غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

أقول : لا يخفى أنّ ظاهر كثير من الواجبات المشروطة أنّ المقتضي فيها غير موجود ، كما في عدم تكليف الطفل حتّى يبلغ وحتّى يعقل المجنون ، فلا مقتضي للتكليف قبل ذلك ، لا أنّه مقرون بالمانع ، وفي مثل الحائض لا مقتضي للأمر بالصلاة ... وهكذا.

فأمّا الأحكام التي ذكرها ، فيمكن أن يكون عدم تشريعها لعدم المقتضي. ويمكن أن يكون لوجود المانع ـ والله أعلم ـ إذ لا علم لنا بالمغيّبات ، فمن الجائز أن يكون حالنا بالإضافة إلى الكمّل الذين يوجدون في زمن الحجّة ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ حال الصبيّ بالإضافة إلى البالغ ؛ لكون المؤمنين حينئذ في أعلى درجات الكمال الديني.

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره في مقام الجواب عمّا ذكر في التقريرات منسوبا إلى الشيخ الأنصاري : أنّه كما يمكن أن يتصوّر الإنسان الشيء فيشتاقه الآن ، كذلك يمكن أن يتصوّره فيشتاقه على تقدير كما يشتاق الإنسان الغير الضمآن الماء على تقدير العطش فيوجبه على تقدير ، بمعنى أن يكون الوجوب مشروطا بوجود ذلك التقدير (١).

ولا يخفى أنّ ما ذكره قدس‌سره غير تامّ أيضا ؛ إذ الموجودات ليس لها وجودان : أحدهما مطلق ، والآخر على تقدير ؛ ضرورة أنّه إن وجدت أسبابه وجد وإن فقدت أسبابه لم يوجد ، أمّا الوجود على تقدير فلا أصل له كليّة. نعم ، الوجود الاستعدادي موجود من الموجودات كما في النواة ، فإنّ استعدادها لأن تكون شجرة متحقّق بالفعل وليس على تقدير ، وحينئذ فإن تمّت مقدّمات الشوق تحقّق بالفعل وإن لم تتحقّق لم يتحقّق.

فالتحقيق في الجواب أن يقال إنّ عندنا في مقام الطلب امورا ثلاثة : أحدها الشوق ، والثاني الإرادة ، والثالث الطلب.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٣٤١

أمّا الشوق : فالحقّ أنّه كما ذكره الشيخ قدس‌سره من كونه موجودا بالفعل في جميع الصور ومتعلّقه الفعل أيضا ، إلّا أنّه لا يلزم منه فعليّة الحكم كما قدّمنا ذلك ومثّلنا له بالوصيّة ، فإنّ الشوق من الصفات والحكم من الأفعال.

وأمّا الإرادة : والمراد بها إعمال الإنسان قدرته في ما يشتاقه ؛ لأنّها على ما استفدناه من الأخبار أنّها صفة فعل لا صفة ذات ، فلا تتعلّق إلّا بما يكون فعلا من أفعاله ، كأن يمدّ يده فيشرب الماء. ولا يعقل تعلّقها بفعل الغير كلّية كما لا يعقل تعلّقها بالفعل المتأخّر ولو لنفسه أيضا ؛ ضرورة أنّه لا معنى للتحريك نحو الأمر المتأخّر.

وأمّا الطلب : الذي هو بمعنى الإيجاب الذي هو عبارة عن اعتبار الفعل على ذمّة المكلّف ، فالاعتبار وإن تحقّق بالفعل ، إلّا أنّ المعتبر الذي هو الوجوب لا يلزم أن يكون بالفعل ؛ ضرورة عدم ملازمة فعليّة مقام الجعل لفعليّة المقام المجعول كما تقدّم في الوصيّة. وبيان عدم الملازمة : أنّ ذلك القيد المذكور المعبّر عنه بالشرط تارة يكون محقّقا لملاك ذلك المشروط وموجدا لمصلحته ، بحيث إنّ المشروط بدونه لا مصلحة ولا ملاك فيه أصلا. واخرى لا يكون كذلك ، بل الفعل متّصف بالملاك والمصلحة ، إلّا أنّ استيفاء تلك المصلحة موقوف على تحقّق هذا الشيء ، ففي الثاني يكون الاعتبار والمعتبر فعليّا ومتعلّق الاعتبار متأخّرا وهو الفعل ، وفي الثاني (١) يكون الاعتبار فعليّا ، إلّا أنّ المعتبر الذي هو الوجوب يكون موقوفا على حصول ذلك القيد ؛ إذ بدونه لا ملاك حينئذ ، فيستحيل أن يتحقّق وجوبه قبل حصول الشرط ، فإذا كان مقام القيد على هذين النحوين ، فالوجوب المشروط حينئذ ممكن ويكون القيد راجعا إلى الهيئة كما قرّرنا. ولا يمكن أن يكون راجعا إلى المادّة ، للزوم فعليّة الوجوب حينئذ ، والمفروض عدم المقتضي له ؛ لعدم المصلحة حينئذ.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : في الأوّل.

٣٤٢

وبالجملة ، فقد اتّضح ـ بحمد الله ـ ممّا ذكرنا الفرق بين الوجوب المشروط والوجوب المعلّق وأنّ الأوّل من قبيل الوصيّة والثاني من قبيل الاستيجار لدار بعد سنة ، ولا ريب في مغايرة كلّ منهما للثاني ، من حيث إنّ الأوّل لا وجوب قبل حصول الشرط ، بخلافه في المعلّق ، فالوجوب فيه فعليّ وإن تأخّر زمان الوجوب.

وبعبارة اخرى : الواجب المشروط يكون اتّصاف الفعل فيه بالمصلحة بعد تحقّق الشرط ، بخلافه في المعلّق ، فإنّ اتّصاف الفعل بالملاك والمصلحة بالفعل ، ولكن استيفاء تلك المصلحة منوط بالقيد أو الشرط مثلا.

