غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

مبحث الفور والتراخي في صيغة الأمر

ويقع الكلام في مراحل ثلاثة :

الاولى : في أنّ الصيغة تدلّ على الفور بنفسها ، وعلى تقدير عدم الدلالة لها فهل هناك دليل خارجي يقتضي الفور؟

الثانية : في أنّه على تقدير الدلالة على الفور ، فهل يسقط إذا لم يسارع العبد في امتثاله ، أم يجب إتيانه ثانيا؟

الثالثة : في أنّه على تقدير وجوب الإتيان به ثانيا ، فهل يجب فورا ففورا أم لا؟

أمّا الكلام في المرحلة الاولى : فملخّصه : أنّك قد عرفت أنّ الأمر مشتمل على مادّة وهيئة وأنّ المادّة لا تدلّ إلّا على صرف الطبيعة وأنّ الهيئة أيضا لا تدلّ إلّا على الطلب بأحد الأنحاء المذكورة ، فالمجموع منهما لا يستفاد منه إلّا طلب الطبيعة ، أمّا كونه فورا فلا ، كما لا يستفاد منها كونه متراخيا أيضا.

وأمّا الدليل الخارجي الذي ادّعي دلالته على الفور فهو آية (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ)(١) وآية (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(٢).

وكلّ منهما لا دلالة فيه على الفوريّة ، لا لما ذكره في الكفاية : من أنّهما لو كانا واجبين لكان التحذير عن تركهما أنسب (٣) لأنّه إن أراد عموم هذا المطلب لجميع الواجبات لزم تأسيس فقه جديد. وإن أراد خصوص هذا المورد باعتبار أنّ المسارعة إلى المغفرة لو لم يتحقّق لوقع الإنسان في الشرّ والغضب ، فمن المعلوم أنّ المسارعة والاستباق لا يلزم من تركهما ترك المغفرة ، بل يؤتى بالمغفرة يعني بأسبابها بلا مسارعة ، بل إنّما نقول بعدم دلالتهما ، لما ذكره ثانيا من شمولهما للمستحبّات (٤)

__________________

(١) آل عمران : ١٣٣.

(٢) البقرة : ١٤٨.

(٣ و ٤) كفاية الاصول : ١٠٣.

٢٨١

فإنّ الجمع المحلّى باللام مفيد للعموم ، ومعلوم أنّ المستحبّات لا تجب فيها الفوريّة ، فيلزم كثرة التخصيص أو حملها على مطلق الرجحان ، وكلّ منهما محتمل ، فلو لم نقل بأنّ حملها على مطلق الرجحان متعيّن فلا أقلّ من كونهما متساويين ، فلا يكون لهما ظهور في الوجوب.

وأمّا ما ذكره ثالثا : من كون الأمر بهما إرشاديّا لاستقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق إلى أسباب المغفرة لما في التأخير من الآفات (١) فغير تامّ ؛ لأنّ الأمر إنّما يحمل على الإرشاد حيث لا يمكن فيه المولويّة كما في أوامر الإطاعة ، وأمّا حيث يمكن ـ كما في المقام ـ فلا. ومجرّد استقلال العقل لا يمنع عن كون الأمر مولويا ، وإلّا لزم كون أداء الدين وجوبه إرشادي واستحباب الصدقة إرشادي ولا يقول هو به فضلا عن غيره. والذي يحتمل قريبا كون الآية في مقام الإعجال إلى التوبة ؛ إذ هي سبب المغفرة لجميع الذنوب ، أمّا غيرها من أفراد الواجب فلا يكون سببا للمغفرة كليّا.

نعم ، بعض الواجبات كالحجّ (٢) والمستحبّات كزيارة الحسين عليه‌السلام في أوقات خاصّة ورد فيها المغفرة لجميع الذنوب كلّية (٣).

المرحلة الثانية : في أنّه إذا بنينا على الفوريّة فهل يجب الإتيان بالعمل بعد تركه في أوّل الأزمنة عصيانا أو نسيانا ، أم لا؟ قولان مبنيّان على وحدة المطلوب فلا يجب أو تعدّده فيجب. أمّا إذا كانت الصيغة بنفسها دالّة فلا ريب في كونها كاشفة عن كون الواجب هو العمل الفوري وهو المطلوب بنحو الوحدة. وأمّا إذا كان دليل الفورية الآيات ، فإنّه وإن كان الدليل المنفصل كالمتّصل في التقييد عندنا ـ كما سيأتي في القضاء إن شاء الله تعالى ـ إلّا أنّ في المقام خصوصيّة تقتضي كونه بنحو تعدّد المطلوب ، وهي أنّ المغفرة لا تفوت بفوات الاستباق وإنّما تحصل بغير استباق.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٤.

(٢) راجع الوسائل ٨ : ٦٤ ، الباب ٣٨ من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه.

(٣) الوسائل ١٠ : ٣١٨ ، الباب ٣٧ من أبواب المزار.

٢٨٢

المرحلة الثالثة : في أنّه على تقدير وجوب الإتيان به ثانيا ، فهل يجب فورا ففورا؟ الظاهر العدم ، فإنّ دليل المسارعة إنّما يقتضي الإتيان به في أوّل الأزمنة العرفيّة ، أمّا في ثاني الأزمنة العرفيّة فلا ؛ إذ لا يقال له عند العرف : مسارعة واستباق ، فمن صلّى صلاة الظهر ـ مثلا ـ أوّل الظهر عرفا كان مسارعا ومن أخّرها إلى بعد الظهر فليس بمسارع عرفا ، بل هو مؤخّر عرفا ، وإن كانت المسارعة إضافية إلّا أنّها يلزم أن تكون بنحو يصدق عرفا ولا يصدق في المقام.

وبالجملة ، فما ذكره صاحب الكفاية من ابتناء الفوريّة في الزمن الثاني على اتّحاد المطلوب وتعدّده (١) غير تامّ أصلا ؛ إذ لا ربط لوحدته أو تعدّده في ذلك.

هذا تمام الكلام في هذا المقام ، والحمد لله وهو خير ختام.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٤.

