غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

نعم ، قد يقال بالحرمة لهذه المقدّمة من باب حرمة الإعانة على الإثم بناء على عموم ملاكها لإعانة الإنسان نفسه.

والجواب : أنّا لم نجد دليلا يدلّ على حرمة الإعانة على الإثم والآية المباركة (١) إنّما حرّمت التعاون ، وهو أن يصدر العمل العدواني المحرّم من الجميع لا مثل إعطائه السكين مثلا الذي هو محل الكلام.

وثانيا : أنّ الفقهاء لا يلتزمون بذلك ؛ ولذا لا يلتزمون إلّا بعقاب واحد لفاعل المحرّم وإن كان لذلك المحرّم عشرون مقدّمة.

وثالثا : أنّ عموم ملاكه لإعانة الإنسان نفسه غير ثابتة بل عدمها ثابت ، نعم يعاقب على مثل هذه المقدّمة من جهة التجرّي وهتك حرمة المولى ، فافهم.

هذا تمام الكلام في مبحث المقدّمة ويليه مبحث الضدّ.

__________________

(١) وهي : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) المائدة : ٢.

٤٢١
٤٢٢

مبحث الضدّ

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العامّ بمعنى الترك أو بمعنى أحد الأضداد الوجوديّة لا على التعيين أو عن الضدّ الخاصّ أو لا يقتضي؟ وعلى تقدير الاقتضاء فهل يقتضيه بنحو العينيّة أو الجزئيّة أو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ؟ وجوه بل أقوال.

وقبل التكلّم في ذلك (ينبغي أن يعلم أنّ المراد من الأمر بالشيء محبوبيّته ومن النهي عن ضدّه مبغوضيّته ، كانت بالأمر أو النهي أو بغيرهما من الأدلّة العقليّة أو اللبيّة.

كما أنّ المسألة اصوليّة ؛ إذ الميزان في كون المسألة اصوليّة ترتّب استنباط حكم شرعي عليها مستقلّة ، وهي وإن كان لو قلنا بالاقتضاء لا يترتّب عليها ثمرة إلّا بضميمة : أنّ النهي هل يقتضي الفساد أم لا ، إلّا أنّا إذا قلنا بعدم الاقتضاء يستنبط بقاء الضدّ على حكمه قبل كونه ضدّا. وحينئذ فالمسألة اصوليّة لتحقّق الميزان المزبور على أحد شقّيها وهو كاف كما مرّ) (١).

ثمّ لا يخفى أنّ المراد من الضدّ ليس الضدّ الاصطلاحي المختصّ بأحد الامور الوجوديّة المعاند لوجوديّ آخر ، بل المراد مطلق معاند الشيء ومزاحمه في نفسه وجوديّا كان أم عدميّا. ويقع الكلام أوّلا في الضدّ العامّ بمعنى الترك ثمّ في غيره.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤٢٣

فنقول : ذهب جماعة (١) إلى أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العامّ بمعنى الترك مطابقة وآخرون (٢) إلى أنّه يقتضيه بالتضمّن وآخرون (٣) إلى الالتزام البيّن بالمعنى الأخصّ وآخرون (٤) إلى البيّن بالمعنى الأعمّ.

ونحن نقول بأنّ المولى إذا أمر بشيء كالصلاة مثلا فالنهي عن ضدّه بمعنى الترك فالنهي عن تركه ، وإذا كان معنى النهي طلب الترك ومتعلّقه الترك فيكون معنى النهي عن ضدّه طلب ترك تركه ، ومعلوم أنّ الوجود والعدم امور موجودة في دائرة التحقّق قطعا ، فزيد الآن موجود قطعا وقبل ألف عامّ معدوم قطعا ، فالوجود والعدم امور متحقّقة في دائرة التحقّق وكلّ عنوان عداهما من العناوين الانتزاعيّة عنها. وحينئذ فطلب ترك الترك هو نفس الوجوب ، وإذا اضيف إليه لفظ ترك آخر كان عنوانا منطبقا على التحريم وإذا اضيف إليه لفظ ترك آخر كان وجوبا وهكذا ، وحينئذ فإذا كان طلب ترك الترك معناه هو الأمر بالشيء فهل يعقل البحث عن أنّ الأمر بالشيء يقتضي الأمر بالشيء أم لا يقتضي؟ وهل ينبغي أن يجعل هذا محلّا للبحث؟ كلّا ثمّ كلّا ، فالبحث عنه ساقط.

نعم ، لو كان معنى النهي عن الضدّ الزجر عن الضدّ ـ كما هو الحقّ ـ لا طلب الترك كما ادّعاه الآخوند (٥) كان البحث عن الاقتضاء وعدمه متّجها ؛ إذ حينئذ يمكن أن يقال إنّ البعث للشيء يقتضي الزجر عن تركه أم لا ، إلّا أنّ دعوى العينيّة حينئذ ساقطة كدعوى الجزئيّة ؛ ضرورة أنّ البعث والزجر من الصفات المتقابلة فكيف يدّعى اتّحادهما أو جزئيّة أحدهما للآخر وهو واضح؟

__________________

(١) منهم المحقّق الأصفهاني في الفصول : ٩٢.

(٢) منهم صاحب المعالم في المعالم : ٦٣ ـ ٦٤.

(٣) منهم المحقّق النائيني كما في أجود التقريرات ٢ : ٧ و ١٠.

(٤) مثل المحقّق القمي في القوانين ١ : ١١٣.

(٥) كفاية الاصول : ١٨٢.

