غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

تشريعيّة فلا ، نعم ، الإرادة التكوينية من العبد لمصالحه ، ومن الله لمصالح المخلوق ؛ لأنّ الله كامل ليس فيه نقص كي يستكمل تعالى بخلقه ، بل إرادته لمصالحهم أيضا.

الثاني : ما ذكره (١) من انتهاء الطاعة والمعصية إلى الشقاوة والسعادة الذاتيّة أيضا. ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الذاتي لا يتخلّف ، وقد شاهدنا كثيرا كانوا عصاة فسقة ثمّ صاروا من أولياء الله تعالى وبالعكس ، ولو كانت الشقاوة والسعادة ذاتيتين لم يعقل الاختلاف ، بل نرى الشخص الواحد قد يطيع في هذا الآن ويعصي بعده بغير مهلة من دون زمان بينهما.

وقد وجّه بعض الأساطين (٢) من تلامذته كلامه (قدس‌سرهما) وقدّم على التوجيه مقدّمة هي : أنّ العوارض قسمان : عوارض مفارقة وهذه تحتاج إلى جعل مستقلّ بعد جعل المعروض ، وعوارض ملازمة وهي قسمان أيضا : ملازمة للماهية ، وملازمة للوجود ، وكلّ منهما لا تحتاج إلى جعل غير جعل المعروض. ثمّ طبّق هذه الكلّية على المقام ، فذكر : أنّ العلم من العوارض المفارقة ؛ ولهذا يحتاج إلى جعل يستند إليه ، بخلاف الاختيار فهو من الأعراض الملازمة ، فجعل الإنسان جعل له ، وحينئذ فهو من الذاتيات له ، وبما أنّ بقيّة المقدّمات من العلم والقدرة وغيرها مجعولة لله تعالى بجعل مستقلّ فاستند الفعل إلى الاختيار ، وهو من ملازمات النفس ، وإلى العلم والقدرة وهما من الله ، فهو معنى أمر بين الأمرين.

وهذا الكلام كما ترى غير تامّ كبرى وصغرى ونتيجة :

أمّا الكبرى : ففيها أوّلا : أنّ جعل العوارض الملازمة قسمين : عوارض الماهيّة وعوارض الوجود ، فلا يخفى ما فيه ؛ إذ الماهيّة بما هي ماهيّة ليس لها عوارض أصلا وإنّما تعرضها العوارض بلحاظ وجودها ولو ذهنا ، فليس عندنا عوارض للماهية في قبال عوارض الوجود.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) مقالات الأصول ١ : ٢١٢.

٢٤١

وثانيا : مع الغضّ عن هذا الإشكال فهل العرض الملازم ومعروضه وجودان أم لا؟ ولا ريب في كونهما وجودين ، فلا بدّ لهما من إيجادين ؛ إذ الوجود والإيجاد منتزعان من أمر واحد بلحاظين ، فلا يمكن أن يكون وجودان بإيجاد واحد أصلا ، فكيف يمكن جعلهما بجعل واحد؟

والمناقشة في الصغرى ـ مع غضّ النظر عمّا اورد على الكبرى ـ فبأنّ الاختيار الذي زعم أنّه عرض لازم هل المراد منه الاختيار بالقوّة وشأنا؟ فهو في جميع صفات الإنسان من العلم والقدرة والكتابة والضحك ، فلم عدّ العلم من العوارض المفارقة؟ وإن كان المراد الاختيار الفعلي فهو مفارق كغيره ، فأيّ معنى لجعله من الأعراض الملازمة مع انفكاكه عنه؟ كما في المجبور وكما في الطفل الصغير والمجنون وغيرهم.

وأمّا المناقشة في النتيجة فمع الغضّ عن جميع ما ذكرنا في الصغرى والكبرى نقول : إنّ جعل الاختيار بجعل الإنسان وجعل الإنسان وخلقه مستند إلى الله تعالى ، وبقيّة المقدّمات من العلم والقدرة أيضا مجعولة له ، فالفعل بجميع مقدّماته مستند إلى الله تعالى فلزم الجبر ، فأين الأمر بين الأمرين؟ وقد اتّضح لك بما قدّمناه معنى الأمر بين الأمرين وأنّ الفعل بما أنّ إيجاده مستند إلى بناء العبد على إيجاده والبناء من أفعال النفس فهو مستند إلى الإنسان وبما أنّ إفاضة الوجود والقدرة حال العمل من الله تعالى يتحقّق معنى أمر بين الأمرين.

وذلك كلّه ببركة ما ورد إلينا من الأخبار عن أئمّتنا ، وهذا هو شاهد إمامتهم وكونهم ممدودين باليد الغيبيّة ؛ إذ هذه الأمور دقيقة وكلّ من خاض فيها ذهب إلى الجبر أو التفويض إلّا هم ـ سلام الله عليهم ـ فقد ورد عنهم ما مضمونه : إنّ راويا سأل الإمام عليه‌السلام هل المكلّف يعمل العمل بنفسه من غير احتياج إلى الله؟ فقال الإمام : «هو أعجز من ذلك» فقال السائل : فهل يفعل الله ذلك العمل؟ فقال عليه‌السلام :

٢٤٢

«الله أعدل من أن يعاقب على فعل يجبر العبد عليه» (١) إلى آخر الرواية المثبتة لكون الأفعال التي يفعلها العبيد أمر بين الأمرين.