٢٨٣

في مقتضى الأصل في دوران الوجوب بين النفسيّة والتخييريّة والعينيّة وما يقابلها

والكلام في مقتضى الأصل العملي حيث يكون الدليل لبيّا أو لفظيّا لا إطلاق فيه كما إذا كان المتكلّم في مقام الإهمال أو الإجمال في ذيل مبحث البراءة والكلام هنا في مقتضى الأصل اللفظي.

ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره إلى التمسّك بالإطلاق حيث تتمّ مقدّماته في إثبات كون الوجوب نفسيّا تعيينيّا عينيّا (١) بدعوى أنّ ما يقابلها يحتاج إلى ذكر قيد ، فإنّ الوجوب الغيري يحتاج إلى إضافة «إن وجب الغير» والتخييري محتاج إلى قوله : «إن لم تأت بذاك» والكفائي محتاج إلى قوله : «إن لم يؤدّه غيرك» فبمقتضى الإطلاق تنفى هذه القيود وبه يثبت ما يقابلها.

وقد أشكل عليه بعضهم بأنّ الإطلاق لا يستفاد منه أزيد من الجامع بين الوجوب النفسي والغيري (٢) ؛ إذ الوجوب النفسي كالغيري محتاج إلى قيد ، وليس كما ذكره قدس‌سره : من كون الوجوب النفسي غير محتاج إلى قيد ليكفي الإطلاق ، فإنّ بين الوجوبين مباينة ؛ مباينة الماهيّة بشرط شيء والماهيّة لا بشرط ، فالوجوب النفسي مثلا محتاج إلى إضافة قوله : «وإن لم يجب غيره».

ويمكن الجواب عن ذلك بأنّه متين لو اريد به إثبات الوجوب النفسي ، ولكن أصل الوجوب معلوم حسب الفرض ، والمقصود إثبات خصوصيّته فقط ، فإذا كان اللفظ مطلقا حسب الفرض فمقتضى إطلاقه أنّ المولى يريد هذا العمل سواء وجب غيره أم لم يجب ، ولازم ذلك هو الوجوب النفسي ، ولوازم الاصول اللفظيّة حجّة.

وبهذا الكلام عينا يتمّ الاستدلال في إثبات الوجوب العيني دون الكفائي ، والتعيّني دون التخييري فلا حاجة إلى التكرار.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٣٦.

(٢) لم نقف عليه.

٢٨٤

مبحث الإجزاء

والكلام في إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن أمره والمأمور به بالأمر الاضطراري عن أمره والمأمور به بالأمر الواقعي عن أمره ممّا لا ينبغي أن يدوّن ؛ إذ بعد فرض حصول الغرض الباعث على الأمر لا يبقى الأمر كلّية ؛ إذ إنّما أمر المولى بهذا العمل للغرض المترتّب عليه ، فبعد تحقّق الغرض بوجود المأمور به لو بقي الأمر لبقي المعلول بعد ذهاب علّته وهو محال ، فلا نزاع في هذا المقام بحسب الظاهر ، وإن وقع النزاع فيه فشاذّ لا يعبأ به بعد فرض قيام البرهان العقلي على الإجزاء.

وتوهّم احتمال كون الغرض مترتّبا على وجوداته المتعدّدة لا الوجود الواحد خروج عن محلّ الكلام الذي هو إتيان المأمور به على وجهه ، يعني على ما ينبغي أن يكون عليه من الأجزاء والشرائط ، وما ذكر معناه أنّه لم يؤت به على وجهه ؛ إذ عليه يكون المأمور به متعدّدا لا واحدا ، فإتيان الواحد إتيان به على غير ما ينبغي أن يكون عليه.

فالذي ينبغي أن يقع الكلام فيه إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن الواقعي لو انكشف الخلاف في الوقت عن الإعادة وفي خارجه عن القضاء ، وإجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري عن الواقعي لو ارتفع الاضطرار في الوقت أو خارجه.

وقد ظهر ممّا ذكرنا من تحرير محلّ النزاع أنّ مسألة المرّة والتكرار أجنبيّة عن محلّ النزاع ؛ إذ هي في تشخيص أنّ المأمور به ما هو؟ هل هو المرّة أو التكرار؟ وكلامنا

٢٨٥

في أنّ المأمور به بأيّ نحو كان يجزئ عن أمره لو كان النزاع في ذلك أو أنّ المأمور به بالأمر الظاهري والاضطراري يجزئ عن الواقعي أم لا يجزئ ، فبين المسألتين بون شاسع ، إذ الاولى صغرى لمسألة الإجزاء. نعم ، لو كان النزاع في إجزاء المأمور به عن أمره وقلنا بعدم الإجزاء لكانت نتيجته ونتيجة القول بالتكرار واحدة ، لكنّه بملاكين لا بملاك واحد كما هو واضح لا يخفى.

كما أنّ الفرق بين مسألتنا ومسألة تبعيّة القضاء للأداء وعدمها أيضا واضح ؛ إذ مسألة تبعيّة القضاء للأداء فرع فوت الواجب في وقته ، فنقول : هل إنّ أمره به في الوقت كان من باب وحدة المطلوب؟ فلا يقتضي القضاء ، بل لا بدّ من أمر جديد يلزم بالقضاء حتّى يجب القضاء ، أم كان من باب تعدّد المطلوب؟ فهو بنفسه يقتضي القضاء. ومقامنا في أنّه لو أتى به في وقته فلا فوت ، فهل يجزئ عن أمره أم لا؟ فأيّ جامع بين الفوت وعدمه؟ ولو أنّ نزاعنا في أنّ الأمر الظاهري أو الاضطراري يجزئ عن الواقعي أم لا؟ فالفرق أيضا واضح ، فإنّ معنى عدم الإجزاء عدم الوفاء بالغرض ، فإذا كان هناك وفاء فلا فوت أيضا ؛ إذ إنّ الأمر الظاهري إذا كان وافيا بغرض الواقع وكذا الاضطراري فلا فوت أيضا ، فهو أجنبيّ عن مسألة تبعيّة القضاء للأداء.

ثمّ ليعلم أنّ الكلام في أنّ الأمر الظاهري أو الاضطراري يجزئان عن الواقعي أم لا يجزئان؟ مبنيّ على مقدّمتين :

الاولى : أن يكون لدليل الأمر الواقعي إطلاق لما لو أتى بالمأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري ، أمّا إذا لم يكن له إطلاق لهذه الصورة فدليل الحكم الواقعي قاصر الشمول لهذه الصورة ، كما هو واضح.