٤٢٤

نعم ، ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ بالملازمة وادّعى أنّ النهي من قبيل اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ ، بحيث لا ينفكّ تصور الأمر بالشيء عن النهي عن ضدّه العامّ بمعنى الترك وهو غريب منه قدس‌سره ؛ إذ قد لا يتصوّر الآمر بالشيء ضدّه بمعنى تركه كي ينهى عنه ، بل هو قدس‌سره اعترف بذلك في إنكار العينيّة.

وذهب جماعة إلى اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ بمعنى أنّه إذا تصوّر الأمر بالشيء وتصوّر النهي عن ضدّه وتصوّر الملازمة بينهما يجزم بالملازمة. بل ادّعى بعضهم الإجماع على النهي عن الضدّ العامّ بمعنى الترك بأحد هذه الوجوه على سبيل منع الخلوّ ، ولكن دقيق النظر يقتضي خلافه ، وذلك أنّ الأمر بالشيء لا يكون إلّا عن مصلحة فيه ، والنهي عنه لا يكون إلّا عن مفسدة فيه ، وحينئذ فالواجب هو ما كان في فعله المصلحة وليس في تركه مفسدة ، والحرام ما كان في فعله مفسدة وليس في تركه مصلحة ، وحينئذ فإذا أمر بشيء كشف عن مصلحة في متعلّق أمره فبأيّ ملاك ينهى عن تركه؟ وليس في الترك مفسدة قطعا ، ولهذا لا يعاقب التارك لذلك الواجب عقابين. أحدهما لتفويت المصلحة ، والآخر للوقوع في المفسدة ، بل ليس عليه إلّا عقاب واحد. وكذا لو امتثل فليس له إلّا ثواب واحد لا ثوابان : أحدهما لاستيفاء المصلحة ، والآخر لعدم الوقوع في المفسدة. وبالجملة فهذا واضح لمن تأمّل.

وحينئذ فلا يقتضي الأمر بالشيء النهي عن الضدّ العامّ بمعنى الترك كلّية ، بل سيأتي أنّ تحريم الضدّ بهذا المعنى ـ أي بمعنى الترك ـ محال ؛ لأدائه إلى اللغويّة ، مضافا إلى عدم التزامهم بأنّ تارك الواجب مستحقّ لعقابين ، نعم لو اريد من النهي عن الترك أنّ الأمر به كما يكون إيجابا له حقيقة يكون تحريما لتركه مجازا كان صحيحا ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧.

٤٢٥

ومن ثمّ يقال للإنسان مثلا : لا تترك الصلاة ، وليس المراد به تحريم الترك بل المراد به الأمر بالفعل وإنّما يعبّر بهذا اللفظ تجوّزا.

في الضدّ الخاصّ :

إذا أمر المولى بإزالة النجاسة من المسجد مثلا فهل يقتضي هذا الأمر المنع عن كلّ أمر يضادّه في الوجود أم لا؟

أمّا دعوى العينيّة والجزئيّة فالظاهر أنّه لم يدّعهما أحد من القائلين بالاقتضاء ، نعم ادّعى جماعة الاقتضاء من جهة الدلالة الالتزاميّة ، وقد ادّعوا أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ التزاما لوجهين :

أحدهما : أنّ فعل المأمور به ملازم لترك ضدّه والمتلازمان يستحيل اختلافهما في الحكم.

وقد فصّل الميرزا النائيني قدس‌سره (١) فقبل ما ذكر في الضدّين اللذين لا ثالث لهما كما في الحركة والسكون ، بناء على أنّ السكون أمر وجودي لا أنّه منتزع من عدم الحركة.

والجواب عن دليل المشهور : أنّ المتلازمين يستحيل أن يختلفا في الحكم ، فلا يمكن أن يكون استقبال القبلة واجبا واستدبار الجدي حراما في العراق مثلا ، بل ولا مرخّصا في تركه ترخيصا فعليا ، إلّا أنّ اتّفاقهما في الحكم ليس بلازم بل يجوز أن يكون أحدهما واجبا والآخر غير محكوم بحكم أصلا ، بل جعل الحكم على طبق حكم الملازم لغو ؛ لعدم الحاجة إليه.

ولو تمّ ما ذكر من لزوم الاتّفاق في الحكم للزم أيضا في الملازم للشيء من طرف واحد ، كما في حركة الجسم مع القيام ، فإنّ القيام يلزمه حركة الجسم ولكن

__________________

(١) فوائد الاصول ١ و ٢ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

٤٢٦

حركة الجسم لا يلزمها القيام ، فيلزم أن تكون حركة الجسم واجبة بوجوب القيام مثلا فلا يختص الكلام في الضدّين اللذين لا ثالث لهما.

ومن هنا يعلم أنّ هذا الكلام وهو عدم اختلاف المتلازمين في الحكم كالوجه الثاني الآتي من كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه مبنيّان على كون النهي بمعنى طلب الترك ليتّحد سنخ الطلب للضدّ ولترك ضدّه ، لا بمعنى الزجر كما هو الحقّ وحقّقناه فيما تقدّم ، فافهم.

بقي الكلام في أمرين :

أحدهما : التفصيل الذي ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره وهو التفصيل بين الضدّين اللذين لهما ثالث ، فالأمر بأحدهما لا يقتضي النهي عن الضدّ الآخر ، وبين الضدّين اللذين ليس لهما ثالث كالحركة والسكون ، زاعما أنّ ملاك النقيضين سار إليهما ؛ فإنّه قدس‌سره حيث اختار كون الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العامّ ـ وهو الترك ـ باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، فزعم أنّ ملاك الاقتضاء في الضدّ العامّ سار إلى الضدّ الخاصّ حيث لا يكون لهما ثالث ، غير أنّه ادّعى أنّ الاقتضاء باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ وأنّه أخفى من الاقتضاء في الضدّ العامّ.

