غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

قطعا لا محال ، وكذا جهل الله بشيء محال فعلمه به ضروري ، وفقره إلى شيء محال فغناه عنه ضروري قطعا ، ولو كان استحالة أحد المتقابلين بتقابل العدم والملكة يستدعي استحالة الآخر لاستدعى استحالة العلم والغنى في ذات الله عزوجل ، وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

على أنّ جميع ما ذكرناه إنّما كان من باب المماشاة وإلّا فالإطلاق والتقييد في الواقعيّات التقابل بينهما تقابل الإيجاب والسلب ؛ إذ الإطلاق في الواقع بمعنى لحاظ رفض القيود فهو من تقابل الضدّين ، نعم الإطلاق والتقييد في مقام الإثبات تقابلهما تقابل العدم والملكة ؛ إذ لو لم يمكنه التقييد كيف يمكن التمسّك بالإطلاق الذي هو عدم لحاظ القيد؟

هذا ما كان من أمر المقدّمة الاولى ، وأمّا المقدّمة الثانية وهي كون الغرض من المقدّمة هو الوصول إلى ذي المقدّمة فمتينة لا مجال فيها للمناقشة إلّا أنّ النتيجة غير تامّة ؛ إذ الترتّب وإن بنينا على إمكانه ووقوعه إلّا أنّه في المقام ممنوع.

أمّا ترتّب الحرمة للمقدّمة على عصيان أمرها فغير خفي ما فيه من لزوم اللغوية كما مرّ.

وأمّا ما ذكره الميرزا من ترتّب الحرمة للمقدّمة على عصيان أمر ذي المقدّمة فلا ريب أن الحرمة المترتّبة حرمة فعليّة إلّا أنّها مشروطة بالعصيان وهو أمر متأخّر ، والميرزا قدس‌سره بان على استحالة الشرط المتأخّر (١) وأمّا على ما اخترناه من إمكان الاشتراط بالشرط المتأخّر ففي المقام لا يجوز ؛ لخصوصيّة فيه وهي أنّه إذا كان التحريم مشروطا بالعصيان فلا بدّ من كون جواز المقدّمة المحرّمة أو وجوبها مشروطا بالإطاعة ، وحينئذ فإذا كان مشروطا بالإباحة توجّه إيراد صاحب الكفاية قدس‌سره من توقّف وجوب ذي المقدّمة على الإتيان به ؛ إذ وجوب ذي المقدّمة

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٢١٤ ، ٣٥٢ و ٢ : ١١٠ ـ ١١٢.

٤٠١

موقوف على الإتيان بمقدّمته وهو موقوف على جوازها وجوازها موقوف على الإتيان بها ، ولا يرتفع هذا الإيراد بما دفعناه به عن صاحب الفصول قدس‌سره من كون الإيصال قيدا للواجب ، ضرورة كون الإتيان بذي المقدّمة قيدا للوجوب.

بقي شيء وهو : أنّ الثمرة وهو ارتفاع الحرمة من المقدّمة المحرّمة عند إيصالها لا يفرق فيه بين القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة وبين القول بإنكار الوجوب في كلّيّ المقدّمة ؛ إذ على القول بعدم الوجوب يتزاحم حرمة المقدّمة مع وجوب ذي المقدّمة ، حيث يستحيل بلوغهما مرتبة الفعلية معا ، فلا بدّ من سقوط أحدهما في هذا الحال ، وحيث إنّ الإنقاذ أهمّ فيتقدّم فتكون الحرمة حينئذ ساقطة أيضا.

هذا تمام الكلام في هذا المقام ، وقد ظهر أنّ المقدّمة على تقدير القول بوجوبها فهو في خصوص المقدّمة الملازمة مع ذي المقدّمة وجودا من دون أن تؤخذ الملازمة قيدا بل عنوانا مشيرا إلى تلك الحصّة الخاصّة من المقدّمة.

تنبيه : [ثمرة القول بوجوب المقدّمة الموصلة]

قد ذكرنا أنّ الواجب من المقدّمة ـ على تقدير القول بوجوب المقدّمة ـ هو خصوص المقدّمة التوأمة مع ذي المقدّمة في الوجود ، وهي المقدّمة الموصلة بجعل الإيصال عنوانا مشيرا إليها لا قيدا في الوجوب. وذكرنا أنّ ثمرة هذا القول هو ارتفاع تحريم المقدّمة حيث تكون محرّمة في خصوص صورة الإيصال ، وفي غيرها لا يرتفع تحريمها ؛ لعدم الوجوب. وهذه ثمرة مهمّة واضحة.

وقد ذكر صاحب الفصول (١) ثمرة اخرى وهي صحّة ضدّ الواجب لو كان عبادة بيان ذلك : أنّا لو أمرنا الشارع مثلا بإزالة النجاسة عن المسجد وكان من مقدّماته ترك الصلاة ؛ لأنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه كان ترك الصلاة واجبا ، فكان فعلها

__________________

(١) الفصول الغروية : ٩٧ ـ ٩٨.

٤٠٢

محرّما فتكون فاسدة بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمة. وأمّا بناء على ما ذكره صاحب الفصول فالواجب خصوص ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة ، أمّا الترك الغير الموصل فليس واجبا ، وإذا كان الواجب هو الترك الموصل فالمحرّم ترك الترك الموصل ، وفعل الصلاة من مقارناته ولا يسري حكم الشيء إلى ما يلازمه فضلا عمّا يقارنه أحيانا.

وقد أشكل عليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره على ما في التقريرات (١) بأنّ الصلاة الواقعة ضدّا للأمر بالإزالة باطلة على جميع التقادير ، أمّا على القول بوجوب مطلق المقدّمة فواضح. وأمّا على القول بوجوب خصوص الموصلة فلأنّ عدم المقدّمة الموصلة الذي هو نقيض للواجب عنوان ينطبق على فردين ، أحدهما : مطلق عدم المقدّمة ، والثاني : عدم المقدّمة المقيّدة بقيد الإيصال يعني عدم الإيصال ، وإن وجدت المقدّمة المجرّدة عن قيد الإيصال ، وحينئذ فالصلاة من أفراد النقيض للواجب فتكون محرّمة ، والنهي في العبادات موجب لفسادها.