الثانية : أن لا يكون لدليل الأمر الظاهري أو الاضطراري لسان بدليّة عن الواقع ، أمّا لو كان له لسان بدلية لم يكن لعدم الإجزاء مجال ، فالقول بالإجزاء مبنيّ على عدم

٢٨٦

استفادة الإطلاق من دليل الحكم الواقعي وعدم استفادة البدليّة من دليل الحكم الظاهري أو الاضطراري والقول بعدم الإجزاء مبنيّ على إنكار كلا هاتين المقدّمتين.

فالكلام يقع في أدلّة الأحكام الواقعيّة وفي استفادة الإطلاق منها وعدمه ، وبعد إحراز إطلاقها يقع الكلام في أدلّة الأحكام الظاهريّة أو الاضطراريّة وفي استفادة بدليّتها عن الواقع وعدمها. هذا كلّه في إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الواقعي بعد ارتفاع الاضطرار أو انكشاف الخلاف. وأمّا إجزاؤهما عن أمرهما كإجزاء الواقعي عن أمره فلا يعقل النزاع فيه.

نعم ، ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) جواز تبديل الامتثال بالامتثال ومثّل له بما إذا أمر المولى عبده بماء ليشرب فجاءه بالماء ، فما لم يتحقّق منه الشرب له تبديله بفرد آخر أحسن منه ، وقد ذكرنا في مسألة المرّة والتكرار استحالة تحقّق الامتثال بعد الامتثال ، ولا بأس بالتعرّض له هنا أيضا.

فنقول : إنّ تبديل الامتثال بالامتثال مستحيل ؛ إذ بعد فرض الإتيان بالمأمور به بتمام ما يعتبر فيه فإنّ إتيانه الثاني إن كان مع بقاء الأمر الأوّل فواجب لا جائز ، وإلّا فليس امتثالا ؛ إذ الامتثال فرع الأمر ، فمع سقوطه أيّ معنى للامتثال الثاني.

وما ذكره من المثال العرفي ، فأوّلا : الغرض في الموالي العرفيّة في أفعالهم أنفسهم بعد فعل العبد كأن يشرب الماء مثلا ، وفي المولى الحقيقي الغرض في نفس فعل العبد ليس إلّا ، وقد حصل.

وثانيا : أنّا ذكرنا فيما تقدّم أنّ الغرض ليس إلّا تمكّن المولى من الشرب وقد حصل ، لا الشرب ليجوز له تبديله.

نعم ، ورد في جملة من الموارد الشرعيّة ما يوجب توهّم ذلك ، كما ورد في صلاة الآيات من التكرار ما دام الآية (٢) وكما ورد في من صلّى منفردا أنّه يكرّر صلاته إذا

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٠٣ و ١٠٧.

(٢) انظر الوسائل ٥ : ١٥٣ ، الباب ٨ من أبواب صلاة الكسوف.

٢٨٧

طلبت منه الإمامة لقوم (١) وكما ورد في المنفرد إذا وجد جماعة أنّه يعيدها جماعة (٢). وقد دلّت على ما ذكرنا الأخبار الكثيرة ، وهي محتملة لأمرين على سبيل منع الخلوّ :

الأوّل : أن يكون الأمر الثاني مثبتا للاستحباب النفسي فيكون تكرارها مستحبّا نفسيّا ، فيكون الأوّل هو الفرض والثاني مستحبّ نفسي ، كما التزموا بذلك في صلاة الآيات (٣) ولم يحتملوا غيره فيها أصلا.

الثاني : أن يكون فرضا عمّا في ذمّته من قضاء واجب أو مستحبّ كما في موارد احتمال الفوات.

والأخبار مختلفة ، ففي بعضها «فليجعلها الفريضة» (*)(٤) وهذه مجملة ؛ إذ أيّ فريضة يعني؟ وفي بعضها الآخر «يجعلها قضاء عمّا في ذمّته» (٥) والطائفة الاولى تحمل على الثانية ، فيقال : المراد بالفريضة في الاولى هي الفائتة.

الطائفة الثالثة من الأخبار تقول : «إنّ الله يختار أحبّهما إليه ويكتب له أتمّهما» (٦) وما أدّى هذا المؤدّى. ولا يخفى أنّها لا تدلّ إلّا على أنّ الله يكتب له في ديوان

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٤٥٥ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٣ ـ ٥.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٥٥ ـ ٤٥٧ الباب ٥٤ من أبواب الجماعة ، الحديث ١ ـ ٢ و ٨ ـ ١١.

(٣) انظر مفتاح الكرامة ٣ : ٢١٢ ، والجواهر ١١ : ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

(*) لا يخفى أنّ قوله : «فليجعلها الفريضة» لا يعارض ما دلّ على جواز جعلها قضاء ؛ إذ هما صورتان لذلك. ودعوى إجمال الاولى ضعيف ؛ إذ هو ظاهر في جعلها الفريضة الاولى ؛ إذ اللام فيها عهدية. كما أنّ إنكار ظهور الطائفة الثالثة من الأخبار في كونه امتثالا بعد امتثال ضعيفة أيضا ، فافهم. (الجواهري).

(٤) الوسائل ٥ : ٤٥٥ ـ ٤٥٧ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١ و ١١.

(٥) لم نعثر عليه بعينه ، نعم ورد في رواية إسحاق بن عمّار : صلّ واجعلها لما فات. انظر الوسائل ٥ : ٤٥٧ ، الباب ٥٥ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث الأوّل.

(٦) الوسائل ٥ : ٤٥٥ ـ ٤٥٧ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٤ و ١٠.

٢٨٨

حسناته الثانية ، ولا ملازمة بينه وبين كونه امتثالا بعد امتثال. ولو فرض ظهوره فلا بدّ من تأويله ، لما ذكرنا من استحالته.

ثمّ إنّ الكلام يقع في إجزاء الظاهري أو الاضطراري عن الواقعي لو ارتفع الاضطرار أو انكشف الخلاف ، والكلام الآن يقع في الاضطراري.