ولا يخفى أنّه إن تمّ لزوم اتّفاق المتلازمين في الحكم فلا فرق في ذلك بين الضدّين اللذين ليس لهما ثالث واللذين لهما ثالث ؛ فإنّ المناط للاتّفاق في الحكم إنّما هو ملازمة الضدّ الواجب لعدم الآخر ، لا ملازمة عدم الآخر لوجود ذلك الضدّ الواجب ، مثلا إذا كان القيام ملازما لحركة الجسم فملازمة القيام لحركة الجسم هي المقتضية لأن يكون حكم القيام وحركة الجسم واحدا ، ولا يضرّ عدم ملازمة حركة الجسم للقيام لتحقّقها حال الجلوس أيضا ، فالتلازم من طرف وجود الواجب وعدم الضدّ الآخر هو المناط في اتّحاد الحكم ، ولا يضرّ كون اللازم أعمّ بل ولا يعتبر كونه مساويا ، فالتفصيل لا وجه له ، وقد عرفت أنّ المتلازمين لا يجوز اختلافهما في الحكم أمّا اتّفاقهما فلا يلزم ، فالحقّ عدم الاقتضاء.

٤٢٧

ثانيهما : أنّه قد يقال بأنّ الضدّين في المقام دائما ليس لهما ثالث باعتبار أنّ الضدّ للواجب هو عنوان أحد الأضداد الوجوديّة الأخر ، وهما حينئذ ليس لهما ثالث ، باعتبار أنّ الخارج لا يخلو منه أو من أحد الأضداد الوجوديّة الأخر.

وهذا الكلام فاسد من أصله ؛ إذ التضادّ إنّما هو بين نفس الصلاة ونفس الأكل والشرب والنوم والإزالة وغيرها ، لا بين الصلاة وأحد الأضداد الوجوديّة الأخر ، الذي هو عنوان انتزاعي من مجموع الأضداد ، وإن سلّمنا أنّ السواد بمراتبه ضدّ للبياض ، وأنّ جامع السواد هو الضدّ ولكنّه جامع حقيقي ، بخلاف أحد هذه الامور.

هذا ، مضافا إلى أنّه لو كان جميع الأضداد من قبيل ما لا ثالث له فقد ذكرنا عدم الاقتضاء حتّى في النقيض كما تقدّم في الضدّ العام بمعنى الترك ، فلا اقتضاء للأمر بالشيء للنهي عن النقيض فضلا عن الضدّ.

بقي الكلام في بقيّة أقسام التقابل وهو تقابل المثلين وتقابل العدم والملكة :

أمّا تقابل المثلين فهو داخل في تقابل الضدّين ؛ إذ قد ذكرنا أنّ المراد بالضدّ مطلق المعاند والمنافر في الوجود ، ولا ريب أنّ المثل كذلك وكثيرا ما يعبّر الفقهاء عن المثلين بالضدّين في الكتب الفقهيّة بهذا اللحاظ.

وأمّا تقابل العدم والملكة فداخل في النقيضين ؛ إذ العدم والملكة هما عبارة عن الوجود والعدم مع اشتراط قابليّة المحلّ على ما مضى من القابليّة وتفسيرها ولو بالقابلية الجنسيّة كما مرّ.

هذا تمام الكلام في بيان عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ الخاصّ من جهة الملازمة.

وأمّا بيان عدم الاقتضاء من جهة المقدّمية فالاقتضاء مبنيّ على مقدّمتين :

الاولى : أنّ وجود الضد مانع عن الضدّ الآخر.

والثانية : أنّ عدم المانع من المقدّمات ، فإن تمّت هاتان المقدّمتان وثبت أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، فيجب عدم المانع فيحرم الضدّ.

٤٢٨

أمّا المقدّمة الثانية وهي أنّ عدم المانع من المقدّمات فلا ريب فيها ؛ إذ إنّ المقتضي والشرط وعدم المانع أجزاء للعلّة ، والمعلول إنّما يتحقّق بعد تمام علّته. وإنّما الكلام في المقدّمة الاولى يعني في الصغرى ، فنقول : هل وجود أحد الضدّين مانع من وجود الآخر وعدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر أم لا؟ فنقول : الأقوال في المقام خمسة :

الأوّل : منع المقدّميّة من الطرفين ، فلا عدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر ولا وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر (١).

الثاني : القول بالمقدّمية من الطرفين ، وهو ظاهر كلام الحاجبي والعضدي (٢) ، حيث منعا اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ الخاصّ بإنكار وجوب المقدّمة ، فيظهر منهما الاعتراف بأنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة ، إلّا أنّ المقدّمة ليست بواجبة ، وردّا شبهة الكعبي (٣) ـ القائل بعدم المباح بدعوى أنّ ترك المحرّم موقوف على فعل أحد الأضداد الوجوديّة ـ أيضا بعدم وجوب المقدّمة. فيظهر منهما تسليم المقدّميّة أيضا. ولا يخفى أنّ تسليم المقدّميّة في المقامين دور ظاهر.

القول الثالث : أنّ العدم موقوف على وجود الضدّ ولكن وجود الضدّ ليس موقوفا على عدم ضدّه (٤).

__________________

(١) هذا هو مختار النائيني ، انظر فوائد الاصول ١ و ٢ : ٣٠٦.

(٢) انظر شرح مختصر الاصول : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٣) انظر المصدر المتقدّم ، وهداية المسترشدين ٢ : ٢٨٣ ، ونهاية الوصول : ٩٩.

(٤) نسب هذا إلى المحقّق القمي في القوانين ١ : ١٠٨ ، والسبزواري في ضمن الرسائل : ٦٠ ـ ٦١ وغيرهما. انظر فوائد الاصول ١ : ٣٠٦.

