غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

إطلاق. وهذا يترتّب عليه أنّه لو أنفق على زوجته بمال محرّم لا تبرؤ ذمّته من نفقتها ؛ لعدم الأمر بالفرد المحرّم. وفروعه كثيرة أيضا ، فالاستصحاب يقتضي بقاءه في عهدة المكلّف. هذا إن قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة ، وإلّا فلا يجري الاستصحاب.

هذا تمام الكلام في التوصّلي بالمعنى الثاني ، وقد ظهر أنّ الأصل العملي في الجميع هو البراءة وأنّه يقتضي عدم اعتبار الصدور بالاختيار مباشرة إلّا في المحرّم ، فالاستصحاب يقتضي الشغل.

في التعبّدي والتوصّلي بالمعنى المعروف

إذا شكّ في واجب أنّه توصّلي بمعنى أنّه لا يحتاج سقوط الأمر به إلى قصد الأمر ، أو تعبّدي بمعنى أنّه لا يسقط الأمر به إلّا إذا أتى به بقصد الأمر أو غيره من الدواعي القربيّة ، فهل هناك دليل يقتضي التوصّليّة أو التعبّديّة أم لا؟ والكلام في خصوص قصد الأمر يقع في ثلاث مقامات :

الأوّل : في ما يقتضيه نفس دليل ذلك الواجب المشكوك.

الثاني : في أنّه لو لم يقتض دليل ذلك الواجب شيئا ، إمّا لعدم إطلاقه لكونه مجملا أو مهملا ، أو لاستحالة الإطلاق فلم يثبت به التوصّليّة ، فهل هناك دليل لفظي خارجي من آية أو رواية تقتضي التعبّديّة أم لا؟

الثالث : في أنّ الأصل العملي ما هو مقتضاه لو فرض عدم الدليل اللفظي؟

أمّا الكلام في المقام الأوّل : وهو أنّ نفس دليل الواجب هل يقتضي التوصّليّة أم لا؟ نسب إلى الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) أنّه يدّعي أنّ استحالة تقييد الأمر بقصد الأمر يقتضي إطلاقه بالضرورة فيكون توصّليّا.

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار ١ : ٣٠١ ـ ٣٠٤.

٢٦١

وقد اورد (١) عليه بأنّ التمسّك بالإطلاق فرع تحقّق مقدّمات الحكمة ، وهي ورود الأمر على المقسم وكونه في مقام البيان وكون المتروك بيانه ممّا يمكن أخذه فيه ، وحينئذ فعدم أخذه يكشف عن عدم دخله في ملاك ذلك الواجب ، ولكن قصد الأمر لا يمكن أخذه فعدم أخذه لعدم إمكان الأخذ ، لا لعدم دخله.

وبالجملة ، فردّ كلام الشيخ مبنيّ على مقدّمتين :

إحداهما : عدم إمكان تقييد المأمور به بقصد الأمر.

الثانية : أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق ، فمتى خدش في إحدى هاتين المقدّمتين بطل الردّ وثبت كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره ومتى بطلتا معا لم يمكن التمسّك حينئذ بأدلّة نفس الواجب لإثبات توصّليّته ، فلا بدّ من دليل آخر.

فنقول :

أمّا المقدّمة الاولى : فقد ذهب جمع إلى عدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه ، لوجهين هما عمدة ما ذكر في المقام :

أحدهما : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) وملخّصه : أنّ للتكليف مرحلتين : إحداهما : مرحلة الإنشاء ، وهي لا تفتقر إلى أزيد من فرض وجود الموضوع بتمام قيوده ، فينشأ الحكم على هذا الفرض ، والثانية : مرحلة الفعلية ، وهي تارة تأخذ في موضوع الأمر شيئا مقدورا للمكلّف ، نظير قوله : «أكرم زيدا» و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فقد يفهم العرف من الدليل وجوب إيجاده كالطهارة والستر ، وقد لا يفهم وجوبه بل يفهم تنجّز التكليف على تقدير إيجاد المكلّف له كما في وجوب الوفاء في العقد ، فإنّه يفهم العرف أنّه على تقدير تحقّقه يجب الوفاء به ، هذا إذا كان أمرا مقدورا.

__________________

(١) أورد عليه في أجود التقريرات ١ : ١٦٨ ـ ١٦٩ ، وراجع كفاية الاصول : ٩٧ أيضا.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٦٠ ـ ١٦٢.

٢٦٢

وأمّا إذا لم يكن مقدورا فلا ريب في أنّ تعلّق التكليف بأمر غير اختياري يستدعي كونه مفروض الوجود ، مثلا إذا قال المولى : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» يقتضي أن يكون زوال الشمس مفروض التحقّق ، وكذا فعليّة «صلّ إلى القبلة» تستدعي تحقّق القبلة في نفس الأمر ؛ إذ توجّه التكليف نحو الأمر الغير المقدور مستحيل ؛ لعدم محرّكيته حينئذ ، بل في بعض المقدورات أيضا كذلك ، إلّا أنّه منوط بفهم العرف مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإنّ معناه : إذا تحقّق عقد يجب الوفاء به ، كما سلف في مقام الفعلية. فتوجّه الأمر مثلا بالصلاة حينئذ ينحلّ إلى أمر بالنيّة وبتكبيرة الإحرام وغيرهما من بقيّة الأجزاء وبقصد الأمر. وبما أنّ الأمر غير مقدور للمكلّف فلا بدّ من فرض تحقّقه ليقصده المكلّف ، وتحقّقه غير ممكن ؛ إذ لا يمكن أن يتوجّه الأمر بشرط تحقّق الأمر ؛ إذ معناه حينئذ : يجب الصلاة إن وجبت ، وهذا مستحيل ؛ لكون الوجوب مشروطا بنفسه وهو محال.

وهذا هو مراد الميرزا قدس‌سره : «أنّ الأمر ليس تحت قدرة المكلّف» لا «قصد الأمر» ليرد عليه ما أورده بعض الأساطين (١) : من أنّه ممكن للمكلّف ، فافهم. ومراده أنّ فعليّة الأمر غير ممكنة ، فلا وجه لما عن بعضهم من أنّ قصد الأمر ممكن بفرض الأمر ، فإنّه خلط بين مرتبة الإنشاء ومرتبة الفعلية ؛ إذ الفرض إنّما يجدي في مقام الإنشاء ، والفعليّة لا تتحقّق إلّا بعد تحقّق الموضوع الذي هو شرط فعليّته ، فإنّ شرط الفعليّة تحقّق موضوع التكليف ، وهذا غير ممكن لاستدعائه كون الوجوب شرطا لنفسه ، فافهم.

