غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

وذكر بعضهم إمكان كون الشرط متأخّرا (١) وقد ذكر في تصوير الإمكان وجوه :

أحدها : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) وملخّصه : أنّ الحسن والقبح من الصفات التي تعرض الشيء بوجوه واعتبارات ، فقد يكون الشيء حسنا بالإضافة إلى شخص وقبيحا بالإضافة إلى آخر. وليس معنى كون الشيء شرطا لشيء إلّا كونه طرفا للإضافة ويكون الطرف الآخر هو نفس المشروط ، فقد يكون الشيء حسنا ومحصّلا للغرض بشرط هذه الإضافة ، وبما أنّ الإضافة من الامور الخفيفة المئونة فهي تحصل بوجود طرف منها وإن لم يتحقّق الطرف الآخر. وبعبارة اخرى : أنّ الشرط بوجوده المتأخّر يكسب المشروط وجها وعنوانا به يكون محصّلا للغرض وحسنا.

ولا يخفى عليك : أنّ ما ذكره متين بالإضافة إلى الحسن والقبح ؛ لأنّهما بالوجوه والاعتبارات ، وليس لهما واقع إلّا اعتبار المعتبر ليس إلّا ، ولكن الأحكام ـ كما عليه العدليّة ـ إنّما تتبع المصالح والأغراض في المأمور بها ، فليس المأمور به مأمورا به إلّا لتحصيله الغرض الذي اطّلع عليه الشارع وخفي علينا ، وحينئذ فبما أنّ المصالح امور واقعيّة ، فإن حصّلها العمل قبل حصول الشرط المتأخّر لزم إمّا انتفاء شرطيّته أو حصول المعلول قبل علّته ، وإن لم يحصّلها العمل قبل حصول الشرط فكيف يسقط أمره ويحصل الامتثال؟

وهذا هو الذي دعا الميرزا النائيني قدس‌سره إلى أن يلتزم بعدم حصول الامتثال وعدم سقوط الأمر إلّا بعد حصول الشرط ، وقال : إنّ الإيراد يرد لو التزمنا بحصول الامتثال وسقوط الأمر عند الإتيان بالمشروط قبل حصول شرطه ، ولكنّا لا نلتزم

__________________

(١) منهم المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ١ ـ ٢ : ٢٧٨ وما بعدها ، وانظر مقالات الاصول ١ : ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٢) كفاية الاصول : ١٢٠.

٣٢١

بذلك ، بل نقول : بأنّه لا يسقط الأمر ولا يحصل الامتثال إلّا مقارنا لحصول الشرط ، وتسمية الشرط بالمتأخّر في الحقيقة إنّما هو لتأخّره عن الواجب الذي هو العمل ، وإلّا فليس بمتأخّر عن حصول الامتثال وسقوط الغرض ، ولا فرق بين الجزء والشرط ، فكما لا يسقط الأمر بالمركّب قبل تماميّة أجزائه لا يسقط قبل تماميّة شرائطه أيضا.

وقد أفاد في وجه ذلك : أنّ الأمر بالامور الانتزاعيّة إنّما هو في الحقيقة أمر بمنشإ الانتزاع ، والشرط بما أنّه يوجب تقيّد المأمور به ، فالأمر بالتقيّد أمر بإيجاد القيد خارجا ، فلا يصدق الامتثال إلّا بعد إيجاد المأمور به بتمام قيوده التي منها الشرط المتأخّر (١).

ولا يخفى عليك ما في هذين الأمرين :

أمّا الأوّل ـ وهو كون الأمر بالشيء أمرا بمنشإ انتزاعه ـ فإنّما يتمّ في الامور الانتزاعيّة التي لا وجود لها في الخارج وإنّما الوجود لمنشا انتزاعها وإنّما ينسب الوجود لها بالعرض والمجاز كما في العناوين الاشتقاقيّة ، فمثل قائم وعالم مثلا لا وجود لها وإنّما الموجود الذات والعلم والقيام ، والأمر الانتزاعي إنّما ينتزع من هذين الوجودين كما لا يخفى.

وأمّا الامور الانتزاعيّة التي لها وجود حقيقي في الخارج ـ كما في العلو والسفل والكبر والصغر ونحوها من المقولات ذوات الإضافة ـ فلها وجود ، فالأمر بها في الحقيقة أمر بإيجادها في الخارج ، ويكون منشأ انتزاعها مقدّمة ، فتبنى على أنّ الأمر بالشيء أمر بمقدّمته أم لا.

وأمّا ما ذكره ثانيا : من أنّ الأمر يشمل الشرط لأنّ التقيّد يكون مشمولا للأمر كالجزء ، فهو مناقض لما ذكره من دخول الأجزاء في الأمر النفسي والشروط في

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٣٢٢ ـ ٣٢٥.

٣٢٢

الأمر الغيري وأنّ الشروط داخلة في نزاع وجوب مقدّمة الواجب وعدمه بخلاف الأجزاء ، مضافا إلى أنّ القيد لا يلزم أن يكون أمرا اختياريّا كما في الوقت والقبلة ، فإنّها غير اختياريّة ، ولكن تقيّد الواجب بها مقدور للمكلّف. وحينئذ فالأمر النفسي لم يتعلّق بالشرط فلا بدّ من سقوط الأمر بالواجب النفسي عند إتيان المأمور به ، للإتيان بمتعلّقه ، فيحصل الامتثال فيسقط الأمر ، فيعود إيراد الشرط المتأخّر بحاله من كونه من أجزاء العلّة فكيف يحصل المعلول قبل حصول علّته؟ فافهم.

