غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

في ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدمه :

لا ريب في استحقاق الثواب بالمعنى الآتي على امتثال الأمر النفسي ، كما لا ريب في استحقاق العقاب على مخالفته ، ولكن بين استحقاق العقاب واستحقاق الثواب فرقا وهو : أنّ استحقاق العقاب بمعناه المعلوم «فإن عفا فبفضله وإن عذّب فبعدله» إلّا أنّ استحقاق الثواب ليس بمعنى أنّ للعبد مطالبته ، كلّا ، فإنّ إطاعته من مقتضيات عبوديّته وليس أجيرا للمولى كي يستحقّ أجرته ، بل معنى استحقاقه الثواب هو حسن إثابة المولى له ، بمعنى كون إثابة المولى له كانت إثابة لأهلها لا كإثابة العاصي فإنّها إثابة في غير محلّها.

ومن هذا القبيل ورد : من تاب كان كمن لا ذنب له (١) ، فإنّ التوبة رجوع العبد إلى مولاه ، والعبد الآبق رجوعه إلى مولاه من وظائف عبوديّته فليس له استحقاق المطالبة ، ولكن غفران ذنوبه تفضّل من المولى. فجميع موارد الإثابة كلّها من باب التفضّل ، والتعبير بالاستحقاق بمعنى كون المحلّ أهلا لذلك ، لا بمعنى حسن المطالبة كالأجير. نعم للعبد مطالبة المولى بوعده ؛ فإنّه وعد المحسنين أن يعفو عنهم ويتجاوز عن سيّئاتهم ويدخلهم الجنّة التي عرّفها لهم وغير ذلك ، إلّا أنّ هذه المطالبة من جهة لطف الله وكماله وأنّ المؤمن لا يخلف وعده فكيف بالله عزوجل ، وليس المطالبة لإطاعة العبد ، كلّا ثمّ كلّا (*). هذا كلّه في الواجبات النفسيّة.

وأمّا الواجبات الغيريّة فقد ذكر صاحب الكفاية (٢) أنّها لا ثواب في موافقتها ولا عقاب في مخالفتها ، وإنّما يترتّب الثواب والعقاب على موافقة النفسي ومخالفته.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، الباب ٨٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٨ و ١٤.

(*) ولعلّ ما ورد من قولهم : خف الله خوفا لو أتيته بحسنات الثقلين لعذّبك وارجه رجاء لو أتيته بذنوب الثقلين لغفر لك ، ـ الوسائل ١١ : ١٦٩ ـ ١٧٠ ، الباب ١٣ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١ و ٦ ـ إشارة إلى ذلك. (الجواهري).

(٢) كفاية الاصول : ١٣٨.

٣٨١

والظاهر أنّ مخالفته لا توجب عقابا بنفسها كما ذكر ؛ إذ لا فرق مع ترك الواجب النفسي بين الإتيان بمقدّماته وعدم الإتيان بها إلّا أنّ موافقة الواجب الغيري إذا اسندت إلى الله فتقرّب بها إلى الله تعالى وأتى بها بما أنّها مقدّمات ذلك الواجب النفسي يثاب العبد عليها قطعا ؛ إذ مناط الثواب النفسي بعينه موجود فيه وهو القرب. فما ذكره الآخوند من عدم الثواب عليها لا وجه له. نعم ليس نفس الأمر الغيري مسبّبا له بل القربة هي المسبّبة لذلك ، وعلى ذلك يحمل ما ورد من الثواب على المقدّمات كالمشي لزيارة الحسين عليه‌السلام والحج والجهاد وغيرها (١).

الإشكال في الطهارات الثلاث :

وبناء على ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري فإشكال ترتّب الثواب على الطهارات لا وقع له ؛ إذ هي كغيرها من الواجبات الغيريّة يثاب العبد عليها إذا تقرّب بها ، إلّا أنّ هنا إشكال آخر. ملخّصه أنّ الأمر الغيري توصّلي يكتفى بإتيان ذات العمل في سقوطه فلم يعتبر قصد القربة في سقوط أمره؟

وقد اجيب عنه بوجوه :

أحدها ما في الكفاية (٢) من أنّ بها أمرا نفسيّا صيّرها عبادة ، والأمر الغيري توجّه إلى ما هو عبادة ، فالإتيان بها بغير قربة ليس إتيانا بمتعلّق الأمر الغيري ، نظير ما لو أمر الوالد ولده أو المولى عبده بصلاة الليل ، فإنّ أمرهم مع كونه توصّليّا لا يسقط إلّا بإتيان متعلّقه ، وهو الصلاة المتقرّب بها. أمّا غير المتقرّب بها فلا يأمر المولى بها ولا يدعو الأمر إليها ؛ إذ الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلّقه ، فافهم.

__________________

(١) انظر كامل الزيارات : ١٣٢ ـ ١٣٥ ، الباب ٤٩ وص ١٤٤ ، الباب ٥٧ ، والكافي ٤ : ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، الحديث ٣٧.

(٢) كفاية الاصول : ١٣٩ ـ ١٤٠.

٣٨٢

وقد ردّ الميرزا قدس‌سره (١) هذا الجواب بامور :

الأوّل : أنّ هذا إنّما يتمّ في الوضوء والغسل ؛ لوجود الأمر بهما ذاتا ، وأمّا في التيمّم فلا يتمّ ؛ إذ ليس التيمّم مستحبّا نفسيّا.

وفيه : أنّا نلتزم باستحبابه النفسي ؛ ضرورة أنّه قد ورد في الروايات : أنّ التراب أحد الطهورين (٢) كما ورد : أنّ التيمّم أحد الطهورين (٣) فهو طهور بموجب هذه الأخبار ، وقد قال الله في كتابه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(٤) فثبت محبوبيّته النفسية بالدليل وبقوله : الطهور على الطهور نور على نور (٥) ، كما هو واضح لا يخفى.

