غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

وبالجملة ، فالإرادة عبارة عن تلك الصفة النفسية المنبعثة عن ذلك التصوّر والتصديق بالفائدة وبقية المقدّمات ، فقد يكون ذلك الشيء المراد من الأشياء التي يكون تحقّقها في الخارج بفعل نفس المريد كما إذا أراد التمشّي ، وقد يكون من الأشياء التي يكون صدورها منوطا بشخص آخر غير نفس المريد ، أو أنّ إرادته تعلّقت بنحو يكون صدورها من غيره وإن أمكن صدورها من نفسه.

وهذه تارة تكون بنحو يكون مطلق صدورها من الغير وافيا بمصلحة المولى الآمر ، واخرى بنحو يكون صدورها بنحو الاختيار وافيا بالمصلحة ، فيأمر بها ويتصدّى لإيجادها بنفسه في الأوّل وبأمره في الباقي.

وحينئذ فقوله : «افعل» مثلا بما أنّه نوع تصدّ يكون مصداقا من مصاديق الطلب بما أنّه إبراز ، لا أنّه به ينشأ مفهوم الطلب كما ذكره الآخوند (١).

وبالجملة ، فمفهوم أحدهما غير مفهوم الآخر ، ضرورة عدم صدق الطلب على الإرادة الصرفة أصلا فهي متقدّمة عليه برتبة أو رتبتين ، كما سيأتي. فكيف يدّعي اتّحادهما مفهوما؟ مع أنّ أحدهما من الصفات النفسيّة والاخرى من الفعل ، إمّا العمل المباشري الذي يصدر من المولى أو أمره به ، وكلاهما من الأفعال الخارجيّة التي لا ربط للصفات النفسيّة بها أصلا.

وبما ذكرنا ظهر تباينهما مصداقا أيضا ، فإنّ مصداق الإرادة غير مصداق الطلب الذي هو التصدّي نحو المطلوب بأنحائه كما تقدّم ، فافهم.

بل يمكن أن يكون معنى الطلب أضيق ممّا ذكرنا ، بأن يكون هو التصدّي نحو المطلوب الذي يمكن حصوله وعدم حصوله نوعا وإن انضمّت إليه قرائن أو مقدّمات دالّة على الحصول كما في أمر الله أولياءه وملائكته ، أو عدم الحصول

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٤.

٢٢١

كما في أمر الله الكفّار والعصاة ، إلّا أنّ نوع أمره ممّا يمكن فيه الحصول بعده أو عدم الحصول بعده نوعا.

هذا تمام الكلام في الجهة الاولى ، وقد ظهر تباين الطلب والإرادة مفهوما ومصداقا.

الجهة الثانية : الكلام في مدلول الجمل الخبرية والصيغ الإنشائيّة

مدلول الجملة الخبريّة والصيغة الإنشائيّة ـ بضميمة ما ذكرنا ـ فيه أقوال ثلاثة :

الأوّل : ما ذهب إليه المشهور ، وهو أنّ الجملة الخبرية موضوعة لإثبات النسبة في الخارج يعني نفس الأمر ، والصيغة الإنشائيّة موضوعة لإيجاد معانيها في الخارج.

ولا يخفى أنّا قد ذكرنا أنّ الذي نفهمه من الجملة الخبرية هو كون المتكلّم بصدد إفهام المخاطب متعلّق خطابه.

وقد ذكرنا في باب الوضع : أنّ الوضع هو التعهّد والالتزام وأنّ التعهّد إنّما يكون طرفاه أمرين اختياريّين ؛ إذ لا معنى للتعهّد بأنّه «متى طلعت الشمس فالنهار موجود» فالتعهّد يكون منه بأنّه متى أراد إفهام قيام زيد لأحد أن يقول : زيد قائم.

فالمستفاد من الجملة الخبرية كون المخبر بها بصدد إفهام متعلّقها ، وأمّا أنّ متعلّقها واقع أم ليس بواقع؟ فليست الجملة دالّة على ذلك أصلا. واتّصافها بالصدق والكذب باعتبار أنّ لمتعلّقها خارجا وإلّا فهي لا تتّصف بالصدق والكذب إلّا باعتبار متعلّقها ، فإن اتّفق كون متعلّقها مطابقا لما أخبر به فهو صادق وإلّا فهو كاذب لا الجملة الخبرية ومفادها ، وأمّا إنّها تدلّ على ثبوت النسبة فهو فاسد ؛ إذ قول : «زيد قائم» لا يوجب ثبوت القيام له أصلا.