والجواب : أنّ ما ذكره قدس‌سره وإن كان متينا بحسب الكبرى ، فإنّ موضوع التكليف إنّما يكون مفروض الوجود حيث يقتضي فهم العرف ذلك ، كما في قولك : «إنّ نذرت يجب عليك الوفاء» وقريب منه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أو حيث يكون خارجا عن قدرة

__________________

(١) أورده في المحاضرات ٢ : ١٥٧ أيضا ، والظاهر أنّ المراد هو المحقّق العراقي ، انظر نهاية الأفكار ١ : ١٩٧ ـ ١٩٩ ، ومقالات الاصول ١ : ٢٣٧ ـ ٢٤٢.

٢٦٣

المكلّف كما في «صلّ إلى القبلة» ففي هذين الموردين يلزم كون موضوع التكليف مفروض الوجود ، إمّا بفهم العرف أو بالبرهان العقلي ، وهو قبح التكليف بغير المقدور. ولكن الصغرى ليست صغرى لهذه الكبرى المسلّمة ، فإنّ قصد الأمر ليس فهم العرف مقتضيا لكون الأمر مفروض الوجود ولا البرهان العقلي مساعدا على ذلك. ومن هنا التزمنا بفعلية أمر المحرّمات المقدور إيجاد موضوعها للمكلّف ، فنلتزم بفعلية تحريم الشرب للخمر لمن تمكّن من إيجاد الخمر خارجا وإن كان معدوما فعلا.

بيان ذلك : أنّ المولى يتصوّر ما يريد أن يعتبره في ذمّة المكلّف وما يكون واجدا للمصلحة الملزمة ، فيراه في عالم التصوّر أنّه عبارة عن هذه الأفعال الصلاتية وقصد الأمر الذي هو فعل نفساني ، فيوجّه الأمر نحو ذلك العمل المركّب ، فلا يفهم العرف كون الأمر مفروض الوجود ، ولا يلزم التكليف بالمحال ؛ إذ في ظرف الامتثال الأمر موجود ، والقدرة إنّما تعتبر في ظرف الامتثال لا في ظرف توجّه الأمر ، فليس العمل بقصد الأمر حينئذ تكليفا محالا أصلا ، فلا مانع حين إطلاق الأمر من التمسّك بإطلاقه ؛ لإمكان أخذ قصد الأمر فيه ولم يؤخذ ، فيكشف عن عدم دخله في تحصيل غرض المولى ، فيثبت توصّليّة المشكوك تعبّديّته وتوصّليّته بالإطلاق.

نعم ، في مثل الصلاة إلى القبلة لا بد من كون القبلة مفروضة الوجود ؛ إذ إنّها غير مقدورة للمكلّف بدون وجود القبلة ، بخلاف المثال المذكور ، فإنّ الأمر يتحقّق بنفس إنشائه الوجوب ، وقصد الأمر ممكن للمكلّف ، فإنّ قصد الأمر بما أنّه فعل نفساني [مقدور](١) للمكلّف ، فيتوجّه الوجوب نحو المركّب وينحلّ حينئذ إلى أمرين : أمر بذات الفعل ، وأمر بإيجاده بداعي الأمر الأوّل ، فيكون داعيا إلى إتيان الأوّل بهذا الداعي فيكون متمّما له. وهذا أمر ممكن منشؤه الانحلال الرافع لداعويّة الشيء إلى نفسه. وهو الوجه الثاني لاستحالة التقييد وهذا الوجه يقرر بوجوه :

__________________

(١) أضفناه لاقتضاء السياق.

٢٦٤

أحدها : ما ذكره بعض المحقّقين ـ وهو الشيخ محمّد حسين الأصفهاني قدس‌سره (١) ـ إنّ داعوية الأمر إلى متعلّقة ذاتي له ، وأخذ قصد الأمر في متعلّقه يستلزم أن يدعو الأمر إلى داعويّة نفسه وهو على حدّ أنّ يكون الشيء علّة لعلّية نفسه [وهو] مستحيل.

ثانيها : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) أنّ أمر المولى بالتشريع مستحيل ، فإذا فرض أنّ أمره بالتشريع مستحيل فلا يكون العبد قادرا على امتثال الأمر الذي اخذ فيه قصد الأمر ، وذلك لأنّ أمر المولى بأن يأتي بالعمل بداعي الأمر المتعلّق به وإن كان ممكنا ، إلّا أنّ امتثال العبد مستحيل ؛ إذ لا أمر بالعمل المطلق حسب الفرض ، فإنّ الأمر قد تعلّق بالمقيّد ، فالمطلق لا أمر به كي يأتي المكلّف به بداعي أمره.

نعم ، لو جاز للمولى أن يأمر بالتشريع لأمكنه الامتثال ، إلّا أنّ التشريع قبيح عقلا فلا يأمر به المولى.

ثالثها : ما ذكره بعض المحقّقين ووضّحه آخر (٣) ، وملخّصه : لزوم الخلف لو أخذ قصد الأمر في متعلّقه ؛ لأنّ قصد الأمر بالعمل يستدعي أن يكون أمر بالعمل ، ولكن المفروض : أنّ أمر المولى قد تعلّق به مقيّدا ، فأخذ قصد الأمر موقوف على أن يكون العمل مطلوبا بنحو التقييد ، وقصد الأمر بالعمل موقوف على أن لا يكون العمل مطلوبا بنحو التقييد ، وهذا خلف.

والجواب عن هذه الوجوه الثلاثة يتوقّف على مقدّمة ملخّصها : أنّ غرض المولى ـ بل كلّ آمر ـ قد يتعلّق بشيء فيأمر به ولا غرض له إلّا أن يتحقّق ما أمر به كما إذا كان المولى ظمآنا فأمر عبده بإحضار الماء ، وقد يكون غرض المولى متعلّقا بإتيان

__________________

(١) انظر نهاية الدراية ١ : ٣٢٣ ـ ٣٢٥.

