غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

غير اختياري مع عموم ملاكه لما علّق على أمر اختياري أخذ مفروض الوجود أولا كما هو مذكور في الكفاية (١) فلاحظ.

الثاني : أنّه ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) أنّه لا ينحصر التفصّي عن عويصة وجوب المقدّمة قبل وجوب ذي المقدّمة بالتعلّق بالتعليق أو بما يؤول إليه ، بل هناك طريق آخر هو : الالتزام بكونه من الواجب المشروط بالشرط المتأخّر الذي علم وجوده بعد ذلك.

ولا يخفى عليك أنّ شرط الوجوب المتأخّر إن لم يقيّد به الواجب أيضا كما قيّد به الوجوب خرج عن محلّ الفرض في العويصة ؛ إذ هي في المقدّمة التي تجب قبل ذيها المقيّد بالزمان. وإن قيّد به الواجب فقد صار الواجب معلّقا ؛ إذ الواجب المعلّق ـ كما مرّ ـ يؤول إلى الواجب المشروط وقسم منه ، غير أنّه مشروط بالشرط المتأخّر ، فليس ما ذكره صاحب الكفاية أمرا آخر ، بل هو هو ، فافهم.

بقي الكلام في أنّه بعد أن كان الواجب المشروط المصطلح والواجب المعلّق ممكنين ، فإن كان في لسان دليل الواجب ما يعيّن كونه معلّقا فيلتزم بلوازمه ، من وجوب المقدّمات وغيرها ، كما في آية الحجّ ، فإنّ ظاهرها تعلّق الوجوب بمجرّد الاستطاعة المفسّرة بالزاد والراحلة وتخلية السرب ، ولكن أداء الواجب في أيّام الحجّ المعلومة ، وإن كان لسان الدليل يعيّن أنّه من المشروط ، كما في قوله : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، فيلتزم بكونه مشروطا وبلوازمه أيضا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٠.

(٢) كفاية الاصول : ١٣١ ـ ١٣٢.

٣٦١

وإذا دار الأمر بين كونه معلّقا أو مشروطا فهل هناك مرجّح لأحد الأمرين أم ليس هناك مرجّح؟ فإن كان هناك مرجّح لأحدهما عمل به ، وإلّا فالمرجع هي الاصول العمليّة (*).

وقد ذكرت بعض المرجّحات التي تكون من قبيل القرينة المنفصلة :

الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) وملخّصه أنّه إذا دار الأمر بين تقييد المادّة والهيئة ، وقلنا بإمكان تقييد الهيئة فتقييد المادّة أولى من تقييد الهيئة ؛ لأنّ إطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادّة بدلي ، وتقييد الإطلاق البدلي أولى من تقييد الإطلاق الشمولي.

ولا بدّ من الكلام في هذا المطلب صغرى وكبرى :

أمّا الصغرى فهي أنّ إطلاق الهيئة شمولي ؛ لأنّ الوجوب غير مقيّد بشيء من الأشياء ، فالوجوب حال طلوع الشمس متحقّق ، وحال غيبوبتها كذلك ، وحال نزول المطر وحال انقطاعه كذلك ، وعلى هذا جميع الأحوال ولكن إطلاق المادّة بدلي ؛ ضرورة أنّه لا يريد إلّا إكراما واحدا على سبيل البدل.

وأمّا الكبرى وهي أنّ تقييد الإطلاق البدلي أولى فقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) له وجوها ثلاثة ، موجّها بها كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره بعد أن اختاره :

أحدها : أنّ قولنا : أكرم عالما ، مع قولنا : لا تكرم فاسقا إذا اطلقا في الكلام فكلّ منهما انعقد له ظهور ، الأوّل في لزوم إكرام عالم ما على البدل ، والثاني في حرمة إكرام الفاسق. وبما أنّ «لا تكرم فاسقا» ينحلّ إلى حرمة إكرام كلّ فرد من أفراد الفسّاق

__________________

(*) وتظهر الثمرة فيما لو دار أمر الواجب بين كونه معلّقا على أمر يعلم حصوله فيما بعد أو مشروطا بالشرط المقارن لتجب مقدّماته فعلا على الأوّل دون الثاني ، فتأمّل فهو دقيق. (الجواهري).

(١) انظر مطارح الأنظار ١ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

٣٦٢

فهو متعدّد بتعدّد أفراد المتعلّق ، فإذا علمنا بلزوم رفع اليد عن أحد الظهورين ـ إذ العالم الفاسق لا يمكن أن يكون محكوما بكلا الحكمين معا ـ فرفع اليد عن إطلاق «لا تكرم فاسقا» موجب لتخصيص «لا تكرم فاسقا» بغير العالم ، فيكون مؤدّاها «لا تكرم فاسقا غير عالم». ولكن «أكرم عالما» إذا رفعنا اليد عنها فإنّما رفعنا اليد عن كونها شائعة بين أفراد كثيرة إلى كونها شائعة بين أفراد أقلّ من المقدار الذي كانت قبل شائعة فيه ؛ إذ إنّ «أكرم عالما» كان قبل التقييد مشاعا بين أفراد كلّ عالم وهم مائة ، ولكنّه أصبح شائعا بين خمسين وهم العالم الغير الفاسق مثلا ، ولا ريب في أنّه أخفّ مئونة وأقلّ كلفة من التخصيص فيقدّم عليه.

أقول : لا يخفى أنّ «أكرم عالما» ذات حكمين :

أحدهما : المدلول المطابقي ، وهو لزوم إكرام عالم ، وهذا الحكم له إطاعة واحدة وعصيان واحد ؛ لعدم انحلاله له إلى أفراد ، كما في «لا تكرم فاسقا».