في إجزاء إتيان المأمور به اضطرارا عن الواقع وعدمه

والكلام يقع في مقامين أيضا :

الأوّل : فيما لو ارتفع الاضطرار في خارج الوقت فهل يجب القضاء أم لا؟

الثاني : فيما لو ارتفع الاضطرار في الوقت فهل يجب الإعادة أم لا؟

أمّا إجزاء إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري عن القضاء خارج الوقت إذا استمرّ العذر فممّا لا إشكال فيه ؛ إذ الأمر الواقعي لم يتوجّه إليه في الوقت أصلا ، فليس الواقع منجّزا عليه فلا فوت ، فإن كان القضاء بأمر جديد فهو فرع الفوت ولا فوت أصلا للمأمور به ، وإن كان فوت ملاك المأمور به فمع احتمال استيفاء المصلحة الاضطراري لا يحرز الفوت كي يجب القضاء ، مضافا إلى أنّ الأوامر الاضطراريّة ظاهرة في استيفاء المصلحة المترتّبة على الواقع على متعلّقاتها ، بل ظاهر آية التيمّم (١) تنويع التكليف إلى طهارة مائيّة واخرى ترابيّة ، وإذا كان القضاء بالأمر الأوّل فلا أمر أوّلا بالواقعي كي يدلّ على القضاء في خارج الوقت ، فافهم.

هذا تمام الكلام فيما لو ارتفع العذر في خارج الوقت.

أما لو ارتفع العذر في الوقت [و] الكلام في هذه المسألة مبنيّ على جواز البدار لذوي الأعذار ، فيقع حينئذ الكلام في أنّ العذر إذا زال في الوقت بعد أن أتى بالوظيفة العذريّة ، فهل يجب عليه حينئذ الإتيان بالواجب الاختياري أم لا؟

__________________

(١) الواردة في سورة النساء الآية : ٤٣ ، وسورة المائدة الآية : ٦.

٢٨٩

قد ذكر الآخوند قدس‌سره (١) أنّه يمكن أن يكون العمل وافيا بتمام الملاك حال الاضطرار وأن لا يكون وافيا ، بل يبقى منه مقدار إلزامي أو غيره يمكن تداركه أو لا يمكن ، وحينئذ فإن وفى أو بقي من الملاك ما لا يلزم تداركه يجزئ ، وإن لم يف بل كان الباقي إلزاميا يمكن تداركه فلا يجزئ ، فلا بدّ في مقام الإثبات من مراجعة دليل الأمر الاضطراري وفهم دلالته بعد أن كان مقام الثبوت ممّا يمكن فيه الإجزاء وعدمه.

وقد ادّعى الميرزا النائيني (٢) الملازمة بين وجود الأمر الاضطراري واقعا والإجزاء بدعوى أنّه لو فرض أنّه صلّى صلاة المضطرّ التي قد امر بها حال الاضطرار ، فلو وجب عليه الصلاة الاختيارية بعد رفع الاضطرار يلزم وجوب ما زاد على خمسة صلوات ، والأخبار والإجماع بل الضرورة قائمة بعدم وجوب أكثر من خمس صلوات في اليوم والليلة (٣).

ولا يخفى أنّ ما ذكره متين في خصوص الصلاة التي هي مورد الإجماع والضرورة والنصوص. وأمّا في غير الصلاة فلا يتمّ ، إلّا أنّ الظاهر تحقيق الملازمة بين تحقّق الأمر الاضطراري واقعا وبين الإجزاء ؛ وذلك لأنّ الفرض الذي ذكره الآخوند قدس‌سره لصورة عدم الإجزاء غير ممكن ثبوتا ؛ إذ بعد فرض إمكان تحصيل الملاك الملزم آخر الوقت بالعمل الاختياري يكون أمره بالعمل الاضطراري في أوّل الوقت لغوا محضا ؛ إذ الفرض أنّ الأمر بالاختياري محقّق وملزم ولا بدّ من الإتيان به ، وهو واف بالملاك إذا لم يستوف منه شيء ، فأيّ داع حينئذ إلى أمره الاضطراري بالعمل الاضطراري الذي لا يغني عن الواجب الاختياري الممكن حصوله فيما بعد. وما ذكره الآخوند (٤) من الوجوب التخييري غير تامّ أيضا ؛ لأنّه تخيير بين الأقلّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(٣) انظر الوسائل ٣ : ٥ ، الباب ٢ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها وغيره من الأبواب.

(٤) انظر كفاية الاصول : ١٠٩.

٢٩٠

والأكثر ، وهو غير معقول ؛ لأنّه تخيير بين فعل وتركه وهو محال. فينبغي تقديم الكلام على البدار وأنّه هل القاعدة تقتضي جوازه إلّا ما خرج بالدليل؟ أم القاعدة تقتضي عدم الجواز إلّا ما خرج بالدليل؟

فنقول ذكر السيّد اليزدي قدس‌سره في عروته عدم جواز البدار إلّا في التيمّم (١) للنصوص الدالّة على جواز البدار فيه (٢). وذكر بعض المحشّين عليها (٣) جواز البدار إلّا في التيمّم للنصوص الدالّة على عدم جواز البدار فيه (٤). والظاهر هو الأوّل.

بيان ذلك : أنّ دليل الواجب الموقّت الموسّع مثل الصلاة فبمقتضى قوله : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» (٥) ومثل قوله : «ثمّ أنت في وقت» (٦) إلى آخره ـ تخيّر العقل في أفراد الواجب المستوية في وجدان الأجزاء والشرائط وفقدانها ، فحيث تكون الأفراد كلّها واجدة للقيام أو للطهارة المائيّة أو كلّها فاقدة ، فالعقل يخيّرك حينئذ. أمّا لو كان بعضها واجدا وبعضها فاقدا فالعقل يحتّم عليك الواجد دون الفاقد ولا يسيغ لك البدار إلى الفاقد ، كما لا يجيز لك ترك الواجد فعلا وتأخيرك العمل إلى وقت تعلم بأنّك تكون فاقدا فيه ، فمقتضى حكم العقل عدم جواز البدار ، فجواز البدار محتاج إلى دليل ، فإمّا أن يدلّ عليه دليل شرعي تعبّدي ،

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٥٠٠ ، المسألة ٣.