كما أنّ ما ذكروا من كون الجملة الإنشائيّة توجد معناها ، إن اريد أنّها توجدها في الخارج فمن المعلوم عدم تحقّق الإيجاد خارجا بها ، وإن اريد الإيجاد في مقام

٢٢٢

الاعتبار فمن المعلوم أنّ اللفظ لا يوجد ذلك الاعتبار ؛ إذ هو من الامور النفسيّة ، فكيف يوجده اللفظ في الخارج؟

نعم ، يكون اللفظ حينئذ كاشفا عن ذلك الاعتبار النفساني ، فهي مع الجملة الخبرية إلى هنا سواء في أنّ الخبرية كاشفة عن كون المتكلّم بصدد إفهام متعلّق إخباره والإنشائية كاشفة عن اعتباره النفساني ، غير أنّ الجملة الخبرية بما أنّ لمتعلّقها خارج تحكي عنه تتّصف بالصدق والكذب ، بخلافها فإنّ الجملة الإنشائية وإن كانت حاكية عن اعتباره النفساني ، إلّا أنّه على تقدير عدم الاعتبار خالف تعهّده والتزامه لا أنّه كاذب ، فافهم وتأمّل.

وهذا القول الذي ذكرناه في مفاد الجملة الخبرية والإنشائية هو ثاني الأقوال.

والقول الثالث : هو القول الذي ذهبت إليه الأشاعرة (١) وهو أنّ الجمل الخبرية موضوعة لإبراز الكلام النفسي ، والانشائية موضوعة لإبراز الطلب النفسي. ولو أنّهم اقتصروا على هذا لكان عين ما ذكرناه ، إلّا أنّهم زعموا أنّ الكلام النفسي والطلب كذلك من صفات النفس الحقيقيّة كالعلم واستشهدوا على ذلك بقول الشاعر : إنّ الكلام ... إلخ ، وبقول الرجل لصاحبه : إنّ في قلبي كلاما كثيرا لا يسعني بيانه. وسيأتي ذكر الأدلّة لهم وردّها.

فيقع الكلام في أنّه هل هناك صفة اخرى غير الشوق والإرادة ومقدّماتهما صفة تسمّى بالكلام النفسي أو الطلب النفسي ، أم ليس؟ وليعلم : أنّه على تقدير وجودها فلا تكون الجمل خبريّة وإنشائيّة موضوعة لتلك الصفات ، وإنّما تكون مبرزة لها ، فكونها موضوعة لذلك أمر مقطوع العدم ، إلّا أنّ الكلام في وجود صفة اخرى وعدمها ، وهو الجهة الثالثة من جهات البحث.

__________________

(١) راجع شرح المواقف ٨ : ٩٧ ـ ٩٩.

٢٢٣

الجهة الثالثة : في الكلام النفسي والطلب النفسي وعدمهما

ذهبت الأشاعرة (١) إلى ثبوت صفة حقيقيّة في المتكلّم غير العلم تسمّى بالكلام النفسي ، وأنّ الكلام اللفظي كاشف عنه كشف الفعل الخارجي عن تعلّق الإرادة به ، لا أنّ الكلام النفسي يكون مدلولا للكلام اللفظي كما هو المنسوب إليهم في كتب الاصول التي بأيدينا.

وبالجملة ، فهم يدّعون أنّ في النفس كلاما نظير الكلام اللفظي ، غير أنّ الكلام اللفظي تدريجي الحصول وذاك أمر دفعي الحصول في النفس ، ويكون الكلام اللفظي كاشفا عنه ، كما تقدّم. وهذا الكلام النفسي الذي يدّعونه غير تصوّر الشيء وبقيّة مقدّمات طلبه من العزم والجزم والتصديق بالفائدة والشوق ، ولكنّ الكلام كلّ الكلام في إثبات هذا الكلام النفسي المدّعى. وقد استدلّوا عليه بامور :

الأوّل : قول الشاعر : إنّ الكلام لفي الفؤاد ... إلخ (٢) وقول الشخص للآخر : إنّ في نفسي كلاما لا احبّ بيانه ، وقوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ)(٣).

الثاني : أنّ كلّ متكلّم لا يتكلّم إلّا بعد أن ينظّم كلامه في نفسه ، وهذا هو المراد من الكلام النفسي.

والجواب عنهما : أنّه إن كان المراد بالكلام النفسي هو هذا المعنى فهذا هو عين العلم بكلامه قبل تحقّقه ، مع أنّه موجود في جميع الأفعال الاختياريّة ، فإنّ الأكل أيضا مسبوق بتصوّره ، وهكذا الشرب والنوم وغيرها من أفعاله الاختياريّة ،

__________________

(١) راجع شرح المواقف ٨ : ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) قاله الأخطل كما في شوارق الإلهام : ٥٥٥.