الثاني : مدلوله الالتزامي ، وهو الترخيص في تطبيق ذلك العالم على كلّ فرد فرد من أفراد العلماء ؛ لعدم تحقّق مقيّد تضيق به دائرة التطبيق ، وهذا الحكم حكم شمولي ، فرفع اليد عن الإطلاق في البدلي مخالفة لعموم شمولي ورفع يد عنه ، غير أنّ هذا الحكم شمولي مستفاد من دلالة الالتزاميّة لا مطابقيّة ، وهذا ليس فرقا ، وحينئذ فلا مرجّح لرفع اليد عن أحد الإطلاقين.

وثانيا : أنا لو سلّمنا أنّ الحكم في المطلق بدلي محض ولا يستلزم حكما شموليّا ، فلما ذا يتقدّم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي مع كون كلّ منهما خلاف ظهور اللفظ؟ إذ المطلق الشمولي ظاهر في الشمول ، والمطلق البدلي ظاهر في سعة الدائرة ، وكلّ من هذين الظهورين إنّما انعقد بالإطلاق ومقدّمات الحكمة. وإنّما يصحّ رفع اليد عن أحد الظهورين حيث يكون أحدهما أقوى ، كما إذا كان إطلاق أحدهما وضعيّا فإنّه حينئذ غير موقوف على مقدّمات الحكمة ، فيكون بيانا للثاني فلا يتمّ عدم البيان فيه الذي هو من جملة مقدّمات الإطلاق ، فافهم.

٣٦٣

الوجه الثاني من الوجوه التي ذكرها الميرزا النائيني قدس‌سره هو : أن الإطلاق البدلي حكم واحد على الطبيعة كما تقدّم ، وجواز تطبيقه على الأفراد الداخلة تحت تلك الطبيعة إنّما هو بحكم العقل بعد إحراز تساوي أفراد الطبيعة في الوفاء بالغرض ، ولكن العموم الشمولي قاض بعدم تساوي الأفراد ، فلا يحكم العقل حينئذ بجواز تطبيقه على الأفراد بتلك السعة.

والجواب : أنّ جواز التطبيق على الأفراد من تلك الطبيعة ليس حكما عقليّا ، وإنّما هو حكم شرعي يقتضيه عدم التقييد وحمل الحكم على المطلق ، وحينئذ فجواز التطبيق ليس حكما عقليّا حتّى يتوقّف على إحراز المساواة ، ليكون الشمولي مانعا ، بل هو حكم شرعي منشؤه الإطلاق اللفظي كما تقدّم.

الوجه الثالث ممّا ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره هو : أنّ جواز تطبيق المطلق البدلي على جميع أفراد الطبيعة التي تعلق بها الأمر موقوف على عدم المانع ، والإطلاق الشمولي مانع ؛ إذ لا ترفع مانعيّته من قبل نفسه ، ولا يمكن رفعها بإطلاقه للزوم الدور.

والجواب : أنّ ما ذكر متين إلّا أنّ المطلق الشمولي كذلك أيضا موقوف إطلاقه على عدم المانع ، والمطلق البدلي يصلح مانعا ، فرفع مانعيّته من قبل نفسه مستحيلة ، وبالإطلاق مستلزمة للدور ، وحينئذ فكلّ من الإطلاقين يمكن أن يكون مانعا عن الآخر ولا مرجّح لأحدهما بخصوصه على التقدّم. هذا كلّه حيث يتعارض الإطلاقان الشمولي والبدلي.

أمّا لو تعارض الإطلاق الشمولي أو البدلي مع العموم فظاهر كلامهم الاتّفاق على تقديم العموم الشمولي على الإطلاق شموليّا كان أم بدليّا ، وهذا لا يتمّ بناء على ما صرّح به صاحب الكفاية (١) وتبعه عليه بعض من تأخّر عنه كالميرزا النائيني (٢)

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ و ٢٩٢.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٣٦ ـ ٢٣٨ و ٢ : ٢٩١ و ٤١٥ ـ ٤١٦.

٣٦٤

في مبحث العموم والخصوص من أنّ مدخول أداة العموم لا يكون عامّا إلّا بإجراء مقدّمات الحكمة ، وأنّ أداة العموم إنّما هي لعموم ما اريد من المدخول ، وأمّا كون المراد هو جميع أفراد الطبيعة أو بعضها فلا يدلّ عليه.

فبناء على ذلك يشكل تقديم العموم الاصولي على الإطلاق بدليّا كان أم شموليّا ؛ لأنّه يؤول إلى تقديم أحد الإطلاقين على الآخر ؛ ضرورة كون مدخول أداة العموم لا بدّ من إثبات إطلاقه بمقدّمات الحكمة ، وحينئذ فكما يمكن أن يكون عمومه بيانا لعدم إرادة الإطلاق في المطلق يمكن أن يكون إطلاق المطلق قرينة على المراد من مدخول أداة العموم ، مثلا «أكرم كلّ عالم» مع «لا تكرم فاسقا» فكما يمكن أن يكون «أكرم كلّ عالم» بيانا لكون المراد من الفاسق المحرّم الإكرام الفاسق الغير العالم ، كذا يمكن أن يكون «لا تكرم فاسقا» قرينة على كون المراد من عالم المدخول لكلّ هو خصوص العادل ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر ؛ لأنّ كلّا منهما إنّما ثبت إطلاقه بمقدّمات الحكمة ، فوجه الدلالة فيهما واحد.