وقد أجاب صاحب الكفاية (٢) عن إيراد الشيخ الأنصاري قدس‌سره بأنّ النقيض ليس إلّا المعاند بحسب الوجود ، ومادّته وهي النقض مشعرة بذلك ؛ إذ هو حلّ الأمر المبرم ، فالوجود ناقض للعدم بمعنى [أنّه] رافع له ، وحينئذ فالنقيض ما لا يجتمع مع النقيض الآخر بحسب الوجود وإلّا فلا يتحقّق التناقض بين الشيئين ، وحينئذ فالفعل للصلاة على القول بوجوب مطلق المقدّمة محرّم ؛ لكونه عين نقيض ترك الصلاة الواجب مقدّمة ، ولكنّه على القول بالمقدّمة الموصلة فليس إلّا مقارنا فلا يكون محرّما.

أقول : إنّ هذه الثمرة غير تامّة ؛ لأنّها مبنيّة على مقدّمات كلّها فاسدة ؛ إذ هي مبنيّة على القول بوجوب المقدّمة ولا نقول بها كما سيأتي ، ومبنيّة على القول بأنّ ترك

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

(٢) كفاية الاصول : ١٥١.

٤٠٣

الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه ولا نقول به أيضا كما سيأتي. ولو سلّمنا هاتين المقدّمتين فقلنا بوجوب المقدّمة وقلنا بأنّ ترك الضدّ مقدّمة لوجود ضدّه إلّا أنّ النهي الناشئ من الأمر الغيري المتوجّه إلى نقيض المقدّمة أيضا غيري وسيأتي أنّه لا يدلّ على الفساد ؛ إذ الدالّ على الفساد إنّما هو النهي الناشئ عن مفسدة في الفعل وليس النهي التبعي كاشفا وسيأتي الكلام فيه.

في الأصلي والتبعي :

قد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) امورا في مقدّمات بحث المقدّمة ؛ ذكر في الأوّل منها ما هو المهمّ في بحث المقدّمة وهو الملازمة. وذكر في الثاني أقسام المقدّمة. وفي الثالث أقسام الواجب. وفي الرابع تبعيّة الوجوب في المقدّمة إطلاقا واشتراطا لذي المقدّمة. ثمّ ذكر في هذا الأمر انقسام الواجب إلى الأصليّ والتبعيّ وكان ينبغي ذكره في الأمر الثالث الذي عقد لأقسام الواجب ، ونحن تبعا له نتعرّض لهما في المقام.

فنقول : الأصالة والتبعيّة إن فسّرا بالمقصود بالدلالة وعدمه كان التقسيم فيهما تابعا لمقام الدلالة والإثبات ، فكان الانقسام بلحاظهما ، ولا ريب في انقسام النفسي والغيري إليهما كما هو واضح.

وإن فسّرا بالمقصود بالإرادة وعدمه كان التقسيم تابعا لمقام الواقع والثبوت ، ولا ريب في انقسام الغيري إليهما. أمّا النفسي فقد ذكر صاحب الكفاية (٢) اختصاصه بالأصالة ؛ إذ وجوبه لا بدّ من أن يكون لمصلحة فيه ، ومعها لا يكون إلّا مقصودا بالإرادة ، والظاهر إمكان التبعي فيه ، كما إذا رأى المولى الجاهل لا الحكيم شخصا

__________________

(١) راجع للأوّل الكفاية : ١١٤ ، وللثاني : ١١٦ ، وللثالث : ١٢١ ، وللرابع : ١٤٢ ، ولتقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي : ١٥٢.

(٢) الكفاية : ١٥٢.

٤٠٤

يغرق في البحر فلا إرادة له إلى إنقاذه ؛ لجهله بكونه ابنه ولكن إرادته لإنقاذه الإجماليّة الارتكازيّة موجودة ، وحيث لا يعلم به تفصيلا فهو غير أصلي ؛ إذ لم يقصد بالإرادة.

وإن فسّرا بما امر به لمصلحة في نفسه وما امر به لمصلحة في غيره فهو النفسي والغيري عينا إلّا أنّه سابقا بحث عنه بملاك كون وجوبه ترشّحيّا أو استقلاليّا وهنا بملاك المصلحة.

ثمّ لا يخفى أنّ تقسيم الواجب إلى الأصليّ والتبعيّ بالمعنى الأوّل والثاني لا ثمرة فيه ، وبالمعنى الثالث له ثمرة في مقام الشكّ وغيرها إلّا أنّ البحث في النفسيّ والغيريّ مغن عنها هنا ، ولعلّه لذلك لم يتعرّض لها الميرزا النائيني قدس‌سره.

بقي الكلام في أمرين ، أحدهما : ثمرة البحث في وجوب المقدّمة. الثاني : الخوض في وجوب المقدّمة وعدمها.

في ثمرة البحث في وجوب المقدّمة :

أمّا الكلام في تحقّق الثمرة وعدمها ، الظاهر أنّا لو قلنا بوجوب المقدّمة فلا ثمرة لذلك أصلا ؛ إذ الوجوب العقلي التكويني كاف عن الشرعيّ. وقد ذكروا للوجوب ثمرات كلّها مخدوشة :

فمنها : ما ذكره صاحب الكفاية (١) وهو : أنّه لو قلنا بوجوب المقدّمة فعند وجوب ذي المقدّمة تضمّ صغرى وهي : هذه مقدّمة فيستنتج وجوبها الشرعي ، بخلاف ما لو لم نقل بالوجوب فلا يستنتج الحكم الشرعي بالوجوب.

ولا يخفى أنّ ما ذكره وإن كان صحيحا إلّا أنّه أيّ فائدة تترتّب على العلم بوجوب المقدّمة شرعا وعدمه بعد أن كانت لا بدّ منها تكوينا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٣ ـ ١٥٤.

٤٠٥

ومنها : ما لو توقّف الواجب على ترك عبادة كما لو توقّف الإزالة على ترك الصلاة بناء على أنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه فتكون تلك العبادة فاسدة ؛ إذ النهي عنها مقتض لفسادها.