(٢) انظر الوسائل ٢ : ٩٨٣ ـ ٩٨٥ ، الباب ١٤ من أبواب التيمم ، الأحاديث ٩ ، ١١ ، ١٣ ، ١٧ ، ١٥ وغيرها في غير الباب.

(٣) انظر العروة الوثقى ١ : ٥٠٠ ، المسألة ٣ وتعليقات المراجع عليها.

(٤) انظر الوسائل ٢ : ٩٨٢ ـ ٩٨٣ ، الباب ١٤ من أبواب التيمم ، الحديث ٣ و ٨ و ٩٩٣ ـ ٩٩٤ ، الباب ٢٢ من الأبواب ، الأحاديث ١ و ٣ و ٤.

(٥) الوسائل ١ : ٤٨٣ ، الباب ١٤ من أبواب الجنابة ، الحديث ٢ وفيه : إذا دخل الوقت وجب الطهور.

(٦) الوسائل ٣ : ٩٢ و ٩٥ ، الباب ٤ من أبواب المواقيت ، الحديث ٥ و ٢٢.

٢٩١

وإمّا أن يقطع المكلّف أو يطمئنّ بعدم ارتفاع الاضطرار إلى آخر الوقت ليتحقّق الموضوع للتخيير العقلي ، أو يشكّ في ارتفاع العذر وعدمه فيستصحب بقاءه بناء على ما اخترناه من جريان الاستصحاب في الامور المتأخّرة ، فيتحقّق موضوع حكم العقل بالتعبّد أيضا.

فإن أجرى الاستصحاب ثمّ انكشف الخلاف وارتفاع عذره قبل خروج الوقت فحينئذ تكون المسألة من صغريات إجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي وعدمه ، وهي المسألة الآتية.

وإن قطع أو اطمئنّ فصلّى ثمّ انكشف أنّ قطعه كان مخالفا للواقع فهو من تخيّل الأمر ؛ إذ قد انكشف أن لا أمر واقعا بهذه الصلاة ولا ظاهرا ، فلا شيء حتّى يجزئ عن الواقعي أم لا ، وإنّما هو من تخيّل الأمر.

وإن كان هناك دليل يدلّ على جواز البدار مثل ما استندوا إليه في قوله عليه‌السلام : «إذا قوي فليقم» (١) ممّا يستكشف منه أنّ العبرة بحال الصلاة وإرادتها وأنّه غير منوط بالتأخير ، ففي مثل الصلاة لا إشكال في الإجزاء وعدم لزوم الإعادة في الوقت ، لقيام الإجماع بل الضرورة والأخبار المتواترة على «أنّ الله لم يكلّف العبد في اليوم الواحد بأكثر من خمس صلوات» (٢) فيستفاد منه : أنّ الصلاة المأتيّ بها حال الاضطرار متداركة لمصلحة الواقع الفائتة ، والمفروض أنّها كانت صحيحة واجدة لتمام الأجزاء والشرائط بالإضافة إلى المضطرّ ، فهو من قبيل تبدّل العنوان عند ارتفاع اضطراره فهو واجبان واقعيّان كلّ في حال كالسفر والحضر في الصلاة.

أمّا في غير الصلاة اليوميّة مثل ما لو نذر أن يصلّي صلاة جعفر مثلا فصلّاها بطهارة ترابيّة لعدم المائيّة ثمّ في الوقت قدر على المائيّة بعد ذلك ، فمقتضى القاعدة

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٦٩٩ ، الباب ٦ من أبواب القيام ، الحديث ٣.

(٢) انظر الوسائل ٣ : ٥ ، الباب ٢ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها وغيره من الأبواب.

٢٩٢

لزوم الإتيان بها ثانيا ، لعدم دليل يدلّ على إجزائها عن المكلّف به الواقعي ؛ إذ ليس عندنا إجماع ولا ضرورة ولا أخبار بذلك.

نعم ، لو كان لدليل الاضطرار إطلاق يفيد حصر المكلّف به بخصوص الفعل الاضطراري فيستكشف بذلك تنويع الواجب الواقعي وأنّ المأمور به بالأمر الاضطراري حال الاضطرار واف بتمام مصلحة الواجب الواقعي الاختياري بلا نقيصة أصلا وأنّهما عنوانان كالسفر والحضر بالإضافة إلى قصر الصلاة وإتمامها.

ولا يتوهّم أنّه عليه يجوز التفويت للقدرة على الواجب الاختياري لتحصيل تمام المصلحة بالواجب الاضطراري بعد أن يكون المكلّف من أفراد المضطرّين ، لإمكان أن يقال : إنّ الوفاء بالمصلحة من المأمور به بالأمر الاضطراري مختصّ بالمضطرّ بحسب طبعه لا بمن يصير نفسه مضطرّا بإذهاب قدرته بالاختيار. هذا لو استفيد من إطلاق دليل الواجب الاضطراري انحصار التكليف به.

أمّا لو لم يكن الإطلاق في مقام بيان الحصر ، ففي مقام الثبوت يمكن أن يفي المأمور به بالأمر الاضطراري بتمام المصلحة ، ويمكن أن لا يفي فلا يجزئ. ولا إطلاق يقتضي الحصر كما لا إجماع ولا أخبار تقتضي الإجزاء ، فإن كان لدليل الواجب الاختياري إطلاق تمسّك به في لزوم الإتيان به وإن لم يكن له إطلاق أيضا فيصار حينئذ إلى الاصول العمليّة ، فنقول : إنّها تقتضي البراءة ؛ لأنّه يشكّ في الوفاء كي لا يجب الإعادة وعدم الوفاء كي تجب الإعادة فهو يشكّ في توجّه التكليف نحوه بالإعادة وعدمه ولا ريب في أنّه شكّ في التكليف فتجري فيه البراءة العقليّة والشرعيّة.

لا يقال : إنّ الأمر الأوّلي يقتضي الإعادة لعدم إحراز استيفاء المصلحة.