نعم ، على ما اخترناه في مبحث العموم والخصوص من أنّ أداة العموم بنفسها تقتضي عموم المدخول من غير حاجة إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول ، وأنّ أداة العموم بمنزلة قوله : «أكرم كلّ عالم سواء كان عادلا أم فاسقا طويلا أم قصيرا هاشميّا أم غيره» يتّجه تقديم العموم الاصولي على الإطلاق شموليّا كان أم بدليّا ؛ لأنّ عموم العامّ يصلح بيانا للمطلق فيرتفع إطلاقه دون العكس ؛ لتحقّق العموم بلا حاجة إلى مقدّمات الحكمة التي منها عدم البيان. ولعلّ هذا هو مراد الشيخ الأنصاري قدس‌سره بقوله : إنّ دلالة العامّ تنجيزيّة ودلالة المطلق تعليقيّة (١). يعني أنّ دلالة العام غير موقوفة على عدم البيان ودلالة المطلق معلّقة عليه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٩٨.

٣٦٥

هذا كلّه إنّما هو في الكبرى الكلّية من أنّه إذا تردّد الأمر بين تقييد المطلق الشمولي أو البدلي فأيّهما يقدّم إطلاقه فيقيّد الثاني ، وقد ذكرنا أنّه لا موجب لترجيح أحدهما على الآخر.

ثمّ لو سلّمنا ترجيح المطلق الشمولي فيقيّد المطلق البدلي فهو في غير ما نحن فيه من الصغرى ؛ لأنّ هذا الكلام إنّما هو حيث يتنافى الإطلاقان بحسب المدلول كما في «أكرم عالما» و «لا تكرم فاسقا» فإطلاق الطبيعة في كليهما في نفسه محال ؛ للزوم كون العالم الفاسق واجب الإكرام ومحرّم الإكرام في آن واحد وهو محال ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما بجعل الأظهر منهما قرينة على المراد من الظاهر حيث يكون متّصلا وعلى عدم حجّيته حيث يكون منفصلا.

وهذا بخلاف مثل «صلّ» المطلق بحسب المادّة والهيئة ، ولا تنافي بين الإطلاقين بحسب مدلولهما ، إلّا أنّ لنا علما إجماليّا بتقييد أحدهما ، فإنّ التنافي إنّما نشأ من العلم الإجمالي ، ومعلوم أنّ نسبة العلم الإجمالي إلى جميع أطرافه نسبة واحدة لا ترجيح فيها لبعض الأطراف على بعض ، فيكون مورد الدوران بين كون القيد راجعا إلى المادّة أو الهيئة من الموارد المجملة من حيث الدليل اللفظي ، فلا بدّ حينئذ من الرجوع إلى الاصول العمليّة في ذلك المقام والعمل بما يقتضيه الأصل العملي من براءة أو اشتغال أو استصحاب ، فافهم.

وأيضا هذا الكلام الذي ذكرناه من تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي لو سلّمناه فهو غير منطبق على ما نحن فيه من جهة اخرى ؛ إذ محلّ الكلام هو دوران الأمر بين رجوع القيد إلى المادّة أو إلى الهيئة ، وحيث يدور الأمر بين المعلّق والمشروط الذي هو محلّ الكلام لا دوران ؛ ضرورة أنّا قد ذكرنا أنّ المعلّق قسم من أقسام الواجب المشروط ، وهو المشروط بالشرط المتأخّر ، وحينئذ فالهيئة مقيّدة قطعا ، إنّما الكلام في أنّها مقيّدة بقيد متأخّر إذا فرض كون الوجوب فعليّا ، أو بقيد مقارن إذا فرض أنّ الوجوب عند حصول القيد.

٣٦٦

وبالجملة ، فعند دوران الأمر بين المعلّق والمشروط لا دوران بين تقييد المادّة والهيئة. وكلام الشيخ قدس‌سره مبنيّ على كون المعلّق قسما من أقسام المطلق وهو غير تامّ كما تقدّم.

نعم ، لو دار الأمر بين المطلق والمشروط كان لهذا الكلام مجال مع قطع النظر عمّا ذكرنا من عدم انطباقه من الجهة الاولى ، وهي أنّ هذا الكلام إنّما هو في التنافي في الدلالة لا التنافي من ناحية العلم الإجمالي ، فافهم.

هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل لتقديم تقييد المادّة على تقييد الهيئة.

الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما الشيخ الأنصاري على ما في تقريراته (١) مرجّحا لتقييد المادّة ـ لو سلّم إمكانه ـ أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محلّ الإطلاق من المادّة ؛ ضرورة أنّه إذا كان القيد شرطا للوجوب فلا بدّ من إيقاع العمل الواجب بعد تحقّقه ، وحينئذ فلا إطلاق في المادّة حينئذ. وهذا بخلاف تقييد المادّة فإنّه معه يبقى إطلاق الهيئة بحاله ، فيدور الأمر بين تقييد الهيئة فيثمر نتيجة تقييدين وبين تقييد المادّة فقط ، ولا ريب في أنّ نتيجة التقييدين مخالفة للظاهر أكثر من تقييد المادّة وحدها فيتقدّم الأقلّ ظهورا.

وذكر الميرزا النائيني تقريبا لهذا الكلام (٢) [وهو] أنّ تقييد المادّة معلوم إجمالا ، وتقييد الهيئة غير معلوم ، فينحلّ العلم الإجمالي بتقييد أحدهما إلى تقييد معلوم على كلا التقديرين وهو تقييد المادّة ، وآخر مشكوك وهو تقييد الهيئة ، فيرجع فيه إلى أصالة الإطلاق.

وقد أورد الآخوند قدس‌سره (٣) وجملة ممّن تأخّر عنه منهم الميرزا (٤) على ما ذكره الشيخ

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ١٩٣ وما بعدها من الصفحات و ٢٤٢.

(٣) كفاية الاصول : ١٣٤ ـ ١٣٥.

(٤) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٣٤ ـ ٢٣٦.