والتحقيق أن يقال : إنّ الشرط الشرعي ليس المراد به الشرط الحكمي الذي هو من قبيل المؤثّر والعلّة ليقال : إنّه كيف يحصل المعلول قبل تماميّة علّته؟ بل الشرط الشرعي ليس إلّا بمعنى كونه مربوطا به المأمور به ؛ إذ الشرط في اللغة بمعنى الربط ، ومنه قيل للرابط الكهربائي «الشريط الكهربائي» باعتبار كونه رابطا بين الطرفين ، ومنه الشرط في ضمن العقد ، بمعنى أنّ العقد مربوط به ، لا بمعنى أنّه مؤثّر في صحّة العقد. وحينئذ فمعنى كون الشيء شرطا للمأمور به ليس إلّا بمعنى أنّ تقيّد المأمور به مطلوب للشارع ، ومعنى ذلك : أنّ خصوص الحصّة المقيّدة به هي المطلوبة للشارع لا المطلق على إطلاقه. وحينئذ فالشرط المتأخّر كالمقارن في كون الحصّة المقيّدة به هي المطلوبة للشارع ، فكما يكون المأمور به كالصلاة مثلا المقارنة للتستّر مؤثّرة في المصلحة الواقعيّة دون مطلق الصلاة ، فالمؤثّر في حصول المصلحة الواقعيّة ذات هذه الحصّة ، فكذلك في المتأخّر أيضا حرفا بحرف ، فيقال مثلا : إنّ صوم المستحاضة الملحوق بالغسل ليلا هو المؤثّر في تحصيل المصلحة الواقعيّة ، فوجود الغسل بعد ذلك إنّما هو لتحقّق طرف الإضافة ، فيكشف تحقّقه بعد ذلك عن كون الفرد المأتيّ به من خصوص الحصّة المأمور بها دون غيرها ، فيكون المأمور به هو المتقدّم ، وبحصوله يحصل الغرض ويسقط الأمر. وليس وجود القيد بعد ذلك إلّا كاشفا عن كون الفرد واقعا كان من حين وقوعه من أفراد الحصّة المأمور بها بحسب علم الله تعالى ،

٣٢٣

فيحصل الامتثال وسقوط الأمر بالمأمور به نفسه ولا يتوقّف على حصول الشرط أصلا ، نعم يكون ذلك كاشفا ، فافهم فإنّه دقيق.

وبما أنّ هذه المسألة من عويصات المسائل فلا بأس بزيادة توضيحها ، فنقول : إنّ اتّصاف الزمان بالسبق واللحوق أمر واقعي ذاتي له ، فالليل مثلا متأخّر عن النهار واقعا والنهار متقدّم عليه حقيقة ، وليس تقدّم النهار وتأخّر الليل أمرا دائرا مدار الاعتبار ، بل هو أمر حقيقي واقعي. وأمّا الزمانيات فالتقدّم والتأخّر فيها أيضا أمر واقعي ، إلّا أنّه ليس أمرا ذاتيا وإنّما تتّصف الزمانيات الغير التدريجيّة بالتقدّم والتأخّر بلحاظ نفس الزمان ، فنقول : وجود زيد قبل وجود عمرو ، ووجود عمرو بعد وجود زيد ، فالبعديّة والقبليّة فيهما أمر واقعي ، إلّا أنّه ليس ذاتيّا لهما ، بل من جهة نفس الزمان.

إذا عرفت ذلك ، فشرط المأمور به ـ كما عرفت ـ ليس إلّا تقيّد المأمور به في مقام الأمر ، ونتيجة ذلك هو كون متعلّق الأمر هو خصوص هذه الحصّة الملحوقة مثلا بذلك الشيء ، وهذه الحصّة الملحوقة بذلك الشيء في الواقع وبحسب علم الله تعالى كانت متّصفة بكونها ملحوقة مثلا بذلك الشيء المعبّر عنه بالشرط ، فبمجرّد إتيانها سقط الأمر لحصول متعلّقه وحصل الغرض المقصود من ذلك ، غاية الأمر أنّ المكلّف لا يعلم بذلك ، فحصول الشرط بعد ذلك يكون محصّلا للعلم للمكلّف بذلك ، فهو كاشف عن تحقّق الإطاعة في ظرفها وعن سقوط الأمر في وقته. وحينئذ فالشرط هو اتّصاف هذا العمل بالملحوقيّة بذلك الزماني وهي أمر حقيقي ـ كما عرفت ـ وواقعي حاصل للمأمور به حين حصوله.

الكلام في شرائط الحكم التكليفي والوضعي

ومعلوم ـ كما تقدّم ـ أنّ الإشكال في تأخّر شرط الحكم إنّما يتمّ لو قلنا بحصول الحكم التكليفي والوضعي قبل حصول الشرط. أمّا لو قلنا بأنّ الحكم لا يترتّب إلّا

٣٢٤

بعد حصول الشرط فلا إشكال ، مثلا إذا قلنا بأنّ الملكيّة لا تحصل إلّا بعد حصول الإجازة من المالك في بيع الفضولي فليست الإجازة حينئذ شرطا متأخّرا وإنّما هي شرط مقارن.

نعم ، يتوجّه إشكال الشرط المتقدّم ، بداهة كون العقد متقدّما على الإجازة الناقلة. وقد تقدّم أنّ تقدّم أجزاء العلّة التكوينيّة على المعلول لا بدّ منه في العلّة المركّبة فضلا عن التشريعيّة ، فلا إشكال في الشرط المتقدّم ، بل الإشكال إنّما يختصّ بخصوص الشرط المتأخّر.

وقد أفاد صاحب الكفاية قدس‌سره : أنّ شرط التكليف وكذا شرط الوضع إنّما هو أمر مقارن له دائما (١) ، وذلك أنّ الحكم التكليفي والوضعي بما أنّه فعل من أفعال المولى فليس يتحقّق إلّا بعد تصوّره بأطرافه ، ولا معنى لاشتراط الفعل الاختياري للمولى بأمر غير اختياري له كفعل المكلّف ؛ ضرورة خروجه عن كونه اختياريّا حينئذ ، فلا شرط في مقام التكليف والوضع إلّا لحاظ المولى لذلك الأمر المتأخّر أو المقارن ، واللحاظ أمر مقارن للحكم التكليفي والوضعي ، مثلا إذا كان الإنسان ذا إحسان على شخص فلو أراد ذلك الإنسان المحسن الاستقراض من المحسن إليه فلا ريب أنّ لحاظ إحسانه السابق هو الذي يدعو إلى إقراضه ؛ إذ جزاء الإحسان إحسان ، فعلمه بإحسانه السابق شرط إقراضه لا نفس الإحسان السابق ؛ ولذا لو تخيّله أنّه هو المحسن أيضا يقرضه وإن لم يصادف أنّه المحسن إليه في السابق ، بأن اشتبه هذا المقرض في تطبيقه ، ولو غفل عن إحسانه السابق أيضا لا يقرضه ، فالشرط للإقراض في الحقيقة هو علمه بالإحسان لا نفس الإحسان.