(٢) كفاية الاصول : ٩٥ ـ ٩٦.

(٣) انظر نهاية الدراية ١ : ٣٢٧.

٢٦٥

الماء بقصد أمره بحيث لو احضر الماء اتّفاقا فلا يفي بغرضه ، بل لا بدّ من أن يقوم العبد فيأتي به بداعي أمره وامتثالا لذلك الأمر ، فإذا كان غرضه موقوفا على ذلك فلا بدّ أن يعتبر العمل المقيّد في ذمّة المكلّف ؛ إذ المفروض أنّ المطلق لا يفي بالغرض ، وإبراز هذا الاعتبار أيضا لا مانع منه ؛ إذ لا يحتاج إلى أزيد من أن يتصوّر المولى العمل ويتصوّر أمره اللاحق فيأمر به بداعي الأمر المتعلّق به.

إذا عرفت هذا ، فداعويّة الأمر إلى داعويّة نفسه إنّما تلزم لو كان هناك أمر واحد متعلّق بالعمل بداعي الأمر ، أمّا إذا فرضنا أنّ الأمر بكلّ مركّب من أجزاء أو مقيّد بشروط ينحلّ إلى أوامر متعدّدة بتعدّد الأجزاء والشروط ، فلا يبقى لنا إشكال حينئذ ؛ إذ نفس الصلاة مثلا صار متعلّقا للأمر الضمني وإتيانها بداعي أمرها متعلّق لأمر ضمني آخر مباين للأمر الأوّل ، فهنا أمران :

أحدهما متعلّق بالعمل الخارجي ، والآخر متعلّق بالعمل النفسي ، وداعويّة أمر إلى أمر آخر كثير ، كما في من نذر أن يقصد القربة بغسل ثوبه مثلا ، فإنّ الأمر الناشئ من قبل النذر مثلا أو اليمين يكون داعيا إلى أن يقصد المكلّف أمر غسل الثوب عند غسله. وكذا مسألة عدم القدرة إلّا أن يأمر المولى بالتشريع أيضا يندفع بالانحلال ، فإنّ هناك أمرا ضمنيا قد تعلّق بالعمل ، والعبرة بقدرة المكلّف في وقت العمل لا عند أمر المولى ، وعند الامتثال الأمر موجود قطعا ، فيتمكّن المكلّف حينئذ من إتيانه كما في الحائض لو نذرت الصلاة بعد عشرة أيّام مثلا. وكذا تندفع مسألة الخلف ، حيث ظهر أن لا خلف ؛ إذ قد تعلّق الأمر الضمني بنفس الفعل ، فأين الخلف؟

نعم ، هذه الإيرادات الثلاثة تتمّ على تقدير أن لا نقول بالانحلال إمّا مطلقا أو في خصوص الشرائط ويبتني على أنّ قصد الأمر شرط. وسيأتي في الأقلّ والأكثر بيان أنّ الأمر بالمركّب والمقيّد ينحلّ إلى أوامر متعدّدة حسب تعدّد أجزائه أو شروطه ، فافهم وتأمّل فإنّه ربّما دقّ.

٢٦٦

وقد ظهر بما ذكرنا إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر ولو سلّمنا عدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه.

فالمقدّمة الثانية التي ذكرها الميرزا قدس‌سره (١) من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق غير مسلّمة في المقام. وقد أفاد في وجه ما ذكره ـ من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق ـ أنّ انقسام الأشياء قد يكون بالانقسامات الأوّليّة وهي التي تنقسم إليها الأشياء مع قطع النظر عن كلّ شيء غيرها من أمر أو آمر ، مثل انقسام الماء إلى القليل والكثير ، وانقسام الإنسان إلى أسود وأبيض ، ومثل هذه الانقسامات لو توجّه التكليف نحو شيء من تلك الطبيعة فإمّا أن يتوجّه نحو المقيّد بأحد القيدين ، أو يتوجّه مطلقا ـ يعني من غير أن يكون لأحد القيدين مدخليّة في الحكم ـ ويستحيل أن يكون الحكم مهملا ؛ لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت من العالم الملتفت لموضوع حكمه ؛ إذ إنّه إمّا أن يحكم عليه مقيّدا بأحد القيدين أو يحكم عليه مطلقا ، ولا يمكن الإهمال ؛ إذ يستحيل جهل الحاكم بموضوع حكمه.

نعم ، قد يكون الدليل الدالّ على الحكم مهملا أو مجملا لغرض يتعلّق بهما ، وهذا هو الإجمال في مقام الإثبات.

وقد يكون انقسام الأشياء بالانقسامات الثانوية ، وهي الانقسامات التي تكون بعد التكليف بها ، مثلة انقسام العمل بين أن يؤتى به بقصد الأمر أو لا بقصده وانقسام المكلّف إلى العالم بالتكليف والجاهل به ، فإنّ هذين التقسيمين فرع وجود الأمر والتكليف ، فمثل الطبيعة المنقسمة إلى هذه التقسيمات إذا استحال التقييد فيها استحال الإطلاق أيضا ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فمتى استحال أحدهما استحال الآخر ، والمفروض أنّ التقييد بقصد الأمر مستحيل ، فالإطلاق مثله في الاستحالة.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٧ ـ ١٥٨.