الثاني : أنّ الأمر الاستحبابي ينعدم عند عروض الوجوب ؛ لاستحالة اجتماع الضدّين والأحكام متضادّة.

وفيه : أنّا لو قطعنا النظر عمّا نذكره غير بعيد من التوجيه لذلك ، ففيه : أنّ الطلب لا يرتفع وإنّما ترتفع رتبته الضعيفة ، فتتبدّل إلى رتبة أكيدة ، وحينئذ فيصحّ الإتيان بها بداعي ذات الطلب الموجود في مرتبة الاستحباب.

الثالث : أنّ الطهارات يصحّ الإتيان بها بقصد أمرها الغيري ولو لم يقصد المكلّف أمرها النفسي المتعلّق بها.

ودعوى أنّه لا يدعو إلّا إلى متعلّقه فلا حاجة إلى قصده ، غير مسموعة فيما لو كان ملاك العباديّة متقوّما بأمر نفسي ؛ ولذا لا يصحّ الإتيان بصلاة الظهر بقصد الأمر

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٤.

(٢) الوسائل ٢ : ٩٩٤ ـ ٩٩٥ ، الباب ٢٣ من أبواب التيمّم ، الحديث ١ و ٦.

(٣) الوسائل ٢ : ٩٩١ ـ ٩٩٢ ، الباب ٢١ من أبواب التيمّم ، الحديث الأوّل.

(٤) البقرة : ٢٢٢.

(٥) الوسائل ١ : ٢٦٥ ، الباب ٨ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨ ، وفيه : الوضوء على الوضوء نور على نور.

٣٨٣

الغيري المتوجّه إليها من صلاة العصر ؛ لأنّ شرطها تقدّم الظهر عليها ، ولو أتى بها كذلك كانت فاسدة ، بل لا بدّ من قصد أمرها الذي يكون مقوّما لملاك العباديّة وحينئذ فلا بدّ أن يكون ملاك عباديّة الطهارات هو الأمر الغيري ؛ ولذا تسقط لو قصده ، قال الاستاذ الخوئي أيّده الله : هذا الإشكال وارد وصحيح ، فتأمّل.

الجواب الثاني عن اعتبار قصد القربة في الطهارات ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وملخّصه : أنّ اعتبار قصد القربة فيها إنّما نشأ من اشتراط الصلاة التي هي عبادة به ، فإنّ الأمر النفسي متوجّه إلى الصلاة بأجزائها وشرائطها ، فالأمر النفسي بالغاية هو منشأ عباديّتها.

وفيه : أنّه مبنيّ على مبناه من كون الشرائط داخلة تحت الأمر ، وقد ذكرنا أنّ ذات الشرط غير داخلة وإنّما الداخل تحت الأمر النفسي هو التقيّد ، وكيف يدخل الشرط تحت الأمر مع كونه ليس تحت الاختيار كالوقت والقبلة مثلا؟ ولو فرض اتّصافها بالوجوب النفسي كالأجزاء لاستحال اتّصافها بالوجوب الغيري كالأجزاء أيضا.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ الطهارات الثلاث بما هي عبادة مقدّمة فليست ذاتها هي المقدّمة بخصوصها ، بل هي جزء المقدّمة والجزء الثاني هو التقرّب بها إلى الله تعالى. والوجه في عباديّتها أمران على سبيل منع الخلو : إمّا أمرها النفسي المتعلّق بها وإمّا عنوان مقدّميّتها فإن أتى المكلّف بها بداعي أمرها النفسي الاستحبابي أو بداعي التوصّل بها إلى الأمر النفسي بذيها كان متقرّبا بها ، فإنّها حينئذ منسوبة إليه. وهذا لا يفرق فيه بين القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم الوجوب كما هو الحقّ ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وحينئذ فلا يرد إيراد

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٥.

٣٨٤

الميرزا قدس‌سره (١) من أنّ من أتى بها بداعي الغير من دون التفات إلى الأمر النفسي المتعلّق بها يلزم أن لا يجوز له الدخول في الصلاة ، ووجه عدم الورود أنّ عنوان المقدّميّة إضافته إلى الله ؛ إذ المقصود به التوصّل إلى مطلوبه النفسي.

بقي هنا فرعان :

أحدهما : أنّه يجوز الوضوء قبل دخول وقت الصلاة بداعي أمره النفسي المتعلّق به ، بل وكذا يجوز بداعي التوصّل به إلى إحدى الغايات التي يعتبر الوضوء فيها شرط صحّة أو كمال ، فإن بقي الوضوء إلى ما بعد دخول الوقت فلا خلاف في جواز الدخول في الصلاة بذلك الوضوء.

الثاني : أنّه يجوز الوضوء بعد دخول الوقت لواجب نفسي مشروط به بقصد التوصّل به إلى ذلك الواجب النفسي قطعا ، وهل يجوز الوضوء بقصد أمره النفسي المتعلّق به نفسه؟ ربّما يقال بعدم الجواز ؛ لكون الوقت وقت وجوبه لا استحبابه ، فلو أعرض عن الصلاة فعلا بل قصد الوضوء لمحبوبيّته النفسيّة فليس له أن يصلّي بذلك الوضوء.

وفيه : أنّ طلب الاستحباب لم ينعدم وإنّما انعدم الترخيص في الترك وتبدّل بعدم الترخيص فيه ، وحينئذ فالطلب الاستحبابي موجود قطعا فلا مانع من صحّة الوضوء باستحبابه النفسي حينئذ والدخول به في الصلاة.