وقد قدّمنا أنّ ترك الضد ليس مقدّمة وأنّ الأمر التبعيّ لا ينشأ منه إلّا نهي تبعيّ وهو لا يقتضي الفساد.

ومنها : أنّه لو كانت المقدّمة واجبة شرعا لصحّ التقرّب بها ، بخلاف ما لو لم تكن واجبة بالوجوب الشرعي فإنّه لا يصحّ التقرّب بها.

والجواب : أنّ المقدّمة وإن لم تكن مأمورا بها شرعا [لكن] إذا جيء بها مسندة إلى المولى كانت مقرّبة ؛ إذ القربة عبارة عن الإسناد إلى الله لأمر قابل للإسناد ، وبما أنّ الشروع في المقدّمة شروع في ذي المقدّمة فهو قابل ، امر به شرعا أم لم يؤمر به شرعا.

ومنها : برء النذر فيما لو نذر إعطاء درهم لمن أتى بواجب شرعيّ فيما لو أعطاه للآتي بالمقدّمة على القول بوجوبها ، وعدم البرء على القول بعدم وجوبها.

والجواب أوّلا : أنّا ذكرنا أنّ الواجب هو المقدّمة التوأمة مع حصول ذي المقدّمة بعدها ، ومع حصول ذي المقدّمة يبرئ بإعطائه الدرهم على كلّ تقدير ، نعم لو نذر إعطاء درهم لمن أتى بواجبين شرعيّين تظهر الثمرة.

وثانيا : أنّ النذر يتبع قصد الناذر فإن قصد الأعمّ من النفسيّ وما هو مثل المقدّمة برء أيضا وإن لم يكن واجبا شرعا ، وإن قصد خصوص النفسيّ ـ كما هو المنصرف منه ـ لا يبرئ بالغيريّ وإن قيل بوجوبه. نعم لو قصد الإعطاء لمن أتى بواجب شرعي واقعا تظهر الثمرة.

وثالثا : أنّ ثمرة المسألة الاصولية هي استنباط الأحكام الشرعيّة لا تطبيق الكلّيات على الجزئيّات ، وكون هذا برءا أم لا من قبيل الثاني كما هو واضح ، فافهم.

٤٠٦

ومنها : أنّه لو قلنا بوجوب المقدّمة اتّصف بالفسق تارك الواجب ذي المقدّمات العديدة ؛ لصدق الإصرار على الصغائر ، دون ما إذا لم نقل بوجوب المقدّمات.

وقد أجاب في الكفاية (١) عن هذه الثمرة بأنّ المكلّف بترك أوّل مقدّمة يسقط وجوب الواجب فيسقط وجوب بقيّة المقدّمات ، فلا يكون تركها حينئذ معصية ، فلا يكون حينئذ إصرار على الصغائر ، فلا يتّصف بالفسق على كلا التقديرين.

ولا يخفى أنّ الإصرار على الصغائر إن كان عبارة عن ارتكاب معاص متعاقبة كان جوابه متينا ، وأمّا إذا كان عبارة عن ارتكاب الصغائر المتعدّدة ولو دفعة فيمكن أن يقال بحصول الإصرار ؛ لأنّ امتناع الواجب حينئذ امتناع بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار عقابا وإن نافاه خطابا ، فهو بتركه المقدّمة الاولى قد ترك الواجب بجميع مقدّماته فتترتّب حينئذ الثمرة.

فالصحيح في الجواب عن هذه الثمرة أن يقال : إنّ ترك الأمر الغيري لا يوجب معصية ؛ لأنّها من توابع القرب والبعد ، وليس في الأمر الغيريّ بما هو غيريّ قرب ولا بتركه بعد ؛ إذ هما من لوازم الأمر النفسيّ ، وحينئذ فهو لم يعص إلّا معصية واحدة بترك الواجب النفسي بالاختيار.

ومنها : أنّه لو قلنا بوجوب المقدّمة لم يصحّ أخذ الاجرة عليها ، بخلاف ما لو لم نقل بالوجوب فإنّه يجوز أخذ الاجرة عليها.

وقد أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) عن هذا الإيراد بأنّ الوجوب لا ينافي جواز أخذ الاجرة على الواجب ؛ وذلك أنّ الواجب تارة : يكون هو المعنى المصدري وهو بذل العمل والمال مع بقاء ماليّتهما ، كالبذل للطعام في المخمصة ، فإنّ صاحبه يجب أن يبذله لكن لا يجب كون البذل مجّانيا ، وكذا الخياطة والحياكة والبناء فإنّه يجب كفاية بذلها لكن لا يجب بذلها مجّانا ، ومثل هذا لا مانع من أخذ الاجرة عليه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٤.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٥٧.

٤٠٧

واخرى : يكون الواجب هو الاسم المصدري الموجب لكون العمل مملوكا لله تعالى ، فإن كان عينيّا كالصلاة والصوم لم يجز أخذ الاجرة عليه. وإن كان كفائيّا غير قابل للنيابة فيه بأن اعتبرت فيه المباشرة فكذلك. وإن كان قابلا للنيابة كما في الجهاد لمريد الحجّ جاز أخذ الاجرة عليه. والمقدّمات في جميع ذلك تتبع ذا المقدّمة ، فإن جاز أخذ الاجرة في نفس ذي المقدّمة جاز فيها وإلّا فلا ، قلنا بالوجوب الشرعي فيها أم لم نقل.

ولا يخفى أنّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره من تفرقته بين المصدر واسم المصدر ممّا تعطي التباين بينهما وليس كذلك ، بل هو أمر وحدانيّ ، وإنّما الفرق بينهما أنّه إن لوحظ المعنى الحدثي ماهيّة من ماهيّات العالم فهو اسم مصدر ، وإن لوحظ منتسبا فهو المصدر ، فالفرق بينهما اعتباري محض ليس إلّا وليس بينهما تباين أصلا ، والمطلوب في المقامين واحد وهو صدور الفعل من المكلّف في الخارج.