(٣) يوسف : ٧٧.

٢٢٤

فيلزم أن يكون عندنا أكل نفسي وشرب نفسي ونوم نفسي ... وهكذا ، وهذا لا يلتزم به الأشاعرة أصلا.

الثالث : اتّصاف الله بالمتكلّم كما ورد في الدعاء وصفه بالمتكلّم بل وبالقرآن في قوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً)(١) وحيث إنّ صفاته عين ذاته فلا يمكن أن تكون صفاته حادثة وذاته قديمة ، فلا بدّ من كون الصفات قديمة ، فلا بدّ من التزام أنّ هناك كلاما نفسيّا قديما بقدمها ، والاتّصاف بالمتكلّم إنّما هو بلحاظها. وذكروا في القرآن الذي هو كلام الله نظير ذلك ، والتزموا بأنّ في نفس الله كلاما نفسيّا على طبق هذا القرآن الخارجي.

والجواب أوّلا : أنّ (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) إذا كانت التكلّم قديما فلا بدّ من كون موسى قديما أيضا ؛ إذ الكلام القديم إنّما يكون مع القديم.

وثانيا : فيلزم أن يكون له رزق قديم وخلق قديم وغيرها من صفاته ، إذ هي كلّها صفات الله تعالى.

وبالحلّ ثالثا : وذلك أنّ صفات الله على قسمين :

ـ صفات الذات : وهي التي تتّصف بها الذات مع قطع النظر عن وجود شيء وعدمه وهذه ترجع إلى صفة العلم والقدرة ، والحياة منتزعة منهما ؛ إذ كلّ عالم قادر حيّ ، فالذات متّصفة بالعلم حيث لا معلوم وبالقدرة حيث لا مقدور ، وهذه الصفات هي عين الذات وهي قديمة بقدمها.

ـ والقسم الثاني صفات الفعل : وهذه هي المنتزعة عن مقام الفعل ، وهذه ليست عين الذات وهي حادثة بحدوث الفعل الذي تنتزع عن مقامه ، وحينئذ فليست هذه الصفات عين الذات فلا مانع من كونها حادثة ولا يلزم لازم باطل من ذلك ، والتكلّم منها.

__________________

(١) النساء : ١٦٤.

٢٢٥

وقد ذكروا للفرق بين صفات الذات وصفات الفعل فروقا :

فمنها : أنّ ما لا يصحّ سلبه فهو من صفات الذات ، وما يصحّ سلبه فهو من صفات الفعل ، فيقال : ليس برازق لزيد ألف دينار هذا اليوم ، ولا يقال : ليس بعالم وليس بقادر.

ومنها : أنّ ما كان مسبوقا بالعلم والقدرة فهو من صفات الفعل وما لم يكن مسبوقا فهو من صفات الذات.

ومنها : أنّ ما كان مسبوقا بالإرادة فهو من صفات الفعل وما لم يكن مسبوقا بها فهو من صفات الذات.

وأحسنها الوسط ، أمّا الأخير فيرجع إليه ، إذ المسبوقيّة بالإرادة تستلزم المسبوقيّة بالعلم أيضا. وأمّا الأوّل فلأنّه وإن كان تامّا في الصفات المنتزعة من نفس الفعل ، إلّا أنّه لا يتمّ في الصفات المنتزعة من كيفيّة الفعل كما في الصدق ، فلا يقال : ليس بصادق مع أنّها من صفات الفعل ، وكذا ليس بعادل. وعلى ما ذكر في الأوّل يلزم كونه من صفات الذات.

الرابع : من الوجوه التي ذكرها الأشاعرة في إثبات الكلام النفسي هو : أنّ الله يوصف بالمتكلّم واتّصافه بها ليس بمعنى خالق الكلام ، بل لا بدّ من قيام المبدأ به ، ولو صحّ الاتّصاف مع عدم قيام المبدأ بل بمجرّد أنّه خالقه ومكوّنه لصحّ أن يوصف الله بالنائم والمتحرّك والساكن ؛ لأنّه خالق لها مع عدم صحّة ذلك ، وليس إلّا لعدم قيام المبدأ بالذات.