٣٦٧

بأنّ مخالفة الظاهر إنّما هي حيث ينعقد لكليهما إطلاق فيخالف برجوع القيد إلى الهيئة ، أمّا إذا كان تقييد الهيئة يوجب عدم إطلاق في المادّة أصلا فليس فيه مخالفة لظاهرين بل مخالفة ظاهر واحد ، وهو إمّا رفع إطلاق المادّة أو رفع إطلاق الهيئة ، ورفع نتيجة الإطلاق إذا لم يكن فيه مخالفة للظاهر فليس به بأس.

نعم ، إذا كان التقييد بمنفصل فقد انعقد لكلّ من الإطلاقين ظهور في الإطلاق فحينئذ يتمّ ما ذكره الشيخ قدس‌سره ، ففصّل الآخوند فوافق الشيخ في المخصّص المنفصل دون المتّصل ثمّ أمر بالتأمّل في آخر كلامه.

والظاهر عدم تماميّة أصل الترجيح وعدم تماميّة الإيراد أيضا. وبيان ذلك يتوقّف على بيان معنى رجوع القيد إلى المادّة ورجوع القيد إلى الهيئة :

فنقول : إنّ معنى رجوع القيد إلى الهيئة أخذ القيد مفروض الوجود عند توجّه الوجوب ، ومعنى رجوع القيد إلى المادّة أنّ التقيّد ـ أي تقيّد المأمور به بالقيد ـ داخل تحت الأمر لا نفس القيد كما زعمه الميرزا النائيني قدس‌سره ؛ ضرورة لزوم التهافت في فرض كون القيد قيدا لهما ؛ ضرورة أنّه إذا كان مفروض الوجود فكيف يدخل التقيّد تحت الأمر؟ إذ يكون طلبا للحاصل. وحينئذ فمعنى كون القيد قيدا للهيئة أنّه اخذ مفروض الوجود ، ومعنى كونه قيدا للمادّة أنّ التقيّد داخل تحت الأمر ، فهما معنيان متباينان ، فقد يجتمعان كما في : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، فهنا اخذ الزوال مفروض الوجود بالإضافة إلى الوجوب ، وتقيّد الصلاة في الوقت أخذ في المأمور به ، فصار المأمور به حصّة خاصّة.

وقد يكون القيد مفروض الوجود ولكن ليس التقيّد داخلا في المأمور به ، كما في الوجوب المشروط بالشرط المتأخّر ، فإنّ الشرط المتأخّر اخذ مفروض الوجود ولكنّ الواجب لم يقيّد به ، وكما في صلاة الزلزلة فإنّ الزلزلة اخذت مفروضة الوجود ولكنّ الصلاة لم تقيّد بوقتها. وقد يكون التقيّد تحت الأمر ولكنّ القيد ليس مفروض الوجود ، كما في : صلّ قائما ؛ فإنّ القيام ليس شرطا للوجوب ولكنّ الصلاة مقيّدة به ،

٣٦٨

فتقيّد الصلاة به تحت الأمر. وحينئذ فلا ملازمة بين تقييد الهيئة وتقييد المادّة ، فقوله : تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادّة ، قلنا : ليس كذلك ، بل لا ملازمة كما مثّلنا في صلاة الزلزلة. وحينئذ فقد سقط أصل الاستدلال ، وكذلك الجواب بتسليم الملازمة ، فإنّه ساقط أيضا.

وأيضا هناك فرق آخر وهو : أنّ جعل القيد راجعا للهيئة معناه جعله موضوعا للوجوب ، وجعله راجعا للمادّة معناه جعله ـ أي جعل التقيّد به ـ متعلّقا للوجوب ، فهو في الاولى سابق على الوجوب ويكون الوجوب من العوارض عليه ، وفي الثانية يكون التقيّد به متأخّر الوجود عن الوجوب ؛ ضرورة توجّه الأمر نحوه. ومن هنا ظهر أنّ ما ذكره الميرزا من تيقّن تقييد المادّة على كلّ تقدير غير تامّ ؛ لعدم التيقّن. وحينئذ فكلّما دار أمر القيد بين كونه راجعا للهيئة أو للمادّة ولم يكن في المقام قرينة على أحدهما فالمرجع هي الاصول العملية ، ونتيجتها نتيجة رجوع القيد إلى الهيئة ؛ للشكّ في الوجوب الفعلي والأصل عدمه.

هذا تمام الكلام في الواجب المعلّق والمشروط ودوران الأمر بينهما.

٣٦٩
٣٧٠

في الوجوب النفسي والغيري

وثمرة الكلام في ذلك إنّما تظهر في مقام الشكّ في الواجب أنّه نفسي أو غيري ، فعلى تقدير كونه واجبا غيريّا لا يجب لسقوط ما وجب له بأحد موجبات السقوط ، بخلاف ما لو كان واجبا نفسيّا ، فإنّ سقوط أحد الواجبين النفسيين للعجز عنه لا يقتضي سقوط الواجب الآخر ، وهذا ظاهر. والكلام في الدوران يقع في ثلاثة مواضع :

الأوّل : في تقسيم الواجب إليهما وتعريفهما.

الثاني : فيما يقتضيه الأصل اللفظي من النفسيّة أو الغيريّة.

الثالث : ما يقتضيه الأصل العملي.

أمّا الكلام في المقام الأوّل فقد عرّف الواجب الغيري ـ كما في الكفاية (١) ـ بأنّه ما كان الداعي فيه التوصّل إلى واجب آخر لا يمكن التوصّل بدونه إليه ، ويقابله النفسي. ثمّ أشكل صاحب الكفاية عليه بأنّه يقتضي كون جلّ الواجبات ـ لو لا الكلّ ـ غيريّة ؛ لأنّها واجبة على مذهب العدليّة للمصالح الإلزاميّة المترتّبة عليها المقدورة بالواسطة ، أي بواسطة القدرة على سببها. نعم ، خصوص المعرفة بالله واجبة لحسنها الذاتي ، أمّا غيرها فالجميع بمقتضى هذا التعريف غيريّة. وبهذا عدل

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٥ ـ ١٣٦.