وأيضا زعمه تبع المقدّمة لذيها في جواز أخذ الاجرة وعدمها مما لم يعلم وجهه ؛ إذ لو فرض قيام الدليل على عدم جواز أخذ الاجرة على واجب كالصلاة فلا يلازمه عدم جواز أخذ الاجرة على مقدّماتها ، فلا بدّ من دليل يدلّ على ذلك.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ منافاة الوجوب لأخذ الاجرة إن كان من جهة منافاة الاجرة لقصد القربة والإخلاص فليس المانع فيه هو الوجوب ؛ إذ ذلك يأتي في المستحبّات أيضا وسيأتي الكلام فيه. وإن كان من جهة كونه مملوكا لله فالمملوكيّة بمعناها عندنا في إيجار الإنسان نفسه لعمل من الأعمال لم تثبت لله من الأدلّة ، وبمعنى الإحاطة فهو مالك لجميع ما في السماوات والأرض ، وبهذا المعنى لا تنافي أخذ الاجرة. فالصحيح أنّ مقتضى القاعدة جواز أخذ الاجرة على الواجبات إلّا أن يدلّ دليل على العدم كما ورد في الصلاة والصوم وما شاكلها. وحينئذ فلا ثمرة بين القول بوجوب المقدّمة وعدمه في جواز أخذ الاجرة ؛ إذ في الواجبات النفسيّة يجوز أخذها ما لم يدلّ دليل على العدم فكيف بالواجبات الغيريّة ، فافهم.

٤٠٨

وحيث انتهى الكلام إلى هنا فلا بأس بالتعرّض إلى أنّ جهة العباديّة منافية لأخذ الاجرة أم لا؟ فنقول : إنّ المكلّف كزيد إذا آجر نفسه للصلاة عن عمرو سنة بخمس دنانير مثلا ، فبما أنّ الإجارة من العقود المملّكة فقد ملك بالعقد الاجرة كما ملك المستأجر بالعقد أيضا العمل عليه ، فإذا سلّمه الاجرة فهو يتصرّف بها تصرّف المالك في ملكه شرعا ، وحينئذ فأيّ شيء يدعوه إلى الإتيان بالصلاة؟ ومعلوم أنّه لا يدعوه إلّا أمر الشارع بالوفاء بالعقد ؛ إذ قد ملك الدراهم وتصرّف بها حسب الفرض فليس له داع إلى العمل حينئذ إلّا الخوف من الله أن يخالف الأمر بالوفاء بالعقد فلا يدعوه إلّا أمر الله. هذا إن كان الأجير ثقة ـ كما هو الغالب ـ فيأتي بالعمل فيما بينه وبين نفسه من غير اطّلاع المستأجر على ذلك ، وأمّا إذا كان غير ثقة فاستأجره للصلاة مثلا بحضوره فلأيّ داع ينوي الصلاة عن من استؤجر عنه ؛ إذ قد لا ينوي أو ينوي الصلاة عن نفسه أو أبيه ، فلا يدعوه إلى العمل الصحيح إلّا الخوف من عذاب الله عزوجل.

وكذا الجعالة فإنّها وإن كانت توجب الملكية بعد العمل إلّا أنّه لو كان داعيه أخذ المال لم يكن موجب لإتيان العمل صحيحا ؛ إذ المال يسلّم إليه بدعواه العمل أو بصدور صورة العمل منه. فالداعي إلى إتيان العمل حقيقة أمر الشارع بالوفاء ، وهو وإن كان توصّليّا إلّا أنّه إذا تعلّق بتعبّديّ يكون تعبّديا. هذا مختصر الكلام في عدم منافاة أخذ الاجرة لجهة العباديّة ويأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

ومن جملة الثمرات ما ذكره بعضهم (١) من أنّه إذا قلنا بوجوب المقدّمة ففيما لو كانت محرّمة تكون مبنيّة على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه في الصحّة وعدمها ، فتكون صحيحة على القول بجواز الاجتماع وعلى القول بعدم الجواز تكون فاسدة ،

__________________

(١) وهو المنسوب إلى الوحيد البهبهاني ، انظر القوانين ١ : ١٠١ ، ومطارح الأنظار ١ : ٣٩٦ ، وبدائع الأفكار : ٣٤٦.

٤٠٩

بخلاف ما لو لم نقل بالوجوب للمقدّمة فإنّها تكون فاسدة فيكون الواجب النفسيّ المتوقّف عليها فاسدا أيضا.

أقول : لا يخفى أنّه لا بدّ أن يكون مراد من ذكرها : ثمرة المقدّمة العباديّة كالوضوء والغسل والتيمّم ؛ إذ المقدّمة التوصّليّة لا يكون الواجب النفسي فاسدا لو أتى بها محرّمة.

وقد أجاب صاحب الكفاية (١) عنه بأنّ الواجب ليس هو عنوان المقدّميّة ، وسيأتي أنّ باب اجتماع الأمر والنهي لا بدّ فيه من عنوانين تقييديّين ، وعنوان المقدّمة عنوان تعليلي ، فليس هذا من باب الاجتماع أصلا بل هو من باب النهي عن العبادة وهو مقتض للفساد مطلقا ، قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل.

ولا يخفى ما في هذا الجواب كما ذكره النائيني قدس‌سره (٢) فانّ المستدلّ لم يرد أنّ عنوان المقدّميّة عنوان تقييدي ليرد عليه ما ذكر ، بل مراده ما إذا وجب ذلك العمل بعنوان من العناوين وكان محرّما بعنوان آخر ، كما في الوضوء في الماء المغصوب أو في آنية الذهب ، فهو بعنوان الوضوء واجب وبعنوان الغصب حرام ، وحينئذ فعلى القول بالوجوب للمقدّمة وجواز الاجتماع فالعمل صحيح ، وعلى القول بالامتناع أو عدم وجوب المقدّمة فهو فاسد ، وحينئذ فالثمرة تامّة.

وقد أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) عنها تبعا للآخوند في كفايته بأنّ المقدّمة إمّا منحصرة أو غير منحصرة ، فإن كانت منحصرة فلا بدّ للشارع من رفع اليد عن تحريمها أو عن وجوب الواجب النفسي ؛ ضرورة أنّ بقاءهما تكليف بما لا يطاق فيقدّم ما هو أهمّ منهما. وإن كانت غير منحصرة فالوجوب ينصرف إلى المباح ، وحينئذ فالمحرّم غير مأمور به فأين اجتماع الأمر والنهي؟

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٥.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٦٠.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣٥٨.

