له البدل مقدم على ما له البدل ـ : إنّ كون شيء ذا بدل وشيء آخر ليس بذي بدل لا يقضي بتقديم الثاني على الأوّل ، نعم لو رجع إلى ما يأتي من كون القدرة في أحدهما عقليّة غير دخيلة بالملاك وفي الثاني شرعيّة دخيلة في وجود الملاك صحّت وقدّم ما لم تكن القدرة فيه شرعيّة ؛ لإطلاق دليله حينئذ وفوت الثاني فوت ما لا ملاك فيه ؛ لعدم القدرة الشرعيّة حينئذ ، والمفروض دخالتها في تحقيق الملاك ، وإلّا فلو فرض اعتبار القدرة الشرعيّة فيهما معا لم يكن وجود البدل لأحدهما مرجّحا لتقديم الآخر عليه ، مثلا الكفّارة المرتّبة أوّل خصالها العتق ثمّ الصيام ثمّ الإطعام ، وجعل البدل ظاهر في اعتبار القدرة شرعا في الواجب الأوّل الذي هو العتق ، فإذا فرض أنّ المكلّف عنده مقدار من المال يفي بالرقبة أو بالحجّ بحيث لا يفي بهما معا ، وفي كلّ منهما قد أخذت القدرة الشرعيّة في الملاك ، أمّا في الكفّارة فبظهور جعل البدل كما مرّ ، وأمّا في الحجّ فبقوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) المفسّر بالزاد والراحلة وأمن

٤٥١

الطريق ، ففي مثل المقام لا وجه لترجيح الحجّ ؛ لأنّه لا بدل له ؛ لأنّه إنّما يكون الحجّ ذا ملاك ملزم إذا استطاع إليه ، والاستطاعة موقوفة على تقدّمه ولا دليل عليه أصلا. هذا في أصل الكبرى التي ذكرها الميرزا النائيني قدس‌سره.

ولو سلّمنا صحّة الكبرى فتطبيقها على الصغرى التي ذكرها من مسألة : من عنده ماء ودار أمره بين الوضوء به وغسل ثوبه النجس به في غير محلّه ؛ لأنّ الأمر بالمركّب أمر بالصلاة مع الطهارة المائيّة بثوب طاهر ، وبما أنّ المكلّف المفروض غير قادر على صلاة جامعة للطهارة المائيّة وللثوب الطاهر فقطعا الأمر بالمركّب ساقط ؛ لقبح التكليف بما لا يطاق ، فالأوامر الضمنيّة بما أنّها تابعة للأمر بالمركّب فبذهابه ذهبت أيضا ، ولكنّ الحيرة الآن في أنّ الصلاة المجعولة في حقّه صلاة بطهارة مائيّة وثوب نجس أو صلاة بثوب طاهر وطهارة ترابيّة ، وحينئذ فالمقام من صغريات باب التعارض ؛ إذ الشكّ إنّما هو في المجعول شرعا وإنّه أيّ الفردين من الصلاة ، لا في باب التزاحم ؛ لعدم كون الشك في الامتثال.

هذا ، وسيأتي إن شاء الله أنّ دوران الأمر بين الركوع عن قيام بلا اطمينان مثلا أو الركوع من جلوس مع الاطمينان كلّه من باب التعارض ؛ للشكّ في مقام الجعل لا في مقام الامتثال ، فافهم.

ثمّ إنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (١) طبّق ما ذكره من القاعدة الكلّية المزبورة وهي تقديم ما لا بدل له على ما له البدل على ما إذا دار أمر المكلّف بين الصلاة في الوقت مع التيمّم والصلاة مع الطهارة المائيّة بإدراك ركعة من الوقت ، فحكم الميرزا بتقديم الصلاة مع الطهارة الترابية في الوقت على الصلاة مع الطهارة المائيّة وإدراك ركعة من الوقت ، بدعوى أنّ الوقت لا بدل له وأنّ الطهارة المائيّة لها بدل. ثمّ نقل الميرزا عن بعض أنّ السيّد الشيرازي الكبير حكم بتقديم الطهارة المائيّة وإدراك الركعة ثمّ استبعد صدور ذلك منه.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٤٩.

