غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

وأمّا القسم الثالث من أقسام السببيّة : وهي السببيّة على مذهب الإماميّة المعبّر عنها بلسان جماعة بالمصلحة السلوكيّة ، فالكلام يقع :

أوّلا في تصويرها.

وثانيا في إجزائها وعدمه.

وثالثا في إمكانها واستحالتها.

ورابعا في وقوعها.

أمّا الكلام في الأوّل : فقد صار جماعة إلى القول بها فرارا عمّا ذكره ابن قبة من استلزام جعل الخبر الواحد حجّة ـ بل مطلق الظنّ في فرض انفتاح باب العلم ـ تحريم الحلال وتحليل الحرام ، فالتزموا بأنّ ما يفوت من مصلحة الواقع يتدارك بسلوك الأمارة ، بمعنى أنّه لو قامت الأمارة عنده على وجوب القصر مثلا فيما لو سافر أربعة فراسخ فصلّى قصرا ثمّ انكشف له في آخر الوقت وجوب التمام ومخالفة الأمارة للواقع ، فالمتدارك بسلوك هذه الأمارة إنّما هو فضيلة الوقت ؛ لأنّها الفائتة دون مصلحة الوقت لعدم الفوات ، ولو استمرّت الأمارة غير منكشفة الخلاف حتّى مضى الوقت فلا بدّ من كون سلوكها إلى خارج الوقت وافيا بمصلحة الوقت كلّه. ولو لم ينكشف حتّى مات فسلوكها واف بمصلحة فضيلة الوقت ونفس الوقت ونفس صلاة التمام ؛ لأنّ الأمارة حجّة ما لم ينكشف خلافها ، فعدم الإتمام في كلّ من هذه المراتب الثلاث مستند إلى حجّة شرعية لم ينكشف خلافها ، فهي واجبة الاتّباع شرعا.

أمّا المقام الثاني : وهو أنّها لو انكشف خلافها فالظاهر أنّها لا تجزئ حينئذ ؛ لعدم إدراك مصلحة الواقع ولا بدله ، وما استوفي من مصلحة الواقع فهو ما لا يمكن تداركه. وأمّا ما يمكن كمصلحة الوقت لو انكشف الخلاف فيه فلم يفت وكمصلحة أصل الصلاة لو انكشف الخلاف خارجه فلم تفت أيضا ، فلا إجزاء أصلا ، لا في الوقت ولا في خارجه (*).

__________________

(*) قد ذكر في دورته اللاحقة التفصيل بين انكشاف الخلاف في الوقت فلا يجزئ لما ذكر

٣٠١

أمّا المقام الثالث : فقد ذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره إلى إمكانها وعدم محذور مترتّب عليها (١) وتبعه على ذلك الميرزا النائيني قدس‌سره (٢).

والظاهر استحالتها ؛ لأدائها إلى تغيير الواقع أيضا ، بيان ذلك : أنّ مصلحة الواقع إذا كانت مترتّبة على أمرين بحيث تترتّب على كلّ واحد منهما فلا بدّ من تعلّق أمر المولى بأحدهما على البدل ، فيكون الوجوب تخييريا. ولا يجوز أن يتوجّه الأمر إلى أحدهما بخصوصه إلّا حيث يكون هو المستوفي للمصلحة دون الآخر ، وحينئذ فإذا فرضنا أنّ مصلحة الواقع في فرض الجهل مترتّبة إمّا على التمام أو القصر المستند إلى الأمارة التي لا ينكشف خلافها حتّى يموت فمعناه أنّ المجعول الواقعي في حقّه هو الوجوب التخييري ، وقد فرضنا أنّه التمام بالوجوب التعييني ، فلزم من القول بالمصلحة السلوكيّة تغيير الواقع عمّا كان عليه ، وحينئذ فهو محال ، لما ذكر.

أمّا المقام الرابع : فلو لم يلزم محذور من القول بهذه السببيّة أو بغيرها من السببيتين المتقدّمتين أو لزم التصويب ولم يكن التصويب محذورا يقتضي المنع ، فهل تفي الأدلة بإثباته؟ الظاهر العدم ، فإنّ الظاهر أنّ الشارع المقدّس عهد إلى جملة من الطرق العقلائيّة التي جعلها العقلاء طريقا كالقطع يرتّبون عليها نظامهم ، ضرورة أنّه لو لم يرتّبوا إلّا على خصوص القطع لزم اختلال النظام ، والشارع إنّما أمضى ما بنى عليه العقلاء ، ومن المعلوم أنّ العقلاء لا يجعلون حكما على طبق هذه الأمارة وإنّما كانوا يجعلونها طريقا يسلكونها لتسهيل أغراضهم ولا يذمّون لو سلكوها

__________________

ـ في المتن ، وبين انكشافه خارج الوقت فيجزئ ؛ لأنّ الأمر بالصلاة في الوقت واحد وقد فاتت الصلاة في الوقت ، فالسلوك يقتضي استدراكها ؛ إذ القضاء بأمر جديد معلّق على الفوت ولا فوت بحسب الفرض للمصلحة ، فافهم.

(١) فرائد الاصول ١ : ١١٤ ـ ١١٥.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

٣٠٢

فظهر الخلاف ، والشارع إنّما أمضى ذلك ، فلا أساس للسببيّة أصلا بجميع معانيها. نعم ، لو أنّ الشارع جعلها جعلا ابتدائيا لاحتمل فيها ذلك لكنّه إنّما أمضى العقلاء على عملهم ، ومعلوم أنّ العقلاء لم يجعلوا حكما وليس من شأنهم ذلك كما تقدّم ، فافهم.

وينبغي التنبيه على امور :

[الأمر] الأوّل :

أنّه فرّق صاحب الكفاية قدس‌سره على القول بالسببيّة بين تعلّق الأمارة بمتعلّق التكليف وبين تعلّقه بنفس التكليف (١) ، فحكم بالإجزاء وسقوط الأمر الواقعي لو كان مؤدّى الأمارة متعلّق التكليف ، وبعدم الإجزاء وعدم سقوط الواقع حيث تتعلّق الأمارة بنفس التكليف ، وذلك لاستيفاء المصلحة في المتعلّق حسب الفرض ، فلا مجال للواقع. وأمّا نفس التكليف فاستيفاء مصلحة الظهر مثلا لا ينافي أن يستوفي المكلّف مصلحة الجمعة أيضا ؛ لأنّها مشتملة على مصلحة ملزمة ولا مضادّة بين المصلحتين.