ثمّ إنّ النزاع في وجوب المقدّمة وإن ذكر صاحب الكفاية أنّه لا يختصّ بمقدّمات الواجب المطلق ، بل يعمّ المشروط بالإضافة إلى غير شرط الوجوب (١) ، غير أنّ المقدّمة تتبع ذا المقدّمة في الإطلاق والاشتراط ، إلّا أنّه لا ثمرة عمليّة فيه ؛ إذ قبل تحقّق شرط الوجوب لا يجب تحصيل بقيّة المقدّمات وبعد حصوله يكون الوجوب مطلقا ، فما ذكره من كونها واجبة وتابعة في الإطلاق والاشتراط لذي المقدّمة صحيح ، إلّا أنّه لا يثمر ثمرة كما قرّرنا.

نعم ، على مذاق الشيخ من كون القيد راجعا للمادّة يكون الوجوب فعليّا فيجب مقدّماته. وأمّا شرط الوجوب فلا يجب على ما اخترناه ؛ لعدم وجوب الواجب قبل وجوده ، وبعد وجوده يجب الواجب حينئذ ، ولا معنى لوجوبه حينئذ ، للزوم تحصيل الحاصل.

وأمّا على مذاق الشيخ قدس‌سره فلا يجب أيضا ؛ إذ المفروض أنّه جعل الشيء واجبا على تقدير حصوله ومع حصوله كيف يطلب؟ وهل هو إلّا طلب الحاصل؟

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٠.

٣٤٣

[المقدّمة المفوّتة]

بقي الكلام في شيء ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره وهو أنّ المقدّمة التي لا يتمكّن منها في زمان الواجب فهل يجب الإتيان بها قبل زمان الواجب أم لا؟ وهل يجب حفظها لو كانت موجودة أم لا (١)؟ وليعلم أنّ الوجوب المبحوث عنه في المقام ليس هو الوجوب المقدّمي ؛ ضرورة عدم تحقّقه قبل وجوب ذي المقدّمة ، إنّما الكلام في وجوب عقلي آخر وعدمه.

وهذا المطلب لم يتعرّض له الاصوليّون غير الميرزا ، وإنّما تعرّض له الفقهاء في بعض الموارد الخاصّة لا قاعدة كليّة ، في ما لو كان عنده ماء قبل الوقت وعلم بعدم الماء بعد الوقت فهل يجب عليه حفظ الماء إلى ما بعد الوقت أم لا؟ وفي من استطاع في غير موسم الحجّ فهل يجب عليه إبقاء استطاعته إلى أيّام الموسم أم لا؟ وفي من عنده عصا يتوكّأ عليها في الصلاة فهل يجوز له إتلافها قبل وجوب الصلاة عليه؟ وغيرها من الموارد الجزئية.

فنقول : أمّا إذا كان الوجوب فعليّا والقيد إنّما هو للواجب فكان القيد شرطا في استيفاء المصلحة لا ثبوتها ، فلا ريب في وجوب المقدّمة فعلا حينئذ ، ولا ريب في ذلك ، لكنّه لا بدّ من دلالة الدليل على كون الواجب من قبيل الواجب المعلّق كما دلّ الدليل عليه في الحجّ ، فإنّ المستطيع يجب عليه الحجّ بمقتضى الآية ، ولكن زمان وقوع الحجّ متأخّر إلى أشهر الحجّ.

وبالجملة ، فلا بدّ من دلالة الدليل على كون الواجب معلّقا ليكون الوجوب فعليّا ، فإنّ صرف إمكان الواجب التعليقي لا يجدي في وقوعه.

ولا يخفى أنّ هذا خارج عن محلّ الكلام ؛ إذ الكلام في الواجب المشروط الذي لم يكن وجوبه فعليّا. وإن كان الوجوب مشروطا فهو يقع على أنحاء.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢١٧.

٣٤٤

وقبل الخوض في بيانها لا بدّ من تقديم مقدّمة يتوقّف توضيح المرام عليها.

فنقول : إنّ قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» ذكرت في كلام الاصحاب في مقامين :

أحدهما : في المباحث الكلاميّة في ردّ الأشاعرة الذاهبين إلى أنّ العبيد مجبورون على أعمالهم. فقد استدلّ الأشاعرة على كون الإنسان مجبورا على أعماله بأنّ كلّ ما وجد في الخارج فهو واجب لتماميّة علّته ، وكلّ ما لم يوجد فعدمه واجب ووجوده ممتنع لعدم علّته ، فليس في الخارج ممكن أصلا ؛ إذ جميعها بين واجب الوجود أو ممتنع الوجود ، فأين الفعل الممكن؟

وقد أجاب المحقّق الخواجه نصير الدين الطوسي والعلّامة (١) عن هذا الدليل بالقاعدة المزبورة ، فإنّهم ذكروا أنّ هذا الوجوب والامتناع بالاختيار ؛ ضرورة أنّ من أجزاء علّة الفعل الصادر في الخارج اختيار المكلّف لوجوده أو لعدم وجوده ، وحينئذ فهذا الوجوب إنّما يتحقّق بالاختيار كما أنّ الامتناع إنّما تحقّق بعدم اختيار المكلّف له فالامتناع أيضا بالاختيار ، وهما لا ينافيان الاختيار ، يعني لا ينافيان كون الفعل صادرا باختيار المكلّف وإرادته. والقاعدة في هذا المقام خارجة عن محلّ الكلام.

المورد الثاني من الموردين اللذين ذكرت فيهما هذه القاعدة : الاصول في مبحث الضدّ ، لمناسبة ما ، فإنّهم ذكروا أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، مثلا من ألقى نفسه من شاهق فهو في حال هويّه غير قادر على حفظ نفسه ، ولكن بما أنّ مقدّمته كانت مقدّمة اختيارية فامتناع الحفظ عليه حينئذ كان بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار. وكذا شارب السمّ ورامي السهم قبل إصابته ، كما هو واضح. وهذه القاعدة في المقام ثلاثية الأقوال.