٤٢٩

الرابع : أنّ وجود أحد الضدّين موقوف على عدم ضدّه ولكنّ العدم ليس موقوفا على وجود ضدّه بل [على عدم](١) العلّة (٢).

الخامس : توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الضدّ الموجود لا مطلق الضدّ وهذا القول منسوب إلى المحقّق الخونساري (٣).

ولا ريب أنّ أصحّ الأقوال أوّلها وهو نفي المقدّميّة من كلا الطرفين.

وقد ذكر في منع المقدّميّة وجوه :

أحدها : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٤) وملخّصه : أنّ بين أحد الضدّين والضدّ الآخر كمال المنافرة ، ولكن بين الضدّ وما هو نقيض الآخر كمال الملاءمة ، فلا يكون عدم الضدّ مقدّمة لوجود ضدّه.

وهذا الكلام لم نعرف له معنى محصّلا ؛ إذ إنّه إن أراد بكمال الملاءمة المذكورة كمال الملاءمة في الخارج فكلّ معلول مع أجزاء علّته ملتئم وليس بينهما منافرة. وإن أراد كمال الملاءمة في الرتبة فهو أوّل الكلام. وبالجملة فكمال الملاءمة خارجا لا يضرّ بكون وجود الضدّ مانعا ؛ إذ عدم المانع ملائم لوجود المعلول في الخارج وكذا بقيّة أجزاء العلّة ، وكمال الملاءمة رتبة إن تمّ فهو كاف في منع المقدّميّة إلّا أنّه أوّل الكلام.

ثانيها : ما ذكره في الكفاية أيضا (٥) وهو : أنّ بين النقيضين اتّحادا في الرتبة ، فبين وجود الشيء وعدم نفسه اتّحاد في الرتبة ، وبما أنّ استحالة اجتماع الضدّين تؤول إلى

__________________

(١) في الأصل : لعدم.

(٢) نسب إلى الجمهور كما في الضوابط : ٩٧ ، وإلى الأكثر كما في المطارح ١ : ٤٩٩ ، وعليه يبتني شبهة الكعبي من نفي المباح كما في الفوائد ١ : ٣٠٦.

(٣) انظر الرسائل للمحقّق الخونساري : ١٥٠ ـ ١٥١ ، والمطارح ١ : ٤٩٩ و ٥٠٩.

(٤) كفاية الاصول : ١٦١.

(٥) كفاية الأصول : ١٦٣.

٤٣٠

استحالة وجود المتناقضين ، فالضدّ لذلك الشيء أيضا في رتبته ؛ لأنّه ضدّه ، وإذا كان في رتبته فهو في رتبة عدمه ؛ إذ المفروض اتّحاد رتبة وجوده وعدمه ، فما كان في رتبة أحدهما فهو في رتبة الآخر بقياس المساواة ؛ إذ قد فرض تساوي وجود الشيء وعدمه في الرتبة ، فما يكون مساويا لأحدهما يكون مساويا للآخر ، وقد فرضنا أنّ ضدّ ذلك الشيء مساو له في الرتبة ؛ لأنّه ضدّه ، والضدّان متساويان في الرتبة ، كما إذا كان زيد مساويا لعمرو ، وعمرو مساو لبكر فزيد مساو لبكر أيضا بقياس المساواة الذي هو من الاصول الموضوعيّة في علم الهندسة (*).

والجواب كما أفاده بعض المحقّقين (١) وهو : أنّ المساواة بحسب الرتبة وبحسب الطبع لا يلزم فيهما ذلك ، نعم إنّما يكون مساوي المساوي مساويا والمتقدّم على المساوي متقدّما على مساويه والمتأخّر عن المساوي متأخّرا عن مساويه بحسب الزمان ، وأمّا بحسب الرتبة والطبع فلا ؛ إذ التأخّر بحسب الرتبة تابع لملاكه وهو الترشّح ، مثلا المعلول متأخّر عن علّته رتبة فلا يلزم أن يكون نفس المعلول متأخّرا عن عدم علّته رتبة ؛ إذ لا يترشّح المعلول عن عدم علّته ، كما لا يكون عدم المعلول في رتبة وجود علّة المعلول ؛ لأنّ عدم المعلول لا يترشّح من وجود علّة تحقّق المعلول ، مع أنّ قياس المساواة وارد في الجميع ، وكذا التقدّم الطبعي ؛ فإنّ تقدّم الواحد على الاثنين في الرتبة لا يقتضي تقدّم الواحد على عدم الاثنين فيها ؛ إذ هو مناطه التقدّم بحسب الوجود ، وليس الواحد متقدّما وجودا على عدم الاثنين ، نعم هو متقدّم على الاثنين.

__________________

(*) قد ارتضى في الدورة اللاحقة هذا الوجه الذي ذكره في الكفاية وزعم أنّ ما ذكر في الجواب لا يرد عليه ؛ لأنّ مراد صاحب الكفاية أنّ وجود الضدّ في كلّ رتبة عدم ضدّه في رتبته فلا يكون مقدّمة له.

(١) لم نعثر عليه.

٤٣١

الثالث من الوجوه : أنّ المتناقضين لا ريب في عدم كون أحدهما مانعا عن الآخر ، كما لا يكون عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر ، فالمتضادّان فرع المتناقضين فكيف يكون وجود أحدهما مانعا عن الآخر مع عدم المانعيّة في الأقوى؟

ولا يخفى ما فيه ؛ فإنّ عدم المانعيّة إن كانت من جهة المضادّة والمعاندة تمّ عدم الفرق بين الضدّين والنقيضين ، وإن كان من جهة أنّ المقدّمية تقتضي الاثنينيّة وهو مفقود في النقيضين ؛ فإنّ عدم الوجود إذا كان مقدّمة للعدم فهو يقتضي كونه غيره والمفروض أنّه هو ، فكيف يعقل المقدّميّة وكون أحدهما مانعا عن الآخر؟ وهذا بخلاف المتضادّين فإنّ عدم البياض غير السواد فيجوز أن يقال فيه بالمقدّميّة. وبالجملة فعدم المقدّميّة في المتناقضين لا يلزم منه عدم المقدّميّة في المتضادّين.