وكذا الكلام بالإضافة إلى الامور المتأخّرة ، مثلا إذا كان يعلم أنّه لو أكرم زيدا اليوم فزيد يكرمه في التوسّط إلى السلطان في أمر من الامور المهمّة ، فعلمه بذلك

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٨ ـ ١١٩.

٣٢٥

الأمر المتأخّر شرط إكرامه له لا نفس الأمر المتأخّر ؛ ولذا قد لا يتوسّط له إلى السلطان مع تحقّق الإكرام منه لزيد ، وقد يتوسّط وإن لم يكرمه ، فنفس علمه هو الشرط لا ذلك الأمر المتأخّر ، وحينئذ فهو مقارن ، فليس متأخّرا ليلزم الإشكال ، وتسميته بالشرط المتأخّر باعتبار أنّ المتأخّر طرف إضافته.

أقول : لا يخفى أنّ للحكم مقامين :

أحدهما مقام الجعل ، والآخر مقام المجعول.

أمّا مقام الجعل : فهو مقام الإنشاء عند الآخوند قدس‌سره كأن يقول : «الخمر نجس» ومعلوم أنّ الحكم في هذا المقام مجعول بنحو القضيّة الحقيقيّة ، فلا يفتقر إلى خمر في الخارج أصلا. وهذا الحكم لا يرتفع إلّا بالنسخ.

وأمّا مقام المجعول : وهو مقام المنشأ والفعليّة عند الآخوند ، فهو مقام وجود موضوع الحكم في الخارج كأن يتحقّق فرد من أفراد الخمر في الخارج فبتحقّقه يتحقّق الحكم في مرتبة الفعليّة ، ولا يرتفع إلّا بارتفاع موضوعه في الخارج ، فقد يعبّر عن موضوعه بموضوع الحكم كما في الخمر ، وقد يعبّر عنه بشرط الحكم كما في الاستطاعة ، وقد يعبّر عنه بسبب الحكم كما في الزوجيّة فإنّها سبب حلّية الوطء مثلا ، ولم نطّلع على السبب الباعث لتغيير هذه الأسماء بالإضافة إلى الموضوع الواحد. هذا كلّه في القضايا الحقيقية.

وأمّا الخارجية : فلا شرط لها إلّا قدرة المكلّف عليها ، لفرض وجود موضوعها خارجا والحكم فيها مفتقر إلى تصوّر المولى وغيره من مقدّمات العمل الاختياري ولا يتوقّف على شيء مربوط بالغير ، لخروجه حينئذ عن كونه اختياريّا ، ولا يعقل فيه الشرط المتأخّر ، لكنّه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، فافهم.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فما ذكره الآخوند قدس‌سره ـ من كون الحكم من الأفعال الاختياريّة للحاكم فلا بدّ من تصوّره بأطرافه ، ولا يعقل تعليقه واشتراطه بأمر

٣٢٦

غير اختياري ، لخروجه به عن كونه اختياريّا (١) ـ متين جدّا ، إلّا أنّه إنّما يتمّ في القضايا الخارجيّة ، لعدم توقّفها على موضوع ، فالحكم فيها إنّما يتوقّف على تصوّر المولى لمصلحته وبقيّة مقدّمات الطلب. ويتمّ كلامه أيضا في الحقيقيّة في مقام الجعل للحكم فقط ، فإنّ المولى في مقام جعل الحكم لا بدّ أن يتصوّر أنّ جعل هذا الحكم ذو مصلحة إلزاميّة فيجعله.

إلّا أنّ كلامنا إنّما هو في القضايا الحقيقيّة ؛ لأنّه هو محطّ أنظار الفقهاء ، والكلام فيها إنّما هو في الحكم في مقام المجعول ، ومعلوم أنّ الحكم حينئذ دائر مدار تحقّق موضوعه وانعدامه ، وتحقّق الموضوع وانعدامه أمران أجنبيّان عن المولى ، مثلا جعل الحكم الذي هو وجوب الحجّ على المستطيع أمر اختياري للمولى ، فلا بدّ من لحاظه بأطرافه والجزم بما فيه من المصلحة حتّى يجعله ، ولكن مقام المجعول الذي هو مقام فعليّة الحكم تدور مدار موضوعها الذي هو المستطيع ، فإن تحقّقت الاستطاعة بلغ الحكم مرتبة الفعليّة ، فإن انتفت ارتفعت حينئذ فعليّته ، وهكذا بقيّة الموضوعات.

ونظير ذلك في أفعالنا باب الوصيّة ، فإنّ الموصي يلحظ انقسام ثلثه مثلا إلى الإطعام وبناء المساجد ، فيجعله في ذلك ، وهذا مقام الجعل. ثمّ مقام الفعليّة دائر مدار تحقّق موضوع الوصيّة وهو الموت ، فمرادنا بشرط الحكم إنّما هو موضوعه ، وهل يعقل الحكم بكون الحكم فعليّا مع عدم فعليّة موضوعه؟ بل كان موضوعه متأخّرا عن حصوله ، فمثلا قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(٢) فبجعل هذا الحكم لا يكون الإنسان مالكا لشيء ؛ لأنّ صرف جعل هذا الحكم لا يوجب الملكيّة ، بل إنّ الملكيّة التي هي الحكم الوضعي دائر مدار موضوعه وهو التجارة عن تراض ، فكما لا يعقل تحقّق الملكيّة قبل تحقّق التجارة عن تراض ، لا يعقل تحقّقها

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١١٩.