__________________

(١) انظر شرح التجريد : ٢٨٢ و ٣٠٧ و ٣١٤.

٣٤٥

فالمشهور فيها : أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وإن كان ينافيه خطابا ، لقبح خطابه ؛ لأنّه تكليف بغير المقدور ، وحسن عقابه عقلا.

وذهب أبو هاشم (١) الجبّائي إلى أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وعقابا (٢) ؛ لأنّه زعم أنّ قبح الخطاب بغير المقدور إنّما يتمّ إذا لم يكن المكلّف بنفسه سببا له ، وأمّا إذا كان المكلّف سببا له فلا قبح فيه ، فيجوز أن يقول المولى : «إذا صعدت إلى السطح فاجمع بين النقيضين» ولا يجوز أن يقول : «اجمع بين النقضين».

وذهب جماعة إلى أنّ الامتناع بالاختيار مناف للاختيار عقابا وخطابا. ولا ريب أنّ التدبّر يقتضي أن يقال بالقول الأوّل وإنّه مناف خطابا لا عقابا.

إذا عرفت هذه المقدّمة فالواجب المشروط تارة يكون مشروطا بشرط ليس له دخل في تحقّق ملاك المأمور به أصلا ، بل المأمور به واجد للملاك كان ذلك الشرط موجودا أو لم يكن ، وليسمّ هذا الشرط بالشرط العقلي.

واخرى يكون مشروطا بشرط له دخل في تحقّق الملاك في المأمور به بحيث لولاه لا ملاك أصلا.

فالأوّل كما في القدرة ، فإنّها شرط عقلي للتكليف. وحينئذ فإن كان قادرا على المأمور به أو قيده فلا يجوز له تعجيز نفسه ؛ لأنّ الملاك في المقام ليس مشروطا بالقدرة ، وتفويت الملاك الفعلي كتفويت المأمور به الفعلي قبيح عقلا ، فيجب عليه حفظ قدرته إن كانت أو تحصيلها إن لم تكن وإن لم يكن وجوب ذي المقدّمة فعليّا ؛ لعدم التفرقة عقلا بين قبح ترك التكليف وترك الملاك الملزم الفعلي.

ومن ثمّ حكم الفقهاء بوجوب تعلّم الصبيّ اصول دينه عقلا ليكون في أوّل أزمان بلوغه مؤمنا ، بل يجب عليه أن يحفظ قدرته على الصلاة حال بلوغه لو فرض علمه أنّه إن لم يحفظها من الآن لم يتمكّن عليها في ظرفها.

__________________

(١) كذا ، والصواب : أبو عليّ.

(٢) البرهان في أصول الفقه ١ : ٢٠٨ ، والمنخول : ١٢٩.

٣٤٦

إنّما الكلام في أنّ هذا الحكم العقلي هل يستكشف به حكم شرعي يسمّى بمتمّم الجعل ـ كما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ـ أم لا يستكشف به حكم شرعي؟ الظاهر هو الثاني ؛ لأنّ استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي إنّما يكون حيث يستكشف العقل ملاك الحكم ، كما في قبح الظلم حيث استكشف العقل أنّه يؤدّي إلى انعدام العالم بسبب تعدّي القويّ على الضعيف ، فهنا يستكشف الحكم الشرعي من الحكم العقلي. أمّا حيث لا يدرك العقل إلّا العقاب وقبح الترك فلا يستكشف حينئذ الحكم الشرعي ، ولا داعي له ؛ لكفاية حكم العقل في ردع العبد عن تفويت الملاك.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه في المقام إنّما هو بعد إحراز كون الفعل ذا ملاك فعلي ملزم ، وهذه الكبرى ـ وهي أنّ تفويت الملاك الملزم كتفويت الواجب الفعلي قبيح ـ مسلّمة ومتينة ، إلّا أنّ الكلام في تحقّق صغراها ؛ إذ ما هو المثبت لكون الصوم في وقته ذا ملاك ملزم حال العجز عنه ؛ إذ لعلّ ملاكه موقوف على القدرة عليه في وقته ، ولا يجب على العبد أن يصيّره ذا ملاك ملزم في ظرفه بحفظ القدرة عليه.

نعم ، لو أحرز الملاك تمّ ما ذكر كما هو كذلك بالإضافة إلى حفظ بيضة الإسلام فلا يجوز للمكلّف أن يعجّز نفسه عن حفظها في الوقت المتأخّر الذي يجب فيه الحفظ. ولكن ثبوت ذلك ـ يعني الملاك في الجميع ـ يحتاج إلى علم الغيب ، بل الظاهر من الفقهاء الجزم به حالة القدرة عليه في ظرفه في حصول الملاك ، وإلّا لأوجبوا حفظ القدرة مع احتمال وجود الملاك ؛ إذ حكم احتمال الملاك كاحتمال الخطاب منجّز لا بدّ له من مؤمّن.

نعم ، ذكروا في مبحث الضدّ أنّ قول المولى : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» يستفاد منها بالمطابقة وجوب الصلاة وبالالتزام وجود الملاك وبالحكم العقلي وهو «قبح تكليف العاجز» بل والشرعي وهو «رفع ما لا يطيقون»

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ١ : ٢٢١ و ٢٢٩.

٣٤٧

وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(١) يقيّد التكليف فيبقى الملاك على إطلاقه. وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في محلّه تبعيّة الدلالة الالتزاميّة ، فإذا قيّدت المطابقة بالحكم العقلي والشرعي بالقدرة قيّد الالتزام بهما ، فلا يبقى على إطلاقه حينئذ. ولزوم القضاء مع اختصاصه بما يقضى من المؤقّتات إنّما هو لوجود ملاك أصل الفعل بعد انعدام ملاك الوقت.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما كانت القدرة قيدا للملاك ، فهي على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن تكون القدرة آناً ما ولو قبل زمان الواجب قيدا للملاك ، وعليه فيجب إبقاء القدرة حينئذ أيضا ، لتحقّق الملاك بالقدرة آناً ما ، وتفويت الملاك كتفويت الخطاب في القبح. والجواب أنّه كبرى مسلّم ، إلّا أنّ الكلام في الصغرى.