الوجه الرابع : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وهو موقوف على مقدّمة هي : أنّ العلّة التامّة تختلف أجزاؤها. فمنها : ما يسمّى بالمقتضي ، وهو ما يترشّح منه الأثر كوجود النار بالإضافة إلى الإحراق ؛ إذ الإحراق مترشّح من النار.

ومنها : ما يسمّى بالشرط ، وهو ما يكون له مدخليّة في فعليّة الأثر ، كقابليّة المحلّ في الاحتراق وكالمماسّة أيضا ، فإنّ فعليّة الأثر مستندة إليهما.

ومنها : ما يسمّى بعدم المانع ، وهو ما يكون رافعا للمزاحم كالرطوبة ، فعدم الرطوبة لا بدّ منه في تأثير النار في إحراقها ، لا بمعنى أنّ العدم مؤثّر بل بمعنى رفعه لمزاحم التأثير.

فالوجود لا بدّ فيه من وجود هذه الامور الثلاثة حتّى يتحقّق بتحقّق علّته ، إلّا أنّ العدم لا بدّ فيه من ارتفاع أحد هذه الامور الثلاثة ، إلّا أنّه إذا كان الارتفاع لعدم المقتضي ، كأن لم يوجد الإحراق لعدم النار لا يقال : إنّ الإحراق لم يتحقّق لعدم المماسّة أو للمزاحم وهو الرطوبة ، بل يهزأ ممّن يقول ذلك ، وكذا إذا لم يتحقّق

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، وأجود التقريرات ٢ : ١١ ـ ١٢.

٤٣٢

الإحراق لعدم المماسّة لا يقال : لم يتحقّق الإحراق لوجود الرطوبة ، بل إنّما يكون الشرط شرطا بعد تحقّق المقتضي ، وإنّما يكون المانع مانعا بعد تحقّق الشرط ؛ إذ حينئذ يكون متّصفا بالمزاحم في التأثير ، وحينئذ فالشرط غير عدم المانع بل المانع إنّما يكون مانعا بعد فرض وجود الشرط.

ومن هنا منع قدس‌سره من أن يكون الوجود شرطا والعدم مانعا ومنع من كون أحد المتناقضين شرطا والآخر مانعا ؛ إذ مانعيّة الثاني إنّما يكون بعد وجود الشرط والمفروض أنّ وجود الشرط لا يمكن مع تحقّق المانع ؛ لتناقضهما.

ثمّ إنّه بعد هذه المقدّمة ذكر أنّ وجود أحد الضدّين لا بدّ أن يكون بعد حدوث علّته التامّة ، فالمقتضي للبياض مثلا والشرط له وعدم المانع كلّه متحقّق ، وحينئذ فعدم السواد إن لم يوجد مقتضيه فليس عدمه مستندا إلى المانع ، وإن وجد مقتضيه فكيف يعقل تحقّق مقتضيه مع أنّه يلزم تحقّق مقتضى المتناقضين؟ والمتناقضان في جميع المراتب يستحيل اجتماعهما ؛ إذ لو وجد المقتضي للسواد لاستند عدمه إلى وجود المانع ، وحينئذ فيكون الممتنع بالذات ممتنعا بالغير وهو محال.

ثمّ إنّه لو وجد المقتضي ولكنّه استند العدم إلى عدم الشرط فكذلك لم يستند لعدم المانع ؛ إذ إنّما يكون مانعا بعد وجود الشرط ، فهو قبل وجود الشرط ليس بمانع أصلا فليس عدمه من المقدّمات.

والجواب : أنّ مقتضى المحال محال كما قرّر لكنّه بمعنى تحقّق مقتض واحد للضدّين معا ، وهذا ممّا لا ريب في استحالته ، ولكن محلّ الكلام أن ينظر إلى مقتضى الشيء من حيث هو لا من حيث اجتماعه مع ضدّه ، وحينئذ لا مانع من تحقّق كلا المقتضيين في المقام. مثلا إذا كان هنا إناء ذو عروتين فأمسك زيد إحدى العروتين جاذبا له إلى جهة الشرق ، وأمسك عمرو عروته الاخرى جاذبا له إلى جهة الغرب فلا ريب حينئذ في تحقّق كلا المقتضيين ، وحينئذ فإن تكافأت القوّتان للجاذبين يبقى في مكانه ولا ينجذب إلى إحدى الجهتين أصلا ، فالمقتضى لكلا الضدّين لا مانع من تحقّقه ويكون حينئذ وجود أحدهما مانعا عن تحقّق الآخر.

٤٣٣

الوجه الخامس : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره أيضا (١) وهذا الوجه هو الوجه الصحيح وعليه نعتمد في منع كون الضدّ مانعا لوجود ضدّه.