وللنظر فيما أفاده مجال واسع ، فإنّ الأمارة سواء تعلّقت بالواجب أو بالحكم إن كانت ناظرة إلى الواقع وأنّ ذلك المتعلّق المعلوم إجمالا أو الحكم المعلوم إجمالا هو هذا ، فلا بدّ من الالتزام بالإجزاء على السببيّة من غير فرق بين الحكم والمتعلّق. وإن لم تكن ناظرة إلى أنّ المتعلّق أو الحكم المعلوم إجمالا هو هذا ، بل إنّها تذكر متعلّقا أو حكما بلا نظر إلى الواقع فاستيفاء مصلحته لا تنافي بقاء مصلحة الواقع على إلزامها غير مستوفاة ، فإنّ استيفاء مصلحة بعض الأحكام أو المتعلّقات لا يتدارك مصلحة الأحكام والمتعلّقات الأخر (*).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٢.

(*) لا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ على السببيّة الإماميّة لو قلنا فيها بالإجزاء ، وعلى السببيّة المعتزليّة أيضا تتمّ ؛ لأنّ وجود مصلحة على طبق مؤدّى الأمارة لا يرفع مصلحة الواقع ؛ إذ لا طريقية ، فافهم.

٣٠٣

الأمر الثاني :

لو قلنا بالسببيّة الملازمة للإجزاء وإمكانها ودار حجّيّة الأمارات بين هذه السببيّة الممكنة وبين الطريقيّة ، فقد ذكر الآخوند قدس‌سره أنّ مقتضى القاعدة لزوم الإعادة في الوقت ؛ لأنّه يشكّ في استيفاء مصلحة الواقع ، فقاعدة الاشتغال تقتضي لزوم الإعادة في الوقت ؛ لعدم إحراز الإتيان بالواقع ولا ببدله. ولا يجب القضاء خارج الوقت ؛ لعدم إحراز موضوعه وهو الفوت ، فإنّه يشكّ في الفوت ؛ إذ على تقدير السببيّة فلا فوت. ومجرّد احتمال عدم الفوت يوجب الشكّ في لزوم القضاء (١).

(وللنظر فيما أفاده من لزوم الإعادة في الوقت مجال واسع ؛ إذ على السببيّة الأشعرية لا واقع غير ما قامت عليه الأمارة وأدّى إليه نظر المجتهد ، فأيّ واقع يشكّ في استيفاء مصلحته؟ وكذا على السببيّة المعتزليّة ؛ إذ المفروض أنّ قيام الأمارة يوجب محو الواقع ، فأيّ مصلحة فائتة؟

فالظاهر أنّ القول بالسببيّة بالمعنيين المذكورين ملازم للإجزاء. نعم ، السببيّة بالمعنى الثالث كالطريقيّة في عدم الإجزاء ، فإذا دار الأمر بين السببيّة والطريقيّة يكون المكلّف شاكّا في توجّه التكليف نحوه فيتمسّك بالبراءة) (٢).

الأمر الثالث :

في أدلّة القول بالإجزاء :

فمنها : لزوم الهرج والمرج لو قلنا بعدم الإجزاء ولزوم العسر والحرج في ذلك ، فإنّ من صلّى عشرين عاما ـ مثلا ـ باجتهاده ثمّ تبدّل اجتهاده إلى وجوب السورة التي كان بانيا في اجتهاده السابق على عدم وجوبها وعمله عليه ، فمثل هذا لو كلّف بالإعادة لزم العسر والحرج.

وفيه : أنّ العسر والحرج لا يصلحان حجّة للقول بالإجزاء ، إذ هما يتبعان

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١١ ـ ١١٢.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

٣٠٤

موضوعهما في بقيّة الأحكام أيضا ، مضافا إلى أنّ القول بعدم الإجزاء ليس ملازما للعسر والحرج ، إذ لو اجتهد المجتهد فأفتى بعدم وجوب السورة وصلّى صلاة واحدة ثمّ تبدّل رأيه فأيّ عسر وحرج حتّى يصار من أجله إلى القول بالإجزاء؟ ولو صلح العسر والحرج إلى رفع الحكم لقيل بعدم الوجوب في القضاء للفوائت المعلومة حيث تكون فرائض خمسين سنة مثلا ، فهل يلتزم من أجله بعدم وجوب القضاء كليّة؟

نعم ، موارد العسر والحرج ترتفع بمقدار يلزم منه العسر والحرج المختلفين بحسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، فقد يكون الحكم حرجيّا في حقّ شخص وليس حرجيّا في حقّ آخر ، وحرجيّا في الصيف وليس حرجيّا في الشتاء ، وحرجيّا في بلد وغير حرجي في بلد آخر .. وهكذا.

وبالجملة ، فمتى تحقّق الحرج في حقّ الشخص سقط الحكم عنه في جميع التكاليف الحرجيّة. وليس العبرة بالحرج النوعي ، فإنّه ـ مضافا إلى أنّه ليس له في الأخبار ذكر وأثر ـ لا معنى لإناطة الحكم به ؛ إذ إنّه لو فرضنا أنّ برودة الهواء موجبة لحرجيّة الوضوء بالنسبة إلى نوع الناس ، فليس هذا موجبا لجواز تيمّم من عنده ماء سخن للحرجيّة النوعية.

نعم ، ربّما تكون الحرجيّة النوعيّة موجبة لعدم جعل الشارع الحكم من أوّل الأمر ، كما ورد «لو لا أن أشقّ على امتي لأمرتهم بالسواك» (١) و «لو لا المشقّة لأخّرت العشاء إلى نصف الليل» (٢) وأشباهها إلّا أنّ هذا شأن الشارع التي بيده الجعل وعدمه ، لا شأن الفقيه ، فافهم.