الثاني : أن تكون القدرة دخيلة في الملاك بعد تحقّق بعض المقدّمات ، فيجوز تفويت القدرة قبل تحقّق ذلك البعض لا بعدها وقبل زمان الواجب. وقد مثّلوا لذلك بالحجّ ، فإنّ القدرة قبل تحقّق الاستطاعة يجوز تفويتها لا بعدها. وهذا المثال يتمّ إذا قلنا باستحالة الواجب المعلّق ـ كما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) ـ أمّا بناء على إمكانه فعدم جواز التفويت لفعليّة الوجوب وإن تأخّر زمان الواجب ، وحينئذ فهو أجنبيّ عن محلّ الكلام.

الثالث : أن تكون القدرة دخيلة في الملاك في زمان الواجب ، فيجوز التفويت قبل ذلك قطعا ؛ ضرورة أنّ المكلّف بتفويته القدرة يخرج نفسه عن موضوع التكليف ، فلا يكون مكلّفا ولا مفوّتا للملاك ؛ لعدم تحقّق فعليّة الملاك في حقّه أصلا.

وبالجملة ، فهذه الأقسام وإن أمكنت في مقام الثبوت ويختلف الحكم باختلافها أيضا ، إلّا أنّ إثباتها غير ممكن فيجوز التفويت للقدرة في جميعها ، فافهم وتأمّل.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٠١ و ٢١٨.

٣٤٨

ثمّ إنّ الميرزا النائيني قدس‌سره فرّق بين من كان عنده ماء قبل الوقت فلا يجوز إراقته إذا علم بعدم قدرته على الماء ، وبين من كان متوضّئا فيجوز له أن ينقض وضوءه وإن قطع بعدم الماء بعد ذلك (١).

وقد ذكر الاستاذ السيّد أبو القاسم الخوئي ـ أيّده الله تعالى ـ أنّه سأله عن الفرق ، فأسنده إلى الرواية وأنّ الإشارة إلى الرواية موجود حتّى في العروة (٢) ، وبعد المراجعة اعترف قدس‌سره (٣) بعدم رواية تدلّ على ذلك والظاهر أنّه أشار إلى الرواية الموجودة الصحيحة الواردة في الرجل يجنب بإتيان أهله بعد دخول الوقت وهو يعلم أنّه لا يقدر على الماء بعد ذلك ، فأجاز الإمام ذلك (٤) ولكنّه اشتباها تخيّل دلالتها في المقام.

بقي الكلام في أنّ التعلّم حكمه حكم بقيّة المقدّمات من عدم لزوم تحصيله قبل الوقت لمن علم بعدم التمكّن بعد الوقت عليه أم أنّ له حكما خاصّا؟ فنقول :

الكلام في التعلّم

والكلام في التعلّم يقع في ثلاثة موارد :

إذ قد يكون ترك التعلّم غير موجب لفوت المكلّف به ولا لفوت إحرازه ، وقد يكون موجبا لفوت الإحراز فقط ، وقد يكون موجبا لفوت المكلّف به.

أمّا الكلام في المورد الأوّل : وهو ما إذا لم يفت بترك التعلّم شيء لا الواقع المكلّف به ولا إحرازه ، فالظاهر جواز ترك التعلّم حينئذ كما إذا كان الشخص

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٥.

(٢) راجع العروة الوثقى ١ : ٤٧٥ ، مسألة ٢١ من أحكام التيمّم.

(٣) راجع أجود التقريرات ١ : ٢٢٥ ، الهامش رقم ٢.

(٤) وسائل الشيعة ١٤ : ٧٦ ، الباب ٥٠ من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث الأوّل.

٣٤٩

لا يعلم أنّ تكليفه في السفر إلى أربع فراسخ هو القصر أم الإتمام وكان قادرا أن يستعلم حكم المسألة ، ولكنّه لم يتعلّم فاحتاط فأتى بفرضين : أحدهما القصر والآخر الإتمام ، فأحرز الواقع بذلك ؛ لعدم اعتبار نيّة الوجه الجزميّة عنده. ولا قائل بحسب الظاهر بلزوم التعلّم في المقام ؛ لأنّ القائل بوجوب التعلّم النفسي يقول بوجوبه النفسي لغيره لا لنفسه ليكون عقاب على تركه لذاته ، والمفروض حصول الواقع وإحرازه أيضا بالاحتياط. ومعنى وجوبه النفسي لغيره : أنّ وجوبه ليس ترشّحيّا ، بل بأمر صادر من المولى ، وليس لأجل كون التعلّم كمالا في نفسه بل لأجل العمل ، فهو نظير ما إذا أراد المولى شرب الدواء فأمر عبده بشرائه فأمره حينئذ نفسي لغيره لا لنفسه ، أي للشرب لا لنفس الشراء ، فافهم.

وأمّا الكلام في المورد الثاني : وهو ما إذا كان ترك التعلّم موجبا لفوت الإحراز للامتثال ، كما في دوران الأمر بين المحذورين الوجوب والحرمة ، فإنّ الإتيان أو الترك مكلّف بهما ، إلّا أنّه لو تعلّم حكمه لعلمه ، ولكنّه لم يتعلّم. أو تردّد الواجب بين أطراف كثيرة وكان غير قادر على فعل الجميع وقادرا أن يتعلّم حكمه بالسؤال ، فالظاهر وجوب السؤال ؛ لأنّ الواجب الواقعي لا بدّ من إحرازه حيث يمكن وهو في المقام ممكن ، فلو ترك التعلّم فاتّفق أنّ الذي أتى به غير الواجب كان للمولى عقابه على ترك الواجب ، ولو اتّفق لحسن حظّه أنّه الواجب كان متجرّئا ؛ لأنّه أقدم على ترك الواجب لو كان هو الثاني ، فافهم.