٣٧١

عن هذا التعريف ومال إلى تعريف بعضهم للنفسي بما وجب لنفسه والغيري بما وجب لغيره ، بدعوى أنّ السبب الباعث للمولى على إيجابه إن كان حسنه الذاتي فهو نفسي وإن ترتّب عليه مصلحة إلزاميّة ، وإن كان السبب الباعث هو ما يترتّب عليه فهو غيري وإن كان فيه حسن ذاتي.

ولا يخفى أنّ هذا الذي ذكره لا يمكن الالتزام به ؛ فإنّ الحسن الذاتي الباعث على الوجوب إن كان من جهة ما يترتّب عليه من المصلحة عاد الإشكال بذاته ؛ ضرورة أنّ هذا الحسن الذاتي ناشئ من تلك المصلحة المترتّبة عليه ، وإن كان فيه حسن ذاتي مع قطع النظر عن تلك المصلحة ففيه :

أوّلا : أنّه دون إثباته خرط القتاد ، إذ كيف يمكن إثبات ذلك وأيّ دليل يدلّ عليه؟

وثانيا : أنّه يقتضي أن يكون الإيجاب ناشئا من كلّ من جنبتي النفسيّة والغيريّة ؛ إذ تخصيص الوجوب النفسي به وكون هذا الإيجاب من جهة الحسن الذاتي ترجيح من غير مرجّح وقول بغير دليل ، مع صلاحيّته لكلّ منهما بحسب ذاته ؛ لوجود كلتا الجنبتين فيه حسب الفرض.

وقد أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) عن الإشكال على تعريف المشهور بأنّ المصالح الواقعيّة ليست بواجبة على المكلّف ؛ لعدم قدرته عليها. وما قيل من أنّ المقدور مع الواسطة مقدور بالقدرة على الواسطة فإنّما هو فيما كانت الواسطة من قبيل العلّة والسبب التامّ ، وليس المقام من ذلك ؛ فإنّ مثل النهي عن الفحشاء والمنكر في الصلاة والوقاية من النار في الصوم ليس معلولا للصلاة والصوم ، وإنّما هذه الأفعال الخارجيّة من تكبير وركوع وسجود وإمساك بالنسبة إليها من قبيل العلل الإعداديّة ، نظير الزرع وإلقاء البذر ؛ فإنّه علّة إعداديّة بالنسبة إلى خروج السنبل

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

٣٧٢

واستيفاء الحاصل ، وهناك مقدّمات أخر غير نثر البذر ليست باختيار المكلّف ولا تحت قدرته ، وإنّما هي في اليد الغيبيّة ، وكذا المصالح المرتّبة على هذه الأفعال الخارجيّة.

ويدلّ على كون المصالح غير داخلة تحت قدرة المكلّف العلم الوجداني بعدم القدرة عليها وظواهر الأدلّة ؛ إذ لو كانت مقدورة لأمر الشارع بها رأسا كما أمر بالعتق والطلاق والتزويج ، فإنّها غير مقدورة إلّا بأسبابها مع أنّه أمر بها لكونها مقدورة ، فلو كانت هذه مقدورة أيضا لأمر بها أيضا. وحينئذ فالمصالح لخروجها عن اختيار المكلّف غير واجبة. فلا يرد على تعريف المشهور للواجب النفسي بما وجب لا لواجب آخر ، وللغيري بما وجب لواجب آخر هذا الإشكال المشهور.

نعم ، ذكر بعد هذا كلّه أنّه يرد على هذا التعريف أنّه يدخل في الواجبات الغيريّة بعض الواجبات النفسيّة مثل الغسل في ليل شهر رمضان ، فإنّه واجب لواجب آخر مع كونه من الواجبات النفسيّة ؛ فلذا عدل عن هذا التعريف وعرّفه بما ترشّح وجوبه من واجب آخر ، كما عرّف النفسي بما لم يترشّح وجوبه من واجب آخر.

والظاهر عدم تماميّة ما ذكره دفعا وحلّا للإشكال كما لا وجه لنقضه أيضا.

أمّا عدم تماميّة ما ذكره حلّا للإشكال فلأنّ ما ذكره من كون الصلاة والصوم من قبيل المعدّات للنهي عن الفحشاء والمنكر والوقاية من النار فهو متين إلّا أنّه لا يجديه ؛ وذلك لأنّ الغرض الأقصى منها هو ما ذكره كالغرض من نثر البذر ، إلّا أنّ هناك غرضا آخر يترتّب على هذه الامور بنفسها ترتّب المعلول على علّته التامّة ، بحيث يستحيل انفكاكه عنها ، وهو أنّه يكوّن في النفس أهليّة للفيوضات الإلهيّة واستعدادا لقبول ألطافه الغير المتناهية ، وهذه هي المصالح الملزمة ، وأمّا النهي عن الفحشاء والمنكر فهو الغرض الأقصى. فهذه الكمالات النفسيّة هي المصالح الملزمة وهي واجبة ومقدورة ، نظير نثر الحبّ في الأرض ليس مكوّنا إلّا استعدادا وقابليّة لأن يخرج سنبلا في كلّ سنبلة مائة حبّة ، وهذا هو الغرض الملزم ، وهو واجب ومقدور قطعا فعاد الإشكال وهو أنّه لا واجب نفسيّا غير المعرفة.

٣٧٣

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من دخول مثل الغسل في ليل شهر رمضان في الغيري مع خروجه عنه وكونه نفسيّا ففيه :

أوّلا : أنّ ظاهر كلامهم في قولهم في تعريف الغيري بما وجب لغيره كون غيره واجبا حين وجوب هذا الواجب الغيري ، وهذا مفقود في مثل الغسل ؛ فإنّه واجب ولا وجوب للصوم حينئذ ؛ لعدم مجيء وقته.