٢٦٧

والجواب : أنّ جهة استحالة الإهمال في الواقع في الطبائع بحسب تقسيماتها الأوليّة هو استحالة جهل الحاكم بموضوع حكمه ، وهذا بعينه وارد في الانقسامات الثانوية ؛ إذ المولى الملتفت إلى أنّ حكم هذا يكون معلوما لبعض المكلّفين ومجهولا لبعض آخر لا بدّ أن يقيّد التكليف بخصوص العالمين أو يطلق أو يقيّد بالطرف الآخر ؛ لاستحالة الإهمال في الواقعيّات لأدائه إلى جهل الحاكم بموضوع حكمه. وكذا الآمر بشيء إذا التفت أنّ أداء ذلك العمل ينقسم إلى أداء بقصد الأمر وأداء لا بقصده لا ينفكّ أن يقيّده بقصد الأمر أو لا بقصده أو يطلق ، فالإهمال مستحيل في مقام الثبوت من غير فرق بين الانقسامات الأوّلية والثانوية أصلا ؛ لعموم الملاك. وحينئذ فإذا التفت إلى انقسام موضوع التكليف إلى ثلاثة : ما قصد به الأمر ، وما لم يقصد به الأمر ، والمطلق ، فالمصلحة الباعثة على التكليف إن كانت كائنة من صرف العمل فيطلق التكليف ، وإن كانت مقيّدة بصدوره بقصد الأمر أو لا بقصده يلزمه التقييد بأحدهما أيضا.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره : من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فهو ـ أي الإطلاق ـ عدم التقييد ممّا هو قابل للإطلاق والتقييد معا ، فهو مسلّم إلّا أنّه في باب التقابلات يريدون القابلية النوعيّة أو الصنفيّة أو الجنسيّة أو غيرها لا خصوص القابليّة الفرديّة ، مثلا يقال للعقرب : إنّه أعمى مع أنّ فرده أو نوعه غير قابل للبصر ، ومع ذلك يطلق عليه العمى باعتبار قابليّته النوعيّة ؛ إذ الحيوان قابل ، فقد يكون استحالة أحد المتقابلين تقابل العدم والملكة يستدعي ضروريّة الطرف الثاني ، مثلا نحن يصدق علينا أنّا جاهلون بمعرفة كنه الحقّ وصفاته الذاتية مع استحالة العلم لنا بذلك ، كما أنّه لا يصدق في حقّه أنّه غير عالم بعبيده ، فهل يستحيل العلم حينئذ؟ كلّا! ثمّ كلّا! تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، بل استحالة أحد المتقابلين تستدعي ضروريّة الآخر في هذه الأمثلة وفي مقامنا أيضا ، فإنّ غرضه إمّا أن يتعلّق بما يؤتى به بقصد الأمر ، أو يتعلّق بما يؤتى به لا بقصد الأمر ،

٢٦٨

أو يتعلّق بالمطلق ، فإذا فرض استحالة التقييد بقصد الأمر والقطع بعدم التقييد بعدمه ثبت حينئذ الإطلاق ؛ لاستحالة الإهمال في الواقع ، فاستحالة التقييد تستدعي ضروريّة الإطلاق. وهذا هو الذي نقله الميرزا النائيني قدس‌سره (١) عن الشيخ من أنّ استحالة التقييد تستلزم ضروريّة الإطلاق.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت ، وقد ظهر أنّ استحالة التقييد في مقام الثبوت يستلزم ضروريّة الإطلاق.

نعم ، لو كان هناك مانع عن التقييد في مقام الإثبات لم يمكن التمسّك حينئذ بالإطلاق ؛ إذ من جملة مقدّمات الإطلاق في مقام الإثبات أنّه لو كان القيد دخيلا لأخذه المولى ، فلمّا لم يأخذه دلّ على عدم دخله ولكن عدم الأخذ في المقام لا يدلّ على عدم الدخل ، بل قد يكون دخيلا ولا يأخذه المولى ، لعدم قدرته على أخذه. ولكن الكلام في أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق في مقام الثبوت لا في مقام الإثبات ، وقد ذكرنا استلزامها ضروريّة الإطلاق في مقام الثبوت ، وليس الكلام في مقام الإثبات ، وإلّا فلم يدّع أحد استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه إثباتا ، لضرورة إمكان أن يقول المولى : صلّ بقصد الأمر.

وبالجملة ، فقد ظهر إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه ، فلو لم يأخذه المولى بل أورد الحكم على الطبيعة في مقام الإثبات فبتبعيّة مقام الإثبات لمقام الثبوت يستفاد عدم دخل قصد الأمر في مصلحة العمل.

ولو سلّمنا استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه فهو يستدعي ضروريّة الإطلاق أو التقييد بعدم قصد الأمر ، وحيث إنّ الثاني مقطوع العدم فيثبت ضروريّة الإطلاق ثبوتا ، ولكن لا يمكن التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات حينئذ ؛ لإمكان دخله في الغرض وعدم أخذه لعدم إمكان أخذه.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦٨.

٢٦٩

هذا كلّه في أخذ قصد الأمر.

وأمّا أخذ بقية الدواعي القربيّة ـ من الخوف من عقاب المولى أو الطمع في ثوابه أو لكونه أهلا للعبادة أو للمصلحة الموجودة بها ـ فلو سلّم (*) كونها دواعي قربيّة وأغمض النظر عن كونها ملازمة لقصد الأمر ، فقد ذكروا أنّها غير مأخوذة في المأمور به ؛ لأنّه لو أتى به بداعي الأمر كان صحيحا ، ولو اخذ في الفعل أحد هذه الامور لم يتّصف بالصحّة بمجرّد إتيانه بقصد الأمر (* *).

__________________

(*) أشرنا بقولنا : «لو سلّم» إلى ما سطرناه في الدورة السابقة : من كون الإتيان به خوفا من العقاب وطمعا في الثواب ملازم لقصد الأمر ؛ لعدم حصول الثواب ورفع العقاب إلّا بذلك ، وكذا لو أتى به من جهة المصلحة الموجودة ، فإنّه ليس قربيا بل من جهة مصلحته ، وكذا لو أتى به لكونه أهلا للعبادة ، ضرورة أنّه أهل للعبادة التي لا تتحقّق إلّا بعد قصد الأمر ، فهذه ليست بنفسها دواعي قربيّة بل ملازمة نعم ، إتيانه بقصد المحبوبية الذاتية في نفسه أمر قربي قطعا.

(الجواهري).

(* *) في هامش الأصل استدراك لم يرمز إلى موضعه ، والمناسب إيراده هنا ، وهو ما يلي :

وقد زعم الميرزا النائيني قدس‌سره ـ أجود التقريرات ١ : ١٦٤ ـ ١٦٥ ـ استحالة أخذ جميع الدواعي القربيّة في متعلّق الأمر ، بدعوى : أنّها محرّكة نحو العمل وباعثة إليه تكوينا ، فلا يعقل أن تؤخذ في متعلّق الأمر به تشريعا ؛ لأنّ ما لا يمكن الأمر به تكوينا لا يمكن أخذه في المتعلّق تشريعا.

وفيه أوّلا : أنّها تقتضي استحالة أخذ قصد الأمر حتّى بالأمر الثاني المتمّم للجعل الذي قد صرّحت فيه بالجواز والإمكان ؛ لعدم الفرق في ملاك الاستحالة المذكور بين كونه مأخوذا في الأمر الأوّل أم في الأمر الثاني.