(٢) النساء : ٢٩.

٣٢٧

بصرف التجارة بلا تحقّق التراضي كما في الفضولي ، فكيف يحكم بتحقّق الملكيّة قبل تحقّق التراضي الذي هو بعض موضوعها؟

ومن هنا التزم الميرزا قدس‌سره باستحالة الشرط المتأخّر للحكم ، وحكم بكون الأخبار الواردة في صحّة بيع الفضولي التي ظاهرها الكشف عن تحقّق الملكيّة من حين العقد إذا تعقّبته الإجازة مفيدة للكشف الحكمي لاستحالة الكشف الحقيقي عنده (١) ؛ لأنّه نظير الحكم بتحقّق المعلول قبل تحقّق علّته ، فإنّ الحكم بالإضافة إلى موضوعه كذلك ، فإنّ الحكم متفرّع على موضوعه تفرّع المعلول على علّته.

فيقع الكلام في أنّ قيود الموضوع هي كالموضوع في استحالة تحقّق الحكم قبله ، أم أنّ قيود الموضوع يمكن أن يتحقّق الحكم قبلها بمجرّد تحقّق ذات الموضوع؟ وقد أصرّ الميرزا النائيني قدس‌سره على الأوّل كما ذكرنا ، فحكم قدس‌سره باستحالة الشرط المتأخّر ، وحكم بالكشف الحكمي في الفضولي لاستحالة الكشف الحقيقي (٢).

والظاهر إمكان الشرط المتأخّر ، بيان ذلك : أنّ القضايا الحقيقيّة تحتاج إلى فرض وجود الموضوع ، ولكنّها لا تقتضي وجوده المقارن ، بل يجوز أن يفرض متقدّما كما في من استطاع وعصى فلم يحجّ ، فإنّه لا ريب في وجوب الحجّ عليه ، مع أنّ شرط وجوب الحجّ عليه فعلا استطاعته السابقة المنضمّة إلى عصيانه. وكذا موضوع وجوب قضاء الصوم هو الحائض التي فاتها الصوم ، كما يجوز أن يفرض متأخّرا كما وقع في جملة من الموارد بحسب دلالة دليله كما في إرث الحمل ، فإنّه يرث مشروطا بسقوطه حيّا ، فسقوطه حيّا شرط للإرث من حين موت المورّث ؛ ولذا تكون النماءات المتخلّلة له أيضا. وكما في إرث المسلمين من الورثة مال مورّثهم مشروطا بعدم إسلام الوارث الكافر قبل القسمة ، وإلّا فيختصّ بالإرث أو يشاركهم ، ولا بدّ

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٣٠ ـ ٣٣١.

(٢) انظر منية الطالب ٢ : ٦٤ ، والمكاسب والبيع ٢ : ٨١ ـ ٨٥.

٣٢٨

من أن يكون من قبيل الشرط المتأخّر أمر التدريجيّات ، فإنّ وجوب التكبير في الصلاة ـ مثلا ـ مشروط ببقاء قدرة المصلّي إلى السلام ، فالقدرة على السلام شرط متأخّر لوجوب التكبير ، لفرض ارتباطيّة الأجزاء وكون وجوبها ضمنيّا لا استقلاليّا.

نعم ، يبقى الكلام في مسألة إجازة الفضولي وأنّها بم تفي أدلّتها؟ فهل تفي بالكشف أم بالنقل؟ ولكنّه كلام في مرحلة الإثبات بعد الفراغ عن الإمكان في مرحلة الثبوت ، فيقع الكلام حينئذ فيما يستفاد من الأدلّة بخصوص المقام.

فنقول : إنّ ظاهر الآية المباركة وهي قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(١) أن يكون الحكم بالملكيّة موقوفا على أن يتحقّق الموضوع بتمام قيوده كما في الصرف والسلم الموقوف تحقّق الملكيّة فيهما على قبض العوضين أو خصوص الثمن ، فينبغي أن يكون تحقّق الرضا بعد ذلك موجبا لتحقّق الملكيّة من حين تحقّق الرضا ؛ إذ لا يصير العقد منسوبا إليه إلّا بعد تحقّق الرضا منه ، فلا بدّ من أن يلتزم بكون الإجازة اللاحقة ناقلة كما في القبض في الصرف والسلم. ولكن بما أنّ الإجازة والرضا المتأخّر من الصفات النفسيّة الحقيقيّة ذوات الإضافة ، ضرورة أنّ الرضا لا بدّ من أن يتعلّق بشيء مرضيّ به ، والشيء المرضيّ به هو الملكيّة السابقة ، وحينئذ فهذا هو الفارق بين الإجازة في العقد الفضولي حيث تكون الإجازة فيه كاشفة ، وبين القبض في الصرف والسلم حيث لم يتوهّم أحد فيهما الكشف أصلا ، فإنّهما لم يتعلّقا بأمر سابق كما في الإجازة ، فإذا أمضى الشارع الرضا اللاحق فمقتضى الرضا اللاحق هو ترتّب آثار الملكيّة من حين صدور العقد ، ضرورة أنّ الرضا بالعقد صيّر العقد منتسبا إلى المجيز من حين صدوره وتحقّقه. وحينئذ فمقتضى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ترتّب الآثار عليه من حينه ، أي من حين صدور العقد.

__________________

(١) النساء : ٢٩.

٣٢٩

وليس ما ذكرناه كشفا حكميّا كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (١) وتبعه عليه الميرزا النائيني (٢) ـ قدس‌سرهما ـ بل هو كشف حقيقي كما قرّرنا.

فتلخّص إمكان الكشف الحقيقي ، وعليه تنزل حينئذ الروايات بلا توقّف ، مثل الرواية الواردة في إجازة أحد الزوجين بعد بلوغ نكاح الزوج الثاني الميّت (٣) فإنّ الإمام عليه‌السلام حكم باستحلافه وتوريثه ، ولا معنى له إلّا أنّه حكم بالزوجيّة حين الحياة. وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بارك الله لك في صفقه يمينك» (٤).