وما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) من الاندكاك مبنيّ على اشتراك الوجوب والاستحباب في جامع الطلب ، وليس كذلك ، بل الظاهر اختلافهما في الملاك وأنّ الوجوب مغاير للاستحباب بحسب الملاك ، وحينئذ فلا مجال للاندكاك ، نعم يرتفع الترخيص في الترك ويحلّ محلّه المنع من الترك.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٥٨.

٣٨٥

وينبغي التعرّض لفرع ثالث وهو أنّه لو توضّأ أو اغتسل أو تيمّم بقصد غاية من الغايات كالصلاة مثلا ثمّ بدا له في تركها فهل يجوز له الدخول في مشروط بتلك الطهارة غير ما تطهّر له أم لا؟

ربّما يقال بعدم الجواز بناء على القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة أو بمحبوبيّة خصوصها ، بدعوى أنّ محبوبيّتها أو وجوبها كان تخيّليا لا واقع له ؛ إذ هما مشروطان بالإيصال ولو بنحو الشرط المتأخّر ولم يتحقّق ، فلا أمر بهما. نعم ، لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة أو محبوبيّتها كانت صحيحة فيجوز الدخول في بقية الغايات الغير المقصودة.

ولكنّه فاسد ، بل التحقيق أنّ المناط في عباديّة كلّ عمل أمران :

أحدهما : قابليته للتقرّب.

الثاني : تحقّق القربة والإضافة له إلى الله تعالى ، وتحقّق إضافة هذا العمل إلى الله محقّقة قطعا.

أمّا القابليّة فهي وإن كانت مفقودة من جهة الأمر الغيري أو المحبوبيّة الغيريّة على القول بخصوص المقدّمة الموصلة إلّا أنّ لها محبوبيّة نفسيّة وهي موجودة قطعا ، وحينئذ فقد تحقّق المناط في العباديّة ، غاية الأمر أنّه قصد الأمر الغيري أو المحبوبيّة الغيريّة وهي مفقودة لكنّه لا يضر ؛ لأنّه من باب الاشتباه في التطبيق.

٣٨٦

الكلام هنا في تبعيّة وجوب المقدّمة لذيها

في الإطلاق والاشتراط وعدمها

هل يعتبر في وجوب المقدّمة أكثر من تحقّق ذاتها أم لا يعتبر؟ الأقوال في المقام خمسة :

أحدها : أنّه لا يعتبر في وجوب مقدّمة الواجب المطلق شيء غير تحقّق ذاتها (١).

الثاني : أنّه يعتبر في وجوبها إرادة ذي المقدّمة وهو المنسوب إلى صاحب المعالم (٢).

الثالث : أنّه يعتبر في الواجب منها قصد التوصّل ، سواء أوصلت أم لا ، وهو قول الشيخ الأنصاري على ما في التقريرات (٣). والفرق بينه وبين قول صاحب المعالم أنّ قول صاحب المعالم تقييد الوجوب بإرادة ذي المقدّمة ، وقول الشيخ تقييد الواجب مع إطلاق الوجوب.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٢) معالم الدين : ٧١.

(٣) مطارح الأنظار ١ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

٣٨٧

الرابع : أنّه يعتبر في وجوبها الإيصال ، سواء قصد بها التوصّل أم لا ، وهو قول صاحب الفصول (١).

الخامس : هو اعتبار قصد التوصّل والإيصال الخارجي معا ، وهو قول بعض مشايخ استاذنا المحقّقين.

ولا يخفى أنّ هذا المبحث كان الأنسب به تأخيره عن نتيجة المسألة ، وهي القول بالوجوب أو عدمه فيقال : وهذا الوجوب الثابت ثابت لجميع أفراد المقدّمة أم لخصوص الموصلة مثلا ، إلى آخره.

أمّا قول صاحب المعالم قدس‌سره فواضح البطلان ؛ ضرورة أنّه لو لم يرد الواجب فإن كانت المقدّمة واجبة لزم عدم الاشتراط ، وإن لم تكن واجبة فيلزم التفكيك بين وجوبها ووجوب ذيها إن بقي وجوب ذيها ، وإن ارتفع لزم دوران الوجوب له مدار إرادة المكلّف وعدمها وتخرج المقدّمة حينئذ عن كونها مقدّمة واجب.

وبالجملة ، بما أنّ الوجوب للمقدّمة ترشّحي من ذيها فمتى وجب ذو المقدّمة وجبت المقدّمة بنفس الوجوب المطلق كما هو واضح ، ولا يعقل وجوب ذي المقدّمة مطلقا ووجوبها مشروطا.

الكلام في اعتبار قصد التوصّل في الوجوب وعدمه :

ذكر صاحب التقريرات (٢) ونسب إلى الشيخ الأنصاري اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب ، وأنّه استدلّ على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة بأنّ قصد عنوان المقدميّة لا بدّ منه في وقوعها على صفة الوجوب ، نظير الامور القصديّة كالتعظيم والتأديب ، وقصد المقدّميّة عند الامتثال هو قصد التوصّل بها. وقد أوضحه بعض المحقّقين قدّس الله أسرارهم (٣) بمقدّمتين بعد اختياره له :

__________________

(١) الفصول : ٨١ و ٨٦.

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٣٥٣ ـ ٣٥٥.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣٤٢.