وقد ظهر بطلان القول بالتفويض أيضا ، فإنّ الممكن كما يحتاج في وجوده إلى مؤثّر كذلك يحتاج في بقائه إلى المؤثّر أيضا ، فالإنسان مفتقر في كلّ آن من آنات وجوده إلى أن يفيض الله عليه الوجود والقدرة والفعل مستند إليهما وإلى بنائه الذي هو فعل من أفعال نفسه ، فثبت ما ذكرنا من كون الفعل أمرا بين الجبر والتفويض. هذا تمام الكلام في هذه المسألة العويصة.

بقي الكلام في أمرين لا بأس بالتنبيه عليهما :

أحدهما : أنّ ما ذكرناه من كون فعل العبد أمرا بين الأمرين ، إذ أنّه مستند إلى إرادة العبد بمعنى عزمه وإعمال قدرته في العمل وبنائه وهذه فعل من أفعال العبد وبما أنّ الله تعالى هو الذي يفيض عليه الوجود والقدرة آناً فآنا فالعمل منسوب إليه ، فهذا الذي ذكرناه هو مدلول قول المصلّي في صلاته : «بحول الله وقوّته أقوم وأقعد» فإنّه نسب الفعل إلى نفسه حيث يقول : «أقوم وأقعد» إلّا أنّ هذا العمل هو بحول الله ، إذ لو لا إفاضته الوجود والقدرة آناً فآنا لا يستطيع العمل.

وأمّا قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٢) فقد قال الاستاذ الخوئي في مجلس بحثه الموقّر : إنّ المجموع من المستثنى والمستثنى منه مدخول للنفي ، والمعنى : لا تقولنّ إنّي فاعل ذلك غدا إلّا أن يشاء الله خلافه ، بل علّق نفس الفعل الذي تريد أن تفعله على المشيئة ؛ إذ نفس الفعل ليس مفوّضا إليك والله قادر على منعك عنه ، بل نفس الفعل محتاج لمقدّمات إعدادية من إفاضة الوجود والقدرة وغيرهما من مقدّمات العمل.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١٤١ ـ ١٤٢ ، الحديث ٤٣.

(٢) الكهف : ٢٣ ـ ٢٤.

٢٤٣

الثاني : أنّ ما ورد من الحديث القدسي من قوله مضمونا : «إنّ مشيئة العبد بمشيئة الله تعالى ، فالله أولى بحسنات العبد منه والعبد أولى بسيّئاته من الله» (١) فإنّ هذا الحديث القدسي بظاهره ربما يورد عليه : أنّه إن كان العمل لله فلا أولوية وإن كان للعبد فلا أولويّة وإن كان أمرا بين الأمرين فلا أولويّة أيضا ، فما معنى هذه الأولويّة المثبتة؟

والجواب : أنّ ما ذكروا وإن كان صحيحا دقّة ، إلّا أنّ العرف يفرّق في ذلك بين السيّئات والحسنات ، بيان ذلك يتّضح بمثال عرفي نذكره لك : لو أنّ مولى سلّم إلى عبده مالا وأرشده إلى طريق التجارة وحذّره من القمار وما يتلف المال ، فذهب العبد فتاجر بتلك الأموال فربح ربحا عظيما ، فإنّه يقال : إنّ هذا الربح ببركة مولاه العرفي الذي أرشده ودفع إليه المال ، فهو أولى بأن ينسب إليه العمل من نفس العبد. ولو أنّ العبد لعب بها قمارا وكان المولى يعلم ذلك مع ذلك ينسب اللوم إلى ذلك العبد فيكون أولى بسيّئاته عرفا من سيده. وهكذا في الله تعالى عينا حرفا بحرف ، بل أولى كما لا يخفى على اولي البصائر ؛ إذ جميع النعم من الله ، بخلاف المولى العرفي ، فافهم.

بقي الكلام في معنى روايتين :

إحداهما : «الناس معادن كمعادن الذهب» وقد رواها الصدوق قدس‌سره في توحيده (٢). والظاهر من معناها : أنّ الناس يختلفون في القرب إلى المعاصي والبعد عنها ، فمن تربّى في دار لا يرى فيها غير الطاعات الصادرة من أبويه الصالحين أقرب إلى الطاعة ممّن تربّى في دار لا يرى فيها غير الفسق والفجور ، فإنّه أقرب إلى الفسق والفجور من الأولى ، وهذا أمر معلوم بالوجدان وليس له مدخليّة في كون الفعل الذي يفعله مجبورا عليه.

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٥٢ ، الحديث ٦ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١٤٣ ، الحديث ٤٦.

(٢) لم نعثر عليه في التوحيد نعم رواها في الفقيه ٤ : ٣٨٠ ، الرقم ٥٨٢١.

٢٤٤

وبالجملة ، فمدّعانا كون هذه الأفعال صادرة بالإرادة والعزم والاختيار وليس العبد مجبورا عليها ، وهذا

لا يضرّ بكون بعض مقدّمات الطاعة أو المعصية أمرا غير اختياريّ ، بل أمر قسريّ ـ كما ذكرنا ـ وإن أمكن نادرا التخلّف كما في كثير من أولاد الصلحاء صاروا في الفسق الغير المتناهي وبالعكس ، إلّا أنّ النوع غالبا كما ذكرناه ، فإنّ الأوّل أقرب إلى الصلاح من الثاني والثاني أقرب إلى الفسق أو الفجور من الأول.

وبالجملة ، فكون الناس مختلفين لا يضرّ بمدّعانا أصلا كاختلافهم في الملكات النفسيّة من البخل والكرم والشجاعة والجبن وغيرهما.