بقي الكلام في أمور ربّما تورد على الكشف الحقيقي.

فمنها : ما ذكره الشيخ الأنصاري (٥) وأصرّ عليه الميرزا النائيني قدس‌سره (٦) وهو أنّ العقد إنّما أفاد الملكيّة الغير المقيّدة في زمان ، فالإجازة أيضا إجازة لذلك العقد ، فلا يلزم أن تكون موجبة للنقل من حين صدور العقد ، لعدم التقييد.

والجواب بالنقض أوّلا بالإجازة ، فإنّها تقع مقيّدة بالزمان فتحقّق الإجازة بعد ذلك لا بدّ من كونها كاشفة. مثلا إذا وقع عقد الإيجار للدار في أوّل شهر محرّم الحرام وفي شهر صفر تحقّقت الإجازة ، فهل يحكم بكون المستأجر مالكا للمنفعة من حين الإجازة أم من حين صدور العقد؟ وهل يلتزم أحد بكونه حينئذ انتقل إليه ملك المنفعة؟ كلّا! لأنّ العقد إنّما وقع بالتمليك من أوّل محرّم والرضا ـ كما تقدّم ـ رضا بما وقع من العقد ، فينسب العقد بشئونه إلى المجيز.

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٢) منية الطالب ٢ : ٦٤ ، والمكاسب والبيع ٢ : ٨١ ـ ٨٥.

(٣) الوسائل ١٧ : ٥٢٧ ، الباب ١١ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث الأوّل.

(٤) المستدرك ١٣ : ٢٤٥ ، الباب ٢٨ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث الأوّل.

(٥) المكاسب ٣ : ٤٠٣.

(٦) انظر المكاسب والبيع ٢ : ٧٧ و ٨٧ ، ومنية الطالب ٢ : ٥٤.

٣٣٠

وثانيا : أنّ العقد وإن لم يقيّد الملكيّة بالزمان السابق فهو أيضا لم يقيّدها بالزمان اللاحق أيضا ، وبما أنّ الإهمال في الواقع مستحيل فهو مطلق بالإضافة إلى الزمان ، فالمنشأ بالعقد هو الملكيّة المطلقة الشاملة لحال الإنشاء ، فإذا اجيزت من المالك انتسبت تلك الملكيّة المطلقة الشاملة إليه.

نعم ، الإجازة مقارنة لإمضاء الشارع ، ولكنّ الممضى هو المنشأ بالعقد ، فافهم.

ومنها : أنّ المال قبل الإجازة إن كان ملكا للمشتري فمعناه : أنّ الإجازة ليست شرطا ، وإن كانت ملكا للبائع فكيف بالإجازة تنقلب فتكون ملكا للمشتري؟ وهل يمكن في آن واحد اتّصاف المال الواحد بكونه ملكا لشخصين؟

والجواب : أنّا نختار الثاني ونقول بأنّها قبل الإجازة ملك البائع وبعدها تكون من حين العقد ملكا للمشتري ، ولا مانع من تعلّق الاعتبار الذي هو الملكيّة لشيء في زمان واحد لشخصين إذا تغاير زمان اعتبار المعتبر ، ضرورة أنّه لا مانع من تصوّر وجود زيد يوم الجمعة فيه ، ثمّ تصوّر عدم زيد يوم الجمعة في يوم السبت واعتبار الملكيّة كالتصوّر قائم بنفس الاعتبار.

ومنها : أنّه لو جاز ذلك لجاز بيع زيد في هذا اليوم داره قبل سنة ولا قائل بجوازه.

والجواب : أنّه ممكن ولكن لا دليل على وقوعه ، بخلاف إجازة الفضولي.

وبالجملة ، فإن دلّ الدليل عليه لقلنا به كما قلنا بالفضولي ، ولكن لا دليل عليه ، فلذا لم يقل أحد به.

ثمّ لا يخفى أن الشرط المتأخّر للحكم قد يكون الحكم فيه موجودا ولكنّه مربوط بالشرط المتأخّر ، كما في مثل الواجبات التدريجيّة ، فإنّ وجوب التكبيرة للصلاة موجود فعلا غير أنّه مشروط ببقاء الحياة والقدرة إلى زمان التسليم ، وقد لا يكون الحكم موجودا وإنّما يوجد في ظرفه عند تحقّق الشرط المتأخّر عنه ، كما في مثل إجازة المالك ، فإنّ المال قبل إجازة المالك باق على ملكه ،

٣٣١

وبتحقّق الإجازة ينقلب هذا المال في ذلك الزمان الذي كان محكوما بكونه ملك زيد عن كونه ملك زيد المجيز إلى كونه ملك عمرو المشتري من الفضولي. وكون المال الواحد في الزمان الواحد ملكا لشخصين لا يضرّ إذا تغاير زمان الاعتبار وإن اتّحد زمان المعتبر ؛ لأنّه من الاعتباريّات. وهذا جائز في الامور الحقيقيّة ذات الإضافة فضلا عمّا هو من الاعتبارات الصرفة ، فإنّك تكون يوم السبت جاهلا بقيام زيد يوم الجمعة وفي يوم الأحد تكون عالما بقيامه يوم الجمعة ، ولا محذور في ذلك أصلا. هذا تمام الكلام في الشرط المتأخّر.

٣٣٢

في الوجوب المطلق والمشروط

لا ريب في كون الواجب المطلق والمشروط من الامور التي ليس فيها اصطلاح خاصّ للاصوليّين ، وإنّما هما بمعناهما اللغوي استعملا عندهم ، فالواجب المطلق بمعنى : الملزم به الغير المقيّد بشيء ، والمشروط يعني : المقيّد بشيء. وحينئذ فلا معنى لإطالة الكلام في تعريفهما ؛ لأنّ التعاريف إنّما هي لشرح الاسم والاسم معلوم من اللغة. كما أنّ وصف الإطلاق والاشتراط أمر إضافيّ ، فيجوز أن يكون المطلق بالإضافة إلى شيء مشروطا بالإضافة إلى شيء آخر ، والمشروط مطلقا بالإضافة إلى شيء آخر ، وإلّا فلو اريد بالمطلق ما لا يتوقّف على شيء لم يكن له مصداق واحد ، إذ كلّ واجب لا بدّ أن يتوقّف على وجود موضوعه وعلى حياة المكلّف وقدرته وعقله.