وملخّصه : أنّ الضدّ الموجود لا بدّ من تحقّق علّته بتمام أجزائها ، فالمقتضي موجود والشرط أيضا موجود ولا مانع له ، فالضدّ الثاني إن لم يكن له مقتض فهو معدوم لعدم المقتضي ، وإن كان له مقتض فإن كان مساويا لمقتضي الضدّ الأوّل فلازمه التمانع وعدم تحقّق أحدهما في الوجود ، والمفروض تحقّق الأوّل ، فلابدّ من كون مقتضيه أقوى ، وحينئذ فوجود المقتضي الأقوى هو المانع من تحقّقه في الخارج ، فالمزاحم هو المقتضي للضدّ لا نفس الضدّ ، فلا تمانع بين نفس الضدّين ليكون أحدهما مانعا عن وجود الآخر ، بل التمانع دائما بين المقتضيين أنفسهما لا المقتضيين ، وحينئذ فلا مانعيّة بالنسبة إلى نفس وجود الضدّ فليس عدمه من المقدّمات. وهذا الوجه عند التأمل هو الذي ينبغي أن يعوّل عليه في منع مانعيّة الضدّ فتأمّل.

وممّا يؤيّد ذلك وأنّه لا مقدّميّة أنّه لو كان وجود أحد الضدّين موقوفا على عدم الضدّ الآخر لكان من جهة مانعيّة الضدّ ، وحينئذ فيكون عدم الضدّ موقوفا على وجود الضدّ الآخر ؛ ضرورة تحقّق المانعيّة من الطرفين ، وهذا هو الدور الصريح.

بيان ذلك : أنّ البياض إذا كان موقوفا على عدم السواد ـ لفرض وجود مقتضيه وشرطه ـ فعدم السواد أيضا موقوف على تحقّق البياض ، وهذا هو الدور الصريح ؛ إذ فرض عدم الضدّ في مرتبة العلّة ينافي فرضه في مرتبة المعلول.

فلو ذهب الذاهب إلى أنّ العدم غير موقوف على وجود الضدّ فليس هو إلّا لأنّ الضدّ ليس بمانع وهو يرفع المقدّمية من أصلها.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٤.

٤٣٤

بقي الكلام فيما ذهب إليه المحقّق الخوانساري (١) ومال إليه الشيخ الأنصاري على ما في التقريرات (٢) وهو التفصيل بين الضدّ الموجود فيتوقّف ضدّه على رفعه وبين الضدّ المعدوم فلا يتوقّف ، بتقريب أنّ الضدّين إن لم يتحقّق منهما شيء في الخارج ، فقابليّة الخارج للاتّصاف بكلّ منهما متحقّقة بالفعل ، وحينئذ فمع تحقّق المقتضي لأحدهما فقط يوجد ، ومع تحقّق المقتضي لكلّ منهما فلا بدّ من خلوّ صفحة الوجود عنهما معا لو تساوى المقتضيان ، ومع غلبة أحدهما لا بدّ من تحقّق مقتضاه دون المغلوب ، وأمّا إذا كان الضدّ موجودا في صفحة الوجود ، كأن اتّصف الجسم بالبياض فالجسم المتّصف بالبياض لا قابلية له للاتّصاف بالسواد أصلا ، فلا بدّ من عدمه أوّلا ليتّصف الجسم بالسواد ، فعدمه من المقدّمات لتحقّق القابلية. وهذا بخلاف ما لو لم يكن أحدهما موجودا فقابليّة الجسم حينئذ حاصلة بالفعل بلا توقّف على شيء.

أقول : لو بني على أنّ الموجود لا يحتاج في بقائه إلى علّة بل إنّه إذا وجد المعدوم استمرّ بلا حاجة إلى مؤثّر كان لهذا الكلام وجه ، إلّا أنّ هذا الأمر غير تامّ ؛ فإنّ مناط الاحتياج إلى المؤثّر مشترك بين تمام الممكنات ، ولا ريب أنّ بقاء البياض في الجسم محتاج إلى مؤثّر وعلّة ، وحينئذ فمقتضى البقاء للبياض يجتمع مع مقتضي السواد ، فإن تساويا فلا يتّصف الجسم بأحدهما بقاء ، ومع غلبة أحدهما يتوقّف وجوده على رفع ضدّه كغير المتّصف بأحدهما. وبالجملة فلا فرق بين أن يكون المحلّ مشغولا بأحد الضدّين أو لا في أنّه إن كان توقّف في البين فلا فرق في المقامين ، وإن لم يكن توقّف في البين فلا فرق [أيضا] بين المقامين.

__________________

(١) نسب إليه في مطارح الأنظار ١ : ٥٠٩.

(٢) انظر المصدر المتقدّم.

٤٣٥

ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّ الحادث هل يحتاج في بقائه إلى علّة أم لا ، الظاهر أنّه بعد أن كان البقاء ممكنا فلا بدّ من حاجته إلى علّة ومؤثّر.

وما يقال : من أنّ الحجر إذا القي في مكان يبقى ولا يزول فليس إلّا لأنّ علّة الحدوث لا يحتاج معها إلى علّة البقاء.

مدفوع : بأنّ عدم زوال الحجر لكون العلّة وهي جاذبيّة الأرض له مقارنة ، ومع مقارنة العلّة يستمرّ المعلول قطعا. ونظير ذلك ما لو لصق مسمار بالمغناطيس فإنّه يبقى ملتصقا ؛ لأنّ الجاذبية فيه مقارنة لبقائه فيستمرّ المعلول لاستمرار علّته وهو واضح.

ثمّ لو سلّمنا أنّ الباقي غير محتاج في بقائه إلى مؤثّر فهو في الامور التكوينيّة كما في المثال المذكور ، أمّا الامور الاختياريّة فمعلوم دورانه مدار تحقّق الإرادة والاختيار ؛ إذ لا معنى لكون الأمر الاختياري باقيا بغير اختيار ، وحينئذ فالإزالة في المقام مع أجزاء الصلاة التي هي فعل اختياري من قراءة وركوع وسجود إن تحقّق المقتضي لكلّ من الإزالة والقراءة لا يتحقّق أحدهما ، وإن وجد المقتضي لأحد الأمرين فعدم الثاني لعدم مقتضيه لا لوجود المانع فافهم ، وتأمّل فإنّ المقام من مزالّ الأقدام.