٤١٠

أقول : لا يخفى أنّه في صورة عدم الانحصار ـ لأيّ علة ـ يختصّ الوجوب بغير الحرام مع اشتراك الحرام وغيره بالوفاء بالغرض ؛ إذ على القول بجواز الاجتماع لا مانع ؛ إذ القيدان انضماميّان لا اتّحاديّان فهما طبيعتان منضمّتان انضمّت إحداهما إلى الاخرى ، نعم على القول بالامتناع فالطبيعتان متّحدتان ، وحينئذ فالثمرة بحالها ، وحينئذ فالمحرّم داخل في أفراد المأمور به على القول بجواز الاجتماع وتترتّب الثمرة ، فافهم.

وقد اختصّ الميرزا النائيني قدس‌سره بجواب لدفع هذه الثمرة وهو أنّها إنّما تتمّ لو اعتبرنا في صحّة العبادة قصد الأمر ، أمّا لو اكتفينا بقصد الملاك في صحّة العمل لم تظهر ثمرة أصلا ؛ لأنّها حينئذ تصحّ على الامتناع أيضا بقصد الملاك ؛ إذ سقوط الأمر لا يوجب انتفاء الملاك فلا ثمرة أيضا ؛ إذ العبادة صحيحة على القول بالجواز والامتناع.

وفيه أوّلا : أنّا قد ذكرنا فيما تقدّم أنّه بأيّ طريق احرز الملاك في المقام؟

وثانيا : أنّ الملاك على تقدير تحقّقه واكتشافه إنّما يجدي في صحّة العمل حيث لا يكون العمل مبغوضا ومزاحما بملاك أقوى وهو في المقام كذلك ؛ إذ على الامتناع يكون مبغوضا ؛ للنهي عنه الكاشف عن الملاك في الترك ، فلم يتمّ هذا الجواب أيضا.

فالصحيح في الجواب عن هذه الثمرة أن يقال : إنّ المقدّمة التي هي عبادة منحصرة في الطهارات الثلاث ، فإن قلنا بأنّها ذوات أوامر نفسيّة مع قطع النظر عن الأمر الغيري ، فسواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل فالطهارات صحيحة لو قصد أمرها النفسي الاستحبابي على القول بالجواز ؛ إذ لا يفرّق القائل بجواز الاجتماع بين أن يكون المجامع للنهي الأمر الوجوبي أم الاستحبابي ، فصحّتها على القول بالجواز غير مبنيّة على القول بوجوب المقدّمة بل وإن لم نقل بوجوبها ؛ إذ الأمر الاستحبابي كاف في الصحّة ، وإن لم نقل بالأمر الاستحبابي لها فقد ذكرنا أنّه لا يعتبر في كون الفعل مقرّبا أزيد من أن يفعل مضافا إلى الله ومسندا إليه ، كان به أمر أم لا.

٤١١

وحينئذ فعلى القول بجواز الاجتماع يصحّ العمل ؛ إذ ليس لفظ اجتماع الأمر والنهي بخصوص أمر ونهي محلّا للكلام ، بل المراد به المقرّب المنهيّ عنه يصحّ أم لا ، فبناء على الجواز وكون التركيب انضماميّا لا اتّحاديّا وأنّهما شيئان لا واحد فتكون المقدّمة إذا اتي بها مضافة إلى المولى ومسندة إليه مقرّبة فتصحّ حينئذ ويصحّ العمل المشروط بها ، سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل بوجوبها وحينئذ فلا ثمرة للقول بوجوب المقدّمة في شيء أصلا.

ومنها : أي ومن جملة [الثمرات] ما ذكره بعضهم (١) من أنّه إذا أمر زيد عمرا بعمل له مقدّمات ، فعمل عمرو وبعض المقدّمات ثمّ لم يأت بذي المقدّمة اختيارا أو لعجزه عنه ، فإن قلنا بأنّ الأمر بالشيء أمر بمقدّماته كان على زيد أن يسلّم لعمرو واجرة مثل هذه المقدّمات التي عملها ، وإن لم نقل بأنّ الأمر بالشيء أمر بمقدّماته لا يستحقّ عمرو اجرة مثل عمله ؛ لأنّه لم يأمره بالمقدّمات ؛ إذ الأمر بالشيء ليس أمرا بمقدّماته. فهذه ثمرة هذا البحث.

والجواب أوّلا : أنّ هذه الثمرة إنّما تتمّ لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره ، وأمّا إذا قلنا بوجوب خصوص الموصلة فلا يستحقّ اجرة المثل على كلا التقديرين.

وثانيا : أنّ لزوم الاجرة على زيد لو أمر عمرا بعمل ليس مدلول رواية أو آية ليتمسّك بإطلاقها وإنّما هو بالسيرة العقلائيّة مع إمضاء الشارع لذلك ، وحينئذ فإن اقتضت السيرة لزوم الاجرة على المقدّمات لزمت زيدا الاجرة ، قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل ؛ إذ دليل لزوم الاجرة هو السيرة ، وإن لم تقتض السيرة لزوم الاجرة لم تلزم ، قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل. وحينئذ فلا ثمرة لبحث وجوب المقدّمة أصلا.

__________________

(١) لم نعثر عليها بعينها.

٤١٢

ويقع الكلام الآن تبعا للأساطين في وجوب المقدّمة وعدم وجوبها. وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من تأسيس الأصل فنقول :

في تأسيس الأصل في المقام :

بمعنى أنّه لو [لم] تتمّ أدلّة الطرفين فما هو مقتضى الأصل في ذلك؟ فنقول : أمّا الملازمة فليست محلّا لجريان الاصول ؛ إذ الملازمة على تقديرها ـ كعدمها على تقدير العدم ـ أزليّة ليست مسبوقة بالعدم.