٤٥٢

أقول : أمّا تطبيق تلك القاعدة الكلّية على هذا المورد فقد عرفت أنّه ليس بصحيح وأنّ المقام من مقامات باب التعارض لا التزاحم. وأمّا المسألة فهي غير منصوصة ، فإنّ التيمّم لضيق الوقت لم يرد نصّ به ، فإن قلنا بمقالة الشيخ حسين قدس‌سره (١) الذي هو من أساطين الأخباريّين إنه لا يشرّع التيمّم للضيق كلّية ؛ لأنّ المسوّغ للتيمّم عدم الوجدان وهذا واجد فلا كلام حينئذ في أنّه يتوضّأ أو يغتسل ويصلّي وإن أدرك ركعة من الوقت. وإن سوّغنا التيمّم للضيق كما هو المشهور بدعوى كون المراد من عدم الوجدان في الآية عدم القدرة بقرينة ذكر المريض الذي يندر فقد الماء عنده حينئذ ، فيكون معنى الآية أنّ القادر يغتسل أو يتوضّأ والعاجز يتيمّم ، ثمّ نأتي إلى آية (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)(٢) وتفسيرها الوارد عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام (٣) : أنّ الله فرض أربع صلوات ما بين هذين الحدّين وأنّ صلاة الظهر والعصر يلزم أن تقعا قبل غروب الشمس ، فإذا كان الوقت لا يسعهما يعني لا يسع الصلاة والطهارة المائيّة يكون عاجزا عن الطهارة المائيّة ، فيتيمّم حينئذ للصلاة لدخوله تحت عنوان غير المتمكّن الذي فرضت الآية الاولى عليه التيمّم ، فيتيمّم ويصلّي قبل خروج الوقت. وخبر من أدرك (٤) ليس له نظر إلى الأجزاء والشرائط وإلغائهما وإنّما هو متعرّض إلى أنّ الصلاة بتمام أجزائها وشرائطها إذا عرض عارض فأخّرت قهرا عليه بحيث أدرك ركعة فقد أدرك الوقت كلّه ؛ ولذا لو تيمّم وأدرك ركعة فقد أدرك الصلاة كلّها في الوقت بتنزيل الشارع المقدّس.

__________________

(١) هو الشيخ حسين آل عصفور كما صرّح به في دراسات في علم الاصول ٢ : ١٥.

(٢) الإسراء : ٧٨.

(٣) الوسائل ٣ : ١١٥ ، الباب ١٠ من أبواب المواقيت ، الحديث ٤.

(٤) قال الشهيد في الذكرى : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، الذكرى ٢ : ٣٥٥ ، راجع التهذيب ٢ : ٣٨ ، الحديث ١١٩.

٤٥٣

الثاني من مرجّحات باب التزاحم : أن يكون الملاك في أحد الواجبين مطلقا فالقدرة معتبرة فيه عقلا ، ويكون الملاك في الواجب الثاني مشروطا بالقدرة شرعا بحيث لا يكون في العمل ملاك بالإضافة إلى العاجز ، ولنعبّر عن الثاني بما اعتبرت فيه القدرة الشرعيّة وعن الأوّل بما اعتبرت فيه القدرة العقليّة.

بيان ذلك : أنّ الواجبين قد لا تكون القدرة فيهما معتبرة في تحقّق الملاك بل الملاك متحقّق فيهما مطلقا.

وقد تكون القدرة شرطا في تحقّق الملاك بحيث لا ملاك له بالإضافة إلى العاجز أصلا.