وأمّا المورد الثالث : وهو ما إذا كان ترك التعلّم مقتضيا لفوت الواجب ، كما في من لا يعرف القراءة في الصلاة ، فإذا ترك التعلّم قبل الوقت يفوته الواجب في ظرفه. فإذا قلنا بمقالة المحقّق الأردبيلي (١) ومن تبعه (٢) وهو أنّ التعلّم واجب نفسي لغيره ، وجب

__________________

(١) انظر مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠.

(٢) انظر المدارك ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ و ٣ : ٢١٩.

٣٥٠

على هذا الشخص التعلّم كما هو الظاهر ، فإنّ الروايات الدالّة على وجوب التعلّم (١) لا يبعد أن يستظهر منها ذلك. وحينئذ فلا إشكال في وجوب التعلّم قبل الوقت.

وإن لم نقل بذلك أشكلت المسألة وبنيت على ما تقدّم من المقدّمة المفوّتة بتمام شقوقها. وحينئذ فمقتضى ما تقدّم منّا جواز التعجيز ؛ لأنّه الآن ليس بواجب ، وبعد وقته أيضا لا يتّصف بالوجوب لعدم القدرة ، فلم يفوّت هذا الشخص واجبا عليه ، بل منع نفسه عن أن يكون موردا للتكليف فأخرج نفسه عن موضوعه ، كما تقدّم.

ولكن قد عرفت قوّة ما ادّعاه الأردبيلي قدس‌سره من كون التعلّم واجبا نفسيّا لغيره ، فلا عقاب على تركه لنفسه بل لغيره ، فافهم.

(وهناك قسم رابع ، وهو أن يترتّب على ترك التعلّم فوت الغرض الملزم ولا يترتّب عليه فوت التكليف ، كما إذا كان الوجوب للواجب النفسي مشروطا بالوقت ، إلّا أنّ الوقت لا يسع التعلّم والعمل ، فالتكليف حينئذ بعد الوقت تكليف بما لا يطاق ، إلّا أنّ الغرض كالتكليف ـ بل هو روح التكليف ـ فتفويته حرام عقلا ، فلا بدّ من التعلّم حينئذ.

نعم ، لو لم يترتّب على ترك التعلّم فوت الواجب ولا فوت الغرض الملزم ـ لكونهما مشروطين بالقدرة في ظرف الفعل المنفيّة حسب الفرض ، والمشروط عدم عند عدم شرطه ـ ففي مثله يحتاج القول بوجوب التعلّم إلى ما التزم به المحقّق الأردبيلي من الوجوب النفسي المتقدّم ذكره ، إلّا أنّ الذي يستظهر من النصوص عدم مشروطيّة الملاك الملزم بالقدرة من ناحية التعلّم في ظرف العمل ، فافهم) (٢).

هذا كلّه إذا أحرز الابتلاء به ، أمّا لو لم يحرز الابتلاء به بل ولم يظنّه بالظنّ الاطمئناني فهل يجب عليه تعلّم حكم تلك الوقائع التي لا يحرز ولا يطمئنّ بالابتلاء

__________________

(١) راجع الكافي ١ : ٣٠ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٥١

بها ، أم لا يجب؟ أمّا إذا أحرز عدم الابتلاء بتلك الواقعة ، فمثال ذلك ما إذا أحرز عدم الاستطاعة وقطع بذلك ، فهل يجب عليه تعلّم أحكام الحجّ؟ وما إذا قطع بأنّه لا يبتلي بمعاملة ربوية ، فهل يجب عليه تعلّم أحكام الربا؟ والظاهر عدم وجوب التعلّم في ذلك ؛ لأنّ وجوب التعلّم ـ كما استفدناه من الأدلّة ـ وجوب نفسي لغيره وللعمل ، فإذا احرز عدم الابتلاء فلا وجوب.

وأمّا إذا شكّ في أنّه يبتلي بهذه الواقعة أم لا ، فهل يجب عليه تعلّم حكمها أم لا؟

ربّما يقال بعدم وجوب التعلّم ، لاستصحاب عدم الابتلاء بها بعد ذلك.

وقد نوقش في جريان الاستصحاب في مثل هذه الموارد من الامور المتأخّرة ؛ لعدم كونه شاكّا حينئذ ، بل هو الآن متيقّن بعدم كونه محلّ ابتلائه ظاهرا فعلا. نعم ، إنّما يجري الاستصحاب في شيء كان على يقين منه ثمّ شكّ فيه فعلا ؛ لكونه متيقّنا سابقا ومشكوكا بالفعل.

ولا يخفى عليك ما في هذه المناقشة. وقد ذكرنا في مبحث الاستصحاب أنّ العبرة في الاستصحاب بتقدّم المتيقّن وتأخّر المشكوك وإن كان زمان اليقين والشكّ فعليّا. وحينئذ فلا مانع من إجراء الاستصحاب في الامور المتأخّرة ؛ ولذا أفتى جملة من الأصحاب بجواز البدار لذوي الأعذار إذا شكّوا في ارتفاع العذر إلى آخر الوقت وعدمه (١) اعتمادا على استصحاب عدم التمكّن. نعم ، هذا الحكم ظاهري ، فإن صادف التمكّن فلا بدّ من الإعادة.

__________________

(١) في جواز البدار وعدمه لذوي الأعذار خلاف وذكروا في مبحث التيمّم أقوالا ثلاثة : عدم جواز البدار ، وجواز البدار ، والتفصيل بين العلم باستمرار العذر فيجوز البدار وعدمه مع العدم ، فالقولان الأوّلان منسوب إلى المشهور ، والثالث مذهب العلّامة في بعض كتبه ونسبه في جامع المقاصد ١ : ٥٠٠ إلى أكثر المتأخّرين ، وراجع لتفصيل الأقوال المسالك ١ : ١١٤ ، والمهذّب البارع ٢ : ٢٠٠ ـ ٢٠٢ ، وجواهر الكلام ٥ : ١٥٨ ـ ١٥٩.