لأنّا نقول : إنّ الأمر بالطبيعة الجامعة بين الفرد الاختياري والاضطراري قد امتثل ، والأمر بالاختياري من أوّل الأمر يشكّ في شموله لمن أتى بواجبه الاضطراري ، فمن المحتمل أن لا يكون أمر حتّى يقيّده ما دلّ على تقييده حال الاختيار بذلك الجزء الذي اضطرّ إلى تركه ثمّ زال اضطراره عنه في الوقت ، فافهم.

هذا تمام الكلام في إجزاء الواجب الاضطراري عن الواقعي ، فافهم.

٢٩٣

في إجزاء المأمور به الظاهري عن الواقعي وعدمه

إذا أتى بالمأمور به الظاهري ثمّ انكشف مخالفته للواقع وأنّ المأمور به الواقعي غيره ، فهل القاعدة تقتضي الإجزاء؟ أم تقتضي عدم الإجزاء ولزوم الإعادة في الوقت والقضاء خارجه؟ والكلام يقع في مقامين :

أحدهما : ما لو انكشفت المخالفة للواقعي بالقطع.

الثاني : ما لو انكشفت المخالفة بالتعبّد الشرعي كتبدّل رأي المجتهد مثلا عن عدم وجوب السورة إلى وجوبها.

أمّا الكلام في المقام الأوّل : وهو ما لو انكشفت المخالفة بالقطع

فيقع في مقامين أيضا ؛ إذ تارة يكون مستند ذلك الحكم الظاهري الذي قد انكشفت مخالفته للواقع أمارة. واخرى يكون أصلا عمليّا.

فإن كان أمارة ـ كأن استند في الحكم الشرعي إلى رواية وفي الموضوع الخارجي إلى قول ذي اليد فصلّى بلا سورة من جهة الأمارة الشرعيّة أو صلّى بالجلد عملا بيد المسلم مثلا ثمّ قطع بوجوب السورة واقعا أو بكون الجلد جلد ميتة ـ الظاهر اتّفاق الأصحاب على عدم الإجزاء عن الواقعي وأنّه يلزمه الإعادة لو انكشف في الوقت والقضاء لو انكشف في خارجه ؛ لأنّ المأمور به الواقعي لم يؤت به ، فمصلحته لم تستوف والمأتيّ به لم يعلم إجزاؤه لعدم الدليل على الإجزاء.

وقد ذكر بعضهم ـ كالشهيد ـ ابتناء الإجزاء في المقام على القول بالتصويب الأشعري وكون الحكم دائرا مدار العلم به (١). والظاهر هو ذلك أيضا ، إلّا أنّه إنّما يتمّ في الأحكام ؛ إذ الإجماع إنّما قام على بطلان التصويب في الأحكام وكذا الأخبار أيضا (*).

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(*) قد ذكر في دورته اللاحقة : أنّ التصويب في الموضوعات باطل ، ولم ينسب القول به حتّى إلى المصوّبة أنفسهم.

٢٩٤

وأمّا التصويب في الموضوعات وهو عبارة عن أخذ العلم جزء موضوع لترتّب الحكم فلا إجماع على بطلانه ، فيمكن أن يكون المانع عن صحّة الصلاة هو الجلد المعلوم عدم تذكيته بنحو يكون العلم جزءا فتدور المانعيّة مدار العلم بعدم التذكية ، فيلتزم بالإجزاء في الموضوعات ، إلّا أنّ المانع عن الإجزاء أمران :

أحدهما : ظواهر الأدلّة ، فإنّها بإطلاقها يعلم أنّ الموضوع للحكم بالمانعيّة ـ مثلا ـ هو غير المذكّى الواقعي علم به أم لا ، فليس العلم جزءا للموضوع في لسان الأدلّة كي يلتزم بالإجزاء.

الثاني : عدم القول بالفصل ، فإنّ الأمارات إن كانت حجّة من باب الطريقيّة ففي الأحكام والموضوعات ، وإن كانت من باب السببيّة المستلزمة للتصويب ففيهما معا. أمّا أنّها من باب الطريقيّة في الأحكام والسببيّة في الموضوعات فلا قائل به ، وبما ذكرنا يتمّ القول بعدم الإجزاء في الموضوعات أيضا.

وإن كان مستند الحكم الظاهري أصلا كأصالة الطهارة مثلا أو استصحابها في وجه قويّ ـ على ما ذكره صاحب الكفاية (١) ـ ثمّ انكشف أنّ ذلك الشيء نجس قطعا ، فقد ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره إلى الإجزاء وقد قرّبه بأنّ الأمارة إنّما تنظر إلى الواقع فيتنجّز بتحقّق ما هو الشرط واقعا ، فإذا انكشف الخلاف انكشف أنّ الشرط الواقعي مفقود. أمّا الاصول فإنّما تثبت وجود الشرط في الظاهر ، فإذا شكّ المكلّف مثلا في الطهارة فاستند إلى أصالة الطهارة ثمّ انكشف أنّه ليس بطاهر واقعا فلم يكشف عن عدم وجدان الماء للطهارة الظاهريّة ، بل كان واجدا لها ما دام الشكّ ، نعم من الآن لا يكون واجدا ، لارتفاع الشكّ بالقطع ، فلا شكّ حتّى يجري الأصل ، فالاصول في الحقيقة توسّع الطهارة المعتبرة في ذلك الماء شرطا إلى الطهارة الظاهريّة والواقعيّة ، فما دامت الطهارة الظاهريّة موجودة العمل واجد لشرطه. نعم الآن

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٠.

٢٩٥

باعتبار القطع بنجاسته الواقعية ارتفع موضوع الطهارة الظاهرية ، فهو من قبيل الأوامر الاضطراريّة والعناوين في كونه من تبدّل العنوان في الحقيقة ومن باب انقلاب الموضوع ، وقد أشار بقوله : «بل واستصحابهما في وجه قويّ» إلى ما اختاره من كون المجعول في الاستصحاب الحكم المماثل للحكم السابق كأصالة الطهارة وغيرها كأصالة الحليّة.

أقول : قد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) عدّة إيرادات على ما ذكر صاحب الكفاية ، إلّا أنّ أكثرها غير وارد عليه ، ونحن لا نتعرّضها اقتصارا.

نعم ، يرد على ما ذكره إيرادان : أحدهما نقضي ، والآخر حلّي.