٣٨٨

الاولى : أنّ الحيثيّة التعليليّة لحكم العقل حيثيّة تقييديّة له بنحو تكون هي موضوع حكم العقل ، بحيث يكون المعلّل إنّما حكم بهذا الحكم لكونه صغرى من صغريات ذلك الحكم ، فالحكم على العالم بالحدوث إنّما هو لكونه متغيّرا ، ولا فرق في ذلك بين حكم العقل النظري المعبّر عنه في الاصطلاح بما ينبغي أن يعلم ، وهو المنتهى إلى استحالة اجتماع النقيضين ، كأن يقال : لا يجوز اجتماع الأمر والنهي ؛ لكونه اجتماع ضدّين فمعناه : الضدّان لا يجتمعان ، والحكم بعدم اجتماع الأمر والنهي بما أنّهما صغرى لتلك الكبرى الكلّية ، وبين حكم العقل العملي المعبّر عنه بما ينبغي أن يعمل ، وهو المنتهى إلى حسن العدل وقبح الظلم ، كحكم العقل بقبح شرب التتن لكونه ضررا ، فمعناه : قبح الضرر ، وشرب التتن إنّما حكم بقبحه ؛ لكونه صغرى لتلك الكبرى الكلّية.

المقدّمة الثانية : أنّ الذي هو تحت الأمر هو الامور الاختياريّة ، أمّا ما ليس تحت الاختيار فليس يجوز التكليف به ، نعم قد يكون مسقطا للواجب.

وإذا تمّت هاتان المقدّمتان ثبت وجوب خصوص المقدّمة المقصود بها التوصّل. بيان ذلك : أنّ الوجوب توجّه نحو ذات الفعل لكونه مقدّمة ، وبما أنّ المقدميّة الواقعيّة ليست تحت الاختيار فلا بدّ من أن يقصد بها عنوان المقدّميّة ، وهو عبارة عن قصد التوصّل بها في وقوعها على صفة الوجوب.

ولا يخفى أنّ المقدّمة الاولى وإن كانت صحيحة ولكن يرد عليه :

أوّلا : أنّ الكلام ليس في حكم العقل بوجوب المقدّمة ، بل في حكم الشارع بها من الملازمة العقليّة.

وبالجملة ، الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته بحكم العقل وهي غير معلّلة والوجوب معلّل ولكنّه وجوب شرعي ، وليس العلل فيه عللا تقيّدية كحكم العقل ، بل هي علل للمحبوبيّة فافهم. وإطلاق حكم العقل عليه مسامحة باعتبار كون العقل هو الكاشف لحكم الشارع.

٣٨٩

(وثانيا : أنّ ما ذكر من المقدّمتين لا يستلزم قصد التوصّل ، وإنّما يستلزم التفات المكلّف إلى المقدّمة وإن أتى بها بقصد آخر ، كأن يلتفت إلى وجوب الصلاة وإلى توقّفها على إزالة نجاسة الثوب مثلا ولكنّه يغسل الثوب بقصد أن يذهب إلى المحلّ الفلاني بثوب طاهر من غير أن يقصد بغسله الصلاة أصلا.

وأمّا المقدّمة الثانية فغير تامّة ؛ لأنّ العجز عن بعض أفراد الماهيّة لا يخرجها عن الوجوب ؛ لأنّ الوجوب منوط بالقدرة على بعض أفراد الماهيّة ، فيتوجّه التكليف بالماهيّة ، فالذات التي يترتّب عليها الواجب مثلا يكون هو الواجب وإن لم يقصد به التوصّل ، فافهم.

واحتمل الميرزا النائيني كون مقصود الشيخ الأنصاري اعتبار قصد التوصّل في الامتثال كما ذكرنا ، واحتمل أيضا أن يكون كلامه مخصوصا بخصوص صورة المزاحمة مع الحرام حيث تكون المقدّمة محرّمة ، فيرتفع التحريم مع أهميّة ذي المقدّمة عن خصوص المقدّمة المقصود بها التوصّل ؛ لتحقّق التزاحم بين الحرام النفسي والواجب الغيري.

والحقّ : أنّ التزاحم إنّما هو بين الواجب النفسي والحرام النفسي ، فإذا كان الأوّل أهمّ قدّم فتجب ذات المقدّمة الموصلة ؛ لأنّها التي يتوقّف وجوده عليها لا ما قصد بها التوصّل وإن لم توصل. نعم يكون معذورا إذا قصد بها ذلك ولم توصل كما صحّ أن يكون متجرّيا لو لم يقصد التوصّل وأوصلت اتّفاقا) (١).

في ثمرة القول باعتبار قصد التوصّل :

وقد ذكر صاحب التقريرات (٢) في المقام ثمرات :

الاولى : إنها لا تقع على وجه الصحّة إذا لم يقصد بها التوصّل إلى ذي المقدّمة ، فمن وجب عليه الصلاة إلى أربع جهات إذا صلّى إلى جهة بانيا على الاكتفاء بها يلزم

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٣٥٤.

٣٩٠

أن لا تقع صحيحة ؛ لعدم قصد التوصّل بها ، بخلاف ما لو لم يعتبر قصد التوصّل في وجوب المقدّمة فإنّها تقع حينئذ إذا صادفت الواقع واجبة وصحيحة.

أقول : لا يخفى أنّ الكلام في المقدّمة الوجوديّة لا العلميّة ، فلا ربط لهذه الثمرة بأصل المبحث.

الثمرة الثانية : ما ذكره في التقريرات أيضا إنّه على القول بالمقدّمة المقصود بها التوصّل لو توضأ بقصد غاية ليس له أن يفعل بذلك الوضوء غاية اخرى ؛ لعدم قصد التوصّل بالوضوء إليه. ثمّ أعرض عن هذه الثمرة بأنّ الوضوء متى صحّ ، صحّ أن تقع به جميع الغايات ؛ لكونه حقيقة واحدة ، ولكنّها تتمّ في الغسل ؛ فإنّ الغسل ماهيّات عديدة فلو قصد مثلا بغسله الصوم فليس له أن يصلّي بذلك الغسل على القول باعتبار قصد التوصّل ، وله أن يصلّي على القول بعدم الاعتبار.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام من الغرابة بمكان ؛ فإنّ اختلاف ماهيّات الأغسال ليس من حيث غاياتها وإنّما هي من حيث أنفسها ، فغسل الجنابة غير غسل الحيض وهما غير غسل النفاس ، فلو قصد أحدها لا يتحقّق الثاني ، لا بالإضافة إلى الغايات فإنّ الغسل من حيث الغايات كالوضوء فافهم فهذه الثمرة كسابقتها ، ومن هنا احتمل الميرزا النائيني قدس‌سره (١) أنّ هذه الثمرات من المقرّر وهو غير بعيد.