الثاني من الأدلّة التي ذكرت للقول بالإجزاء : ما ذكره بعضهم : من أنّ الاجتهاد الثاني كالاجتهاد الأوّل ، فلم تعاد الأعمال الجارية على طبق الاجتهاد الأوّل؟ وأيّ مرجّح للاجتهاد الثاني على الأوّل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٥٤ ، الباب ٣ من أبواب السواك ، الحديث ٤.

(٢) الوسائل ٣ : ١٤٦ ، الباب ٢١ من أبواب المواقيت ، الحديث ٥.

٣٠٥

والجواب : أنّ مقتضى ما ذكرت عدم وجوب ترتيب آثار اجتهاده الثاني حتّى في أعماله اللاحقة أيضا ، ولا يلتزم به أحد من الفقهاء.

وثانيا : أنّ اجتهاده الأوّل إن كان رافعه الاطّلاع على معارض للخبر الذي استند إليه في الاجتهاد السابق فقد سقط المستند بالمعارضة ، ففي الاجتهاد الثاني استند إلى أصل عملي هو حجّة عليه ، فما معنى قولكم : إنّه كالأوّل؟

وإن كان رافع الاجتهاد هو الاطّلاع على دليل يتقدّم على الدليل الأوّل ـ كمخصّص أو حاكم أو وارد ـ فالاجتهاد السابق وإن كان في ظرفه حجّة ؛ لعدم وصول المخصّص إليه أو الحاكم ، إلّا أنّ حجّيّته بمعنى عدم العقاب له على مخالفة الواقع ، لا بمعنى سقوط الواقع عنه ولم يؤت به ولا ببدله.

الثالث من أدلّة القول بالإجزاء : ما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره في مبحث الاجتهاد والتقليد ، وهو قوله : إنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين (١).

وهذه العبارة المجملة لم يعلم ما ذا أراد قدس‌سره منها وأنّها لا تتحمّل اجتهادين ولو من شخصين أو ولو من شخص واحد في زمانين؟ أو أنّ المراد لا تتحمّل اجتهادين من شخص واحد في زمان واحد؟ وهذا مسلّم لكن لا ربط له بما نحن فيه. وبالجملة ، لم يعلم معنى محصّل لما ذكره هذا المحقّق.

الرابع : ما ذكره بعضهم من أنّ تبدّل الرأي نسخ في الأحكام الظاهريّة كالنسخ في الأحكام الواقعيّة ، فكما أنّ انتهاء أمد الحكم في الأحكام الواقعيّة لا يوجب بطلان العمل السابق ، فكذا هذا.

والجواب : أنّ ما ذكره إن كان بالإضافة إلى الحجيّة فمتين ، ولكنّه لا ملازمة بين الحجيّة والإجزاء ، فإنّ مدار الإجزاء هو الإتيان بالواقع أو ببدله ، والمفروض عدم الإتيان بالواقع ولا ببدله ؛ لأنّ البناء على الطريقيّة لا السببيّة ، فافهم.

__________________

(١) الفصول : ٤٠٩.

٣٠٦

الخامس : دعوى الإجماع على الإجزاء ؛ إذ لو لا الإجزاء لذكر الفقهاء لزوم الإعادة والقضاء في موارد تبدّل رأي المجتهد ، ولم يذكروا ذلك أصلا ، فيستفاد حكمهم بالإجزاء ، وإلّا لذكروا ذلك.

وقد أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره بتقسيم الموارد التي يتبدّل فيها رأي المجتهد إلى أقسام ثلاثة :

الأوّل : العبادات إعادة وقضاء.

الثاني : الأحكام الوضعيّة التي لم يبق موضوعها ولكن لها أثر ، كما إذا اشترى بالمعاطاة خبزا فأكله ثمّ ذهب إلى عدم إفادة المعاطاة الملك أو الإباحة ، فهنا الموضوع تالف ولكن له أثر ، وهو الضمان لصاحب المال التالف.

الثالث : الأحكام الوضعيّة التي موضوعها باق كما إذا بقي الخبز في المثال.

وزعم أنّ الإجماع القائم على الإجزاء متيقّنة تناول القسم الأوّل وهو العبادات أداء وقضاء ، كما أنّ القسم الثالث خارج قطعا عن الإجماع ، والقسم الثاني مشكوك الشمول.

وحيث إنّ الإجماع لا بدّ من إحرازه حتّى يكون حجّة ولا إحراز في القسم الثاني ، فيبقى على مقتضى القاعدة الأوّليّة من عدم الإجزاء (١).

أقول : ما ذكره قدس‌سره من قطعيّة شمول الإجماع العبادات لم نتحقّقه ، فإنّ الإجماع إنّما يتمّ التمسّك به وجعله دليلا حيث يتحقّق اتّفاق من قسم معتدّ به من العلماء بحيث يكون كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام. ولا بدّ أن لا يكون مدركهم دليلا معلوم الفساد عند المتأخّرين أو غير معلوم الصحّة ، وكلا هذين الأمرين مفقود في المقام.

أمّا الأوّل : فلعدم تعرّض من قدماء الفقهاء لهذه المسألة نفيا ولا إثباتا.

وأمّا الثاني : فمن الجائز أن يكون مدركهم دليل حجّيّة الحكم الظاهري ، وحينئذ فلا يكون إجماعهم مدركا يمكن التعويل عليه أو يمنع من الفتيا بالخلاف ؛

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

٣٠٧

ولهذا أجمع المتأخّرون ـ إلّا من شذّ (١) ـ على عدم نجاسة البئر بوقوع النجاسة فيها بعد إجماع المتقدّمين على تنجّسها بذلك ، وما ذاك إلّا لاطّلاع المتأخّرين على فساد مدرك القدماء في ذلك.

وبالجملة ، فالإجماع غير محقّق وعلى تقدير تحقّقه فمعلوم فساد مدركه.