وأمّا الوجوب فجريان البراءة العقليّة منه بمعنى قبح العقاب بلا بيان فليس له مجال ؛ إذ قد ذكرنا أنّه لا عقاب على ترك المقدّمة حتّى بناء على وجوبها شرعا.

وأمّا البراءة الشرعيّة واستصحاب العدم الثابت قبل وجوب ذي المقدّمة فقد اشكل عليهما بأنّ الوجوب على الملازمة من قبيل لوازم الماهيّة غير مجعول وليس له أثر مجعول فلا تجري الاصول فيه ؛ ضرورة لزوم كون موردها قابلا للجعل وللرفع والوضع ، ولوازم الماهيّة غير قابلة [للجعل]. وقد أجاب في الكفاية (١) بأنّها مجعولة بالتبع وهو كاف في جريان الاصول.

والظاهر أنّ الإيراد غير تامّ كجوابه ؛ وذلك لأنّ لوازم الماهيّة لا ربط لها بالمقام ، فإنّ الكلام في وجوب شرعي جعلي مولوي مترشّح من وجوب ذي المقدّمة ، فهما وجوبان مستقلّان غير أنّ أحدهما علّة للآخر فأين هذا من لوازم الماهيّة وأيّ ربط لها به؟ ومن هذا يظهر النظر في جواب الآخوند من قابليّتها للجعل التبعي ، فإنّ المقدّمة قابلة للجعل الاستقلالي.

وقد اشكل ثانيا بأنّ النزاع في إمكان الانفكاك بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها إثباتا إنّما يتمّ بعد إحراز إمكان الانفكاك في مقام الثبوت ، وعلى الملازمة لا

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٦.

٤١٣

يمكن الانفكاك ، فكيف يمكن التفكيك؟ ضرورة أنّ الاصول إنّما تجري في محلّ قابل للرفع والوضع ، والوجوب على تقدير الملازمة غير قابل للرفع والوضع أصلا ، ومن المحتمل تحقّق الملازمة.

والجواب : أنّ هذا الإشكال نظير الإشكال المذكور في جريان الأصل في حجّيّة الظنّ وعدمها من أنّ إجراء الأصل إنّما هو بعد إحراز الإمكان ، فمع احتمال استحالة جعل حجّيّة الظنّ ثبوتا ـ لما ذكره ابن قبة من لزوم تحريم الحلال وتحليل الحرام ـ لا يمكن جريان الأصل للنفي إثباتا.

والجواب قد ذكرناه في مباحث حجّيّة الظنّ وملخّصه : أنّ بناء العقلاء مستقرّ على العمل بالظواهر مع احتمال استحالة الجعل ، نعم لو تحقّق محاليّة الجعل لا يعملون بالظواهر ، فمع احتمال استحالة الجعل يرون تارك العمل بالظاهر متمرّدا على مولاه ، وفي المقام أيضا كذلك يعملون بالأصل من براءة أو استصحاب وإن احتملوا استحالة الجعل ولا يتوقّفون حتّى يحرز إمكان الجعل بل يعملون ما لم تحرز الاستحالة.

بقي هنا شيء وهو : أنّ المدّعي للملازمة بين الوجوبين إن ادّعاها بين الوجوبين الواقعيّين فلا كلام لنا معه ، وإن ادّعاه بين الوجوبين في جميع مراتبهما حتّى في الظاهر فالأصل ينفي قوله ؛ ضرورة تحقّق الوجوب الظاهري بالإضافة إلى ذي المقدّمة وعدم تحقّقه بالنسبة إلى نفس المقدّمة ظاهرا بمقتضى الأصل ، فيكفي الأصل في بطلان قوله.

الإيراد الثالث ـ وهو أهمّ الإيرادات ـ : أنّ الاصول الشرعيّة إنّما تجعل حيث يكون لجعلها أثر يترتّب عليه وينتفي لو لا ذلك الجعل ، والمفروض في المقام أن لا ثمرة ولا أثر يترتّب لو نفي الوجوب بحيث لو لا النفي لكان مترتّبا كلّيّة ، بل القول بالوجوب والقول بعدمه سيّان من حيث الآثار. وبهذا الإيراد الثالث نمنع من جريان الأصل في المقام لو شككنا في الوجوب وعدمه.

٤١٤

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل وقد ظهر أن لا أصل في المسألة الاصولية وهي الملازمة ؛ لأزليّتها ، ولا في المسألة الفرعيّة وهي الوجوب ؛ لعدم الأثر لذلك.

الكلام في أصل الوجوب وعدمه :

إنّ أهمّ الأدلّة المذكورة لوجوب المقدّمة هو دعوى قضاء الوجدان بأنّ من أراد شيئا تكوينا أراد مقدّماته أيضا ، والإرادة التشريعيّة كالتكوينيّة غير أنّ متعلّقها فعل الغير وتلك متعلّقها فعل النفس.

والجواب : أنّه إن اريد من الإرادة في قولكم : من أراد شيئا أراد مقدّمته الشوق ، فلو سلّمنا أنّه كما ذكروا لكنّه صفة من صفات النفس والوجوب فعل من أفعالها كما مرّ ، فهو أجنبيّ عنه. وإن أراد إنشاء الوجوب فنحن نرى بالوجدان أنّ الإنسان قد يأمر بالشيء ولا يأمر بمقدّمته ، فلا ملازمة في مقام الإنشاء أيضا.

وبالجملة ، الوجوب هو عبارة عن اعتبار شيء في ذمّة المكلّف واعتباره مدينا به كما يعتبره مدينا بالمال ، ولا نرى ملازمة بين اعتبار شيء في ذمّة المكلّف واعتبار مقدّمته. مضافا إلى أنّ هذا الاعتبار لو صدر منه فهو من اللغو المحض ؛ ضرورة كون العقل مستقلّا بلزوم الإتيان به مقدّمة للإطاعة اللازمة بحكمه ، فلا يجدي هذا الاعتبار شيئا أصلا ؛ إذ لزوم الإتيان بالمقدّمة لا بدّ منه عقلا فلا يكون لاعتبار الشارع أثر أصلا.