٣٥٢

وربّما نوقش في استصحاب عدم الابتلاء بمناقشة اخرى ، وهي أنّ الابتلاء المستصحب عدمه ليس حكما شرعيّا وليس له أثر شرعي ، فلا معنى للتعبّد حينئذ.

أمّا إنّه ليس حكما شرعيّا فمعلوم ، وأمّا إنّه ليس بذي أثر شرعي فلأنّ احتمال الابتلاء كاف في وجوب التعلّم من جهة لزوم دفع الضرر المحتمل وهذه المناقشة ذكرها الميرزا النائيني قدس‌سره (١).

والجواب : أنّ هذا متين إذا قلنا بأنّ المجعول في الاستصحاب هو الحكم المماثل. أمّا إذا قلنا بأنّ المجعول هو الطريقيّة وجعل المتيقّن السابق في الزمن اللاحق بمعنى كون المجعول هو طريقيّة اليقين ، فباستصحاب عدم الابتلاء يندفع احتمال الضرر ، وأثره حينئذ هو عدم وجوب التعلّم ، وهو كاف في الأثر.

نعم ، المانع من إجراء الاستصحاب هو إطلاق أدلّة وجوب التعلّم مع كون الغالب عدم إحراز الابتلاء ، فأمره عليه‌السلام بالتعلّم مع كون الغالب عدم إحراز ابتلاء كاشف عن عدم الاعتماد على الاستصحاب ، وحينئذ فلا بدّ أن يتعلّم ما لم يحرز عدم الابتلاء ، فافهم.

بل يمكن القول بعدم جريان الاستصحاب مع قطع النظر عن إطلاق الأخبار ، بأن يقال : إنّ للمكلف علما إجماليّا بالابتلاء بواقعة على الأقلّ من الوقائع ، فبمقتضى ذلك العلم الإجمالي يجب التعلّم ، كما يجب على المجتهد الفحص عن المعارض في العمل بالخبر وعن الأخبار في إجراء البراءة ، للعلم الإجمالي بوجود المعارض في الأخبار ، وبوجود الأخبار في موارد البراءة.

وبالجملة ، فقد ظهر الفرق بين التعلّم وغيره من المقدّمات ، فيجب التعلّم وإن كان الواجب مشروطا بشرط لم يحصل بعد. نعم ، لو احرز عدم الابتلاء لا يجب التعلّم. وهذا بخلاف بقيّة المقدّمات ، فإنّها لا يجب تحصيلها قبل حصول شرط الوجوب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٣١.

٣٥٣

لذلك الوجوب المشروط ؛ لعدم إحراز كون الملاك مطلقا ، فيحتمل كونه مشروطا بالقدرة في زمان الوجوب ، وحينئذ فلم يستقرّ الوجوب عليه قبل الشرط ؛ لعدم الشرط ، وبعد حصول الشرط للعجز حينئذ عنه.

(ثمّ إنّ ما ذكرناه من وجوب التعلّم محافظة على إحراز الواجب أو عليه نفسه أو على غرض المولى إنّما هو بالإضافة إلى البالغين. أمّا الصبيّ فلا يجب عليه التعلّم قبل بلوغه وإن علم عدم تمكّنه من إحراز التكليف أو من الامتثال له أو من تحصيل غرض المولى بعد البلوغ لو لم يتعلّم ؛ وذلك لأنّ السبب في العقاب إنّما هو ترك التعلّم وترك التعلّم في ظرفه مرفوع برفع قلم التكليف عن الصبيّ حتّى يبلغ ، وبعد البلوغ يكون التكليف محالا لقبح التكليف بما لا يطاق ، فلا مجال لما ذكره الميرزا قدس‌سره (١) من لزوم تعلّم الصبيّ الأحكام قبل بلوغه حتّى يتمكّن من امتثال أوامر المولى بعده.

وتوهّم أنّ رفع القلم شرعي فلا يرفع وجوب التعلّم الذي هو حكم عقلي ، مدفوع بأنّه يرفع موضوع حكم العقل وهو احتمال الضرر ، فيرتفع الحكم العقلي حينئذ قهرا) (٢).

بقي هنا أمران :

أحدهما : أنّه إذا ترك التعلّم حيث يجب فترتّب عليه ترك الواجب ، أو أحرز إطلاق الملاك فترك المقدّمة التي يفوت بها الملاك ، فهل يستحقّ العقاب من الآن أم عند ترك الواجب النفسي؟ ظاهر كلام بعضهم الفرق بين التعلّم وغيره ، فحكم في ترك التعلّم باستحقاق العقاب عند ترك الواجب النفسي وفي غيره باستحقاق العقاب عند ترك المقدّمة.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٧.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٥٤

وفرّق بينهما بأنّ ترك التعلّم لا يلزم منه ترك الواجب في ظرفه ، بل قد يترك وقد لا يترك. بخلاف غيره ، فإنّ ترك المقدّمة التي لا يقدر على فعل الواجب بتركها صيّر الواجب غير مقدور ، فيكون شروعا في المعصية من الآن ، فيعاقب من الآن ؛ لعدم مقدوريّة فعل الواجب في ظرفه.

أقول أوّلا : قد يكون ترك التعلّم ملازما لترك الواجب في وقته كبقيّة المقدّمات ، كمن لم يتعلّم الصلاة وكان غير عربي ، فإنّه لا يمكن أن يتعلّم الصلاة بعد دخول وقتها ويصلّي ، فهو محال عادة ؛ لاحتياج التعلّم إلى مدّة طويلة.