نعم ، في خصوص الصلاة نلتزم بالإجزاء في غير الركوع والسجود والطهارة والوقت والقبلة وتكبير من فرضه القيام جالسا وبالعكس ، لحديث «لا تعاد» (٢) بناء على ما هو الحقّ من شمولها للقاصر. وفي غير الصلاة من العبادات فضلا عن غيرها لا نلتزم بالإجزاء بل نبقى على مقتضى القاعدة من عدم الإجزاء.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من الإجزاء وعدمه لا يفرق فيه بين المجتهد والمقلّد ، فكما لا يجزئ للمجتهد لا يجزئ للمقلّد أيضا ؛ لعدم إدراك الواقع ولا بدله.

ودعوى كون فتوى المفتي من قبيل السببيّة بالإضافة إلى المقلّد ـ ولذا يعتمد عليه وإن ذهب المشهور إلى خلافه مع أنّ ذهاب المشهور يوجب الظنّ بخطاه ؛ لأنّه أقرب من خطاهم جميعا ـ مردودة [أوّلا] بما ذكرنا : من أنّ التقليد ليس أمرا مستقلّا بالجعل الشرعي ، بل رجوع الجاهل إلى العالم أمر عقلائي ارتكازي والشارع أمضى ذلك ، ومعلوم أن ليس جعل العقلاء إلّا من باب الطريقيّة لا السببيّة.

وثانيا : أنّه لا معنى للسببيّة ، لأدائها إلى التصويب كما تقدّم أيضا. وما ذكره دليلا من وجوب العمل به وإن وجد الظنّ بخلافه فهذا لا يلازم السببيّة ؛ إذ جميع المجعولات الشرعيّة من الطرق والأمارات لم يعتبر فيها عدم الظنّ بالخلاف كما في حجّيّة الظواهر والبيّنة والخبر الواحد وغيرها ، فليكن المقام من قبيلها.

الأمر الرابع :

لا يخفى أنّ ما ذكرنا من الإجزاء وعدمه حيث يكون حكم شرعي ظاهري ،

__________________

(١) مثل الشهيدين في اللمعة وشرحها ، انظر الروضة البهيّة ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) الوسائل ١ : ٢٦٠ ، الباب ٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨.

٣٠٨

أمّا إذا لم يكن حكم شرعي ، بل كان حكم عقلي كما في موارد قطع المجتهد بالحكم فإنّ اتّباع القطع ليس حكما شرعيّا بل حكم عقلي ، فلو تبدّل رأي المجتهد بعد ذلك فمقتضى القاعدة لزوم الإعادة ؛ لعدم إتيان الواقع ولا بدله. وكذا إذا تخيّل المجتهد أنّ راوي الرواية أبو بصير الثقة ثمّ انكشف أنّه الضعيف ، أو توهّم كون لفظ «الصعيد» ظاهرا في مطلق وجه الأرض فتيمّم به ثمّ انكشف له أنّه هو التراب الخالص ... وهكذا ؛ لأنّه من موارد تخيّل الأمر كما تقدّم. وكما إذا اعتقد أنّ هذا المورد من صغريات الترتّب فانكشف له الخلاف بعد أن عمل على طبق ما يقتضيه رأيه في الترتّب من الصحّة ، أو زعم أنّ المورد من صغريات باب اجتماع الأمر والنهي ثمّ انكشف له الخلاف. وجميع موارد الاشتباه في التطبيق من هذا القبيل ، فإنّه لا إجزاء ؛ لعدم الحكم الشرعي في جميع ذلك ، فافهم.

الأمر الخامس :

فيما لو اختلف المجتهدان أو مقلّداهما في حكم ، فهل يجزئ الحكم الظاهري الذي يراه أحدهما في حقّ الآخر أم لا؟ مثلا إذا رأى أحدهما صحّة بيع المعاطاة فاشترى خبزا بالمعاطاة فهل يجوز للمجتهد الذي يرى عدم تأثير المعاطاة شيئا حتّى الإباحة أن يأكل من هذا الخبز لو دعاه المجتهد الأوّل أم لا يجوز؟

ويقع الكلام في ذلك في موارد ثلاثة :

الأوّل : في النكاح.

الثاني : في الطهارة.

الثالث : في بقية الامور من عبادات ومعاملات.

أمّا الكلام في الأوّل : فنقول : لا ريب في لزوم ترتيب آثار الصحّة ممّن لا يرى الصحّة ، فلو تزوّج رجل امرأة بالعقد الفارسي ـ لأداء رأيه إلى تأثير الفارسي كالعربي ـ لا يجوز للمجتهد الآخر الذي يرى فساد العقد الفارسي أن يرتّب آثار الفساد ، فلا يجوز له أن يتزوّجها لكونها خليّة عن زوج بحسب رأيه.

٣٠٩

وهذا مسلّم لقوله عليه‌السلام : «إنّ لكلّ قوم نكاحا» (١) إذ لا معنى له إلّا ترتيب آثار النكاح الصحيح عليه ، فافهم.

وأمّا الكلام في الثاني : وهي الطهارة ، فالظاهر أنّه لا كلام في عدم جواز ترتيب آثار الطهارة لمن لا يراها ، فمن يكتفي بغسل يده من البول مرّة واحدة إذا باشر ـ بعد الغسل مرّة ـ ثياب من يرى التعدّد برطوبة لا يجوز لمن يرى التعدّد الصلاة بتلك الثياب ، كما لا يجوز للثاني الأكل من طعام الأوّل الذي باشره برطوبة ، لتحريم أكل النجس وبطلان الصلاة فيه ، وهذا نجس برأيه ولا يتوقّف أحد في عدم جواز ترتيب آثار الطهارة لمن لا يراها.

نعم ، لو غاب بعد الغسل مرّة من البول فهل يحكم بطهارته ، لإطلاق أدلّة مطهّرية الغيبة وورودها في أبناء العامّة الذين يرون طهارة جملة ممّا نراه نجسا كالخمر والمنيّ عند بعضهم ، أو أنّ الأدلّة لا إطلاق فيها لذلك. وهذا بحث فقهي لا ربط له بالمسألة.