الثانية : ما ورد من قولهم : «السعيد سعيد وهو في بطن أمّه والشقيّ شقيّ وهو في بطن أمّه» (١) والظاهر من معناها : إن قلنا بعالم الذرّ وإنّ من أطاع في عالم الذرّ أو عصى فيه فهو في هذا العالم يجري على منوال ذلك العالم ، فهو سعيد في بطن أمّه وشقي في بطنها ، لمسبوقيّته في ذلك العالم ومعرفة حاله. وإن لم نقل بذلك فهو بما أنّه عالم بعواقب العبد من أنّه سعيد فهو سعيد في بطن أمّه ، والشقيّ أيضا كذلك ، فهو مكتوب في ديوان السعداء لعلمه تعالى بنتيجة أمره ، وكذلك الشقيّ. وهذه الكتابة ليست هي العلّة في سعادته وشقاوته ، وإنّما هي بما أنّها انكشفت لمن لا يخفى عليه شيء.

وبالجملة ، فالسعادة والشقاوة ليستا من الصفات الذاتيّة لهذا المخلوق ؛ ولذا قد يتخلّفان معا كما في المجنون من أوّل بلوغه إلى آخر عمره أو الطفل المتوفّى ، فهذا لا يتّصف بكلّ منهما أصلا ، فافهم.

__________________

(١) التوحيد : ٣٥٦ ، الحديث ٣.

٢٤٥

وقد ظهر بما ذكرنا بطلان ما ذكره الآخوند قدس‌سره (١) من أنّ العمل الذي يصنعه العبد مستند إلى اختياره والاختيار مستند إلى السعادة أو الشقاوة الذاتيين والذاتيّ لا يعلّل ، فإنّ السعادة والشقاوة وصفان ينتزعان من الطاعة وهي الإتيان بالمأمور به والمعصية وهي ترك الإتيان بذلك ، فأين هما من الذاتيّ الذي لا يعلّل وهو الجنس والفصل ، وهما من العوارض.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٩ ـ ٩٠.

٢٤٦

الكلام في هيئة «افعل»

قد ذكر بعضهم للهيئة معان أنهاها إلى خمسة عشر (١) ، وربما زاد بعضهم عليها (٢). وقد وقع الكلام في أنّها حقيقة في أيّها أو مجاز في أيّها ، أو أنّها مشتركة بينها اشتراكا لفظيّا ، أو بين بعضها ومجاز في الباقي.

وقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) ، أنّها مستعملة في الطلب وحقيقة فيه ـ يعني في إنشاء الطلب ـ وأنّها في جميع تلك الأمثلة مستعملة في إنشاء الطلب ، إلّا أنّ الداعي لذلك الإنشاء قد يكون هو الطلب الحقيقي وقد يكون هو التعجيز والسخرية وغيرهما ، فهي مستعملة في إنشاء الطلب في الجميع فهي حقيقة ، لاستعمالها في معنى واحد وإن اختلفت الدواعي. ثمّ ذكر أنّه لو لم يقل بذلك فلا أقلّ من القول بأنّه مستعمل في الجميع في إنشاء الطلب ، إلّا أنّه حقيقة حيث يكون الداعي هو الطلب الحقيقي ومجاز حيث يكون الداعي غيره (*).

__________________

(١) ذكرها العلّامة في نهاية الوصول (مخطوط) : ٦٤.

(٢) كما في مفاتيح الاصول حيث عدّ خمسة وعشرين من معانيها وقال بعد تعداد معانيها : ولا بعد في إرجاع بعضها إلى بعض ومثله في هداية المسترشدين ١ : ٥٩٦.

(٣) كفاية الاصول : ٩١.

(*) هذا ما ذكره في الدورة اللاحقة :

ذكر صاحب الكفاية [: ٩٢] : أنّ الصيغة حقيقة في الوجوب ، وقد استدلّ على ذلك بالتبادر وأيّده بعدم صحّة الاعتذار في مخالفتها باحتمال إرادة الندب وذكر أنّ كثرة استعمالها في الندب وإن كان محقّقا ، إلّا أنّه ليس أكثر من استعمالها في الوجوب ، مع أنّه مع القرينة ولا تضرّ بالحقيقة ، وقايسه بصيغ العموم المستعملة في الخصوص.

ولا يخفى أنّ التبادر وإن كان صحيحا ، إلّا أنّ كونه من حاقّ لفظ الصيغة تحتاج إلى إثبات ، بل قد يكون من جهة حكم العقل كما سيأتي. كما أنّ ما ذكره مؤيّدا من عدم صحّة

٢٤٧

وقد ذكرنا فيما تقدّم : أنّ معنى الطلب هو عبارة عن التصدّي نحو المراد بنحو من أنحاء التصدّي ومثّلنا لذلك بطالب العلم وطالب الضالّة حيث لا يصدقان بمجرّد الشوق ما لم يتصدّ لذلك ، وبما أنّ التصدّي أنواع ، فإذا تعلّق غرض المولى بصدور فعل العبد باختياره فتصدّيه نحوه إنّما يكون بإنشاء الصيغة ، فيقول له : «افعل» فيكون قول : «افعل» من المولى محقّقة لمصداق من مصاديق الطلب ، لا أنّها ينشأ بها الطلب ، ضرورة أنّ الطلب عنوان واقعي غير قابل لأن ينشأ باللفظ ؛ إذ التصدّي هو أمر واقعي يكون نفس النطق بالصيغة محقّقا له كما يحقّقه اشتغال طالب العلم وتفحّص طالب الضالّة.