الثمرة الثالثة : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) فيما لو كانت المقدّمة محرّمة وذو المقدّمة أهمّ ملاكا من مفسدة الحرام ، كما لو توسّط الأرض المغصوبة غير قاصد للتوصّل إلى إنقاذ المؤمن الغريق ، فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة ليس عليه غير التجرّي على ترك الإنقاذ ، وعلى القول بوجوب خصوص ما قصد به التوصّل يستحقّ العقاب بدخول ملك الغير بغير إذنه ، وبغير إذن الشارع أيضا لعدم كونه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٠.

(٢) كفاية الاصول : ١٤٣ ـ ١٤٤.

٣٩١

واجبا حينئذ لعدم قصد التوصّل به ، ولا ريب في استغراب كون الدخول في ملك الغير مباحا مع عدم قصد الإنقاذ وكونه مخالفا لمقتضى الوجدان ، وهذا هو الذي دعا صاحب الفصول (١) إلى اعتبار الإيصال في وجوب المقدّمة وادّعى عليه الضرورة ، كما ادّعى الشيخ الأنصاري إلى اعتبار قصد التوصّل ولا ريب أنّ قصد التوصّل معتبر في الثواب لا في الوجوب ، والمعتبر في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب إنّما هو الوصول الخارجي كما اعتبره صاحب الفصول قدس‌سره وادّعى عليه الضرورة فإنّ الظاهر أنّ الحقّ معه وأنّ المقدّمة إنّما تقع على صفة الوجوب حيث يترتّب عليها ذو المقدّمة.

في اعتبار الوصول في وجوب المقدّمة وعدمه :

وقد ذهب صاحب الفصول قدس‌سره إلى أنّ المقدّمة إنّما تتّصف بالوجوب إذا ترتّب عليها ذو المقدّمة ، والظاهر صحّة مدّعاه ، ولنذكر مثالا تمهيدا للخوض في كلامه وما اورد عليه من الإيرادات : مثلا من سقط إحدى محارمه في البحر وكان نجاتها موقوفا على مسّ الأجنبيّ لجسمها أو لشعرها ، فهل تراه يرضى أن يمسّها الأجنبيّ مسّا لا يخرجها به متعمّدا بل يمسّها لأمر آخر ، بدعوى : أنّ المسّ مقدّمة لواجب أهمّ فقد ارتفع تحريمه الشرعي ، فهو جائز فيمسّها ولا يخرجها؟ كلّا ، بل لا يرضى بذلك ويبغضه أشدّ البغض. وكذا الرجل يعطي لولده الدراهم ليشتري القرطاس والقلم ليكتب ، فهو يشتري القرطاس والقلم ثمّ يرميهما في البحر ، فهل ترى أنّ الأب يرضى بهذا الشراء ويشتاق إليه؟ كلّا ثمّ كلّا ، وأمثلة ذلك كثيرة جدّا لمن تأمّلها.

فالإنصاف أنّ الحقّ مع صاحب الفصول حيث ادّعى بداهة اعتبار الإيصال الحقيقي في وقوعها على صفة الوجوب لو تأمّل المتأمّل.

__________________

(١) الفصول : ٨٦.

٣٩٢

ثمّ إنّ صاحب الفصول (١) بعد أن ادّعى ضرورة وجوب خصوص الموصلة من المقدّمات وبداهة ذلك ، وأنّ العقل الحاكم بالملازمة لا يدلّ عليه زائدا على القدر المذكور استدلّ بدليل ملخّصه : جواز منع الشارع عن غير الموصلة عقلا مع استحالة منعه عن الموصلة بخصوصها أو مطلق المقدّمة عقلا (*).

وقد أجاب صاحب الكفاية (٢) عن هذا الدليل بأمرين :

أحدهما : أنّ اختصاص الوجوب بخصوص الموصلة حينئذ للنهي عن غيرها لا يقضي بكون الملازمة خاصّة بها ؛ فإنّ الأمر بالطبيعة إنّما ينصرف إلى ما لا مانع فيه ، والمنهيّ عنه مقرون بالمانع ، فلا يدلّ على اختصاص الملازمة بخصوص الموصلة.

الثاني : أنّه يؤدّي إلى جواز ترك الواجب ؛ لاختصاص جواز مقدّمته لو كانت محرّمة بصورة الإتيان به ، فقبل الإتيان به لا جواز فلا وجوب لها حينئذ فيتركها ، وبتركها يترك الواجب لكونه محال والتكليف بالمحال محال على الله تعالى.

والجواب عمّا ذكره صاحب الكفاية من الإيرادين :

أمّا عن الأوّل فبأنّ الكلام إن كان في توجّه الأمر نحو طبيعة ذات أفراد بعضها منهيّ عنه فلا ريب في اختصاص الأمر حينئذ بما لا نهي فيه ، أمّا الفرد الواحد من المقدّمة إذا كان محرّما وذا حالين فإمكان توجّه النهي نحوه في حال منهما كاف في وقوعه ؛ إذ النهي مطلق وإنّما يقيّد حيث يستحيل بقاؤه مطلقا ، فإمكان توجّه النهي نحوه كاف في وقوعه ، كالترتّب ، فافهم.