وثانيا : أنّ كلامنا ليس في الاصطلاح وأنّ النفسيّ والغيريّ موضوعان بحسب الاصطلاح لما ذا ، وإنّما المقصود هو الثمرة التي أسلفنا ذكرها من الرجوع إلى الاصول اللفظيّة أو العمليّة حيث يشكّ في سنخ الوجوب ، وكونه نفسيّا أو غيريّا ، وهذا يرد حتّى في مثل الغسل في ليل شهر رمضان ، فلا مانع من دخوله في تعريف القوم.

وأمّا أصل الإشكال وهو أنّه على تعريف المشهور لا يبقى واجب نفسي غير المعرفة فيدفعه أنّه إذا بنينا على أنّ الأمر المتوجّه إلى السبب هو بنفسه متوجّه إلى المسبّب ـ كما يؤيّده الميرزا النائيني قدس‌سره في كثير من كلامه (١) ـ فالجواب واضح ؛ إذ الأمر بنفسه متوجّه إلى كلّ منهما ، وليس متوجّها إلى خصوص الأفعال الخارجيّة ليرد الإشكال. وأمّا إذا لم نبن على هذا المبنى فنقول : إنّ مثل هذه المصالح كالاستعداد للفيوضات الإلهيّة والكمالات النفسيّة فليست بواجبة ؛ لأنّها غير معلومة للناس ، والواجب لا بدّ أن يكون أمرا يفهمه عامّة الناس كالتكبير والقراءة والركوع والسجود والاستقبال والضرب وأشباهها ، فإذا كانت هذه المصالح المترتّبة الغير المنفكّة غير معلومة للمكلّفين فلا يوجبها عليهم ، بخلاف مثل الوضوء والطلب للماء فإنّها مفهومة لكلّ واحد من أهل العرف.

وحينئذ فتعريف المشهور متين لا يرد عليه شيء أصلا ، وعلى تقدير أن يرد عليه إيراد فحيث إنّ الغرض من هذا البحث إنّما هو تعيين وظيفة المكلّف في مقام الدوران

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٥٣.

٣٧٤

بين الوجوب النفسي والغيري فلا بأس بأن يعرّف النفسي بما وجب لغرض فيه نفسه ، والغيري بما وجب لغرض في غيره ، وهذا التعريف لا يرد عليه شيء ممّا تقدّم.

(ثمّ إنّ هناك نوعا آخر من الواجبات يشكّل عددا من الواجبات الغيرية. وهي المقدّمة التي يكون تركها مفوّتا لملاك ملزم ، كالغسل في ليل شهر رمضان بناء على أنّ وجوب الصوم إنّما هو عند الليل ، فبترك الغسل ليلا لا يتمكّن من الصوم فجرا ، إلّا أنّ الصوم ليس بواجب ليلا حسب الفرض ، وإنّما يحدث وجوبه عند الفجر ، فليس الغسل ليلا مقدّمة للواجب ، وإذا لم يغتسل لم يأمره الشارع بالصوم المشروط بالغسل ؛ لأنّه تكليف بما لا يطاق. نعم ، ترك الغسل مفوّت للملاك الملزم ، فإن قلنا ـ كما هو المعروف ـ من أنّ الوجوب الغيري ما يترشّح من الوجوب النفسي فليس هذا بواجب غيري ، وإن قلنا ـ كما هو الصحيح ـ من أنّ الواجب الغيري ما يترشّح من ملاك الواجب النفسي ، فيكون كلّ من الواجب النفسي والغيري معلولا للملاك الملزم فلا بأس بتسميته بالواجب الغيري لذلك) (١).

وأمّا المقام الثاني وهو ما إذا شكّ في واجب أنّه نفسي أم غيري فما هو مقتضى الأصل اللفظي؟

فنقول : إنّه إذا كان ثمّة إطلاق لفظي يتمسّك به في إثبات النفسية ؛ لأنّ الوجوب الغيري محتاج إلى التقييد بوجوب الغير ، فإذا كان هناك إطلاق فيتمسّك به في نفي الغيريّة ، كما يتمسّك به في نفي العدل حيث يحتمل التخييريّة ، وكما يتمسّك به في نفي الوجوب عن الإنسان بفعل غيره حيث يحتمل الكفائيّة في الوجوب.

وقد أورد الشيخ الأنصاري قدس‌سره على ما نسب إليه (٢) أنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق ، إمّا لأنّ المعاني الحرفيّة جزئيّة فهي غير مطلقة حتّى تصلح للتقييد كما هو

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) نسبه في أجود التقريرات ١ : ٢٤٥ وانظر مطارح الأنظار ١ : ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

٣٧٥

المعروف المنسوب إليه ، وإمّا لأن المعاني الحرفيّة ملحوظة باللحاظ الآلي فهي غير قابلة للتقييد ؛ لاحتياجه إلى لحاظ استقلالي ، كما احتمله الميرزا النائيني قدس‌سره (١). فلا مجال للتمسّك بالإطلاق.

أقول : قد تقدّم نظير هذا الكلام في الوجوب المشروط والمطلق وذكرنا بعد إنكار الشيخ الأنصاري للوجوب المشروط ، وكان الكلام فيه على تقدير صحّة النسبة.

ولكن في المقام لا يعقل إنكار الشيخ الأنصاري للوجوب الغيري كليّة ، ولازم هذا الكلام إنكاره بنحو القضيّة الكليّة ، وهذا أمر لا يعقل أن يذهب إليه الشيخ.

وحينئذ فنرجع إلى بيان الفرق بين الوجوب النفسي والغيري فنقول : هما ثبوتا نوعان متباينان من الوجوب قد اخذ في كلّ منهما خصوصيّة لم تؤخذ في الآخر بل اخذ عدمها فيه.