الكلام في شبهة الكعبي :

وذلك أنّه أنكر غير الحكمين الإلزاميّين من الوجوب والتحريم بدعوى أنّه يجب ترك الحرام ، وترك الحرام موقوف على الاشتغال ببعض الأفعال الوجودية ؛ لاستحالة خلوّ المكلّف من كلّ فعل.

والجواب : أنّا ذكرنا أنّ ترك شيء لا يتوقّف على فعل ضدّه كالعكس ، بل إنّ ترك الشيء إنّما يكون لعدم مقتضيه ، نعم لو علم أنّه لو ترك أحد الأعمال لا بدّ أن يقع في الحرام فالعقل يدرك أنّه لا بدّ له أنّ يشتغل بأحد الأعمال لئلّا يقع في الحرام فيستحقّ العقاب ، وحكم العقل هنا ليس من باب المقدّميّة وإنّما هو فرارا عن محذور الحرام ، فافهم.

٤٣٦

الكلام في ثمرة بحث الضدّ :

قد ذكروا ثمرتين لبحث الضدّ :

الاولى : ما إذا كان هناك واجبان مضيّقان ، كما إذا كان في آخر وقت الظهرين وآخر وقت كسوف الشمس بحيث كان الوقت لا يسع إلّا لأحدهما ، وكان أحدهما أهمّ كاليوميّة على ما دلّت عليه الأخبار ، فلو ترك اليوميّة واشتغل بصلاة الكسوف فإن قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه تقع صلاة الكسوف فاسدة ؛ لأنّ النهي عن العبادة مقتض لفسادها ، وإن لم نقل بالاقتضاء كان العمل صحيحا لفقد النهي حينئذ.

وعن البهائي قدس‌سره (١) أنّه أنكر الثمرة ، فإنّه ادّعى فساد العبادة على كلّ حال. أمّا على القول بالاقتضاء فظاهر. وأمّا على القول بعدم الاقتضاء فالصلاة التي هي الكسوف باطلة ؛ لعدم الأمر بها ؛ إذ لا يعقل الأمر بالضدّين معا ، فصلاة الكسوف باطلة إمّا للنهي وإمّا لعدم الأمر.

وقد اشكل على البهائي ـ كما في الكفاية (٢) ـ بكفاية الملاك في صحّة العمل ، فلا يتوقّف على الأمر ، ومن ثمّ منع بعضهم (٣) هذه الثمرة كلّية وهو الصحيح ؛ إذ لو اكتفينا بالملاك وأحرزناه فالعمل صحيح حتّى على القول بالاقتضاء ؛ لأنّ النهي في المقام تبعي ، إمّا من جهة المقدّميّة أو من جهة الملازمة ، والنهي التبعي لا يقتضي الفساد ؛ لعدم كشفه عن مبغوضيّة نفس العمل. وإن لم نكتف بالملاك واعتبرنا الأمر في صحّة العبادة أو لم نحرز الملاك وإن قلنا بكفايته فالصلاة للكسوف حينئذ فاسدة ؛ لعدم الأمر بها وعدم كفاية الملاك في صحّتها أو عدم إحرازه لو قلنا بكفايته ، فافهم.

__________________

(١) انظر زبدة الاصول : ٨٢ ـ ٨٣ (مخطوط) ، وهداية المسترشدين ٢ : ٢٧٥.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٥.

(٣) انظر كشف الغطاء ١ : ١٧٠ ـ ١٧١ ، وهداية المسترشدين ٢ : ٢٦٩.

٤٣٧

الثمرة الثانية : فيما لو كان هناك واجبان : أحدهما موسّع كصلاة الظهر عند الزوال ، والآخر مضيّق كصلاة الكسوف في آخر وقت الكسوف الذي هو أوّل الظهر ، فإن اكتفينا بالملاك فلا تظهر ثمرة أصلا ، وإن اعتبرنا الأمر في صحّة العبادة. فإن قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه فلا ريب في توجّه النهي إلى صلاة الظهر في المثال فتقع فاسدة ؛ لخروج الفرد المنهيّ عنه عن إطلاق الأمر أو عمومه ؛ لاستحالة اجتماع الأمر والنهي وإن كان النهي غيريّا. وإن قلنا بعدم الاقتضاء فهذا الفرد من صلاة الظهر وهو المزاحم بصلاة الكسوف غير مأمور به بخصوصه كغيره من الأفراد الغير المزاحم ، ضرورة أنّ الأمر بصلاة الظهر أمر بصرف الوجود وهو الطبيعة ، وكفاية الفرد في مقام الامتثال لانطباق عنوان المأمور به عليه لا أنّه هو المأمور به ، وهذا الانطباق قهري فيصحّ الإتيان بهذا الفرد بداعي الأمر بالطبيعة ، فما هو المأمور به وهو الطبيعة غير مزاحمة ، وما هو مزاحم وهو الفرد غير مأمور به بخصوصيّاته ، وحينئذ فإن لم ينه عن الفرد فالإتيان به يوجب انطباق الطبيعة عليه قهرا فيكون الفرد من صلاة الظهر في المثال صحيحا.

وحينئذ فقد ظهرت لهذا البحث ثمرة مهمّة وهو فساد العمل على القول بالاقتضاء وعدم كفاية الملاك أو عدم إحرازه ، وصحّة العمل بناء على عدم الاقتضاء ، وهي ثمرة شريفة ذكرها المحقّق الثاني (١) وأوضحها بعض الأعاظم (٢) ، وبمثل هذا التحقيق منح بلقب المحقّق الثاني.