ومن هنا ظهر : أنّ ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) من أنّ الصيغة موضوعة لإنشاء النسبة الإيقاعيّة ، وما ذكره بعض الأساطين (٢) من أنّها للبعث النسبي ، في غير محلّه ؛ إذ إنّها محقّقة بنفسها للبعث ولإنشاء النسبة ، لا أنّها موضوعة لذلك ؛ إذ بها يتحقّق فرد من أفراد التصدّي والبعث والإنشاء.

وبالجملة ، فليست الصيغة موضوعة لذلك وإنّما وضعت الصيغة لإبراز الاعتبار النفساني الذي اعتبره المولى ، فإنّه اعتبر في نفسه كون العمل في ذمّة المكلّف ،

__________________

ـ الاعتذار عند العقلاء لا يصلح مؤيّدا ؛ لأنّه لازم أعمّ ، لإمكان استفادة الوجوب من حكم العقل.

نعم ، ما ذكره في كثرة الاستعمال صحيح وحسن ، إلّا أنّ مقايسته بالعموم والخصوص غير تامّة ؛ لأنّ للعموم ألفاظ مختلفة موضوعا كلّ واحد منها بوضع يغاير وضع الآخر ، ولم يثبت استعمال كلّ لفظ منها في الخصوص استعمالا كثيرا حتّى يقال بأنّ كثرة الاستعمال مع القرينة لا يضرّ بالحقيقة ، مضافا إلى ما ذكره هو من أنّ الخصوص ليس استعماله مجاز حتّى يصحّ المقايسة.

(١) أجود التقريرات ١ : ١٣٤.

(٢) نهاية الأفكار ١ : ١٧٨.

٢٤٨

نظير «الدين» الذي اعتبره العقلاء ، وقد اطلق على بعض الواجبات لفظ «الدين» في بعض الأخبار ، فتكون الصيغة موضوعة لإبراز ذلك الاعتبار النفساني الذي اعتبره المولى في ذمّة المكلّف.

ودعوى كونها حقيقة في إبراز الشوق ـ كما عن بعض (١) ـ يدفعها استعمالها في الواجبات المشروطة التي لم يتحقّق شرطها ، فلا شوق في المقام لتبرزه. ودعوى وجود الشوق فعلا يخرجه عن المشروط الذي هو محلّ الفرض والنقض إلى المعلّق. مضافا إلى أنّ الظاهر أنّ الحكم أمر قابل للوضع والرفع شرعا والشوق ليس قابلا لذلك أصلا ؛ إذ هو أمر واقعي.

وبالجملة ، فالصيغة موضوعة لإبراز ذلك الاعتبار النفساني ، فاستعمالها في إبرازه حقيقة واستعمالها في إبراز غيره من السخرية وشبهها مجاز ، وفي جميع المعاني التي ذكرت للصيغة ـ من التهديد والتعجيز والتسخير وغيرها ـ استعمالها مجازيّ ، لعدم تحقّق استعمالها في معناها ، وهو إبراز اعتبار شيء في ذمّة المكلّف. مضافا إلى استحالة الجامع بين هذا الاعتبار والتهديد.

ثمّ إنّ الكلام يقع في بيان معنى الوجوب والاستحباب ليظهر أنّ ذلك الاعتبار الذي وضعت الصيغة لإبرازه واف بمعنى الوجوب أو الاستحباب؟

فنقول : ذكر صاحب المعالم قدس‌سره (٢) : أنّ الوجوب عبارة عن طلب شيء والمنع عن تركه وأنّ الاستحباب طلب شيء والإذن في تركه. وقد أورد عليه المتأخّرون (٣) :

__________________

(١) لم نقف عليه.

(٢) يستفاد ذلك من تضاعيف كلماته ، انظر المعالم : ٤٩ ، ٦٦ ، ٨٩ ، ونسب هذا المعنى في أجود التقريرات ١ : ١٤٣ ، إلى متقدّمي الأصحاب.

(٣) مثل المحقّق الأصفهاني في الفصول : ٦٥ ، وأخيه المحقّق في هداية المسترشدين ١ : ٦٠٧ ، والكلباسي في الإشارات ، الورقة ٤٣.

٢٤٩

أنّ الوجوب والاستحباب أمران بسيطان ، فما معنى التركيب المذكور؟ واجيب عنه بأنّه وإن كان بسيطا إلّا أنّهم في مقام تحديد ذلك الأمر البسيط حدّدوه بلوازمه ، لا أنّه مركّب حقيقة من هذين الأمرين ، بل الوجوب هو الطلب الأكيد الحتمي ، والاستحباب هو الطلب الضعيف ، وقد ذكرنا أنّ الصيغة ليست موضوعة للطلب لتقع الكلام في أنّه الطلب الأكيد أو مطلق الطلب. مضافا إلى أنّ معنى الطلب هو التصدّي نحو المطلوب ، وهو أمر واقعي لا ينشأ بالصيغة كما مرّ. والشوق وإن كان قابلا للشدّة والضعف ، إلّا أنّ الصيغة لم توضع له.

وقد ذكر الميرزا قدس‌سره (١) بأنّ الفرق بينهما بالمبادئ ، فالوجوب ما كانت مصلحته ملزمة بخلاف الاستحباب ، فإنّ مصلحته غير ملزمة. ولا يخفى أنّ المنكر للمصالح والمفاسد ـ وهو الأشعري ـ عنده أيضا وجوب واستحباب. مضافا إلى أنّ الأوامر الظاهرية هو يعترف بعدم المصالح في متعلّقاتها ، فما معنى الوجوب الظاهري والاستحباب الظاهري؟ مضافا إلى الأوامر الجزافيّة من الموالي العرفيّة ، ففي جميع هذه الوجوب والاستحباب متحقّقان ولا مصلحة في المتعلّق وإنّما هي في نفس الأمر.