وقد تكون القدرة شرطا في تحقّق الملاك في أحدهما وليست شرطا في تحقّق الملاك في الثاني. وهذا القسم الثالث هو مورد هذا المرجّح ، فإنّه لا ريب في تقدّم ما كان مشروطا بالقدرة العقليّة على ما كان مشروطا بالقدرة الشرعيّة ثبوتا وإثباتا ؛ فإنّ أمر الشارع بغيره يعني بغير ما كانت القدرة فيه عقليّة تفويت لملاك هذا الواجب مع إطلاق ملاكه حسب الفرض ، بخلاف الأمر به فإنّه حينئذ لا يتحقّق ملاك في الثاني لعدم القدرة ، وبانعدامها ينعدم الملاك ؛ لتعليقه على القادر ، فيكون عدم الثاني لعدم ملاكه فلا تفويت فيه للملاك ، ومن المعلوم أنّ الشارع لا يفوّت الملاك الملزم.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يقترن زمانهما أو يتقدّم أحدهما على الآخر ؛ لجريان ما ذكر في جميع هذه الصور بعد فرض تحقّق التزاحم بينهما ، مثال ذلك : ما إذا كان جواب السلام موجبا لفوات الحجّ عليه ، والحجّ مشروط بالقدرة الشرعيّة ، بخلاف وجوب ردّ السلام فهو مشروط بالقدرة عقلا ، فملاك وجوب ردّ السلام مطلق وملاك وجوب الحجّ مشروط بالقدرة الشرعيّة ، فيتقدّم وجوب ردّ السلام وإن كان الحجّ أهمّ ؛ لأنّ أهميّته بعد فرض وجوبه ، والمفروض أنّه لا وجوب له ؛ لعدم ملاكه حال العجز. هذا كلّه في الفرض الثالث.

٤٥٤

وأمّا الفرض الثاني وهو ما إذا كان الوجوب مشروطا بالقدرة الشرعيّة في كليهما فليس حينئذ الوجوب إلّا لأحدهما ؛ لأنّه ليس له قدرتان بل له قدرة واحدة ، فإمّا أن تصرف في هذا أو ذاك ، وحينئذ فإن كان لأحدهما تقدّم بحسب الزمان تقدّم ؛ لوجود موضوعه بلا مزاحم حينئذ ، فإذا جاء ظرف الثاني كان عاجزا فينتفي ملاكه في حقّه ، وإن لم يكن لأحدهما تقدّم زماني بل كانا متقارنين فالتخيير حينئذ إذا تساويا في الملاك وهو بحكم العقل ، يعني أنّ العقل يدرك حكم الشارع بالتخيير حيث يتساويان في الملاك ؛ إذ إيجابهما عليه محال ، وإيجاب أحدهما معيّنا بلا مرجّح ، وتفويت الملاك غير جائز من الشارع فلا بدّ من إيجاب أحدهما تخييرا بحكم الشارع والكاشف هو العقل.

وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ ملاكا فقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) التخيير أيضا بدعوى كونه أهمّ إذا اختاره لصرف قدرته فيه ، ولا يجب عليه اختياره ؛ إذ لا يجب على الإنسان أن يصيّر الشيء أهمّ ملاكا في حقّه. والظاهر لزوم تقديم الأهمّ ؛ لأنّ شرط فعليّته ليس إلّا كونه قادرا عليه مع عدم المنع الشرعي عنه بالاستلزام بأمره بضدّه ، وهنا القدرة قبل الاختيار لأحدهما موجودة قطعا ، ولا يمكن أن ينهى الشارع عن الأهمّ حتّى استلزاما ، فالأهمّ حينئذ قد وجد موضوعه وهو القادر العقلي والشرعي ؛ إذ العجز الشرعي إنّما هو بالأمر بالضدّ فعلا ، ولا يعقل أن يأمر الشارع به ؛ للزومه تفويت الملاك الأهمّ ، فلا يعقل أن يعيّن غير الأهمّ ؛ للزوم ترجيح المرجوح ، على الراجح فيدور الأمر بين التعيين والتخيير وفي مثله لا بدّ من القول بالتعيين ، مثال ذلك : ما إذا كان قادرا على قيام إمّا في صلاة الظهر أو العصر فيقدّم القيام في صلاة الظهر وعند مجيء صلاة العصر يكون عاجزا ،

__________________

(١) فوائد الاصول (١ و ٢) : ٣٣١.

٤٥٥

فلا يكون لقيامه ملاك حينئذ ليفوت. وكذا إذا كان ممّن يجب عليه الوضوء لكلّ صلاة كالمسلوس والمبطون ولم يتمكّن إلّا من وضوء واحد.