وأمّا القسم الثالث : كمثال بيع المعاطاة الذي مرّ ذكره ، وكبيع العقد الفارسي ـ مثلا ـ فمقتضى القاعدة وإطلاق تحريم التصرّف في مال الغير تحريم التصرّف فيه.

ولا دليل يدلّ على جواز ترتيب آثار الطهارة كما ورد في النكاح فيبقى على عدم الإجزاء كسابقه ، غير أنّ السابق ـ وهي مسألة الطهارة ـ عدم الإجزاء فيها اتّفاقي ، وهذه وهي مسألة بقيّة المعاملات الحكم فيها يكاد أن يكون اتّفاقيّا. ومن فروعه : مسألة اقتداء أحد الشخصين بصلاة الآخر التي يرى بطلانها برأيه ويرى المصلّي نفسه صحّتها ، فافهم.

هذا تمام الكلام في الإجزاء وشراشره.

والحمد لله وحده والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين.

تمّ على يد محرّره العبد الآثم محمّد تقي آل صاحب الجواهر في ليلة السادس والعشرين من شوّال المكرّم من سنة السبعين بعد الألف والثلاثمائة هجرية.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣١ ، الباب ٧٣ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٢.

٣١٠

في مقدّمة الواجب

وهذه المسألة من المسائل الاصوليّة المهمّة وليست مسألة فقهيّة كما يظهر من عنوان صاحب المعالم قدس‌سره للمسألة بقوله : «الأكثرون على إيجاب ما لا يتمّ الواجب إلّا به» (١) المشعر بكون محلّ الكلام هو الوجوب. وليس كذلك ، لا لما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره : من أنّ ليس كلّ ما كان يبحث فيه عن الوجوب مسألة فقهيّة ، بل لا بدّ أن يكون معنونا بعنوان خاصّ كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ ... إلى آخرها ، وليس المقام منها ، فإنّ مقدّمة الواجب عنوان كلّي منطبق على الامور المتباينة ، فلا يكون البحث عن وجوبها مقتضيا لكونها مسألة فقهيّة (٢) ، لفساد ما ذكره قدس‌سره فإنّ الوجوب الشرعي المقتضي لكون المسألة فقهية ليس خصوص المعنون بعناوين خاصّة ، بل مثل وجوب الوفاء بالشرط الذي في ضمن العقد وجوب شرعي ومسألة فقهيّة مع كونه عنوانا عامّا شاملا للامور المتباينة ، وكوجوب الوفاء بالنذر والعهد واليمين ، ووجوب إطاعة الزوجة لزوجها والولد لوالده والعبد لسيّده ، وحرمة هتك المؤمن ، كلّها من هذا القبيل عناوين كلّيّة ، مع أنّها من الأحكام الشرعيّة ، بل الوجه في كونها مسألة اصوليّة أنّ البحث فيها عن الملازمة بين حكم

__________________

(١) معالم الدين : ٦٠.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣١٠.

٣١١

الشيء وحكم مقدّمته وجوبيّا كان أم استحبابيّا ، واختصاص الوجوب في كلام الأصحاب للاهتمام به ، وهذه الكبرى لو ضمّت إليها الصغرى لانتجت حكما شرعيّا ، فنتيجتها واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي. وهذا هو الميزان في عدّها مسألة اصوليّة.

وهذه المسألة ليست من العقليّات المستقلّة ؛ لأنّها محتاجة إلى مقدّمة اخرى في استنباط الحكم الشرعي منها ، فإنّ قولنا : «لو كان هذا واجبا لوجبت مقدّمته لكنّه واجب فمقدّمته واجبة» محتاج إلى إثبات الوجوب الشرعي.

كما أنّ الوجوب المبحوث عنه في المقام ليس هو الوجوب العقلي بمعنى اللابدّيّة ، ضرورة عدم النزاع في اللابدّيّة ومسألة المقدّمة ممّا قام النزاع فيها على قدم وساق.

وليس أيضا الوجوب الشرعي المتوجّه إلى ذيها ، فإنّه ينسب إلى المقدّمة بالعرض والمجاز أم لا ليقع الكلام في ذلك ؛ لأنّ الكلام لو كان في هذا لناسب الكلام فيه أن يقع في مبحث المعاني والبيان لا الاصول.

وليس أيضا المراد بالوجوب حينئذ الوجوب الاستقلالي المترشّح من وجوب ذي المقدّمة كما زعمه صاحب القوانين (١) واختار عدم الوجوب ، لدعواه كثرة الأمر من الموالي العرفيّة مع عدم الالتفات إلى أنّ له مقدّمة أم لا بل ومع عدم العلم ، فكيف يقال بالوجوب مع كونه من أفعاله الاختيارية التي يستحيل صدورها من غير قصد؟

بل المراد بالوجوب الوجوب الشرعي الترشّحي التبعي ، فلا ينقض بعدم الالتفات ، فإنّ الالتفات لا بدّ منه في الاستقلالي لا التبعي كما هو واضح. والثمرة في هذا الوجوب التبعي الذي لا يورث قربا ولا بعدا يأتي الكلام عليها في آخر بحث المقدّمة تبعا لصاحب الكفاية قدس‌سره وإن ناسب ذكرها هنا.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٠١.

٣١٢

ثمّ إنّ الكلام يقع الآن في تقسيمات المقدّمة وتقسيمات الواجب.

أمّا تقسيمات المقدّمة ، فمنها تقسيمها إلى :

المقدّمة الداخليّة والخارجيّة

والمراد بالمقدّمة الخارجيّة : ما كان وجودها منحازا عن وجود ذي المقدّمة ، فيشمل الشرط أيضا. وبالداخليّة : ما كان وجودهما واحدا. لا ريب في دخول المقدّمة الخارجيّة في محلّ النزاع. وأمّا الداخليّة : فهي محلّ الكلام بين الأعلام.

وتحقيق الكلام فيها أنّها تنقسم إلى أقسام ثلاثة :

أوّلها : المركّبات الاعتباريّة.

ثانيها : المركّبات الحقيقيّة ، كالجواهر.