وأمّا في مقام الإثبات فالوجوب الغيري بحسب لسان الدليل يتصوّر بنحوين :

أحدهما : أن يذكر قيدا لواجب نفسي ، كأن يقول المولى : صلّ قائما أو متطهّرا ، فيستفاد منه أنّ القيام أو الطهارة قيد للصلاة ، بحيث لا بدّ من أن تشتمل عليهما بحيث تكون قيدا للواجب لا للوجوب.

الثاني : أن يكون قيدا لمفاد الهيئة على مسلكنا وقيدا للهيئة المنتسبة على ما اختاره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) أو قيدا للمادّة على ما نسب إلى الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٣) كأن يقول المولى : تطهّر إن وجبت الصلاة ، وحينئذ فكلّ على مسلكه ، فمن لا يرى إمكان تقييد الوجوب للطهارة يقيّد الواجب ، وهو نفس الطهارة بالأمر الغير الاختياري ، وهو وجوب الصلاة على تقدير تحقّقه في الخارج. وحينئذ فالوجوب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ١٩٤ و ٢٤٦.

(٣) نسبه في الكفاية : ١٢٢ ، وانظر مطارح الأنظار ١ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

٣٧٦

الغيري إثباتا لا بدّ فيه من تقييد الوجوب أو الواجب. فمثل الشيخ لا بدّ أن يلتزم بتقييد الواجب به ؛ لأنّه لا بدّ من أن يقيّد الوجوب أو الواجب في الغيري ، ومع تحقّق هذا التقييد في بعض أدلّة الواجب الغيري يحمل المطلق عليه حيث لا يحتمل فيه وجوبا نفسيّا وغيريّا معا ، بل كان هناك وجوب واحد ليس إلّا ، فوجود المقيّد كاشف عن تقييد المطلق ومثبت له ومثبت الأصل اللفظي حجّة قطعا.

(ويمكن تصوير التمسّك بالإطلاق على مذهب الشيخ بصورتين :

إحداهما : أن يكون الوجوب المشكوك قد انشئ بالمعنى الاسمي القابل لأن يقيّد ، فإذا لم يقيّد يتمسّك حينئذ بالإطلاق في إثبات كون الوجوب نفسيّا.

الثانية : أن يتمسّك بإطلاق ما يكون ذلك الوجوب الغيري على تقديره مقدّمة له ؛ إذ لا بدّ أن يقيّد وجوبه بالتقيّد بالثاني ، فإذا لم يقيّد وأوجب مطلقا دلّ على أنّ وجوبه غير منوط بتحقّق ذلك التقيّد ، ومثبت الأصل اللفظي حجّة قطعا) (١).

إنّما الكلام حيث يتردّد الأمر وليس إطلاق لفظي إمّا لكون الدليل لبّيا وإمّا لكون الكلام مهملا أو مجملا ، فحينئذ يرجع إلى ما تقتضيه الاصول العمليّة.

وقد ذكر الآخوند قدس‌سره (٢) أنّ مقتضى الأصل العملي حيث يشكّ في كون الواجب نفسيّا أو غيريّا هو البراءة ، حيث يكون ما هو مقدّمة له على تقدير الغيريّة غير واجب.

وقد أشكل الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) عليه بأنّ المقام نظير دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، فإنّ الأقلّ لا يكون مجرى للبراءة ؛ للعلم بوجوبه قطعا إمّا ضمنيّا وإمّا استقلاليّا ، فالمقام من هذا القبيل أيضا ، فإنّ المشكوك واجب قطعا وإن تردّد بين

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) كفاية الاصول : ١٣٨.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

٣٧٧

كونه واجبا نفسيّا أو غيريّا إلّا أنّ الإلزام به معلوم ، إمّا لكونه واجبا نفسيّا وإمّا لكون تركه سببا لترك الواجب النفسي ، فإنّ تركه يستوجب ترك الواجب النفسي حسب الفرض.

والإنصاف أنّ كلام كلّ منهما تامّ فيما هو فيه ، ولا يرد ما أورده الميرزا على الآخوند أصلا وإن كان كلام الميرزا أيضا متينا في محلّه.

بيان ذلك أنّه :

تارة : يحرز عدم وجوب ذلك الواجب النفسي من غير جهة المقدّمة ، مثلا الحائض إذا شكّت في كون الوضوء واجبا نفسيّا لها ليجب ، أو غيريّا للصلاة ليرتفع وجوبه حينئذ تبعا لوجوب الصلاة ، وفي هذا المقام يتمّ كلام صاحب الكفاية قدس‌سره وإليه نظره ؛ لأنّ البراءة حينئذ محكّمة ؛ للشكّ في الوجوب الفعلي ، فإنّ الوجوب على تقدير الغيريّة ليس فعليّا ، نعم على تقدير النفسيّة هو فعلي ، لكنّه مشكوك الوجوب النفسي فيجرى في ذلك المشكوك البراءة.

واخرى : يكون ذلك الشيء الذي يحتمل كون هذا مقدّمة له مشكوك الوجوب ، كما إذا أمر المولى بالذهاب إلى السوق وتردّد الذهاب بين كونه واجبا نفسيّا أو مقدّميّا إلى شراء اللحم الذي يشكّ في وجوبه ، وفي هذه الصورة لا بدّ من الحكم بالاشتغال بالنسبة إلى الذهاب إلى السوق وإن جرت البراءة بالإضافة إلى شراء اللحم ؛ للعلم بوجوب الذهاب على كلّ تقدير ، فإنّه على تقدير كونه واجبا غيريّا فتركه يوجب ترك الواجب النفسي الواصل بهذا المقدار ، فإنّ التنجّز لا يكون دائرا مدار تنجّز ذي المقدّمة ، نعم الملازمة بينهما في الوجوب الواقعي لا الفعلي ، وأمّا الفعلي فقد تجب المقدّمة بالوجوب الفعلي المنجّز ولا يجب ذوها بالوجوب الفعلي المنجّز ، والسرّ في ذلك أنّ التروك تنحلّ ، فالترك من جهة قد يوجب العقاب ومن جهة اخرى لا يوجب العقاب. وهذا هو ما ذكرناه في الأقلّ والأكثر وقد سمّيناه هناك بالتوسّط في التنجيز.