وثانيا : أنّ هنا عملين : أحدهما جوارحي وهو الإتيان بالأجزاء الخارجية ، والآخر جوانحي : وهو قصد الأمر ، وكلّ منهما عمل اختياري مسبوق بالإرادة والاختيار وهو كاف في التكليف به.

٢٧٠

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ ما ذكر إنّما يدلّ على عدم أخذ كلّ واحد من هذه الامور بخصوصيّتها ، ولكن لا يدلّ على نفي أخذ الجامع ، فيكون العمل مطلوبا بشرط إضافته إلى المولى وتحقّق الصحّة مع قصد الأمر لتحقّق فرد من أفراد الإضافة إلى المولى. وحينئذ فلو سلّمنا عدم إمكان أخذ قصد الأمر ولكن أخذ الجامع بينه وبين بقيّة الدواعي القربية ممكن ، فبعدم أخذ الجامع يستكشف عدم توقّف الفرض على القربة. ولو سلّمنا عدم إمكان أخذ الجامع أيضا ، فالميزة بين التعبّدي والتوصّلي إنّما هو بأن يكون للتعبّدي أمران : أحدهما يتعلّق بذات الفعل والآخر بإتيانه بقصد القربة ، والتوصّلي يكتفى فيه بالأمر الواحد.

وتوضيح هذا بنحو لا يرد عليه ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من حصول الغرض بإتيان متعلّق الأمر الأوّل فلا داعي إلى الثاني ، و [على فرض](٢) عدم الحصول فالعقل يكفي [للإلزام](٣) من دون حاجة إلى الأمر الثاني .. إلى آخره ، بأن يقال : إنّ الأمر الثاني المتعلّق بمتعلّق الأمر الأوّل يتصوّر بنحوين :

أحدهما : أن يتعلّق بمتعلّق الأمر الأوّل بنحو يكون الأمر الأوّل داعيا إلى متعلّقه مستقلا ويكون الأمر الثاني أيضا داعيا لكيفيّة من كيفيّات متعلّق الأمر الأوّل ، وحينئذ فيكون لكلّ واحد من الأمرين امتثال وعصيان وثواب وعقاب. وهذا نظير أن ينذر الإنسان أن يغسل ثوبه متقرّبا إلى الله تعالى فأمر الغسل بحاله داع إلى متعلّقه ، فإن غسل امتثله واثيب عليه وإن تركه عصى وعوقب عليه ، وأمر النذر أيضا بحاله في كونه داعيا إلى متعلّقه ، فإن قصد القربة بالغسل وفى بنذره وامتثل الأمر النذري واثيب عليه ، وحينئذ فلو غسل ثوبه متقرّبا اثيب بثوابين ، ولو غسله بلا تقرّب اثيب بثواب الغسل فقط ، فإن كان ناسيا لنذره مثلا فلا عقاب ، وإن كان ملتفتا فقد أخلف نذره فعليه العقاب والكفّارة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٦ ـ ٩٧.

(٢) أضفناه لاقتضاء السياق.

(٣) في الأصل : بالإلزام.

٢٧١

الثاني : أن يكون متمّما للأمر الأوّل بحيث لا يكون الأمر الأوّل وافيا بغرض المولى ، وهذا يتصور بنحوين أيضا :

أحدهما : أن يكون كاشفا عن تقيّد الأمر الأوّل في مرحلة الثبوت والواقع وأنّ الدليل الأوّل كان مهملا أو لم يكن إطلاقه مرادا بالإرادة الجديّة ، وهذا نظير أوامر إيقاع الصلاة إلى القبلة أو متستّرا أو متطهّرا أو غير ذلك من شروطها ، فإنّها كاشفة عن كون الغرض الباعث على التكليف لا يحصل إلّا بالصلاة بهذه الشروط المذكورة ، فالدليل الأوّل مهمل أو أنّ إطلاقه غير مراد جدّا.

ولا يخفى أنّ أخذ قصد الأمر ليس من القسم الأوّل ؛ لضرورة أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة لا يسقط بإتيانها مجرّدة عن قصد الأمر ، ولا من هذا القسم أيضا ؛ لأنّه إنّما يكشف عن التقييد ثبوتا حيث يكون التقييد ممكنا والمفروض استحالته في المقام ، فلا بدّ أن يكون أخذ قصد الأمر في الصلاة ليس بالنحو الأوّل من النحوين ، بل بثانيهما ، وهو أن يكون الغرض الواحد الداعي على الأمر بالصلاة مثلا لا يترتّب عليها وحدها وإنّما يترتّب عليها بقصد الأمر ، وحيث إنّ أخذ قصد الأمر في متعلّقه مستحيل فرضا في مقام الثبوت فيتوسّل المولى إلى الأمر بما يحصّل غرضه بهذه الوسيلة وهي الأمر الثاني ، فيقول : صلّ ولتكن صلاتك بقصد الأمر.

وهذا الأمر الثاني هو الذي كان يعبّر عنه الميرزا النائيني قدس‌سره (١) بمتمّم الجعل أو نتيجة التقييد ، فإنّه يفيد نتيجة التقييد حيث كان التقييد مستحيلا. وحينئذ فللمولى ـ في مقام التوصّل إلى غرضه ـ أن يأمر بالأمر الثاني ، وحيث لا أمر ثان فيستكشف عدم دخل القربة في تحصيل الغرض ، وإلّا لبيّن بالأمر الثاني ، فيستدلّ بالإطلاق ـ أي إطلاق الأمر الأوّل ـ في عدمه (٢) إلّا أنّ بين الإطلاقين فرقا ، فإنّ الإطلاق الاولى إطلاق لفظي ولكن الإطلاق الثاني إطلاق حالي.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٢) كذا ، والمناسب : على عدمه.

٢٧٢

أمّا أنّ الأوّل إطلاق لفظي ؛ فلأنّه لم يقيّد فيقول : «صلّ بقصد الأمر» مع إمكانه كما هو المفروض ، فلو كان دخيلا في الغرض لذكره كما ذكرنا.