والأظهر أن يقال : إنّ الصيغة إنّما وضعت كما ذكرنا لإبراز ذلك الاعتبار النفساني ، وحينئذ فإذا اقترن ذلك الاعتبار بالمرخّص في تركه ثبت الاستحباب ، وإن لم يتحقّق ذلك المرخّص يكون هو الوجوب. فالصيغة المبرزة لاعتبار شيء في ذمّة المكلّف إن اقترنت بالمرخّص في الترك فهي مثبتة للاستحباب ، وإن لم تقترن بالمرخّص تدلّ على الوجوب ؛ إذ الوجوب ليس إلّا عبارة عن الإلزام وثبوت شيء في ذمّة المكلّف.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٤.

٢٥٠

وبالجملة ، فالصيغة إنّما تبرز ذلك الاعتبار النفساني ، فإذا اقترن إبراز ذلك الاعتبار بعدم المرخّص في الترك ينتزع الوجوب حينئذ ، وإذا اقترن إبراز ذلك الاعتبار بالمرخّص في الترك ينتزع الاستحباب ، فكلّ من الوجوب والاستحباب خارجان عن معنى الصيغة ، إلّا أنّ الصيغة دالّة عليهما بضميمة عدم الترخيص أو الترخيص.

وقد ظهر بما ذكرنا : أنّ الدلالة على الوجوب ليس بحكم العقل ـ كما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ـ بل بالدلالة من نفس الصيغة بضميمة عدم ذكر المرخّص.

ويترتّب على ما ذكرنا من معنى الوجوب امور :

أحدها : أنّه لا مجال لما ذكره صاحب المعالم (٢) من كونها حقيقة في الوجوب ومجازا مشهورا في الندب وما يتفرّع على ذلك ، ولا مجال لاحتمال كونها مشتركة اشتراكا لفظيّا بين الوجوب والندب أو معنويا ، فإنّ ذلك كلّه منفيّ بما ذكرنا.

وثانيها : أنّه لا مجال لما ذكره في الكفاية (٣) من كون الصيغة حقيقة في الوجوب أو أنّها منصرفة إليه.

ثالثها : أنّه إذا استعملت الصيغة في اعتبار أشياء بنحو المجموع كما في قوله : «لا صلاة إلّا بأذان وإقامة» فورود الترخيص بترك الأذان يكون ترخيصا في مخالفة ذلك الاعتبار المتعلّق بالمجموع ؛ إذ الترخيص في ترك بعض ما تعلّق الاعتبار به كاشف عن أنّ ذلك الاعتبار الواحد لم يقترن بعدم المرخّص بل اقترن به ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٤.

(٢) المعالم الدين : ٤٦ و ٥٣.

(٣) كفاية الاصول : ٩٢.

٢٥١

فيجوز مخالفته في جميع ما اعتبر بنحو المجموع. وهذا بخلاف ما إذا تعلّق الاعتبار بأشياء بنحو الاستغراق ، فإنّه ينحلّ في الحقيقة إلى اعتبارات متعدّدة ، فورود المرخّص في بعضها لا ينافي عدم ورود المرخّص في الثاني ، بل يبقى على وجوبه. ولا مجال لدعوى استعمال الصيغة في القدر الجامع بين الوجوب والاستحباب وغيرها من كلمات القوم ، فافهم.

في الجمل الخبريّة

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وغيره (٢) من المحقّقين : أنّ الجملة الخبرية الفعليّة مستعملة في معنى واحد ، غاية الأمر أنّ الداعي للتكلّم بها قد يكون قصد الإخبار فتكون خبريّة محتملة للصدق والكذب ، وقد يكون الداعي الطلب بها وبيان أنّ الطالب لا يرضى بتركه فتكون أظهر في الطلب من صيغة «افعل» لاقترانه بما يدلّ على أنّه لا يرضى بتركه وأنّه أخبر بوقوعه إيذانا بأنّه لا يرضى بتركه ، وحينئذ فلا تتّصف بصدق ولا بكذب ، نظير الكناية التي يكون صدقها وكذبها بملزومها لا بالمدلول اللفظي الذي هو كثرة الرماد في قولك : «كثير الرماد» بل بالكرم وإن لم يكن له رماد يتحقّق صدقه ، وبالبخل وإن كان له رماد يتحقّق كذبه.

ثمّ تنزّل فزعم أن لو قلنا بالمجازيّة فهذه المناسبة ـ وهي أنّ المتكلّم لا يرضى إلّا بوجوده ـ تعيّن الوجوب دون بقيّة المعاني المجازيّة.

ولا يخفى عليك : أنّه بعد ما ذكرنا أنّ الوجوب عنوان ينتزع من إبراز اعتبار

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) انظر بدائع الأفكار : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، أجود التقريرات ١ : ١٣٤.