وثانيا : أنّ صيرورة الفعل غير مقدور لا يحقّق معصية بالفعل ، والعقاب إنّما هو على المعصية ، فمن ألقى رجلا من شاهق لا يكون قاتلا له قبل أن يصل إلى الأرض فيموت ؛ ولذا لا يجوز القصاص منه حينئذ ولا أخذ الدية أصلا. فالظاهر أنّ العقاب في ترك التعلّم الموجب لترك الواجب وفي ترك المقدّمة المفوّت للواجب في ظرفه هو عند حصول ترك الواجب النفسي ؛ إذ حينئذ تتحقّق المعصية وعدم القدرة عليه قبل وقته ليس بنفسه معصية بل الترك في ظرفه معصية ، فحينئذ يستحقّ العقاب.

الأمر الثاني : أنّه ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره فسق تارك التعلّم في مسائل الشكّ في الصلاة والسهو اللذين يبتلى بهما المكلّف غالبا (١).

فهو إمّا مبنيّ على كون التعلّم واجبا نفسيّا لنفسه وأنّ ترك التعلّم حينئذ كبيرة من الكبائر. أو مبنيّ على كون التجرّي كبيرة من الكبائر. أو مبنيّ على الفرق بين مسائل الشكّ والسهو ممّا يبتلى بها المكلّف غالبا ، فتركها مستلزم لترك الواجب وهو الصلاة. بخلاف غيرها ، فإنّ تركها ليس مستلزما لترك الواجب ، لندرة الابتلاء بها.

__________________

(١) صراط النجاة : ١٧٥ ، مسألة ٦٨٢.

٣٥٥

والأوّل لا يقول هو به. وكذا الثاني ، لتصريحه (١) بعدم حرمة التجرّي. وكذا الثالث ؛ لأنّ تعلّم أجزاء الصلاة وشرائطها أيضا يوجب فوت الواجب ، فلا وجه للفرق.

ويمكن أن يكون كلامه مبنيّا على أنّ العدالة ملكة إتيان الواجبات وترك المحرّمات في ظرف العلم ، كما صرّح بكون العدالة هي تلك الملكة (٢). وحينئذ فترك التعلّم كاشف عن عدم تلك الملكة ؛ لأنّه حينئذ عازم على ترك الواجب وهو الصلاة ، فلا ملكة حينئذ ، ويكون ذكره لخصوص مسائل الشكّ والسهو مثالا لما يبتلى به المكلّف غالبا ، لا مختصّا به. وكذا إذا كان التعلّم واجبا نفسيّا لغيره ، فإنّ تركه بما أنّه يتبع ما يترك بسببه ، فترك الصلاة كبيرة ، فيكون ترك التعلّم موجبا للفسق ؛ لأنّه ترك للصلاة ، فافهم.

هذا تمام الكلام في التعلّم وشئونه. ويمكن أن يكون كلامه مبنيّا على وجوب التعلّم وجوبا طريقيّا ، فإنّ المعصية يتحقّق بمخالفة الحكم الظاهري كما تتحقّق بمخالفة الحكم الواقعي أيضا. وحينئذ فيكون هذا الشخص فاسقا ؛ لكونه عاصيا للحكم الظاهري الطريقي.

__________________

(١) راجع فرائد الاصول ١ : ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) انظر رسالة في العدالة (المطبوعة ضمن رسائل فقهيّة) : ١٠ ـ ١٥.

٣٥٦

في المعلّق والمنجّز

قسّم صاحب الفصول قدس‌سره الوجوب إلى مطلق ومشروط ، ثمّ قسّم المطلق إلى المعلّق والمنجّز (١) وإنّما قسّم المطلق إلى المعلّق والمنجّز قصدا للتخلّص عن إيراد وجوب بعض مقدّمات الواجب قبل وجوبه كالغسل في ليل شهر رمضان وكحفظ القدرة في المقدّمة المفوّتة بدعوى فعليّة الوجوب في ذلك كلّه ؛ ولذا تجب المقدّمة في جميع ذلك وإنّما القيد قيد للواجب لا للوجوب ؛ ضرورة أنّ مناط وجوب المقدّمة هو فعليّة وجوب ذيها من غير فرق بين كون الواجب فعليّا أو استقباليّا.

ولا يخفى أنّ ما ذكره : من كون الواجب تارة يكون فعليّا واخرى يكون استقباليّا والوجوب في الجميع فعلي متين جدّا ، وبه نستغني عمّا ذكروه في ذلك من حكم العقل ومتمّم الجعل ، إلّا أنّه غير مصيب في عدّه الوجوب المعلّق من قسم المطلق بل هو من قسم المشروط.

فالأولى أن يقال : إنّ الوجوب مطلق ومشروط ، والمشروط تارة يكون مشروطا بالشرط المتقدّم والمقارن واخرى يكون مشروطا بالشرط المتأخّر ، والمشروط بالشرط المتأخّر قد صوّرناه وأثبتنا إمكانه. وتوضيح كون الوجوب

__________________

(١) الفصول الغروية : ٧٩.

٣٥٧

المعلّق من المشروط : هو أنّه لا يقدر على ذلك الواجب إلّا بعد مجيء وقته أو ذلك الأمر الغير الاختياري المعلّق عليه ، فمجيء الوقت من محقّقات القدرة ، وكلّ تكليف بالإضافة إلى الشرائط العامّة مشروط ؛ إذ التكليف مشروط بالقدرة.

وبالجملة ، فالوجوب مشروط في الحقيقة ، إلّا أنّ ذلك الشرط لمّا كان معلوم الحصول والتحقّق بحسب العادة صار الوجوب فعليّا فوجبت المقدّمات ، للعلم بحصول الشرط في ظرفه ؛ ولذا لو مات ذلك الشخص قبل حلول الوقت كشف عن عدم الوجوب من أوّل الأمر ، نظير من استطاع ثمّ مات قبل أيّام الموسم بعد سفره ، فإنّه يكشف عن عدم استطاعته من أوّل الأمر وأن لا وجوب للحجّ عليه.

ثمّ إنّه يقع الكلام الآن في إمكان الواجب المعلّق واستحالته ، فنقول : ذكر بعضهم استحالته لوجوه :

أحدها : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره وملخّصه أنّ القدرة من شرائط التكليف فكيف يتحقّق التكليف مع كون المكلّف عاجزا حينئذ (١).