ومعلوم أيضا : أنّ التعبير في المقام بالواجب المطلق والمشروط مسامحة ؛ إذ الوجوب هو الذي يكون مطلقا أو مشروطا ، فالتعبير بالواجب إنّما هو من قبيل الوصف بلحاظ المتعلّق ، أي الواجب الذي يكون وجوبه مطلقا أو مشروطا ، أو أنّ المراد الواجب بما أنّه متّصف بالوجوب لا ذاته.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الشرط يكون شرطا للتكليف لا للمكلّف به ، ويختصّ الوجوب بالذكر من باب المثال ، وإلّا فالاستحباب كذلك ، والكراهة والتحريم

٣٣٣

كلّ منها قد يكون مطلقا وقد يكون مشروطا. والشرط يلزم أن يكون راجعا إلى نفس الوجوب لا إلى ذات الواجب ؛ لأنّه هو ظاهر الجملة الشرطيّة ، فإنّ قوله : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» (١) يقتضي توقّف الوجوب على الزوال ؛ لأنّ مفادها تعليق الجزاء على الشرط والجزاء هو الوجوب لا الواجب.

وقد نسب إلى الشيخ الأنصاري قدس‌سره دعوى لزوم كون الشرط شرطا للواجب ذاته (٢). وقد نقل النائيني قدس‌سره عن السيّد الشيرازي الكبير تكذيب هذه النسبة (٣). ويؤيّده أنّ الشيخ في المكاسب في تعليق البيع استدلّ على عدم جواز البيع المعلّق بالإجماع على عدم جوازه (٤). ولو كان بانيا على استحالته لنفاه بالاستحالة. كما يظهر أيضا أنّه قائل بالشرط لنفس الوجوب من موارد أخر.

وكيف كان ، فيقع الكلام في أصل المطلب ـ وإن لم يقل به الشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ فقد زعم رجوع القيد إلى المادّة لأمرين : أحدهما استحالة رجوعه إلى الهيئة ، الثاني لزوم رجوعه إلى المادّة.

ولا يخفى أنّ رجوعه إلى المادّة ليس بنحو يجب تحصيله بل بنحو لا يجب وإنّما هو على تقدير اتّفاق حصوله ، ضرورة أنّ جملة «إن جاءك زيد فأكرمه» لا يحتمل فيها إيجاب مثل هذا الشرط ولو في غير هذا المثال ، مثل «إن دخلت السوق فاشتر اللحم» بل استعمال هذه الجملة في طلب ذلك غلط قطعا.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٨٣ ، الباب ١٤ من الجنابة ، الحديث ٢ ، وفيه : إذا دخل الوقت وجب ....

(٢) انظر كفاية الاصول : ١٢٢ ، وأجود التقريرات ١ : ١٩٣.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٩٤.

(٤) المكاسب ٣ : ١٦٣.

٣٣٤

أمّا الكلام في استحالة رجوع القيد إلى الهيئة : فقد ذكر أنّ مفاد الهيئة معنى حرفيّ والمعنى الحرفيّ غير قابل للإطلاق والتقييد. وهذه العبارة تحتمل معنيين (*) :

أحدهما : ما استفاده صاحب الكفاية قدس‌سره كما يظهر من جوابه قدس‌سره وملخّصه : أنّ المعنى الحرفي بما أنّ الموضوع له خاصّ فهو جزئي والجزئي غير قابل للإطلاق والتقييد ، فلا بدّ من الالتزام بإرجاع القيد إلى المادّة (١) فإن كان مراد الشيخ ـ على تقدير صحّة النسبة ـ هو هذا ، فالجواب عنه بامور :

أحدها : أنّ هذا إنّما يتمّ حيث يكون الوجوب مستفادا من الهيئة. أمّا لو استفيد من معنى اسمي كما ورد في قوله عليه‌السلام : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» فلا يتمّ ، ضرورة كونه حينئذ معنى اسميّا كليّا قابلا للإطلاق والتقييد.

ثانيها : أنّ المعنى الحرفي كلّي ـ كما ذكرنا ـ لا جزئي ، فهو من حيث الكلّية كالمعنى الاسمي قابل للإطلاق والتقييد.

ثالثها : أنّا لو سلّمنا كونه جزئيا فإنّ الجزئي قابل للإطلاق والتقييد من حيث الحالات وإن لم يكن قابلا من حيث الأفراد لكونه جزئيّا حقيقيّا.

رابعها : أنّه لو سلّمنا عدم قابليّته للتقييد حتّى من حيث الحالات ، إلّا أنّ الإطلاق والتقييد الذي هو بمعنى الإرسال والتضييق هو الذي يكون مستحيلا في الجزئي.

أمّا الإطلاق والتقييد الذي هو بمعنى التعليق والربط لا يستحيل في الجزئي أصلا ، ومقامنا من قبيل الثاني ، فإنّ المراد بكونه مطلقا : كونه غير مربوط بشيء ،

__________________

(*) لا يخفى أنّ عبارة التقريرات لو كانت بهذا النصّ لاحتمل فيها المعنيان ، ولكن عبارتها صريحة فيما استظهره صاحب الكفاية قدس‌سره فلا مجال حينئذ لاحتمال النائيني قدس‌سره أصلا فلاحظ.

(الجواهري).

(١) كفاية الاصول : ١٢٢ ـ ١٢٣.

٣٣٥

وبكونه مقيّدا : كونه مربوطا بشيء ، والجزئي قابل لذلك ، فإنّ زيدا ـ مثلا ـ قد يكون وجوده مربوطا بأمر وقد لا يكون وجوده مربوطا بأمر مثلا. على أنّ الوجوب الذي هو اعتبار شيء على ذمّة المكلّف ليس من مفاد الهيئة التي هي معنى حرفي بل هو مستفاد من حكم العقل بالمحبوبيّة وعدم الترخيص في الترك ، فافهم فتأمل.