٢٥٢

المولى كون شيء في ذمّة العبد يظهر لك مغايرة معنى الجملة الخبرية والإنشائيّة وأنّ الأولى موضوعة لقصد الحكاية عن متعلّق له وجود خارجا يتحقّق الصدق والكذب بلحاظه ، بخلاف الثانية فإنّه ليس وراء اعتبار المولى شيء آخر ، فهما معنيان ، فلا تكون الجملة الفعليّة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب مستعملة في معناها الخبري بداع الطلب ، بل هي مستعملة في معنى آخر ، فلا بدّ إمّا من القول بالاشتراك اللفظي أو المجاز بالقرينة. والظاهر الثاني ، فإنّها لا ينكر ظهورها في قصد الإخبار فاستعمالها في الإنشاء يلزم أن يكون بالقرينة ، وحينئذ فتكون دلالتها على إبراز اعتبار المولى كون شيء في ذمّة المكلّف كدلالة الصيغة عينا بلا تفاوت ، إلّا أنّه مجازي.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا من تغاير المعنى : أنّ الجملة الاسمية لا تصلح للإنشاء يعني إنشاء الطلب ، فلا يقال : «زيد قائم» في مقام طلب قيامه ، بل يختصّ ذلك بالمضارع والماضي الواقع جوابا للشرط ، ولو كانت هذه الخصوصيّة هي المعيّنة لهذا المعنى المجازي لصحّ في الجملة الاسمية والفعل الماضي ... (١) لوجودها فيهما كالمضارع.

__________________

(١) هنا كلمة غير واضحة.

٢٥٣
٢٥٤

في التعبديّة والتوصّلية

قد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : أنّ الوجوب التوصّلي ما كان الغرض يحصل منه بمجرّد حصول الواجب ، وأنّ الوجوب التعبّدي ما لا يحصل الغرض منه إلّا بالإتيان بالواجب متقرّبا به إلى الله تعالى.

والظاهر أنّ في كلامه قدس‌سره تسامحا ، فإنّ المولى إذا تعلّق غرضه بفعل عبده الصادر باختياره يبرز اعتباره كون الفعل في عهدة المكلّف وذمّته ، ويترتّب على لفظه إبراز الاعتبار وجعل الداعي للمكلّف لإتيانه وامتثاله ، وهذا الأثر هو الذي يترتّب على الوجوب ، وهذا لا يفرق فيه بين التعبديّة والتوصّليّة ، إذ إبراز الاعتبار وجعل الداعي مشترك بينهما.

نعم ، الغرض المقصود من الواجب مختلف فقد يحصل بمجرّد إتيان الفعل وإن لم يكن بقصد القربة وهو التوصّلي ، وقد لا يحصل غرض المولى الذي دعاه إلى الاعتبار إلّا بإتيان الفعل مضافا إلى الله تعالى وهو التعبّدي.

ثمّ إنّ المعنى المعروف للتوصّلي والتعبّدي هو ما ذكرناه. وقد يطلق التعبّدي على العمل الذي يعتبر صدوره من المكلّف مباشرة مختارا بصورة محلّلة ، ولو فقد واحد من هذه الثلاثة فهو التوصّلي ، وبين هذا المعنى والمعنى المتقدّم عموم من وجه ؛

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٤.

٢٥٥

إذ قد يتحقّق التعبّدي بالمعنى الأوّل دون الثاني كما في قضاء الوليّ عن الميّت عباداته ، فإنّها تعبّديّة بالمعنى الأوّل لافتقارها إلى القربة دون الثاني ، لسقوطها بتبرّع الغير أو الاستيجار. وقد يتحقّق التعبّديّة بالمعنى الثاني دون الأوّل كما في ردّ السلام ، فإنّه لا يعتبر فيه القربة ، ويعتبر فيه أن يكون من المسلّم عليه مختارا محلّلا.

وكيف كان ، فلو علم أنّ الواجب تعبّدي بالمعنى الأوّل أو الثاني ـ كما في العناوين القصديّة كالتعظيم والتحقير وكما في الصلاة والصوم ـ أو توصّلي بالأوّل أو الثاني فحكمه واضح. ولو شكّ في ذلك فهل مقتضى الأصل التوصّلية أو التعبّدية؟ وهل هناك دليل لفظي يعيّن أحد الأمرين أم لا؟ وعلى تقدير عدم الدليل اللفظي فهل الأصل العملي يقتضي التوصّلية أو التعبّدية أو لا يقتضي شيئا منهما؟ ويقع الكلام في جهات :

الاولى : هل يقتضي التكليف صدور الفعل عن اختيار أم يكفي صدوره وإن لم يكن عن اختيار؟

ربّما يقال بأنّ مادّة الفعل مثل «ضرب فلان» منصرفة إلى ما لو كان الضرب اختياريا له ، أو أنّ الضرب الذي هو المصدر منصرف إلى الضرب الاختياري ، وهذه المادّة هي نفس المادّة المتحقّقة في ضمن فعل الأمر ، فيكون قوله : «اضرب» مثلا منصرفا إلى الضرب الاختياري الصادر بإرادة واختيار. وربّما يدّعى الانصراف من الهيئة ، بدعوى : أنّ هيئة فعل الأمر منصرفة إلى الفعل الاختياري الصادر بإرادة واختيار.

ولا يخفى عليك ما في هذين الدعويين ؛ إذ بعد استعمال الموادّ والهيئات في الفعل الاختياري تارة وفي غيره اخرى كما في قولنا : «مات زيد» و «وقع من السطح» وكذا قولنا : «اضرب زيدا» في غير الفعل الاختياري فأيّ سبب للانصراف؟ والانصراف إنّما يكون إمّا لضعف الفرد بحيث لا يعدّه العرف فردا له كما في مثل «دقّ الباب» حيث إنّه لضعف كونه تصرّفا انصرف التصرّف في مال الغير المنهيّ عنه إلى

٢٥٦

غيره من أفراد التصرّفات ، أو يكون منشأ الانصراف تكامل الفرد في طرف العلوّ بحيث لا يعدّ من أفراده أصلا عند العرف وإن كان من أفراده حقيقة كما في انصراف «الحيوان الغير المأكول اللحم» عن الإنسان ، والمفروض انتفاء كلّ من الأمرين في المقام ؛ إذ الفعل الاختياري فرد من أفراد الضرب كالاضطراري بلا رجحان لأحدهما على الآخر أصلا.