فالأوّل : هو أنّه إذا كانت أصالة الطهارة كما ذكرت تحكم على أدلّة الشرائط وتوسّعها إلى الظاهريّة والواقعيّة ، فينبغي أن يترتّب على مجراها جميع آثار الطهارة ولا يختصّ بخصوص الصلاة بالإضافة إلى الطهارة الحدثيّة ، فكان ينبغي أنّه إذا غسل بالماء المستصحب طهارته ثوب أن يحكم بطهارته حتّى بعد انكشاف الخلاف في الماء ؛ إذ انكشاف الخلاف كأنّه هو الذي نجّسه وإلّا فهو طاهر قبل انكشاف الخلاف وعند تنجّسه بانكشاف الخلاف لم يلاق الثوب كي يحكم بنجاسته ، ومن المعلوم : أنّ الثوب لا يحكم أحد بطهارته أصلا ، بل كان ينبغي الحكم بصحّة الصلاة فيما لو صلّى بطهارة بماء محكوم بالطهارة ثمّ انكشف خلافه ، ولا قائل من الفقهاء بالصحّة فيها أصلا.

الثاني : الحلّ ، وهو أنّ الحكومة في المقام وإن كانت مسلّمة ، إلّا أنّها لا توجب توسعة في الشرط واقعا ، بل أقصى إفادتها ترتيب آثار الطهارة على المشكوك ما دام الشكّ ، فإذا انكشف خلافه يرتفع أثره ويكشف عن عدمه من أوّل الأمر.

نعم ، بعض موارد الحكومة توجب التوسعة في الموضوع الواقعي مثل قوله : «كلّ مسكر خمر» بعد قوله : «الخمر حرام نجس» وبعض موارد الحكومة توجب التضييق في الحكم الواقعي مثل قوله : «لا حكم لشكّ الإمام إذا حفظ عليه

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ١ : ٢٨٧ ـ ٢٨٩.

٢٩٦

من خلفه» (١) فإنّها توجب تضييق أحكام الشكّ ، ولكنّ المقام لا يدلّ دليله على أكثر من الحكومة الظاهريّة ، وأنّ هذا الحكم الظاهري ما دام الشكّ ، فمقتضى ما ذكرنا هو أنّه إذ انكشفت مخالفته للحكم الواقعي أن لا يلتزم بالإجزاء.

وأمّا مسألة من صلّى جاهلا بنجاسة بدنه أو ثوبه ثمّ انكشف بعد الفراغ من الصلاة له ذلك ، ففتوى العلماء بالإجزاء فيها إنّما هو لقيام أدلّة خاصّة تدلّ على ذلك ؛ ولذا لا يفرق فيها بين القطع بالطهارة أو قيام البيّنة أو قول ذي اليد ، بل ظاهر الأدلّة أنّ المانع إنّما هو العلم بالنجاسة ، فمع الغفلة أيضا لو صلّى لكانت صلاته صحيحة وإن لم يحرز فيها طهارة الثوب والبدن ، فافهم.

[المقام الثاني] : فيما لو انكشفت مخالفة الحكم الظاهري بالتعبّد

وهو على قسمين أيضا ، إذ تارة يكون مستند الحكم الظاهري قطع المكلّف ، واخرى يكون مستنده أمارة.

فالكلام في القسم الأوّل مثل أن يقطع مثلا بأنّ لفظ «الصعيد» اسم لمطلق وجه الأرض ثمّ ينكشف بواسطة أمارة شرعية أنّه اسم لخصوص التراب ، كما يتّفق أن يقطع المجتهد ثمّ يظهر له بواسطة أمارة مخالفة قطعه لرواية تعبّدية أو لدليل تعبّدي آخر. والظاهر اتّفاق الأصحاب على عدم الإجزاء حيث تكون الشبهة موضوعيّة والخلاف في الحكميّة.

ويرد عليهم ـ كما عن الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) ـ أنّه ما وجه التفرقة بين الشبهة الموضوعيّة والحكميّة ليتّفقوا على عدم الإجزاء في الأوّل ويختلفوا في الثانية مع اتّحاد المأخذ؟ والظاهر عدم الإجزاء وكون المقام خارجا عن محلّ الكلام ؛ إذ ليس في المقام حكم ظاهري ليدخل تحت محلّ الكلام.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٤٠ ، الباب ٢٤ من أبواب الخلل ، الحديث ٨ ولفظه هكذا : ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٢٩٧

ووجه لزوم الإعادة أو القضاء هو عدم الإتيان بالواقع وبدله وكون المكلّف غير محرز لذلك. وأيضا فإنّ عدم الإتيان بالمأمور به كما يقتضي حدوث التكليف كذلك يقتضي بقاءه ، فإذا انكشف له مخالفة الحكم الظاهري للواقعي فالحكم الواقعي يدعو إلى متعلّقه بقاء فيقتضي الإتيان بالمأمور به.

أمّا الكلام في القسم الثاني ـ وهو ما إذا اجتهد بموجب الأمارة الشرعيّة فحكم بعموم لعدم وجدانه لمخصّصه بعد الفحص ثمّ انكشف له أنّ الحكم الظاهري في بعض الأفراد كان مخصّصا واقعا ولم يكن هو مطّلعا على ذلك المخصّص ـ فبما أنّ الحكم بحجيّة العموم ما لم يجد المخصّص فهو حجّة منوطة بعدم المخصّص واقعا ، فالحكم الظاهري ثابت عليه واقعا ، وعند انكشاف الخلاف ارتفعت حجّيّة ذلك العموم ، فعند انكشاف الخلاف أيضا الحكم الواقعي يدعو إلى متعلّقه بقاء كما يدعو إليه حدوثا ـ كما أسلفنا ـ فهو يقتضي لزوم الإتيان بالواجب الواقعي ولا ببدله. أمّا عدم الإتيان به فواضح. وأمّا عدم الإتيان ببدله فلأنّ لا دليل على بدليّة ما أتى به عن الواقع ، فيلزمه الإتيان به في الوقت إعادة وفي خارجه قضاء ؛ لأنّ فوت الواقع محرز بانكشاف المخالفة وأنّ الواجب بمقتضى المخصّص لذلك العموم لم يأت به ، فافهم.