ثمّ إنّهم ذكر بعضهم من أمثلة ذلك : ما إذا نذر حال فقره صلاة ركعتين عند قبر الحسين عليه‌السلام يوم عرفة ثمّ استطاع للحجّ في تلك السنة ، فهل يتقدّم النذر لأسبقيّة زمانه كما ذهب إليه صاحب الجواهر قدس‌سره (١) وتبعه جملة ممّن تأخّر عنه حتّى من المعاصرين أيضا (٢) ويسقط الحجّ ؛ لعدم القدرة عليه ، أو يتقدّم الحجّ وليس داخلا تحت هذا الباب كلّية ولا من فروع هذه المسألة أصلا فنقول وبالله الاستعانة :

في مزاحمة الحجّ لنذر ركعتين عند الحسين عليه‌السلام :

قد ذكر الشيخ صاحب الجواهر قدس‌سره أنّ من نذر أن يصلّي ركعتين عند الحسين عليه‌السلام في كلّ يوم عرفة ثمّ استطاع للحجّ بوجدان الزاد والراحلة وتخلية السرب لا يجب عليه الحجّ ؛ لأنّه قد اشترط في وجوب الحجّ القدرة الشرعيّة ، فالملاك للحجّ بدون القدرة غير حاصل ، وليس له قدرة شرعيّة ؛ لسبق النذر زمانا على زمان تعلّق وجوب الحجّ.

وظاهر الميرزا النائيني (٣) وجملة ممّن تأخّر عن صاحب الجواهر (٤) المناقشة في تقدّم النذر مع تسليم كون المقام من صغريات ما نحن فيه من تقدّم أحد الواجبين على الآخر.

__________________

(١) حكي عنه هذا الرأي في أكثر من مصدر ولم نقف في الجواهر.

(٢) انظر العروة الوثقى في شرائط وجوب الحج الثالث : الاستطاعة ، مسألة : ٣٢ ، والمستمسك ١٠ : ١١٨ ـ ١٢٠ ذيل تلك المسألة.

(٣) انظر فوائد الاصول (١ و ٢) : ٣٣٠.

(٤) انظر الهوامش في العروة الوثقى في شرائط وجوب الحجّ ، ذيل المسألة ٣٢ ، وكتاب الحجّ للسيّد الخوئي ١ : ١٤٦ ـ ١٥٥.

٤٥٦

والظاهر أنّ المقام ليس من صغريات ما نحن فيه والحجّ هو المقدّم ، أمّا كونه ليس من صغريات المقام فلأنّه إنّما قدّمنا في مقام الترجيح ما كان الواجب فيه متقدّما لا ما كان الوجوب فيه أو سبب الوجوب مقدّما ، وفي مسألة الحجّ والنذر ليس المتقدّم إلّا الوجوب إن قلنا بالوجوب التعليقي ، أو سبب الوجوب إن لم نقل به ، وأمّا الواجبان فهما متقارنان ، بخلاف ما نحن فيه من القيام في صلاة الظهر والعصر والتيمّم لأحدهما والوضوء للآخر حيث يحتاج المكلّف إلى وضوءين ، فالحجّ والنذر ليس من صغريات المقام من تقديم ما كان زمانه أسبق.

وأمّا وجه تقديم الحجّ فلأنّ النذر وإن شارك الحجّ في اشتراطه بالقدرة الشرعيّة إلّا أنّ الوفاء بالنذر إنّما يجب إذا لم يك مقتضيا لتحريم الحلال وتحليل الحرام وإلّا فلا يتوجّه حينئذ الوجوب نحو الوفاء والوفاء ، في المقام في نفسه ومع قطع النظر عن توجّه الوجوب إليه موجب لتحليل الحرام وهو ترك الحجّ فإذا كان كذلك فلا يتوجّه وجوب الوفاء نحوه في تلك السنة ، وحينئذ فلا مزاحم لوجوب الحجّ وإلّا لجاز لكلّ أحد تفويت وجوب الحجّ بنذر صلاة ركعتين عند أهله ولا يلتزم بذلك أحد.