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وجهين لظهور الفعل المطلوب في الاختياري :

أحدهما : أنّ ملاك طلب المولى الحسن الفاعلي لا الحسن الفعلي وإن كان الفعل حسنا ذا مصلحة ذاتية ، إلّا أنّ ملاك أمره هو الحسن الفاعلي ، والحسن الفاعلي إنّما يتحقّق بإتيان الفعل عن إرادة واختيار متقرّبا به إلى الله تعالى.

والجواب أوّلا : أنّ هذه الدعوى بلا دليل ؛ إذ أيّ دليل دلّ على أنّ ملاك الأمر هو الحسن الفاعلي لا الفعلي؟ بل الظاهر تبعيّته للحسن الذاتي في الفعل ، للزوم تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في نفس الفعل.

وثانيا : أنّ هذا يقتضي أن لا يمتثل الأمر في التوصّليّات إلّا باقتران العمل بالقربة ؛ إذ صرف إتيانه باختياره لا يقتضي حسنه الفاعلي ، وحينئذ فيكون سدّا للأوامر التوصّليّة.

الثاني : أنّ الأمر بما أنّه باعث للمكلّف وموجد لداعي الامتثال ، ومعلوم أنّ البعث إنّما يكون نحو أمر قابل للبعث وهو الأمر المقدور ، فنفس الأمر بما أنّه طلب وبعث نحو الفعل وتحريك لعضلات العبد نحو المطلوب بإرادته واختياره ، ومعلوم أنّ جعل الداعي إنّما يكون لخصوص الفعل الصادر بإرادة واختيار ، وإلّا فالفعل الصادر بدون إرادة واختيار لا حاجة إلى جعل الداعي له ، فالطلب إنّما يتوجّه نحو الفعل الاختياري ، فهو بنفسه ـ يعني الأمر ـ يقتضي كون العمل مقدورا أو بإرادة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٣ ـ ١٥٤.

٢٥٧

واختيار ، فنفس الأمر يقتضي القدرة في متعلّقه وكونه بالإرادة والاختيار ، فالطلب إنّما يتوجّه نحو خصوص ما كان صادرا بإرادة واختيار ، فإجزاء غيره عنه يحتاج إلى دليل ، فإنّ إطلاق الأمر يقتضي إتيان متعلّقه سواء أتى بغيره أم لا ، ولو لم يكن له إطلاق فالاستصحاب يقتضي بقاء الشغل اليقيني إلى الفراغ اليقيني ، ولم يتحقّق الفراغ اليقيني في المقام بإتيان ما هو خارج عن الإرادة.

والجواب عن ذلك : أنّ ما ذكر تامّ على ما بنى الميرزا عليه مبناه من أنّ مفاد الأمر إنشاء الطلب والبعث والنسبة الإيقاعيّة.

وأمّا على ما ذكرناه سابقا : من أنّ مفاد الأمر ليس إلّا إظهار اعتبار المادّة في ذمّة المكلّف فغير تامّ ؛ إذ بعد فرض كون الطبيعة ذات أفراد مقدورة وأفراد غير مقدورة وكون الجامع بين الأفراد هو الذي يترتّب عليه غرض المولى ، فلا موجب لأمر المولى بخصوص المقدور ، وإنّما يأمر بالجامع ، فإنّ الجامع بين المقدور وغيره مقدور قطعا ، والقدرة إنّما تعتبر في مقام الامتثال. نعم لا معنى لاعتبار المكلّف طبيعة كلّ أفرادها غير مقدورة ؛ إذ لا يترتّب على ذلك الاعتبار شيء أصلا ، لا لاعتبار القدرة في اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف. وهذا بخلاف ما إذا كانت الطبيعة مشتملة على المقدور وغيره وكان الجامع وافيا بالغرض المطلوب للمولى ، فإنّه لا وجه لاختصاص طلبه بخصوص المقدور ، ولا وجه أيضا للإهمال ؛ لاستحالة الإهمال في مقام الواقع ، فلا بدّ أن يأمر بالطبيعة ، وأثر هذا الأمر هو سقوطه لو صدر غير المقدور من المكلّف وكما إذا صدر بغير إرادة منه واختيار ، فإطلاق الدليل يقتضي الاكتفاء بمطلق الوجود بموجب تعلّقه بمطلق الطبيعة الغير المقيّدة بالقدرة ، ولو لم يكن إطلاق فالشكّ يكون في التكليف ؛ لأنّا نشكّ أنّه هل اعتبر أمر زائد على وجود أصل الطبيعة أم لم يعتبر؟ فالأصل عدم الاعتبار.