ثالثها : المركّبات الحقيقيّة التي هي بسائط بحسب الوجود ، إلّا أنّ العقل يحلّلها إلى امور كالأعراض.

أمّا الأخير : فلا ريب في خروجه عن محلّ النزاع كالبياض مثلا ، فإنّه وجود واحد بسيط ولكنّ العقل يحلّله إلى ما به الاشتراك وما به الامتياز ، فيقول : إنّه لون مفرّق للبصر مثلا ، ولكنّه وجود واحد بسيط يوجد بوجود واحد وينعدم بانعدام واحد ، وليس مركّبا إلّا أن العقل يحلّله في مقام التحديد كما مرّ ، فليس فيه جزء كي يقع الكلام في أنّه مقدّمة أم لا؟ واجبة أم لا؟

وأمّا القسم الثاني : وهو المركّب الحقيقي ، فلا ينبغي الشكّ في خروجه أيضا عن محلّ النزاع ؛ لأنّه مختصّ بالجواهر كما تقدّم ، ومعلوم أنّ الجواهر لا يتعلّق بها حكم أصلا ؛ إذ الحكم إنّما يتعلّق بأفعال المكلّفين ولا يتوجّه إلى الجواهر أصلا ، مضافا إلى أنّه وإن كان مركّبا في الواقع وحقيقة إلّا أنّ وجوده إنّما يكون بوجود واحد ،

٣١٣

ضرورة أنّ الجنس والفصل لا ينفكّ أحدهما عن الآخر ، فكلّ ما به الاشتراك ـ يعني المادّة ـ لا يتحقّق في الخارج إلّا في صورة وهي ما به الامتياز ، فلا يمكن أن يكونا وجودين انضماميّين كي يقع الكلام في أنّ أحد الوجودين مقدّمة للآخر أم لا؟

وأمّا القسم الثالث : وهو المركّبات الاعتباريّة ، يعني المركّبات التي لا ربط بين أجزائها إلّا باعتبار المعتبر لها شيئا واحدا ، أو باعتبار اجتماعها تحت أمر واحد ، أو باعتبار وفائها بغرض واحد كما في أجزاء الصلاة ، فإنّ النيّة ـ مثلا ـ أجنبيّ عن تكبيرة الإحرام ، وهما أجنبيّان عن القراءة ـ مثلا ـ وهكذا.

وقد وقع الكلام فيما بين الأعلام في ذلك ، فذهب بعضهم إلى أنّها ليست مقدّمة ، وآخرون إلى أنّها مقدّمة ولكن ليست بواجبة ولا داخلة في محلّ النزاع ، وآخرون إلى كونها مقدّمة وداخلة في محلّ النزاع.

أمّا الكلام في كونها مقدّمة أم لا؟ فالظاهر أنّ النزاع فيه لفظي ؛ لأنّه إن اريد بالمقدّمة «ما يتوقّف وجود ذي المقدّمة على وجوده» فمعلوم انتفاؤها في محلّ الكلام ؛ إذ ليس في المقام وجودان كي يتوقّف أحدهما على الآخر. وإن اريد بالمقدّمة ما يكون له تقدّم بالطبع ، وهو ما يتوقّف عليه المركّب ولا يتوقّف هو على المركّب كالواحد والاثنين ، فإنّ الواحد لا يتوقّف وجوده على وجود الاثنين ولكنّ الاثنين يتوقّف وجودهما (١) على وجود الواحد فإن اريد بالمقدّمة هذا المعنى فلا ريب في كون الجزء مقدّمة.

أمّا الكلام في كونه داخلا في محلّ النزاع أم لا؟ فظاهر قولهم : إنّ المشتاق إلى شيء مشتاق إلى ما يتوقّف عليه في الوجود بحيث يتوقّف وجود الواجب على وجوده كون النزاع مختصّا بالمقدّمة بالمعنى الأوّل ، فيختصّ بالمقدّمة الخارجيّة وتخرج المقدّمة الداخليّة عن محلّ النزاع.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : وجوده.

٣١٤

(وقد ذكر صاحب الكفاية خروجها عن محلّ النزاع (١) لوجود المانع ، وهو اجتماع المثلين : الوجوب النفسي والغيري ، وهو محال ، فهي خارجة عن محلّ النزاع لذلك وإن كان ملاك الوجوب الغيري فيها موجودا. وذكر في هامش الكفاية انتفاء الملاك أيضا ، بدعوى أنّ حكم العقل بالوجوب إنّما هو في صورة توقّف وجود على وجود آخر يغايره ويباينه ، ومعلوم فقدانه في المقام.

وما ذكره في الهامش هو الصحيح. وأمّا ما ذكره من لزوم اجتماع المثلين ، فليس محذورا بعد إمكان التأكّد فيلتزم على تقدير وجوبها الغيري بالتأكّد كما في نظائره ، فافهم) (٢).

بقي الكلام في أنّه هل هناك ثمرة فقهيّة تترتّب على دخول المقدّمة الداخلية في النزاع وخروجها ، أم أنّ النزاع علمي بحت؟

ذكر بعض الأساطين (٣) ـ قدس الله أسرارهم ـ ترتّب ثمرة مهمّة على القول بدخول الأجزاء في محل النزاع وعدمه ، وهي القول بالبراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين على القول بعدم دخول الأجزاء في محلّ النزاع ، والقول بالاشتغال على القول بدخولها ؛ وذلك لأنّه إن كانت الأجزاء داخلة في محلّ النزاع فالعلم الإجمالي بثبوت التكليف المردّد بين الأقل والأكثر ليس بمنحلّ إلى أقلّ معلوم وجوبه نفسيّا وأكثر مشكوك وجوبه النفسي ليرجع إلى البراءة بالإضافة إلى الأكثر ، بل يكون الأقلّ معلوما جنس وجوبه ولا يدرى أنّه نفسي أو غيري ، وكلّي الوجوب الجامع بين النفسي والغيري لا يوجب انحلال الوجوب النفسي المعلوم. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن الأجزاء داخلة في محلّ النزاع ؛ إذ وجوبها الغيري معلوم

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٥ ـ ١١٦.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) وهو المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ١ ـ ٢ : ٢٦٩.