__________________

(١) الفصول : ٨٦.

(*) قد أفاد في دورته اللاحقة أنّ هذا الإيراد أورده السيّد اليزدي على الآخوند في مجلس وسلّم الآخوند هناك ، ثمّ أجاب عنه في مجلس الدرس وأنّ إيراد صاحب الفصول جواز التصريح بإيجاب خصوص الموصلة وعدم وجوب غيرها.

(٢) كفاية الاصول : ١٤٨ ـ ١٥٠.

٣٩٣

وثانيا : أنّ الكلام في صحّة نهي المولى عن بعض المقدّمات ؛ إذ لو كانت الملازمة ثابتة بين الجميع لكان نهي المولى محالا عقلا ، فصحّة نهيه دليل عدم ثبوت الملازمة على الإطلاق ، وهذا المقدار كاف لصاحب الفصول في إثبات دعواه ؛ ولذا لا يجوز النهي عن خصوص الموصلة أو مطلق المقدّمة ، فهو دليل الملازمة ولو في الجملة كما في الثاني.

وأمّا الثاني فينبغي أن يعدّ من كبوة الجواد ؛ ضرورة أنّ صاحب الفصول لم يعتبر الإيصال قيدا في الوجوب وإنّما اعتبره قيدا للواجب كما نقله عنه هو قدس‌سره ، وأنّ الإيصال قيد لوقوعها على صفة الوجوب ، وحينئذ فالجواز للمقدّمة المحرّمة موقوف على الوجوب وهو متحقّق وإن كان الإيصال شرطا للواجب ولوقوعه على صفة الوجوب ، نعم لو كان الإيصال شرطا للوجوب تمّ ذلك الإيراد وليس كذلك.

أدلّة القائلين بوجوب مطلق المقدّمة :

ثمّ إنّه قد استدلّ جماعة على وجوب مطلق المقدّمة لا خصوص الموصلة واستحالة التخصيص بها. ولنبدأ بكلام صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وقد استدلّ بامور :

الأوّل : أنّ إيجاب المولى للمقدّمة ، لا بدّ أن يكون لغرض ، ولا غرض إلّا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة ، وإذا كان الغرض هو الإمكان لذي المقدّمة فهو مترتّب على مطلق المقدّمة ، ومع عموم الملاك لا وجه لاختصاص الوجوب بخصوص الموصل.

والجواب : أنّ المقدّمة هي ما لولاها لما أمكن ذو المقدّمة ، فكيف تكون الغاية من إيجابها حصول ما لولاه لما أمكن ذو المقدّمة؟ وهل يكون معناه إلّا أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة هو وجود المقدّمة؟

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٥.

٣٩٤

ثمّ لو قلنا بأنّ مراده أنّ الغرض هو إمكان ذي المقدّمة وإن قصرت عبارته عنه ، ففيه : أنّ ذا المقدّمة قبل مقدّمته أيضا ممكن بسبب القدرة على نفس المقدّمة ، فذو المقدّمة أيضا مقدور بالقدرة على مقدّمته ، وإلّا فلو لم يكن مقدورا كيف يجب لتجب مقدّمته؟ وحينئذ فإمكان التوصّل ليس مما يترتّب على المقدّمة أصلا. وحينئذ فالغرض من إيجاب المقدّمة هو التوصّل إلى ذي المقدّمة كما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره.

وقول صاحب الكفاية : إنّ الوصول ليس بأثر تمام المقدّمات فضلا عن خصوص إحداها ، يندفع بأنّ الوجوب الغيري وجوب واحد متوجّه إلى مجموع المقدّمات ومنبسط عليها كما أفاده بعض المحقّقين (١) ـ قدس‌سرهم ـ وهذا المحقّق وإن زعم أن لا غرض في مقدّمة كلّ واجب إلّا التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ، ولا نوافقه على ذلك ، بل ترتّب ذي المقدّمة هو الغرض الأقصى ، وهناك أغراض تترتّب على نفس المقدّمات ، وقد عبّرنا عنه بسدّ باب العدم من تلك الجهة ، إلّا أنّا نوافقه في كون الوجوب الغيري واحدا ، وحينئذ فالوجوب واحد منبسط على جميع المقدّمات ، فإن أتى بجميع المقدّمات حصل امتثاله وإن أتى ببعضها كان امتثاله مراعى بإتيان الباقي من المقدّمات ، فإن أتى بها سقط أمرها وإلّا فلا ، فإذا كان وقوعها على صفة الوجوب مشروطا بالإيصال بنحو الشرط المتأخّر كان سقوط أمرها الغيري منوطا بحصولها بشروطها.

الثاني ممّا ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) : أنّه إن أتى بمقدّمة من مقدّمات الواجب ولم يأت بالواجب بعد ، فإن سقط أمرها ثبت المطلوب وهو أنّ مطلق المقدّمة واجب ؛ ضرورة أنّ سقوط الأمر كاشف عن حصول الغرض الذي من أجله

__________________

(١) انظر نهاية الأفكار ١ ـ ٢ : ٣٤١.

(٢) كفاية الاصول : ١٤٦.

٣٩٥

وجبت المقدّمة ؛ إذ سقوط الوجوب إمّا بالعصيان أو ارتفاع موضوع التكليف أو الامتثال ، وليس في المقام إلّا الأخير ، وإن لم يسقط الأمر فيلزم الإتيان بهذه المقدّمة ثانيا لبقاء أمرها ولا يلتزم به.

والجواب أوّلا : بالنقض بأنّ المكلّف لو كبّر في الصلاة التي هي واجب نفسي فإمّا أن يسقط أمره لحصول الغرض أو يكبّر ثانيا لبقاء الأمر ، فما هو الجواب هنا هو الجواب في الواجب الغيري إن شاء الله تعالى.