وأمّا أنّ الإطلاق الثاني حالي ؛ فلأنّ المفروض استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه ، وذكرنا أنّ ميزان العباديّة حينئذ الأمر الثاني ، والمفروض عدم الأمر الثاني ، فحينئذ نقول لو كان دخيلا في الغرض لذكره بالأمر الثاني ، فعدم ذكره كاشف عن أن متعلّق الأمر الأوّل على إطلاقه مسقط للأمر وواف بالغرض.

ثمّ لو قلنا بمقالة الميرزا قدس‌سره : من أنّ استحالة التقييد تقتضي استحالة الإطلاق فيكون الأمر مهملا حينئذ. أو قلنا بإمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه أو أخذ قصد القربة الذي هو الجامع ـ كما قرّرنا ـ ولكن كان المولى في مقام التشريع لا في مقام البيان ، فحينئذ تنعدم الاصول اللفظية وتنتهي المسألة إلى الاصول العملية. والظاهر هو الرجوع إلى البراءة في جميع شقوق المسألة.

بيان ذلك : أنّا إن قلنا بإمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه ـ كما هو الظاهر ـ ولكن لم يكن إطلاق فجريان البراءة حينئذ مبنيّ على مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، وحيث بنينا على جريان البراءة فيها عن الأكثر والتمسّك بالمتيقّن وهو الأقلّ وهذا مصداق من مصاديقها وفرد من تلك الكليّة.

وإن قلنا بعدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه وانتهت النوبة إلى الأمر الثاني فأولى بإجراء البراءة. بل ولو قلنا بعدم جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين وأجرينا قاعدة الاشتغال ، ففي المقام نجري البراءة ؛ إذ القائلون بالاشتغال في الأقلّ والأكثر إنّما قالوا به من جهة زعمهم عدم الانحلال ، بدعوى أنّ الأمر في مقام الثبوت كما يمكن أن يكون مطلقا بالإضافة إلى تحقّق هذا الجزء وعدم تحقّقه يمكن أن يكون مقيّدا بتحقّقه ، ولا إطلاق في مقام الإثبات ؛ لأنّ المفروض الإهمال ، ومعلوم أنّ هذا إنّما هو حيث يكون الأمر واحدا ، وإن دفعنا هذه الشبهة في محلّه حتّى على تقدير الوحدة ، إلّا أنّ هذا إنّما يتأتّى حيث يكون الأمر واحدا ،

٢٧٣

أمّا حيث يكون هناك أمران فلا ترد هذه الشبهة ؛ إذ المفروض أنّ الأمر الأوّل حينئذ مهمل والتقييد يستند إلى الأمر الثاني المفروض انتفاؤه.

ولو فرضنا استحالة أخذ قصد الأمر أو القربة في متعلّق الأمر الأوّل والثاني أيضا ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ـ فالمرجع هي البراءة أيضا ، ولا تنتهي النوبة إلى الاشتغال من ناحية الغرض وحكم العقل بتحصيله كما زعمه قدس‌سره (٢) ؛ وذلك لأنّ البراءة الشرعيّة وإن لم يمكن جريانها في رفع قصد الأمر ؛ إذ لا بدّ في المرفوع بها من أن يكون قابلا للرفع والوضع الشرعيين ، إلّا أنّ البراءة العقليّة ـ وهو قبح العقاب بلا بيان ـ جارية ؛ إذ لا اختصاص لها بالأجزاء الشرعيّة التي يستطيع المولى من أخذها أجزاء شرعيّة ، بل كلّ ما أمكن بيانه شرعا تجري فيه القاعدة ، ولا إشكال في إمكان البيان بالجملة الخبريّة بقوله : «إنّ غرضي لا يسقط بغير قصد الأمر بالعمل» فإنّ المفروض استحالة أخذه في متعلّق الأمر الأوّل والأمر الثاني. وأمّا إخباره ـ كما ذكرنا ـ ممكن ، وحينئذ فإذا لم يبيّن ولو بهذا النحو فبقاعدة قبح العقاب بلا بيان يتمّ إجراء البراءة العقليّة.

فاتّضح أنّه كلّما شكّ في واجب أنّه توصّلي أو تعبّدي إن كان لدليله إطلاق يتمسّك به في نفي قصد القربة ، وإلّا فالبراءة ، فيثبت بالإطلاق أو البراءة عدم المدخليّة لقصد الأمر أو القربة في متعلّق الأمر ، فيثبت بما ذكرنا أنّ الأصل في الأوامر هي التوصّليّة.

ثمّ إنّه ربما يدّعى الخروج عن هذا الأصل بدليل عامّ في جميع الأوامر والنواهي الشرعيّة بأدلّة عامّة ، فلا بأس بالتعرّض لها وأنّها تامّة الدلالة في المقصود فينقلب الأصل ويصير الأصل في الأوامر الشرعيّة هو التوصّلية ، أم أنّها غير تامّة فلا ينقلب الأصل بل يبقى على حاله ، وقد ذكر لذلك امور عديدة :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٥ ـ ٩٧.

(٢) انظر كفاية الاصول : ٩٧.

٢٧٤

في الأدلّة الخارجيّة الدالّة على أصالة التعبّديّة

أحدها : ـ وهو أقواها ـ الدليل العقلي ، وهو أنّ أمر الشارع فعل من أفعاله الاختياريّة ، وكلّ فعل اختياري صادر من العاقل يلزم أن يكون له به غرض يتوخّاه منه ، فلا بدّ أن يكون للشارع من أمره غرض يقصده ، ومن المعلوم أيضا أنّ صدور الفعل خارجا مقيّدا بعدم الإضافة إلى المولى يستحيل أن يكون غرضا ؛ إذ لو لم يكن الأمر باعثا إلى فعله بل كان يفعله وإن لم يأمر به المولى فالأمر حينئذ لغو ، وإن كان باعثا إلى فعله لزم الخلف ؛ إذ المفروض أنّ المأمور به ما لم يكن باعثه أمر المولى ، كما يستحيل أن يكون مطلق وجوده خارجا هو الغرض ؛ لاستحالة هذا الشقّ منه بما قرّرنا ، فتعيّن أن يكون الغرض منه إيجاده مضافا إلى المولى. وحينئذ فإن قام دليل على كون صرف صدور الفعل خارجا كافيا نخرج للدليل وما بقي نحكم فيه بعدم حصول الغرض إلّا بالإتيان به مضافا إلى الله تعالى.