ودعوى كون الوجوب قهريّا ومثله لا تضرّ فيه اللغوية مدفوعة بأنّ الوجوب كما ذكرنا اعتبار شيء في ذمّة المكلّف وهو فعل اختياري. نعم لو كان الوجوب هو الشوق كان قهريا. على أنّا نمنع تحقّق الملازمة حتّى في الشوق ؛ إذ قد لا يكون له غرض إلّا في خصوص ذي المقدّمة ، بحيث لو فرض إمكان حصوله بدون مقدّمته لكان تمام المطلوب بلا قصور أصلا ، فتأمّل.

٤١٥

ومن هنا ظهر أنّ قياس الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة قياس مع الفارق ؛ إذ الإرادة التكوينيّة تتعلّق بفعل الإنسان نفسه والشوق إلى ذي المقدّمة شوق إلى المقدّمة في فعله نفسه إلّا أنّ الإرادة التشريعيّة بما أنّ متعلّقها فعل الغير فلا ملازمة بين اعتبار ذي المقدّمة في ذمّة المكلّف واعتبار المقدّمة نفسها في ذمّته أيضا.

الدليل الثاني لوجوب المقدّمة : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّ الأوامر الغيريّة بالمقدّمات موجودة في الشرعيّات والعرفيّات ، ولا وجه للأمر الغيري بالمقدّمات إلّا جهة التوقّف والمقدّميّة ، وهذا يقتضي وجوب الجميع ؛ لاتّحاد الملاك.

والجواب : أنّ هذا الدليل متين لو أثبت تحقّق أمر غيري بمقدّمة من المقدّمات ولو واحدا ؛ فإنّ الأوامر الموجودة بالمقدّمات إمّا أن تكون إرشادا إلى الشرطيّة كما في : اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، وكما في قوله : لا صلاة إلّا إلى القبلة وأشباهها ؛ فإنّ مثل هذه إرشاديّة إلى الشرطيّة. وإمّا أن تكون تأكيدا للأمر الأوّل النفسي ، كما إذا أمر المولى عبده بشراء اللحم فتوانى العبد ولم يسارع في الشراء يقول له : البس ملابسك واذهب إلى السوق ، فإنّ الأمر هنا بهذه المقدّمات تأكيد للأمر الأوّل ليس إلّا ، فليس مورد من الموارد قد ورد أمر غيريّ بمقدّمة واحدة من مقدّمات الواجب ، ولو وجد لكفى في إثبات وجوب المقدّمة ، فافهم وتأمّل.

الدليل الثالث : ما ذكره أبو الحسين البصري (٢) وأظنّه أقدم الأدلّة وهو : أنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها ، وحينئذ فإن بقى الواجب على وجوبه لزم تكليف ما لا يطاق وإلّا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٧.

(٢) المعتمد في اصول الفقه ١ : ٩٤ ـ ٩٥.

٤١٦

والجواب عنه : كما في الكفاية (١) من أنّ ما اضيف إليه الظرف إن كان جواز الترك فلا يلزم التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّ فعل المقدّمة جائز أيضا والعقل يدرك لزوم الإتيان به ليتحقّق امتثال ذي المقدّمة. نعم لو حرّم الشارع فعلها لزم التكليف بما لا يطاق ، وكذا إذا رخّص فعلا في تركها ولكن المفروض أنّه لم يمنع عن تركها لا أنّه حكم بجواز الترك. وإن اريد ممّا اضيف إليه الظرف الترك نفسه فالواجب وإن صار ممتنعا إلّا أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ولما ذا ترك المقدّمة باختياره حتّى يصير ذو المقدّمة غير مقدور له؟ وحينئذ فيعاقب على ترك ذي المقدّمة ؛ لأنّ امتناعه كان باختيار من المكلّف وهو لا ينافي الاختيار عقابا.

وبالجملة فقد ظهر عدم تحقّق وجوب المقدّمة وأنّه يصير لغوا لا يترتّب عليه أثر أصلا.

بقي الكلام في بعض التفاصيل في المقام. وهنا تفصيلان :

التفصيل بين السبب وغيره :

أحدهما ما في الكفاية (٢) من أنّ المقدّمة السببيّة واجبة دون غيرها من الشرط والمعدّ لأنّ المسبّب لا يتوجّه إليه التكليف ؛ لضروريّته بعد الإتيان سببه فلا بدّ من صرف الأمر المتوجّه إلى المسبّب إلى سببه.

والجواب : كما في الكفاية (٣) من أنّ الكلام في الوجوب الغيري والأمر المتوجّه إلى المسبّب الذي لا بدّ من توجيهه إلى السبب كما يقول هو الأمر النفسي. وثانيا أنّ المسبّب لا مانع من توجّه الأمر نحوه ؛ لأنّ المقدور بالواسطة مقدور.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) كفاية الاصول : ١٥٨.

(٣) كفاية الاصول : ٥٨.

٤١٧

الثاني : ما ذكره بعضهم (١) من أنّ المقدّمة السببيّة ليست بواجبة ؛ لأنّها قبل الإتيان بها لا أمر بالمسبّب ؛ لكونه ممتنعا فمن أين يجيء الأمر الغيري ويترشّح إليها؟ وبعد الإتيان بالمقدّمة المسبّب ضروري ، فلا معنى للأمر به حينئذ ، فالمقدّمة الغير السببيّة هي الواجبة.

والجواب : أنّ ما ذكره من كون المسبّب ممتنعا قبل سببه فليس كذلك ؛ لأنّه مقدور بالواسطة ، وهذا كاف في توجّه الأمر نحوه ، وكونه ضروريّا أيضا باختياره ؛ لأنّ المكلّف أتى بسببه فصار ضروريا ، فوجوبه وامتناعه بالاختيار وهو لا ينافي القدرة والاختيار ، فلا فرق بينهما أي بين المقدّمة السببية وغيرها. نعم قد تطلق السببيّة على القيام للتعظيم مثلا فيقال : إنّ القيام سبب للتعظيم ولكنّه خارج عن محلّ الكلام ؛ إذ ليس هنا شيئان أحدهما سبب والآخر مسبّب ليقع الكلام في أنّ المقدّمة واجبة أم لا ، والتعبير بالسببيّة فيه مسامحة ، فلعلّ إنّ مراد من نفى الوجوب عن السبب أراد هذا ، فتأمّل.

التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره :

فصّل بعضهم (٢) بين الشرط الشرعي وغيره فحكم بالوجوب في الشرط الشرعي ؛ لأنّ شرطيّته منتزعة من الأمر به ، وحكم بعدم الوجوب في غير الشرط الشرعي ؛ لعدم الأمر به شرعا.

والجواب : كما في الكفاية (٣) من أنّ الشرطيّة منتزعة من الأمر النفسي بالمقيّد كانتزاع الجزئيّة من الأمر النفسي في المركّب ، والكلام في توجّه الأمر الغيري

__________________

(١) لم نعثر على القائل ونقله في أجود التقريرات ١ : ٣١٨ بلفظ : ومنهم من ذهب.

(٢) فصّله ابن الحاجب والعضدي ، راجع المختصر وشرحه : ٩٠ ـ ٩١.

(٣) كفاية الاصول : ١٥٩.

٤١٨

نحو ذات الشرط. وبالجملة فالأمر النفسي تعلّق بتقييد العمل بالطهارة مثلا ، فنفس الطهارة صارت مقدّمة بسبب الشارع ، فيكون حكمها من ناحية الأمر الغيري حكم غيرها من المقدّمات التكوينيّة غير أنّها مقدّمة جعلها الشارع مقدّمة.

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ الشرط الشرعي وغيره سواء من ناحية الأمر الغيري ، والظاهر عدم الوجوب للمقدّمة على الإطلاق ، وعلى تقدير القول بالوجوب فهو في خصوص المقدّمة التوأمة مع الإيصال كما تقدّم ، فافهم.

واعلم أنّ الكلام في مقدّمة المستحبّ هو الكلام في مقدّمة الواجب نفيا وإثباتا وتفصيلا فلا نعيد الكلام فيه.

في مقدّمة الحرام :

والكلام في حرمتها قد يكون من جهة الحرمة النفسيّة وقد يكون من جهة الحرمة الغيريّة ، ونحن نتكلّم في هذا المقام عن كلّ منهما فنقول : إنّ مقدّمة الحرام قد تكون بنحو يكون صدق المقدّمة وذي المقدّمة عليها بلحاظ عنوانين ، بأحدهما تكون مقدّمة وبالآخر يكون ذا المقدّمة وإلّا فليس في الوجود إلّا شيء واحد ، نظير هتك زيد بالجلوس عند دخوله وعدم القيام لاحترامه ، فهذا الجلوس بعنوانه الأوّلي مقدّمة وبعنوانه الثانوي وهو هتك زيد هو ذو المقدّمة ، ومثل هذا يكون محرّما بالحرمة النفسيّة الأوّليّة وهو خارج عن محلّ الكلام في مقدّمة الحرام ؛ إذ الكلام في مقدّمة الحرام التي يكون لها وجود خارجا غير وجود ذي المقدّمة وهي على أقسام :

[القسم] الأوّل : ما يكون الحرام بعده ضروريّ الوجود إمّا لكونها علّته التامّة أو لكونها جزءا من أجزاء العلّة إلّا أنّ بقيّة أجزاء العلّة توجد أيضا قطعا. مثال الأوّل : الذبح وإزهاق الروح ، فإنّ الذبح مقدّمة لكنّها علّة تامّة للذبح. ومثال الثاني من دخل دارا يعلم أنّه يجبر فيها على شرب الخمر. وهذان وإن كانا نوعين إلّا

٤١٩

أنّهما في عدم التخلّف متّفقان ، ولا ريب أنّ المقدّمة فيهما لا تتّصف بالحرمة النفسية زائدا على حرمة ذي المقدّمة ، فلا يعاقب بعقابين : أحدهما للمقدّمة والآخر لذي المقدّمة ؛ لعدم المقتضي لذلك ، بل في المقام حرمة نفسيّة واحدة إلّا أنّ الكلام أنّها على المقدّمة أو على ذي المقدّمة؟

ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى أنّها ـ أي المعاقبة ـ على المقدّمة ؛ لعدم القدرة على ذي المقدّمة قبلها ، وبعدها يكون ضروريا فالتحريم والعقاب عليها لا على ذي المقدّمة.

والجواب : أنّ المقدور بالواسطة مقدور كما التزم به في الوجوب في المقدّمة السببيّة فالظاهر أنّ التحريم لذي المقدّمة والعقاب عليه وتبقى المقدّمة ، فعلى القول بوجوب المقدّمة للواجب تكون محرّمة شرعا وعلى القول بعدم الوجوب لا تكون محرّمة شرعا ؛ لأنّ حكم العقل بلزوم تركها كاف في لزوم الاجتناب ويكون منع الشارع لغوا لا فائدة فيه أصلا.

القسم الثاني : ما لا يكون الحرام بعده ضروريّ الوجود بل يتوسّط اختيار العبد بينه وبين الحرام ويأتي به المكلّف لا بقصد التوصّل إلى الحرام ، وهذا جائز بضرورة الشرع ؛ ضرورة أنّ الخروج من الدار لكلّ أحد مقدّمة لقتل الأنفس المحترمة الكائنة خارج الدار ومقدّمة لشرب الخمر خارج الدار ولغير ذلك من المحرّمات.

القسم الثالث : هو القسم الثاني إلّا أنّه يفعله المكلّف بقصد التوصّل به إلى الحرام إلّا أنّ اختياره لفعل الحرام بعده موجود بحيث يستطيع أن يفعل الحرام وأن يتركه ، وهذا القسم لا وجه لاتّصافه بالحرمة الغيريّة ؛ لبقاء اختيار المكلّف بعده ، ولا وجه أيضا للاتّصاف بالحرمة النفسيّة إلّا بناء على حرمة نيّة السوء إذا اشتغل بمقدّمات ذلك السوء ، وهذا هو أحد وجوه الجمع بين الأخبار في نيّة السوء. وقد ذكرنا أنّ هذا الوجه غير تامّ وأنّ الحقّ هو الوجه الثاني للجمع بين تلك الأخبار.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٣١٩ و ٣٦١.

٤٢٠