وثانيا : بالحلّ بما ذكرناه قبل أسطر من كون الأمر الواحد المنبسط إنّما يمتثل بإتيان متعلّقه ، ومتعلّقه جميع أجزاء ذلك المركّب ، فإذا أتى بها فحينئذ يسقط أمرها ، وإذا كان الواجب المركّب مشروطا فلا بدّ في وقوعه على صفة الوجوب من حصوله بشرطه كما هو واضح. وحينئذ فالتكليف بالصلاة من هذا القبيل ؛ فإنّ الأمر بالصلاة أمر بجميع أجزائها من تكبير وقراءة وغيرها إلّا أنّ وقوعها على صفة الوجوب مشروط بإتمامها وهو على صفة التكليف ، فلو خرج عن صفة التكليف كشف عن عدم وقوعها على صفة التكليف من أوّل الأمر ، وكذلك المقام الأمر الغيري إنّما يتوجّه إلى جميع المقدّمات ، ووقوعها على صفة الوجوب مشروط بالإيصال ، وحينئذ فلا يسقط الأمر بصرف حصول أوّل مقدّمة من مقدّماته ولا بجميعها وإنّما يسقط بحصولها بشرطها الذي اعتبر فيها في وقوعها على صفة الوجوب كما هو واضح لا يخفى فافهم.

الثالث من الوجوه التي استدلّوا بها على عموم الوجوب لمطلق المقدّمة وعدم اختصاصه بخصوص الموصلة ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وهو : أنّ اختصاص الوجوب بخصوص المقدّمة الموصلة مستلزم للدور. وقد قرّب بتقريبين :

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٥.

٣٩٦

أحدهما : ما استفاده استاذنا الخوئي ـ مد ظلّه ـ منه وهو الدور من ناحية الوجوب ، وملخّصه : أنّه لو اختصّ الوجوب بخصوص الموصلة للزم أن يكون قيد الإيصال شرطا للواجب ، والإيصال عنوان ينتزع من ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة ، وحينئذ فمنشأ الانتزاع يلزم أن يكون واجبا بوجوب المقدّمة ، فيكون ذو المقدّمة واجبا بوجوب مترشّح من المقدّمة ، وقد فرضنا أنّ وجوبها مترشّح منه فيلزم تقدّم وجوب كلّ منهما على الآخر ، فينتج تقدّم الشيء على نفسه وهو الدور.

والجواب عن هذا التقرير هو : أنّ الوجوب الذي ترشّح منه الوجوب الغيري للمقدّمة هو الوجوب النفسي ، والذي يترشّح من المقدّمة إليه هو الوجوب الغيري فلا دور ؛ إذ الموقوف عليه وجوب المقدّمة هو الوجوب النفسي وما ينشأ من المقدّمة هو الوجوب الغيري فلا دور. نعم يلزم أن يكون الواجب النفسي مجمعا لوجوبين :

أحدهما نفسي والآخر غيري وهذا لا بأس به ؛ إذ يتأكّد الوجوب على المشهور وملاكه على رأينا.

التقرير الثاني من تقريري الدور ما قرّره بعض المقرّرين لبحث الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وهو الدور من ناحية المقدّمية. وملخّصه : أنّ الوجوب لو اختصّ بالمقدّمة الموصلة للزم كون ذي المقدّمة مقدّمة للمقدّمة وهو باطل ؛ إذ كونه ذا المقدّمة يقتضي تقدّمه على المقدّمة رتبة ، وكونه مقدّمة يقتضي تأخّره رتبة.

والجواب : أنّ الإيصال ليس قيدا للمقدّمة وإنّما هو قيد لوقوعها على صفة الوجوب ، فليس ذا المقدّمة قيدا للمقدّمة ومقدّمة له ، بل إنّ كلّ فرد من الموصل وغيره مقدّمة ولكنّ صاحب الفصول يدّعي أنّ الواجب حصّة خاصّة من المقدّمة ، وهي خصوص الموصلة ، فليس مقدّميّتها موقوفة كما ذكر ، بل قيد الإيصال شرط لوقوعها على صفة الوجوب ، فافهم.

__________________

(١) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٩٠.

٣٩٧

والظاهر أنّ بيان الدور بما ذكر أوّلا أولى ويدفع بما ذكرنا من أنّه يلزم اجتماع المثلين وليس بضائر كما مرّ.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه من الجواب تنزّلي ، والحقّ أنّه ليس أصل الدور بوارد ؛ إذ الإيصال ليس قيدا لا للوجوب ولا للواجب وإنّما ذكر مشيرا إلى الواجب وإنّ المقدّمة الواجبة هي المقدّمة الملازمة في الوجود لذي المقدّمة ، والتعبير بالإيصال إنّما هو مشير إليها ، وإلّا فليس الإيصال قيدا أصلا ، بل المراد أنّ العلّة التامّة له هي الواجبة ، وحينئذ فالوجوب الغيري وجوب واحد مترشّح من ذي المقدّمة على جميع ما له دخل في وجود الواجب من المقدّمات الوجوديّة ، لا أنّ كلّ مقدّمة لها أمر غيري مستقلّ ، بل الأمر الغيري واحد ليس إلّا منبسط على جميع المقدّمات التوأمة بحسب الوجود مع ذي المقدّمة.

وبهذا البيان اندفع ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ثانيا من أنّ ذات المقدّمة المقيّدة بقيد الإيصال بما أنّها جزء المقدّمة واجبة أم لا؟ لا سبيل إلى الثاني فلا بدّ من كونها واجبة ، وحينئذ فهي واجبة ، فإن كانت واجبة بغير قصد الإيصال إلى جزئها الآخر فليلتزم في مجموع المقدّمة بذلك ، وإن اعتبر فيها قيد الإيصال إلى جزئها فينتقل الكلام إلى الذات ويلزم التسلسل الباطل.