فتلخّص أنّ مقتضى الأصل اللفظي والعملي هو عدم اعتبار صدوره بإرادة واختيار. وهذا كلّه مبنيّ على أنّ القدرة من شرائط التكليف ويدلّ عليها الأمر

٢٥٨

بمنطوقه ؛ إذ لا يعقل البعث نحو غير المقدور. أو أنّها من شرائط تنجّز التكليف وأنّها إنّما تعتبر في موضوع التكليف عقلا. وبهذا المبنى يصحّ دعوى كفاية الملاك في مبحث الضدّ لو لم نقل بالترتّب ، وإلّا فالمأمور به هو خصوص المقدور ، فإجزاء غيره عنه بدعوى كونه واجدا للملاك إنّما يتمّ إذا احرز الملاك ، ولا يحرز الملاك إلّا إذا كان الأمر متوجّها نحو الطبيعة الجامعة بين المقدور وغيره ، وإلّا فمن أين يحرز وجود الملاك؟ وسيأتي في مبحث الضدّ توضيحه إن شاء الله تعالى.

الجهة الثانية : أنّ التكليف إذا توجّه نحو العبد ، فهل يقتضي صدوره منه بالمباشرة أم لا يقتضي ذلك؟

فنقول : إنّ قيام الغير بالعمل يتصوّر بصورتين :

إحداهما : أن يقوم بذلك العمل لا بقصد النيابة عمّن توجّه التكليف إليه ، كأن يتوجّه التكليف نحو زيد بالضرب فيضرب عمرو ، فمقتضى إطلاق الأمر المتوجّه لزيد بقاء متعلّقه فيدعو إلى متعلّقه ؛ إذ إنّ «اضرب» مطلقة سواء قام عمرو بالضرب أم لم يقم ، فإطلاقها يقتضي البقاء في ذمّة زيد ، ولو لم يكن لها إطلاق فالاستصحاب يقتضي البقاء في ذمّته ، فإنّه قبل أن يأتي عمرو بالضرب كانت ذمّة زيد مشغولة ، ومقتضى الاستصحاب بقاء الشغل لو جرى الاستصحاب في الأحكام الكلّية ، وإلّا فقاعدة «أنّ الشغل اليقيني محتاج إلى الفراغ اليقيني» يقتضي لزوم الإتيان به. ولو قام دليل في مثل الفرض على السقوط فلا يتصوّر إلّا بكون الواجب مشروطا بعدم إتيان غير زيد بالضرب ، وفي المقام لم يتحقّق شرط التكليف ، فإذا كان الشرط شرطا لحدوث التكليف فتخلّفه بعد ذلك كاشف عن عدم التكليف ، ولو كان شرطا لبقاء التكليف فتخلّفه كاشف عن عدم البقاء ، فلو شكّ في تخلّفه فالاستصحاب يقتضي البقاء للتكليف ، فافهم. أو بكون الوجوب كفائيا (١) وكلّ منهما خلاف إطلاق الأمر ، كما سيأتي.

__________________

(١) عطف على قوله : فلا يتصوّر إلّا بكون الواجب.

٢٥٩

الصورة الثانية : ما إذا قام عمرو بالعمل بقصد النيابة عن زيد ، فإن قلنا بمقالة الميرزا النائيني قدس‌سره : من أنّ الأمر يختصّ بالمقدور وأنّ القدرة شرط للتكليف فلا ريب في أنّ القاعدة تقتضي عدم السقوط ؛ إذ الأمر إنّما توجّه نحو الفعل المقدور وفعل الغير غير مقدور للمكلّف فإجزاؤه عن المأمور به يحتاج إلى دليل وإلّا فالأمر باق ؛ إذ لم يمتثل بعد ، وكفاية نيابة الغير تحتاج إلى دليل.

وإن لم نقل بما ذكره الميرزا قدس‌سره وقلنا بأنّ الأمر يتوجّه نحو مطلق الطبيعة بجامعها بين المقدور وغيره وأنّ القدرة معتبرة شرطا عقليّا في مقام الامتثال فإن كان الدليل لفظيّا مطلقا فلا ريب في أنّ مقتضى إطلاقه وإن كان عدم اعتبار القدرة فيه نظير الصدور بإرادة واختيار ، إلّا أنّ ظهور الأمر اللفظي بالمباشرة ممّا لا ينكر ، فيفارق الجهة الاولى ؛ إذ الصدور فيها كان مباشريا غير أنّه قهريّ ، أمّا في المقام فالمفروض قيام الغير به بقصد النيابة فلا مباشرة أصلا ، فمقتضى ظهور الدليل اللفظي اعتبار المباشرة. وإن لم يكن للدليل ظهور بالمباشرة ـ بأن كان الدليل مجملا لفظيّا أو كان إجماعا ـ فمقتضى الأصل العملي البراءة ؛ إذ اعتبار خصوص المباشرة مشكوك فتجري فيه أصالة البراءة من التكليف بهذه الخصوصيّة ، فافهم.

الجهة الثالثة : أنّه لو أتى المكلّف بتكليفه مباشرا مختارا في إتيانه غير مجبور عليه ولكنّه أتى به في ضمن فرد محرّم ، فتارة يكون الإتيان به ملازما للمحرّم ، واخرى يكون متّحدا معه ، ففي الصورة الاولى تبتني المسألة على مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي وأنّهما شيئان انضمّ أحدهما إلى الآخر فلا إشكال في سقوط التكليف ، لتحقّق متعلّقه. وإن قلنا بعدم جواز الاجتماع للاتّحاد والسريان فتكون داخلة في الصورة الثانية ـ وهي صورة كون الفرد المحرّم متّحدا مع الواجب ـ والحكم فيها عدم السقوط ؛ لأنّ الفرد المتّحد مع المحرّم لا أمر به قطعا ، فيبقى الأمر حينئذ غير ممتثل فإطلاقه حينئذ يقتضي الإتيان بمتعلّقه ولو لم يكن له

٢٦٠