هذا مع إمكان أن يقال : إنّ القدرة في جانب النذر شرط من جميع الجهات ولكنّها في الحجّ ليست كذلك ، فإنّ استطاعة السبيل إلى الحجّ التي أخذت في موضوع وجوب الحج قد فسّرت في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام (١) بصحّة البدن والزاد والراحلة وتخلية السرب ، وحينئذ فهو غير مشروط بالقدرة المطلقة ، بل بقدرة خاصّة وهي حاصلة حتّى مع النذر ، بخلاف النذر فإنّ شرطه القدرة المطلقة حتّى أنّ الأمر بالحجّ يرفعها ؛ لعدم القدرة حينئذ شرعا.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٣ ، الباب ٨ من أبواب وجوب الحج ، الحديث ٤ و ٧ و ١٠.

٤٥٧

بقي الكلام في فرعين :

أحدهما جواز الإحرام قبل الميقات بالنذر و [ثانيهما](١) الصوم في السفر ، فإنّهما ليسا في أنفسهما راجحين فكيف ينعقد النذر بالنسبة إليهما؟ فهل يكونان مخصّصين لاعتبار رجحان المنذور أو أنّ الرجحان من قبل تعلّق النذر بهما كاف ، كما في الوعد فإنّ متعلّقه إذا لم يكن في نفسه راجحا إلّا أنّ تحقّق الوعد به يصيّره راجحا. فالإحرام قبل الميقات والصوم في السفر في نفسهما ليسا راجحين إلّا أنّ تعلّق النذر بهما يصيّرهما راجحين كما ذهب إلى ذلك السيّد الطباطبائي في عروته (٢) ، وقد أشكل عليه الميرزا النائيني (٣) بأنّ كلّ شيء وإن كان مرجوحا يجوز أن ينذر بناء على ذلك ؛ لأنّه بمجرّد نذره يكون راجحا ، ويكفي الرجحان من قبل النذر حسب الفرض فيكون حينئذ اشتراط الرجحان لغوا.

ولا يخفى أنّ ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره غير وارد ؛ لأنّ حرمة الكذب مثلا مطلقة بمقتضى الدليل المثبت لها فهو محرّم قبل تعلّق النذر به وبعد تعلّق النذر به فلا يكون تعلّق النذر به كاشفا عن رجحانه ، وهكذا غير الكذب من المحرّمات ، وهذا بخلاف الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر فإنّ إطلاق دليل تحريمهما قد قيّد بما إذا لم ينذر ، فإذا وقع متعلّقا للنذر لا يكون حينئذ محرّما ومرجوحا بمقتضى هذه الأخبار الخاصّة بها (٤). نعم لو ورد في غيرهما دليل يدلّ على رجحان محرّم آخر حيث يتعلّق به النذر لكان مقيّدا لإطلاق تحريمه أيضا إلّا أنّه ليس فليس. هذا كلّه حيث يكونان معا مشترطين بالقدرة الشرعيّة.

__________________

(١) زيادة اقتضاها السياق.

(٢) العروة الوثقى : كتاب الحجّ ، فصل في أحكام المواقيت ، المسألة ١.

(٣) انظر فوائد الاصول ١ و ٢ : ٣٣١ ـ ٣٣٢.

(٤) الوسائل ٨ : ٢٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب المواقيت.

٤٥٨

وأمّا القسم الثالث وهو ما لم يكن الملاك فيه مشروطا بالقدرة ، بل القدرة معتبرة فيه عقلا ، فتارة يكون أحدهما أهمّ ملاكا من الآخر أهميّة ملزمة وفي مثله لا بدّ من تقديمه على المهمّ ؛ لأنّه يكون من قبيل تزاحم المستحبّ والواجب ولا ريب في أنّ المهمّ لا يزاحم الأهمّ ، بل الشارع المقدّس لا يرفع اليد عن الأهمّ لأجل المهمّ فالعقل حينئذ يحكم بلزوم مراعاة الأهمّ ، من غير فرق بين أن يكون الأهمّ سابقا أو مقارنا أو لاحقا بحسب الزمان ، ولا فرق في اللاحق بحسب الزمان بين أن يكون وجوبه فعليّا وزمانه متأخّرا كما إذا قلنا بالوجوب المعلّق ، أو لم يكن فعليّا كالوجوب المشروط ؛ ضرورة أنّه يجب حفظ القدرة على الأهمّ في ظرفه ، مثلا إذا كان عنده مقدار من الماء لا يكفي إلّا ظمآن واحدا ودار الأمر بين أن يعطيه لزيد المؤمن فعلا لكنّه يعطش النبيّ بعد ساعة فيموت عطشا ، وبين أن يبقيه للنبيّ الذي يعطش بعد ساعة ، لا ريب في حكم العقل بلزوم حفظه وإن لم يكن وجوب فعلا لحفظ النبيّ ، لكنّه يحدث قطعا حسب الفرض وإن فات ملاك حفظ المؤمن إلّا أنّه بالعجز ، نعم لو عصى وقدّم الماء للمؤمن فهل أطاع أمره أم لا؟ كلام مبنيّ على الترتّب كما سيجيء.