المعنى الثاني : لما يحتمله عبارة الشيخ الأنصاري قدس‌سره ما احتمله الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وملخّصه : أنّ المعنى الحرفي بما أنّه غير ملحوظ استقلالا وإنّما يلحظ آلة فهو غير قابل للإطلاق والتقييد ، لافتقارهما إلى لحاظ استقلالي وهو مفقود في المعاني الحرفيّة. وهذا التقريب لا يفرق فيه بين أن يكون الحروف الموضوع له فيها خاصّا أو عامّا ، كما هو واضح.

والجواب أوّلا : أنّ المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي قابل للّحاظ استقلالا ، فإنّ المخبر قد يخبر عن خصوص مؤدّى المعنى الحرفي ، كما إذا أخبر زيد عمرا بكون بكر عندهم على السطح مع كون عمرو عالما بكونه عندهم ، إلّا أنّه لا يدري بكونه على السطح ، فأراد المخبر إخباره بهذه الخصوصيّة. وقد تقدّم الكلام في ذلك مفصّلا في المعنى الحرفي ، وذكرنا أنّ ما ذكروه من كون المعنى الحرفي غير قابل للّحاظ الاستقلالي غير تامّ ، بل هو قابل لذلك كالمعنى الاسمي ، وذكرنا الفرق بينهما وأنّه ذاتي لا من جهة اللحاظ ، فراجع.

وثانيا : لو سلّمنا كون المعنى الحرفي غير قابل للّحاظ الاستقلالي ، فلا يلزم أن لا يكون قابلا للإطلاق والتقييد ؛ إذ حينئذ بعد تعلّق اللحاظ به يكون غير قابل ، ولكنّه قابل قبل تعلّق اللحاظ به ، فإنّ الملحوظ ذاتا لا يخلو من أن يكون مطلقا أو مشروطا في الواقع.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٩٥.

٣٣٦

وثالثا : أنّه أخصّ من المدّعى ؛ إذ هو خاصّ بما إذا افيد الوجوب بالهيئة ، لا بما إذا افيد بمعنى اسمي كما في قوله : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة».

وربما ذكر محذور ثالث لعدم جواز إرجاع القيد إلى الهيئة. وقد ذكره الآخوند قدس‌سره بلفظ «إن قلت» (١) وملخّصه : أنّ الإيجاب يعني إنشاء الوجوب بالفعل ، فإن كان الوجوب المنشأ فعليّا ثبت المطلوب ولا بدّ من إرجاع القيد حينئذ إلى المادّة ، وإن كان الوجوب بعد تحقّق الشرط ـ كما هو مقتضى إرجاع القيد إلى الهيئة ـ فيلزم تخلّف الوجوب عن الإيجاب ، وهو على حدّ تخلّف الوجود عن الإيجاد محال.

وقد أجاب الآخوند عنه بأنّ الإنشاء على تقدير كالإخبار به بمكان من الإمكان ، وحينئذ فلو تحقّق الوجوب قبل تحقّق الشرط لزم التخلّف ؛ لأنّ المفروض أنّ الإيجاب كان على تقدير ، فيكون الوجوب أيضا على تقدير ، فيلزم تقدّم الوجود على الإيجاد.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الإخبار على تقدير ممكن ؛ لأنّه إخبار عن أمر واقع في الخارج فتقول : «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود» إلّا أنّ الإنشاء بما أنّه إيجادي على مقتضى كلامهم ويوجد معناه به ، فلا يعقل حينئذ أن يتحقّق الإيجاد ويتأخّر الوجود.

نعم ، لو فرض إمكانه كان تقدّمه على زمان الشرط مستحيلا كما ذكر ، لكنّ الكلام في الإمكان ، فافهم.

وحينئذ فالجواب عن الإشكال أن يقال : إنّ الإنشاء ليس أمرا إيجاديّا يوجد به مؤدّاه ، بل هو كالإخبار في كونه مبرزا لأمر نفساني ، وهو كونه في مقام قصد الحكاية عمّا في نفسه ، ففي الإخبار إنّما تفيد الجملة الخبريّة كونه بصدد الإخبار ، ولا تفيد ثبوت النسبة في الخارج كما هو المشهور على الألسنة ؛ ولذا لو أخبر بعدم وجود

__________________

(١) و (٢) كفاية الاصول : ١٢٣.

٣٣٧

الصانع لا تحقّق تلك النسبة في الخارج وإنّما يستفاد منه كونه في صدد الإخبار بذلك فيحكم بكفره مثلا ، فإذا أنشأ الجملة الإنشائيّة فإنّما يدلّ إنشاؤه على كونه بصدد إخباره عن نفسه أنّه اعتبر الشيء الفلاني على ذمّة المكلّف.

نعم ، فرق بين الإخبار والإنشاء ، وهو كون الإخبار له متعلّق خارجي يتّصف بالصدق والكذب بلحاظه ، أمّا هذا فليس وراء ما في النفس شيء أصلا ، فإذا كان الإنشاء إخبارا عمّا في نفسه وقد قدّمنا ، أنّ الوجوب هو اعتبار شيء في ذمّة المكلّف ، فإذا أنشأ فقد أبرز ذلك الاعتبار النفساني (*) ومعلوم أنّ الاعتبار ـ يعني اعتبار كون شيء على ذمّة المكلّف ـ قد يكون مطلقا على جميع التقادير ، وقد يكون معلّقا على تقدير كالإخبار. وتخلّف الاعتبار عن المعتبر ليس محالا ، بل هو كتخلّف التصوّر عن المتصوّر ، وهو أمر ممكن ؛ إذ يجوز أن يتصوّر الإنسان الآن ذهابه إلى مكّة بعد شهر مثلا.