٣١٥

الانتفاء ووجوبها النفسي معلوم التحقّق ، فينحلّ العلم الإجمالي بجريان البراءة في الأكثر لمجانسة المعلوم الإجمالي والمعلوم التفصيلي ، فإنّه نوع واحد فينحلّ بخلاف الوجوب الكلّي.

ولا يخفى عليك : أنّ ما ذكره إنّما يتمّ على تقدير أن يكون اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغيري مانعا عن اتّصافه بالوجوب النفسي وبالعكس ؛ إذ حينئذ يدور الأمر بينهما وتتمّ الثمرة المذكورة ، ولكن ليس الأمر كذلك ، فإنّ القائل بالوجوب الغيري لا ينكر الوجوب النفسي المنبسط على جميع الأجزاء بل يضيف إليه وجوبا غيريّا آخر مضافا إلى وجوبه النفسي. وحينئذ فتحقّق الوجوب النفسي كاف في الانحلال ؛ إذ انضمام الغيري له لا يوجب انعدامه حسب الفرض.

وبالجملة ، فكما في صورة انعدام الأمر الغيري يكون تعلّق الوجوب النفسي في الأقلّ موجبا لانحلال العلم الإجمالي إلى أقلّ متيقّن وأكثر مشكوك تجري فيه البراءة ، فكذا عند انضمام الوجوب الغيري إليه ، فإنّ الوجوب النفسي حينئذ منبسط على الأجزاء ، فبالإضافة إلى الأقلّ معلوم وبالإضافة إلى الأكثر منفيّ بالأصل ، فافهم. فظهر أن لا ثمرة مترتّبة على ذلك.

في دخول الشرائط في النزاع وعدمه

قد تطلق المقدّمة الداخليّة على الشرط المعتبر في المأمور به ولكن تكون مقدّمة داخليّة بالمعنى الأعمّ ؛ إذ الداخليّة المحضة مختصّة بالأجزاء وبما أنّ ذات الشرط خارجة عن المأمور به وتقيّد المأمور به بها جزء فهي داخليّة بالمعنى الأعمّ ؛ إذ ليست داخليّة محضة باعتبار خروجها عن المأمور به.

إنّما الكلام في أنّ المقدّمة الداخليّة بالمعنى الأعمّ داخلة في محلّ النزاع في ثبوت الملازمة فتكون كالخارجيّة المحضة ، أم أنّها خارجة فتكون كالداخليّة المحضة؟ كما عرفت.

٣١٦

وتحقيق الحال : أنّ الشرط خارج عن المأمور به حقيقة ، إلّا أنّ تقيّد المأمور به جزء من أجزاء المأمور به ، وهذا الشرط الذي قيّد به الواجب على قسمين ؛ إذ تارة يكون من الامور الغير المقدورة كالقبلة والوقت ، واخرى يكون من الامور المقدورة كالطهارة ، فإنّها مقدورة بالقدرة على ما به تحصل من غسلات ومسحات. وما ذكره الميرزا : من أنّه لا بدّ من كون الشرط مقدورا حتّى يقيّد به المأمور به (١) سيأتي ما فيه ، فإنّ المناط في التقيّد القدرة على التقيّد وليس المناط فيه القدرة على القيد نفسه.

فما كان خارجا عن القدرة ـ كما في الوقت والقبلة ـ فلا ريب في خروجه عن محلّ النزاع ، لعدم جواز التكليف بغير المقدور. وما كان من المقدورات ـ كما في الطهارة من الحدث أو الخبث المقيّد بها الصلاة مثلا ـ فهل هي داخلة في محلّ النزاع في ثبوت الملازمة أم خارجة؟ الظاهر الأوّل ، فإنّ وجودها غير وجود المأمور به وليسا وجودا واحدا كما في الأجزاء ليخرجا عن الكلام في الملازمة ؛ إذ ظاهرها الملازمة بين الوجودين ؛ إذ المقام من الوجودين أيضا ، فإذا أمر بتقيّد المأمور به بالطهارة مثلا وكان التقيّد موقوفا على الوضوء مثلا ، فلا بدّ من كون المشتاق إلى التقيّد مشتاقا إلى مقدّماته الوجوديّة التي منها الوضوء كما ذكر في المقدّمة الخارجيّة حرفا بحرف.

وبالجملة ، فالمقدّمة الخارجيّة داخلة في محلّ النزاع في ثبوت الملازمة وعدمه ، وهي المقدّمة العقليّة التي يتوقّف عليها وجود الواجب مع قطع النظر عن أخذ الشارع لها ، كما في نصب السلّم مثلا للصعود على السطح ، وكما في اكتراء الدابّة في السفر إلى الحجّ. وهذه هي المقدّمة الخارجيّة المحضة ، وتقابلها الداخليّة المحضة ، وهي خارجة عن محلّ الكلام ، وبينهما ما كان تقيّد الواجب بها داخليّا وذات المقيّد به خارجيّا ، وقد عرفت أنّ الظاهر دخوله في محلّ النزاع ، لما ذكرنا.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٩٦ ـ ١٩٧ و ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

٣١٧

ثمّ إنّه بهذا التقسيم ظهر أن لا حاجة إلى تقسيم المقدّمة إلى عقليّة وشرعيّة وعاديّة ؛ إذ العقليّة هي المقدّمة الخارجيّة ، والشرعيّة هي الداخليّة بالمعنى الأعمّ ، والعاديّة إن اريد بها ما تفعل عادة من دون توقّف كما في الدرج التي يكون ارتفاعها شبرا مثلا المتوسّطة بين درجتين مثلها فمعلوم أنّها خارجة لعدم التوقّف ، وإن اريد ما يتوقّف عليها الواجب ، لكن من جهة استحالة أمر آخر عادة كما في الصعود إلى السطح بالسلّم لغير الطائر من جهة استحالة الجناح للإنسان عادة ، فيؤول إلى العقليّة أيضا.