وقد أورد على المحقّق الثاني بامور :

الأوّل : أنّ توجّه الأمر إلى الطبيعة المهملة لا يعقل ؛ لأنّ الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي ، فلا ينفكّ توجّه الأمر إلى الطبيعة بلحاظ خصوصيّتها المزاحمة من

__________________

(١) انظر جامع المقاصد ٥ : ١٤.

(٢) انظر هداية المسترشدين ٢ : ٢٦٩ وما بعدها ، والفصول : ٩٥ ـ ٩٧ ، والقوانين ١ : ١١٦.

٤٣٨

كونها مقيّدة بعدم المزاحمة ، وحينئذ فليس المزاحم مصداقا للمأمور به ؛ لأنّ المأمور به هو الطبيعة الغير المزاحمة بصلاة الكسوف ، فالمزاحم ليس مصداقا للطبيعة المأمور بها أو مقيّدة بالمزاحمة وهو أيضا محال ؛ لأدائه إلى الأمر بالضدّين أو مطلقة من حيث المزاحمة وعدمها ، وإذا كان التقييد بالمزاحمة محالا فالإطلاق بنحو يشملها محال أيضا ؛ لعين المحذور.

والجواب أنّ الشقّ الثالث وهو الإطلاق لا مانع منه ؛ فإنّ الإطلاق إن كان لحاظ جميع الخصوصيّات كان ما ذكر متينا إلّا أنّ الإطلاق ـ كما مرّ منّا ـ رفض القيود ، وحينئذ فلا مانع من استحالة أخذ قيد وإمكان رفضه ، فيستحيل لحاظ الطبيعة المأمور بها بقيد المزاحمة ؛ لأدائه إلى طلب الضدّين إلّا أنّ رفض قيد المزاحمة في الطبيعة لا مانع منه أصلا ؛ لعدم محذور فيه فتعمّه الطبيعة بما هي مأمور بها فتنطبق على هذا الفرد قهرا ويكون الإجزاء عقليّا.

الأمر الثاني : أنّ الفرد المزاحم غير مقدور فلا يتوجّه التكليف نحوه ؛ لقبح التكليف بغير المقدور ، وحينئذ فالفرد المزاحم ليس به أمر فلا يكون صحيحا بناء على اعتبار الأمر في صحّة العبادة.

والجواب : أنّ الأمر إنّما هو بالطبيعة وصرف الوجود ، واعتبار القدرة في المأمور به إمّا لحكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق ، أو لأنّ التحريك نحو الشيء إنّما هو لإحداث الداعي والإرادة له ، فهو يختصّ بصورة يمكن التحريك والإرادة وهو خصوص المقدور ، ولا ريب أنّ الطبيعة لو اشتملت على أفراد مقدورة وأفراد غير مقدورة فلا يقتضي شيء من هذين الأمرين اختصاص الأمر بخصوص المقدور منها ؛ إذ لا يلزم التكليف بما لا يطاق مع مقدوريّة فرد واحد منها ، ولا يلزم أن يكون التحريك نحو شيء لا يتحقّق التحريك والإرادة له ؛ إذ مقدوريّة بعض الأفراد كاف في التحريك نحو الطبيعة ، وحينئذ فالطبيعة بما هي مأمور بها شاملة لهذا الفرد ومنطبقة عليه قهرا وحينئذ فيكون الإجزاء عقليّا.

٤٣٩

ثمّ إنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ذكر إشكالا على المحقّق الثاني وهو : أنّ التكليف إذا كان بالطبيعة فالطبيعة بما هي مأمور بها لا تنطبق على الفرد المذكور ؛ لاستحالة تحريك المولى نحو الأمر الممتنع شرعا ؛ لعدم القدرة عليه. فنفس التكليف بذاته يقتضي مقدوريّة متعلّقه ، فإذا لم يكن مقدورا لا يشمله الأمر بالطبيعة. نعم لو كان اعتبار القدرة في متعلّق التكليف من جهة حكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق تمّ ما ذكره المحقّق الثاني ، إلّا أنّ اعتبار القدرة من ذات التكليف ، فالاستناد في اعتبار القدرة إلى التكليف أمر ذاتي وهو سابق على الاستناد إلى حكم العقل بالقبح وهو أمر عرضي.

ثمّ إنّه أوضحه بأنّ الآمر إنّما يأمر بشيء ليحرّك عضلات العبد نحو ذلك الشيء بالإرادة والاختيار ليختار إيجاده بترجيح أحد طرفي الممكن ، وهذا هو بنفسه يقتضي أن يكون العمل ممّا يمكن التحرّك نحوه ، وبما أنّ هذا الفعل وهو صلاة الظهر منهيّ عنها فهي غير مقدورة فلا يشملها الأمر بالطبيعة ، فهو فرد من أفراد الطبيعة لكنّها لا بما هي مأمور بها ، فلا تنطبق الطبيعة بما هي مأمور بها عليها ليكون الإجزاء حينئذ عقليّا.

والجواب من وجوه :

أحدها : أنّ تسليم الصحّة التي ذكرها المحقّق الثاني إذا كانت القدرة بحكم العقل غير تامّ على ما يراه الميرزا نفسه من استحالة توجّه التكليف نحو الأمر المتأخّر على ما ذكره في الواجب التعليقي (٢) ؛ لأنّ صلاة الظهر في المثال المذكور وهو ما إذا كانت مزاحمة بصلاة كسوف مضيّقة ، فهذا الفرد المزاحم بالمضيّق لا أمر به حسب الفرض للمزاحمة ، وبقيّة الأفراد متأخّرة ولا يتوجّه التكليف الفعلي نحو الأمر المتأخّر على رأيه ، نعم يتمّ على ما اخترناه من صحّة ذلك.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٠١ ـ ٢٠٢.

٤٤٠