والجواب : أنّ القدرة في ظرف العمل شرط للتكليف لا القدرة حال التكليف ، وفي ظرف العمل القدرة حاصلة حسب الفرض.

الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) وهو أنّ القدرة مفقودة في الجميع ؛ ضرورة أنّ الواجب مقيّد بأمر غير اختياري ، فإن لم يقيّد الوجوب به لزم التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ المقيّد بأمر غير مقدور ينبسط التكليف عليه وعلى قيده ، وحينئذ فهو غير مقدور فالتكليف به محال وإن قيّد الوجوب به أيضا لزم أن يكون من قبيل الشرط المتأخّر وهو محال كما مرّ.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٠.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ١٩٧ وما بعدها.

٣٥٨

والجواب أوّلا : أنّ الشروط ـ كما قدّمنا ـ لم يتوجّه التكليف نحوها ، وإنّما توجّه التكليف نحو تقيّد الواجب بها بأن تكون ظرفا له ، وهذا أمر مقدور للمكلّف ، ونفس الشرط هو التقيّد أمّا ذات القيد فهي غير داخلة في حيّز التكليف أصلا. وحينئذ فلا تكليف بغير المقدور. نعم ، ما ذكره من كون القيد راجعا إلى الوجوب أيضا متين على ما قرّرناه ، إلّا أنّ استحالة الشرط المتأخّر قد عرفت بطلانها وأنّ الشرط المتأخّر ممكن كما مرّ ، بل واقع ، بل ضروري كما عرفت بالإضافة إلى أجزاء العمل المتلاحقة ، فإنّ وجوب الأجزاء الاول مشروط بالقدرة على الأجزاء المتأخّرة في ظرفها ، وهو واضح كما مرّ.

الثالث : من وجوه استحالة الواجب المعلّق عبارة عن مقدّمتين :

الاولى : أنّ الإرادة التشريعيّة على حدّ الإرادة التكوينيّة إمكانا واستحالة ، فكلّ ما أمكن تعلّق الإرادة التكوينيّة به أمكن تعلّق الإرادة التشريعيّة به ، وكلّ ما استحال استحال ، ولا فرق بينهما إلّا أنّ الإرادة التكوينيّة تتعلّق بفعل نفس المريد والتشريعيّة تتعلّق بفعل الغير.

الثانية : أنّ تعلّق الإرادة التكوينيّة بأمر متأخّر مستحيل فكذا التشريعيّة.

وقد أجاب عن هذه المقدّمة الثانية في الكفاية بأنّ تعلّق الإرادة التكوينيّة بالأمر المتأخّر لا مجال لإنكاره فكذا التشريعيّة (١) فانقلبت دعوى الاستحالة إلى الإمكان. ومن ثمّ ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره في المقدّمة الثانية عوض ما ذكرنا : أنّ تعلّق الإرادة التكوينيّة بأمر غير مقدور ومقيّد بغير مقدور مستحيل ، سواء كان متأخّرا أو متقدّما أو مقارنا (٢).

والجواب عن هذه المقدّمة الثانية بكلا وجهيها أنّه ما المراد من الإرادة؟

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٢٨.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ١٩٢ ـ ٢٠١.

٣٥٩

فإن كان المراد منها الشوق الذي هو من صفات النفس فتعلّقه بالأمر المتأخّر وبالأمر الغير المقدور ممكن. وكم نشتاق زيارة الحسين عليه‌السلام في الأيّام المتأخّرة عن زمن الاشتياق! وكم نشتاق إلى فعل الغير! وإن كان المراد منها الاختيار الذي هو من أفعال النفس فتعلّقه بالأمر المتأخّر والغير المقدور مستحيل في الإرادة التكوينيّة ، إلّا أنّ المقام ليس متعلّقا بالقيد كما مرّ وإنّما تعلّق بالتقيّد وهو أمر مقدور. هذا حال الإرادة التكوينيّة وأمّا التشريعيّة : فتعلّقها بفعل الغير بالمعنى الأوّل ممكن ، وبالمعنى الثاني لا يمكن ؛ إذ لا معنى لاختيار فعل الغير إلّا حمله على الاختيار المنافي للتكليف.

هذا كلّه حال الإرادة ، وقد ظهر أن لا وجه لعدوله ـ يعني الميرزا النائيني قدس‌سره ـ عن التقرير الأوّل في المقدّمة الثانية إلى التقرير الثاني ؛ إذ هما سواء في الإمكان إن اريد بالإرادة الشوق وبالاستحالة إن اريد بها الاختيار.

وأمّا الإيجاب فهو أجنبيّ عن الإرادة ؛ إذ هو ليس إلّا عبارة عن اعتبار فعل في ذمّة المكلّف ، وهو كما يمكن أن يكون اعتبار فعل حالي ، كذا يمكن أن يكون اعتبار فعل استقبالي في ذمّة المكلّف من غير فرق بينهما ، وقد مثّلنا لذلك في العرف بأن يستأجر زيدا غدا لصوم بعد غد ، فيملك عليه من حين إجراء العقد العمل في اليوم المعيّن له. ولا يخفى أنّ الكلام في الإيجاب من أوّل الأمر أولى من جعل الكلام أوّلا في الإرادة ثمّ بعد تلك المناقشات يرجع الكلام إلى الإيجاب.

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ تعلّق الإيجاب بالأمر المتأخّر ممكن ، وكذا تعلّقه بالمقيّد بقيد غير مقدور إذا كان التقيّد مقدورا ، وإلّا لزم عدم الأمر بجميع المؤقّتات ؛ إذ الوقت غير مقدور ، وهو كما ترى.

بقي أمران لا بأس بالتنبيه عليهما :

أحدهما : أنّه قيّد صاحب الفصول (١) الواجب المعلّق بما كان معلّقا على أمر

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٧٩.

٣٦٠