كما ظهر أنّ تقسيمها إلى مقدّمة وجود ومقدّمة صحّة ومقدّمة علم ومقدّمة وجوب أيضا لا مقتضى له ؛ إذ مقدّمة الوجود هي المقدّمة العقليّة ، ومقدّمة الصحّة هي الشرط ، ومقدّمة الوجوب خارجة عن محلّ الكلام ؛ إذ قبل وجودها لا وجوب وبعده يحصل الوجوب لذي المقدّمة ، ولكنّها لا معنى لوجوبها حينئذ لتحصيل الحاصل ، ومقدّمة العلم أيضا خارجة لكونها مقدّمة للعلم بتفريغ الذمّة الواجب عقلا ، لا أنّها مقدّمة للواجب الشرعي حقيقة ، بل مقدّمة للعلم بحصول الواجب.

وبالجملة ، هذان التقسيمان لا وجه لهما ، لخروج بعض أقسامهما عن محلّ الكلام ، والباقي هو المقدّمة الخارجيّة والداخليّة بالمعنى الأعمّ وإن غيّرت ألفاظهما بألفاظ أخر ، فافهم.

في ذكر المقدّمة المقارنة والمتقدّمة والمتأخّرة

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره تقسيم المقدّمة إلى المقارنة والمتقدّمة والمتأخّرة ، ثمّ ذكر الإشكال في المقدّمة المتأخّرة المعبّر عنها بالشرط المتأخّر ، بدعوى أنّ الشرط من أجزاء العلّة وبما أنّه يجب تقدّم العلّة بجميع أجزائها على المعلول فكيف يتأخّر الشرط ويتحقّق معلوله قبله؟ ثمّ سرّى الإشكال في المقدّمة المتقدّمة ، بدعوى لزوم

٣١٨

مقارنة العلّة للمعلول بتمام أجزائها فلا تتقدّم عليه ، لوجود ملاك الاستحالة في كلا المقامين من الشرط والمقتضي المتقدّمين والشرط المتأخّر (١).

ولا يخفى عليك ما في كلامه من المسامحة أوّلا ، فإنّ قوله أوّلا : ويجب تقدّم العلّة بتمام أجزائها على المعلول ، إن أراد به التقدّم الرتبي فمتين ، إلّا أنّه كيف يفرّع عليه استحالة الشرط المتأخّر زمانا؟ وإن أراد به التقدّم الزماني ، فلما ذا استشكل في المقدّمة المتقدّمة زمانا؟ حتّى سرّى الإشكال إلى العقد الواحد بالإضافة إلى غالب أجزائه لتصرّمها حين حصول الأثر الذي هو الملكية مثلا.

وثانيا : أنّ ما ذكره قدس‌سره من سراية الإشكال في المقدّمة المتقدّمة غير صحيح أصلا ، فإنّ أجزاء العلّة لا يعتبر مقارنتها بتمامها للمعلول ، وإليك مثال التكوينيّات ، مثلا إذا كان الصعود على السطح موقوفا على رقى عشر من الدرجات فرقى الاولى قطعا من أجزاء العلّة ، ومعلوم أنّه يتحقّق ولا يتحقّق الصعود على السطح إلّا بعد رقيّها بأسرها ، فالأخيرة هي الجزء الأخير من أجزاء العلّة وهي التي يستحيل انفكاكها عن المعلول ؛ إذ الجزء الأخير هو العلّة التامّة وهو الذي يستحيل فيه انفكاكه عن المعلول.

وبالجملة ، فأجزاء العلّة المركّبة لا يمكن مقارنتها للمعلول حتّى يلزم ذلك.

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ الإشكال إنّما يختصّ بخصوص المقدّمة المتأخّرة المعبّر عنها بالشرط المتأخّر.

فيقال : إنّه إن وجد المعلول قبل حصول الشرط المتأخّر فقد وجد قبل علّته ، ويستحيل ذلك ؛ إذ الممكن لا يترجّح وجوده وعدمه إلّا بمرجّح ؛ لاستحالة الترجّح من دون مرجّح ، إذ هو بمعنى وجود المعلول قبل علّته. وإن لم يوجد استحال الشرط المتأخّر ، فيقع الكلام في الشرط المتأخّر.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٨.

٣١٩

في إمكان الشرط المتأخّر واستحالته

والشروط المتأخّرة على قسمين ؛ إذ تارة تكون شرائط الحكم التكليفي أو الوضعي. واخرى تكون شرائط للمأمور به.

وثمرة النزاع في الشرط المتأخّر : أنّه إن بنينا على إمكان الشرط المتأخّر تكون الأخبار الواردة الظاهرة في كون إجازة المالك في عقد الفضولي كاشفة عن صحّة العقد من حينه واردة على طبق القاعدة ، وإن منعنا من الشرط المتأخّر فلا بدّ من رفع اليد عن ظهورها في الكشف الحقيقي والالتزام بالنقل كما ذهب إليه بعضهم (١) أو الالتزام بالكشف الحكمي كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) فيقع الكلام في شرائط المأمور به أوّلا لاختصاره بالإضافة إلى شرائط الحكم التكليفي أو الوضعي.

فنقول :

في الشرط المتأخّر للمأمور به

ذكر بعضهم استحالة الشرط المتأخّر (٣) بدعوى أنّ المعلول بما أنّه من الامور الممكنة وكلّ ممكن إنّما يترجّح أحد طرفي وجوده وعدمه بعلّته ، فإن وجد قبل حصول الشرط المتأخّر فليس للشرط دخل في حصوله ، وإن لم يوجد المشروط حتّى يوجد الشرط فليس الشرط متأخّرا عنه في الوجود ، بل مقارن ، ولو فرض وجوده قبل شرطه للزم الترجّح بلا مرجّح ، بمعنى وجود المعلول بلا علّة ، وهو محال.

__________________

(١) مثل فخر المحقّقين في الإيضاح ١ : ٤٢٠ ، والمحقّق الأردبيلي في المجمع ٨ : ١٥٩.

(٢) المكاسب ٣ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٣) كالمحقّق النائيني في أجود التقريرات ١ : ٣٢٨ ـ ٣٣٠.

٣٢٠