٣٧٨

وحينئذ ففي المقام لو ترك الذهاب إلى السوق المنجّز عليه ، إمّا لكونه واجبا نفسيّا وإمّا لكونه مقدّمة لواجب نفسي واصل بمقدّمته بم يعتذر عند المولى في مقام عقابه؟ وهذا بخلاف الشقّ الأوّل فإنّه يعتذر بأنّه على تقدير الغيريّة غير واجب قطعا ؛ لكونه غير واجب من غير جهة ترك المقدّمة فهو متروك من غير جهتها ولكن في المقام على تقدير الوجوب الغيري فمن جهة المقدّمة يكون ذلك الواجب واصلا ، فيجب سدّ باب العدم من هذه الجهة.

توضيح ما ذكرنا هو : أنّ العلم الإجمالي بوجوب نفسي أو غيري للذهاب إلى السوق منجّز ، فأصالة عدم النفسيّة معارضة بأصالة عدم الغيريّة ، فإن جرى الأصلان وتساقطا فاللازم الاحتياط ، وإن لم تجر حينئذ لوجود قدر متيقّن ، وهو أنّ ترك الذهاب إلى السوق محرّم إمّا لنفسه أو لتفويت الواجب الثاني الواصل بهذا المقدار ، فلا بدّ من الإتيان به ؛ لأنّه متيقّن كما يأتي نظيره في الأقلّ والأكثر. وإلى هذه الصورة ينظر الميرزا النائيني قدس‌سره وكلامه متين فيها.

وثالثة : يحرز وجوبهما معا ويشكّ في كون أحدهما مقدّمة للآخر. أم لا ، كما إذا علمنا بواجبين ودار أمرهما بين كونهما نفسيّين أو أحدهما غيريّ والآخر نفسيّ ، وهذا على صورتين أيضا.

فإنّهما تارة : يكونان مطلقين أو مشروطين بشيء معا على كلا التقديرين ، كما إذا قال المولى : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، ودار الأمر بين كونهما واجبين نفسيّين أو أن تكون الطهارة مقدّمة للصلاة مع اشتراطهما معا بدخول الوقت ، وفي مثل هذا ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى البراءة من التقيّد أي تقيّد الصلاة بالطهارة ، فحكم بصحّة الصلاة وإن ترك الطهارة وعوقب عليها خاصّة ؛ لأصالة عدم الشرطيّة.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

٣٧٩

ولا يخفى أنّه لا يمكن المساعدة على ما ذكره قدس‌سره ؛ لأنّ كلّا من الوجوب النفسي والتقيّد وإن كان لو خلّي ونفسه مجرى للبراءة مستقلّا إلّا أنّ المقام من مقامات الاشتغال العقلي ؛ للعلم الإجمالي بالوجوب النفسي أو تقييد الصلاة به ، فبمقتضى هذا العلم الإجمالي وتنجّزه ـ بتعارض الاصول وتساقطها ـ أن لا يحكم بصحّة الصلاة حيث تفقد الطهارة المحتمل تقيّدها بها ؛ للعلم الإجمالي بالتقيّد أو الوجوب النفسي فيرتّب أثرهما معا ، فيجب الإتيان بالطهارة قبل الصلاة ليحرز كلا محتملي العلم الإجمالي به حينئذ.

واخرى : يكون أحدهما مشروطا بما بعد الوقت كالصلاة في المثال ، والثاني مشروطا قبل الوقت كالطهارة على تقدير كونها واجبة نفسيّا ، وعلى تقدير الغيريّة فهي مقيّدة بما بعد الوقت لكنّها متردّدة بين كون وجوبها نفسيّا أو غيريّا ، وفي مثله لا ريب في كون مقتضى القاعدة الاشتغال ؛ للعلم الإجمالي بوجوب الطهارة لنفسها أو تقيّد الصلاة بها كالسابق ، فيتنجّز العلم الإجمالي ؛ لتعارض الاصول وتساقطها بناء على ما اخترناه من تنجّز العلم الإجمالي في التدريجيّات. وحينئذ يكون احتمال التكليف في كلّ منهما منجّزا فيجب الإتيان بالطهارة قبل الوقت وبعده وحفظها إلى ما بعد الوقت للصلاة ، ولا وجه لما ذكره الميرزا النائيني من إجراء البراءة من التقييد.

نعم ، لو كان وجوب الصلاة مقيّدا بما بعد الوقت وكذا الطهارة على تقدير كون وجوبها غيريّا ، أمّا على تقدير النفسيّة فهو مطلق فلا يجب الوضوء قبل الوقت ، لكنّه بعد الوقت واجب ؛ للعلم الإجمالي بوجوبه حينئذ المردّد بين النفسيّة والغيريّة المنجّزة فيجب.

نعم ، لو كان توضّأ قبل دخول الوقت لا يجب التكرار بعده ؛ لعدم العلم الإجمالي بوجوبه حينئذ ؛ لاحتمال كون وجوبه نفسيّا مطلقا وقد أتى به ، وعلى تقدير الغيريّة فالوجوب الغيري بعده ، أمّا الجواز فلا ، وحينئذ فيكون من المقدّمات الحاصلة فلا يجب تحصيلها.

٣٨٠