والجواب عن هذا البرهان المناقشة في الصغرى والكبرى.

أمّا الكبرى : فبأنّا لسنا مأمورين بتحصيل غرض المولى إذا لم يدلّ عليه أمره ؛ إذ الغرض لا يكون أعظم من الأمر ، فكما أنّ الأمر الغير الواصل لا يلزم امتثاله ، كذلك الغرض الغير الواصل لا يلزم تحصيله ، ويشهد لذلك النواهي مطلقا والأوامر التوصّليّة الكثيرة ، فإنّه لا إشكال في سقوطها وإن لم يكن حين الفعل أو الترك مسندا لهما إلى الله ، وهل يمكن التخصيص في الحكم العقلي؟

وأمّا الصغرى : فبأنّا نمنع كون الغرض من الأمر هو صدور الفعل خارجا ، كيف؟ والغرض ما يترتّب على الشيء ، ومن المعلوم أنّ صدوره خارجا لا يترتّب عليه ؛ لكثرة العصاة والكفرة بناء على تكليفهم بالفروع كالاصول كما هو الحقّ ، بل الغرض من الأمر ليس إلّا قابليّته لأن يكون داعيا إلى متعلّقه ، وهذا متحقّق في جميع الأوامر توصّليّة وتعبّديّة.

٢٧٥

وبما ذكرنا يندفع إشكال معروف وإن كان أجنبيّا عن التعبّدي والتوصّلي ، وملخّصه : أنّه إذا كان الغرض من الأوامر الشرعيّة والنواهي هي الداعويّة إلى فعل الواجبات وترك المحرّمات ، فمن المعلوم أنّ كثيرا من الواجبات يفعلها الإنسان وإن لم يأمر بها المولى كالإنفاق على الزوجة والأولاد ، وكثيرا من المحرّمات يتركها وإن لم ينه عنها الشارع كأكل القاذورات ، فما فائدة الأمر والنهي هنا؟ وملخّص الجواب : أنّ قابليّة كونه باعثا وزاجرا هو الفائدة في ذلك.

ثمّ يعود إشكال آخر : أنّ الغرض التوصّل إلى وجود الأوّل خارجا وترك الثاني ، والمفروض تحقّقهما ، فما فائدة قابليّة الباعثيّة والزاجريّة؟

وجوابه : أنّ فائدة ذلك هو تكميل النفس ، فإنّه إذا علم الإنسان الكامل بوجود أمر أو نهي يضيف عمله إلى مولاه فيحصل له بذلك تكميل نفسه وبلوغها أوج الرفعة الروحيّة ، والمقصود الأوّلي من تشريع الأحكام هو ذلك ، فإنّ المولى المشرّع ليس محتاجا إلى شيء وإنّما أراد تكميلنا بلطفه فشرع الأحكام ، فافهم وتأمّل فإنّه مبحث دقيق.

ثانيها : ما ذكره بعضهم (١) وهو قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(٢) بتقريب : أنّه حصر أمره بما كان عبادة وجعل الغاية من أمره هو العبادة ليس إلّا ، فإذا دلّ دليل على عدم كون المأمور به عباديا نخرج بالتخصيص عن مقتضى هذه الآية ، وإذا لم يدلّ الدليل كما في موارد الشك فمقتضى كونه عبادة عدم سقوط الأمر بغير قصد التقرّب.

ويرد عليها أوّلا : لزوم تخصيص الأكثر ، فإنّ أكثر الواجبات بل جميع الواجبات المشرّعة لحفظ النظام من كفائية وعينيّة توصّليّة ليس إلّا ، وتخصيص الأكثر مستهجن.

وثانيا : أنّ المقصود من هذه الآية بقرينة ما قبلها : أنّ التفرّق الموجود في أهل الكتاب لم يكن إلّا بعد إتمام الحجّة عليهم نتيجة تقليدهم واتّباعهم لعلمائهم وعبادتهم

__________________

(١) نسبه في أجود التقريرات ١ : ١٧١ إلى الكلباسي في الإشارات ١ : ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) البيّنة : ٥.

٢٧٦

لهم ، ولم يؤمروا من قبل الله تعالى إلّا بالعبادة مخلصين لله دينهم غير مشركين به أحدا من علمائهم ، وحينئذ فالآية أجنبيّة عن اعتبار قصد القربة في سقوط الأمر وعدمه.

الثالث : هو قوله عليه‌السلام : «لا عمل إلّا بنيّة» (١) وقوله عليه‌السلام : «إنّما الأعمال بالنيّات» (٢) فإذا كان العمل الفاقد للنيّة ليس بعمل فبمقتضى الحكومة لزم تحصيل النيّة ليحصل العمل المأمور به.

ويرد عليه أوّلا : ما ذكرنا من لزوم تخصيص الأكثر.

وثانيا : أنّ المقصود من النيّة هو القصد وهو أجنبيّ عن قصد القربة ، ضرورة استحالة خلوّ العاقل في عمل من الأعمال عن القصد له ، فيكون الخبر في مقام بيان أنّ الأعمال السهوية لا أثر لها ، أو أنّ المراد أنّ كلّ عمل من الأعمال يمكن أن يكون حسنا وأن يكون قبيحا بالوجوه والاعتبارات ؛ ضرورة أنّ الحسن الذاتي والقبح الذاتي في الأفعال قليل أو معدوم. نعم ، هو موجود في العناوين ، وحينئذ فضرب اليتيم ـ مثلا ـ للتأديب حسن وظلما وتشفيّا قبيح ، ورفع الحجر عن وسط الطريق لئلّا يعثر به المارّة حسن ، ووضعه وسط الطريق ليأخذه محتاجه حسن أيضا. وعلى كلّ حال فهي أجنبيّة عن عدم سقوط الأمر إلّا بعد قصد القربة.

وقد فسّرت هذه الأخبار بجملة من الأخبار بما ذكرنا في باب الجهاد وأنّ الخارج للجهاد لله وتشييد الدين ثوابه على الله ، ومن خرج طلبا للغنيمة فليس له إلّا ما طلب ، فلكلّ امرئ ما نوى.