وإذا أردت توضيح ذلك فلننظر لكلّ من الواجب المطلق والمعلّق والمشروط مثالا اعتباريّا عقلائيّا ، فإنّ زيدا ـ مثلا ـ قد يملّك عمرا داره فعلا بهبته إيّاه ، فالملكيّة التي هي أمر اعتباري اعتبرت الآن ، فالدالّ على الاعتبار هو الهبة وهي موجودة بالفعل ، والمدلول أيضا وهو الملكيّة أيضا موجودة ، والدلالة وهي اعتبار هذا الواهب أيضا موجود بالفعل. وقد يملّك زيد عمرا منفعة داره بعد سنة كما لو آجرها إيّاه بعد سنة ، فالاعتبار لملكه المنفعة بعد سنة موجود بالفعل ، والمعتبر وهي الملكيّة لها أيضا موجودة بالفعل ؛ ولذا لو مات عمرو انتقلت منفعة الدار إلى وارثه وإن كان زمن الملكيّة متأخّرا.

__________________

(*) فإذا قال المولى : «صلّ» مثلا ، فقد أبرز اعتبار الصلاة على ذمّة المكلّف فالإبراز فعلي ، والاعتبار فعلي ، لكن متعلّق الاعتبار ـ وهو لزوم شيء على ذمّة المكلّف ـ قد يكون مطلقا كما في المثال ، وقد يكون معلّقا كما في : حجّ إن استطعت.

٣٣٨

وقد يتحقّق الاعتبار والمعتبر بعد موقوف على شيء آخر كالوصيّة ، فإنّ اعتبار ملكيّة الوصيّ للمال الموصى له به متحقّق فعلا ، إلّا أنّ المعتبر وهو الملكيّة لا تحصل إلّا بعد موته الذي يتأخّر عن الوصيّة عشر سنين مثلا ، فالأوّل مثال الواجب المطلق ، والثاني مثال المعلّق ، والثالث مثال المشروط. وبما أنّ الوجوب عبارة عن الاعتبار ـ كما ذكرنا ـ فجواز هذه الامور الاعتباريّة تقتضي جوازه أيضا ، فافهم.

ثمّ إنّه قد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره وجها ثالثا لرجوع القيد (١) فإنّه بعد أن ذكر أنّ رجوع القيد إلى المادّة خلاف ظاهر الجملة التعليقيّة ، ورجوعه إلى الهيئة محال ـ لكونها جزئيّات أو لكونها غير ملحوظة استقلالا ـ زعم أنّ القيد راجع إلى المادّة المنتسبة ، بدعوى أنّ الجملة الشرطيّة إنّما وضعت لتعليق جملة على جملة ، فنتيجة الجملة يكون هو المعلّق ، فالقيد راجع إلى نتيجة الجملة.

والجواب عمّا ذكره قدس‌سره : أنّ تعليق مفاد المادّة المنتسبة ليس أمرا آخر غير تعليق الوجوب ، فإنّ قولنا : «صلّ» لها عبارتان ، فتارة نقول : مفادها وجوب الصلاة ، واخرى نقول : مفادها اتّصاف الصلاة بالوجوب ، فليس ما ذكره إلّا تغييرا للعبارة ، ضرورة كون القائل برجوع القيد إلى الوجوب إنّما يقول برجوعه إلى الوجوب المنتسب إلى الصلاة في مثل «إذا زالت الشمس فصلّ» مثلا ، لا إلى الوجوب المنتسب لأمر آخر ، فإنّ ذلك لا يعقل أن يصدر من أحد.

وثانيا : أنّ مفاد الجملة إنّما هو مفاد المادّة والهيئة معا ، فإذا لم يجز رجوع القيد إلى الهيئة نفسها فكيف يجوز رجوعه إلى معنى مشتمل على معنى الهيئة. وبالجملة ، فظاهر كلامه قدس‌سره لا محصّل له.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٩٣ ـ ١٩٤.

٣٣٩

الدليل الثاني الذي ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) للزوم كون القيد قيدا للمادّة لبّا : أنّه ذكر أنّ الإنسان إذا تصوّر شيئا ، فإمّا أن يطلبه أو لا يطلبه ، لا كلام على الثاني ؛ لأنّها حينئذ سالبة بانتفاء الموضوع ؛ إذ لا طلب كي يقال إنّه مطلق أو مشروط.

وعلى الأوّل فإمّا أن يطلبه على جميع تقاديره أو على تقدير خاصّ ، لا كلام على الأوّل ؛ إذ يكون وجوبه مطلقا ، فلا قيد كي يتنازع في رجوعه إلى المادّة أو الهيئة.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون ذلك التقدير أمرا اختياريا أو لا.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون موردا للتكليف أم لا. وجميع هذه التقادير في هذا الحصر العقلي القيد فيها راجع إلى المادّة ، فأين يكون رجوع القيد إلى الهيئة كما ذكرت؟

وظاهر الآخوند قدس‌سره تسليم ما ذكره في هذا الحصر (٢) إلّا أنّه سلّم في كون الحكم من ناحية المقتضي كما ذكره الشيخ ، إلّا أنّه ادّعى أنّه ربما يحصل مانع يمنع تأثير المقتضي للحكم ، فزعم أنّ الواجب المشروط كلّه ممّا اقترن مقتضيه بالمانع من الطلب الفعلي ، فعلّق الطلب فيه على حصول الشرط.

ثمّ قال : هذا بناء على تبعيّة الأحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح ، وأمّا على تقدير كون المصالح في المأمور به والمنهيّ عنه فيشكل.

ثمّ ذكر أنّ ذلك في المأمور به الواقعي لا الظاهري ، ومنع عن فعليّة الواقعي ، ونظّر له بعدم فعليّة كثير من الأحكام في أوّل البعثة ، بل وفي زماننا هذا إلى ظهور القائم ، مع كون حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلالا إلى يوم القيامة ... الخ (٣).

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٢٦٧.

(٢) كفاية الاصول : ١٢٢.

(٣) المصدر السابق : ١٢٤.

٣٤٠