وأمّا إذا كانا متساويين في الأهميّة (*) فلا ريب في كون الحكم هو التخيير بينهما ؛ لفرض وجدان كلّ منهما لملاكه وقدرة المكلّف على أحدهما قطعا فلا يفوت الشارع لكليهما ؛ إذ الضرورة تقدّر بقدرها ، إلّا أنّ الكلام في أنّ التخيير هنا شرعي أم عقلي :

ذهب جماعة (١) إلى كون التخيير شرعيّا بدعوى كون الخطاب بهما معا محال ؛ لقبح التكليف بما لا يطاق ، وبأحدهما معيّنا ترجيح من غير مرجّح فيسقط الخطابان ،

__________________

(*) المراد من كونهما متساويين عدم إحراز أهميّة أحدهما ، فلا ينافي احتمال الأهميّة لأحدهما بعينه كما سيأتي في ثمرات الميرزا. (الجواهري).

(١) منهم صاحب الحاشية في هداية المسترشدين ٢ : ٢٧١ ، والمحقّق الرشتي في بدائع الأفكار : ٣٦٧ ، على ما نسب إليهما في أجود التقريرات ٢ : ٤٥.

٤٥٩

وبما أنّ ملاكهما باق فيستكشف العقل خطابا شرعيا لأحدهما الذي هو الجامع بينهما ؛ لأنّ تفويت الملاكين مع القدرة على أحدهما قبيح على الشارع.

وذهب آخرون منهم الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى كون التخيير بينهما عقليّا بدعوى كون التزاحم بين إطلاقي الدليلين ، وأمّا تقيّد كلّ منهما بصورة ترك الآخر فلا تزاحم حينئذ بينهما ؛ إذ يكون كلّ منهما واجبا بشرط ترك الآخر ، وهو بشرط ترك الآخر مقدور ، فلا مقتضي لسقوط كلا الخطابين أصلا مع ارتفاع المحذور بسقوط إطلاقهما بما ذكرناه من التقييد.

ولا ريب أنّ الصناعة تقتضي الثاني فيكون المكلّف مخيّرا بين ترك هذا وفعل ذاك ـ لوجدان شرط وجوبه حينئذ ـ وبين العكس فالتخيير حينئذ عقلي بين فردي الواجب.

وقد ذكر الميرزا النائيني (٢) ثمرات للتفرقة بين التخييرين :

أحدها : أنّه على القول بالتخيير الشرعي لا يستحقّ تاركهما إلّا عقابا واحدا لترك الجامع المأمور به ، بخلافه على التخيير العقلي فإنّه إذا تركهما معا فقد وجد شرط وجوب كليهما فيستحقّ عقابين ، نعم لو اشتغل ـ عند ترك أحدهما ـ بفعل الآخر كان معذورا عن الآخر بالعجز عنه ، إلّا أنّه في ظرف عدم الاشتغال ليس له عذر.

وما يقال : من لزوم الأمر بالضدّين حينئذ ؛ لأنّه بترك الأوّل لم يسقط أمره فكيف يؤمر بالثاني؟ مدفوع بأنّ مآل ما ذكرنا إلى النهي عن الجمع بين التركين وهو أمر مقدور يمكن توجّه النهي نحوه ؛ لأنّه عند ترك أحدهما قادر على ترك الآخر وفعله معا فيتوجّه النهي عن تركه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦.

(٢) انظر المصدر المتقدّم.

٤٦٠