وهذا بخلاف ما لو اطلع على معارض لذلك الدليل الأوّلي كما إذا بنى على أنّ من سافر إلى أربعة فراسخ فحكمه التمام وإن لم ينو العود لرواية مصرّحة بذلك ، ثمّ اطّلع على رواية تقتضي لزوم القصر في هذا الفرض ، فيفرق بين الوقت فيجب الإتيان به لقاعدة الاشتغال ، وخارج الوقت فلا يجب القضاء ، لعدم إحراز الفوت بعد إتيان الإتمام ولا بدّ من إحراز الفوت حتّى يتحقّق موضوع القضاء. والفرق بينه وبين سابقه واضح ؛ إذ بعد فرض أنّه في الاولى قد تبدّل رأيه برأي آخر فهو بحكم رأيه الثاني لم يأت بالمأمور به. بخلاف الثانية ، فإنّ رأيه السابق ارتفع ولم يتبدّل إلى رأي آخر ، فهو يحتمل تحصيل الواقع ، ويحتمل عدمه ، ففي الوقت

٢٩٨

قاعدة الاشتغال تحتّم عليه الإعادة ، ولكن موضوع القضاء تحقّق الفوت ولم يحرز ، لاحتمال إتيان الواقع فتجري قاعدة البراءة ؛ لأنّه من الشكّ في التكليف.

وليعلم أنّ محلّ الكلام فيما لو ارتفع اجتهاد المجتهد السابق بحيث لا يفتي الآن بالحكم السابق الذي كان يراه. أمّا لو تبدّل مستند الحكم السابق مع بقاء رأيه كما إذا استند إلى رواية تدلّ على عدم وجوب السورة في الصلاة التي هي قوله عليه‌السلام : «يجزئك فاتحة الكتاب في صلاتك كلّها» (١) ثمّ بعد مدّة اطّلع على روايات تعارض هذه الرواية وتدلّ على وجوب قراءة سورة بعد الحمد ثمّ استند أيضا في عدم وجوب السورة إلى أصالة البراءة فهنا الاجتهاد لم يتبدّل وإنّما تبدّل المستند. هذا كلّه بناء على الطريقيّة. وأمّا بناء على السببيّة.

في الإجزاء بناء على السببيّة وعدمه

فنقول قبل الخوض في ذلك : إنّ السببيّة على أقسام على ما ذكرها الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) :

القسم الأوّل : السببيّة الأشعرية ، وهي المنسوبة إلى الأشاعرة وإن لم نجدها في كتبهم ، وهي أنّ الله تعالى بحسب اطّلاعه وإحاطته جعل الأحكام على طبق ما يرتئيه المجتهد ويؤدّي إليه نظره ، فيجعل وجوب الجمعة يوم الجمعة في حقّ هذا المجتهد ومقلّديه ، ويجعل عدم الوجوب في حقّ الثاني ومقلّديه أيضا. وهذا القسم مع إجماع الإماميّة على فساده وتواتر أخبارهم به (٣) ادّعى العلّامة الحلّي قدس‌سره استحالته (٤) ؛

__________________

(١) انظر الوسائل ٤ : ٧٣٤ ، الباب ٢ من أبواب القراءة ، الحديث ٣. وفيه : أنّ فاتحة الكتاب تجزئ وحدها في الفريضة.

(٢) انظر مطارح الأنظار ١ : ١٣٥ ـ ١٣٧ ، وفرائد الاصول ١ : ١١٢ ـ ١١٦.

(٣) انظر الكافي ١ : ٢١٦ ، الحديث الأوّل ، و ٥٩ : الحديث ٢.

(٤) انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٣٩.

٢٩٩

لأنّه إذا لم يكن ثمّة واقع ، فعن أيّ شيء يبحث المجتهد؟ ويؤدّي رأيه إلى أيّ شيء؟

القسم الثاني : السببيّة المعتزليّة ، وهي أنّ الله تعالى له أحكام واقعيّة مثبتة في اللوح المحفوظ ، إلّا أنّ قيام الأمارة الشرعيّة توجب انقلاب الحكم الواقعي من حاله السابق إلى ما يطابق هذه الأمارة الواصلة إلى هذا المجتهد ، فهي من العناوين الثانوية الموجبة لقلب الحكم عن عنوانه الأوّلي ، نظير أمر المولى الموجب لقلب المباح واجبا ، ونظير الشرط في ضمن العقد الموجب لوجوب ذلك الشرط المباح بحسب حكمه السابق مثلا.

وهذه السببيّة وإن لم يرد عليها إيراد العلّامة ، ضرورة اعترافها بثبوت حكم واقعي يبحث عنه المجتهد ؛ ولذا استدلّوا عليها بما رووا من «كون المصيب ذا أجرين والمخطئ ذا أجر واحد» (١) إلّا أنّ السببيّة بهذا المعنى خلاف الإجماع من الإماميّة والمتواتر من أخبارهم باشتراك الأحكام الواقعيّة بين العالم بها والجاهل والملتفت والغافل (٢) ، فافهم.

ثمّ إنّ السببيّة بهذين المعنيين يستلزمان الإجزاء ، ضرورة عدم الحكم الواقعي ثبوتا أصلا أو بعد قيام الأمارة وكون الحكم الواقعي هو ما أدّت إليه الأمارة ، فقد امتثل الحكم الواقعي ، ولا ظاهري أصلا كي يقع الكلام في إجزائه وعدمه ؛ ولذا ذكر الشهيد قدس‌سره أنّ القول بالإجزاء في الأحكام الظاهرية يلازم القول بالتصويب المجمع على بطلانه (٣) وهو كما ذكره قدس‌سره.

__________________

(١) مسند أحمد ٤ : ١٩٨.

(٢) راجع الكافي ١ : ٤٠ ، باب سؤال العالم وتذاكره ، والصفحة ٥٨ ، الحديث ١٩ ، والصفحة : ٥٩ ، الحديث ٢ ، والصفحة ١٩٩ ، الحديث الأوّل.

(٣) الظاهر أنّ المراد ما قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٣٢٢ ـ ٣٢٣ ، كما نقله الشيخ في فرائد الاصول ١ : ١١٩.

٣٠٠