هذا تمام الكلام في التعبّدي والتوصّلي. وقد تحصّل : أنّ كلّ مورد لم يقم دليل على التعبّديّة لا نحتاج إلى قصد القربة في إسقاط أمر المولى عملا بإطلاق الأمر ، ومع التنزّل فبعدم أخذ الجامع وهو مطلق القربة ، ومع التنزّل فبعدم أخذ العدم ، ومع التنزّل فبالأخبار ، ومع التنزّل فبالأمر الثاني المتمّم للجعل ، فافهم.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٣ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١ و ٣.

(٢) الوسائل ١ : ٣٥ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٠.

٢٧٧

في وقوع الأمر عقيب الحظر أو توهّمه

وقد اطيل الكلام في ذلك كما أشار إليه صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

والذي ينبغي أن يقال : (إنّه بناء على ما ذكرنا من أنّ الوجوب ليس مستفادا من لفظ «الأمر» وإنّما هو بحكم العقل ، فالعقل لا يحكم في مثل هذا الأمر بالوجوب كلّية. وكذا إن قلنا بظهوره في الوجوب وضعا أو إطلاقا وانصرافه إليه.

فنقول) (٢) : إنّه بعد ظهور الصيغة في الوجوب وضعا أو إطلاقا أنّ هذا الظهور مرتفع حيث يقع الأمر عقيب الحظر أو توهّمه ؛ إذ لو لم يكن قرينة على رفع الحظر فلا أقلّ من قابليّته للقرينيّة ، فيكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة ، فلا ينعقد له ظهور في الوجوب ولا في الإباحة ولا في التبعيّة لما قبل النهي.

نعم ، لو كان في المقام قرينة معيّنة لأحد الامور المذكورة فهي متّبعة ، إلّا أنّ الكلام في الخالي عن القرينة ، ولا يثبت به أزيد من عدم كونه محرّما دون الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة.

نعم ، الأصل العملي يقتضي البراءة من التكليف حيث يشكّ في الوجوب ، فافهم.

وكذا الكلام في النهي الوارد بعد الوجوب أو توهّمه يرتفع ظهوره في التحريم أو انصرافه إليه.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) هذا من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٧٨

في دلالة الأمر على المرّة أو التكرار وعدمها

وهذا النزاع يأتي ، سواء قلنا بأنّ المراد من المرّة الفرد أو الدفعة ، ومن التكرار الأفراد أو الدفعات. كما أنّ النزاع غير مبتن أيضا على ما يأتي : من أنّ الأمر متعلّق بالطبائع أو الأفراد ؛ وذلك لأنّ الفرد هناك إنّما هو بمعنى أنّ الخصوصيّة الفرديّة داخلة تحت حيّز الأمر ، بخلاف القول بالطبائع فإنّ الخصوصيّات من لوازم الوجود لا دخل لها بالمأمور به. وهذا بخلاف الفرد في المقام ، فإنّ المراد به الوجود الصرف فهو غير مبنيّ عليها كما أفاد صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

وكيف كان ، ففي مثل الصلاة والصوم لا يفرق بين القول بالدفعة والفرد أصلا.

نعم ، في مثل الإكرام ـ مثلا ـ يتحقّق الفرق بين القولين فيما لو أكرمه بإكرامات عديدة دفعة واحدة ، فعلى القول بالمرّة لم يتحقّق الامتثال لعدم تحقّقها ، بخلافه على القول بالدفعة.

وينبغي أن يعلم أنّ مثل الأمر الذي ينحلّ بانحلال الأفراد مثل قوله : «إذا دخل الوقت فقد وجب الطهور والصلاة» مثلا هو خارج عن محلّ النزاع كلّية ، إذ هو ليس معناه : أنّ الأمر للتكرار ، بل الأمر الكلّي ينحلّ إلى أفراده.

وكيف كان ، فلا دلالة للأمر على المرّة ، كما لا دلالة لها على التكرار ، وإنّما تدلّ على طلب الطبيعة ؛ وذلك لأنّ الدلالة المدّعاة إمّا أن تدّعى من مادّة الصيغة أو هيئتها ، وكلّ منهما غير تامّ.

أمّا المادّة : فلأنّها مشتركة بين صيغة الأمر وبقيّة المشتقّات ، ولو دلّت على وحدة أو تكرار لدلّت عليه في الجميع ، مع أنّه لم يدّع ذلك أحد أصلا.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٠١ ـ ١٠٢.

٢٧٩

وأمّا الهيئة : فلأنّه لم يدّع أحد وضعها لغير ما مر من المذاهب التي مرّ ذكرها من كونها موضوعة للتحريك أو لإيقاع النسبة أو لإبراز الاعتبار وغير ذلك ، ولم يذكر أحد دلالتها على مرّة أو تكرار ، فهي لطلب الطبيعة ليس إلّا.

ولو فرض حصول الشكّ في دلالتها على المرّة أو التكرار فالمرجع في بيان الوظيفة هي الاصول العمليّة أو اللفظيّة ، فحيث يشكّ المكلّف في أنّ المطلوب هو الفرد بشرط الوحدة أو التكرار ، فالأصل اللفظي لو كان للدليل إطلاق يقتضي عدم تقيّد المأمور به بالوحدة وعدم تقيده بالأكثر أيضا ، فيجوز له الاقتصار على الفرد ، كما يجوز له الزيادة والإتيان بالأفراد المتعدّدة دفعة. ولو لم يكن للدليل إطلاق فالأصل العملي وهو البراءة أيضا يقتضي ذلك حرفا بحرف. وإذا كان للواجب أفراد طولية وأتى بفرد جامع لشرائط المأمور به فقد سقط الأمر ، فلا أمر حينئذ حتّى يكون إتيانه بها ثانيا امتثالا لذلك الأمر. وإذا أتى به غير جامع للشرائط فالأمر لم يسقط وهو داع إلى متعلّقه ، ولكن ليس هذا من التكرار في شيء.

وما ذكره صاحب الكفاية (١) من جواز تبديل الامتثال حيث يكون الفرد الثاني أوفى للغرض لم يعلم وجهه لنا ، إذ الذي تحت حيّز الأمر إنّما هو فعل المكلّف ، والغرض المترتّب عليه تمكّن المولى وقد حصل ، والغرض ـ وهو رفع العطش ـ ليس المكلّف مكلّفا بتحصيله حسب الفرض ، لأنّه يترتب على فعل الآمر وشربه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٣.

٢٨٠