ووجه دفعه ظاهر ممّا قرّرنا ؛ فإنّ الإيصال ليس قيدا وإنّما هو معرّف ومشير إلى المقصود ، والظاهر أنّ مراد صاحب الفصول هو هذا أيضا ، فلذا ادّعى الضرورة ، بداهة أنّ ما لا يترتّب عليه الواجب لما ذا يطلبه وأيّ غرض يتعلّق له به حتّى يوجبه المولى ويبعث نحوه؟ فالإنصاف أنّا لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب لخصّصناه بما يكون توأما في الوجود مع ذي المقدّمة ؛ لأنّه الذي يتعلّق به غرض المولى دون غيره ، فافهم.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٦.

٣٩٨

تحرير الكلام في ما اختاره صاحب هداية المسترشدين :

بقي الكلام فيما اختاره صاحب الحاشية (١) وقوّاه الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) فإنّهما بعد أن حكما باستحالة القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة للزوم الدور أو التسلسل كما تقدّم اختارا نتيجة كلام صاحب الفصول ، غير أنّه بتقريب آخر وهو موقوف على مقدّمتين :

إحداهما : أنّ استحالة تقييد وجوب المقدّمة بالموصلة يستدعي استحالة الإطلاق ؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة الذي يعتبر فيه قابليّة المحلّ لكلّ من الأمرين لا تقابل الإيجاب والسلب ، وحينئذ فلا بدّ من كون الحكم بوجوب المقدّمة مهملا.

الثانية : أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة لمّا كان هو الوصول إلى ذي المقدّمة فلو كانت المقدّمة محرّمة فإنّما يرتفع تحريمها حيث يترتّب ذلك الغرض ، أمّا حيث لا يترتّب الغرض فلا يرتفع التحريم لعدم المقتضي له ، فهما في النتيجة وافقا صاحب الفصول من أنّ التحريم إنّما يرتفع حيث توصل المقدّمة ، إلّا أنّ صاحب الفصول ادّعى اختصاص الوجوب بها وهؤلاء ادّعوا أنّ الوجوب متّجه نحو المقدّمة المهملة ولكن ارتفاع التحريم إنّما يكون تابعا للغرض ، فيختصّ الوجوب به من جهة الغرض ، فحكموا بوجوب خصوص الموصلة من باب الترتّب.

وتقريب الترتّب كان بنحوين :

أحدهما : ما ذكره صاحب الحاشية (٣) من جعل الحرمة مترتّبة على عدم تحقّق الوجوب المقدّمي ، فحكم بكون المقدّمة واجبة حيث توصل وإلّا فهي محرّمة ، فحكم

__________________

(١) هداية المسترشدين ٢ : ١٧٧.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٤٨ ـ ٣٥١.

(٣) هداية المسترشدين ٢ : ١٧٨ ، وانظر الصفحة : ٢٢٨ أيضا.

٣٩٩

بوجوب ترك الصلاة مقدّمة للإزالة ، أمّا إذا لم يترك الصلاة مقدّمة للإزالة فترك الصلاة حينئذ يكون محرّما ، فالحرمة مترتّبة على عدم الوجوب المقدّمي.

ولا يخفى أنّا وإن كان الترتّب عندنا ممكنا واقعا إلّا أنّه لا بدّ أن يكون في متعلّقين لا في متعلّق واحد ، فإنّ المقام من قبيل الثاني ؛ إذ ترك الصلاة متعلّق واحد للحرمة على تقدير عدم الإيصال ، والوجوب على تقدير الإيصال ، وهذا لا يمكن تحقّق الترتّب فيه للزوم اللغوية ؛ إذ لا معنى لقوله : وإن عصيت أمر المقدّمة فالمقدّمة محرّمة ؛ لأنّها تؤول إلى أنّه إن لم تأت بالمقدّمة فلا تأت بالمقدّمة وهو طلب الحاصل كما يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

ومن هنا عدل الميرزا النائيني قدس‌سره (١) فجعل المترتّب عليه ترك الواجب النفسي لا الغيري ، وهذا هو التقريب الثاني وملخّصه : أنّ المقدّمة إذا أوصلت تكون واجبة وإذا لم يؤت بالواجب النفسي تكون الحرمة حينئذ مترتّبة ، فالحرمة مترتّبة على عصيان الأمر بالواجب النفسي فالترتّب بين متعلّقين لا واحد كما في التقريب الأوّل.

ولا يخفى عدم تماميّة المقدّمة الاولى ؛ إذ قد تقدّم في مبحث التوصّلي والتعبّدي استحالة الإهمال في الواقعيّات بل في كلّ حكم بالإضافة إلى حاكمه ، فكلّ حاكم لا بدّ أن يكون عالما بموضوع حكمه واقعا ، نعم في مرحلة الإثبات يمكن الإهمال ، ومرّ أيضا أنّ استحالة التقييد بخصوص الموصلة يوجب ضرورية الإطلاق أو التقييد بغير الموصلة ، وحيث إنّ تقييد الوجوب بخصوص غير الموصلة محال فلا بدّ من القول بوجوب مطلق المقدّمة كما مرّ ، وإنّ ما ذكره من كون تقابل العدم والملكة لازمه أنّ استحالة أحدهما تستدعي استحالة الآخر غير صحيح ، بل قد يستدعي ضروريّة الآخر كما في العلم والجهل ؛ فإنّ علمنا بذات الحقّ محال فجهلنا ضروري

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٥٢ ـ ٣٥٣ و ٢ : ١٠٧.

٤٠٠