والجواب : أنّ المبدأ إن اريد به الكلام فليس قائما إلّا بالهواء ، فإنّ الكلام كيفيّة قائمة بالهواء ينشأ من تموّجات الهواء بتموّجات خاصّة ، وليس قائما بذات زيد في قولك : زيد متكلّم ، فضلا عن الله. وإن اريد بالمبدإ التكلّم ـ كما صرّح به بعضهم ـ فالتكلّم تفعّل بمعنى قبول الفعل ، والقبول في المقام بنحو الإيجاد والإصدار في جميع أمثلته في قولك : زيد متكلّم ، أو الله متكلّم.

٢٢٦

وأمّا ما ذكر من عدم صحّة النسبة بمجرّد الإيجاد والتكوين وإلّا لصدق «نائم» فلا يخفى جوابه ، فإنّ الصفة تحتاج إلى نسبة ما إلى الموصوف ، فقد تكون نسبة حلول ، وقد تكون نسبة صدور ، وقد تكون نسبة قيام ، وقد تكون غير ذلك. وهذا ليس له ميزان كلّي بل المتّبع استعمال العرب ، فتراهم في بعض الأحيان لا يستعملون إلّا مع قيام المبدأ بالذات قياما حلوليّا وقد يستعملون مع قيامه قياما صدوريّا كما في «خالق» و «رازق» و «متكلّم» فهل يلتزمون في «خالق» و «رازق» و «قابض» و «باسط» وغيرها برزق نفسي وخلق نفسي وقبض وبسط نفسيّين؟ إلى غير ذلك. وصدور ذلك منه إنّما هو بإيجاد المبدأ واتّصافه به بذلك اللحاظ. ولا يضرّ الاتّصاف ؛ لأنّه من صفات الفعل إنّما ينتزع من الفعل ، وليس من صفات الذات حتّى يلتزم بالاتّحاد.

وبالجملة ، فلا نعقل للكلام النفسي معنى متصوّرا ، والتصديق فرع التصوّر.

هذا تمام الكلام في الكلام النفسي وقد اتّضح أنّ استدلال بعضهم بقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(١) أجنبيّ عن المقام ؛ إذ هو من قبيل النيّة ، ومكافاة الله عليها إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ ليس لها ربط بالكلام النفسي.

[الجهة الرابعة] : في أنّ أفعال العباد لمن تستند؟

وقع الكلام في أفعال البشر وأنّها صادرة قهرا على العبد ، أم أنّها صادرة باختياره وإن كان اختياره مستندا إلى إرادة الله ، أم أنّها صادرة باختياره من غير أن يستند اختياره إلى إرادة الله ، أم أنّها أمر بين الأمرين؟

__________________

(١) البقرة : ٢٨٤.

٢٢٧

صار إلى الأوّل الأشاعرة هربا من قول اليهود : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ)(١) وتنزيها لله تعالى عن أن يوجد له شريك في إيجاد الممكنات ، فذهبوا إلى أنّ الأفعال الصادرة من العباد كلّها مستندة إليه تعالى وصادرة بإرادته واختياره وإن قارنت إرادة العبد واختياره ، إلّا أنّهما ليس لهما أثر في صدور الفعل ، فالفعل صادر قهرا على العبد وقسرا عليه ، بحيث لو أراد الامتناع عن صدور الفعل لم يتمكّن من الامتناع.

ومن هنا ذكر أبو هذيل (٢) : أنّ الأشاعرة لا يميّزون بين الفعل المقدور وغيره وأنّ حمار الأشعري أفهم من الأشعري! فإنّ الحمار إذا جيء به إلى نهر عميق لا يقتحمه إذا كان عريضا ، لعلمه بعدم قدرته عليه ، بخلاف ما إذا لم يكن عريضا ، فإنّه يقتحمه حينئذ لعلمه بقدرته عليه ، فهو أفهم من صاحبه. وقد ذكروا أنّ الثواب والعقاب على كسب العقل ، ولم نفهم معنى لذلك.

وصار إلى الثاني عموم الفلاسفة ، ومنهم صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) فزعموا أنّ الفعل يصدر بإرادة العبد واختياره ، إلّا أنّ هذه الإرادة من العبد لا بدّ أن تنتهي إلى إرادة الله تعالى.

والفرق بين هذا القول وسابقه واضح ، فإنّ الأشاعرة يزعمون أنّ إرادة العبد من المقارنات الغير المؤثّرة في تحقّق الفعل وعدمه ، بخلاف الفلاسفة ، فإنّهم يزعمون استناد الفعل إلى إرادة العبد ، لكنّهم يدّعون انتهاءها إلى إرادة الحقّ جلّ شأنه.

ولمّا رأى المعتزلة أنّ هذين المذهبين ينسبان الظلم إلى الله تعالى في عقاب العاصين ، لصدور العصيان بعمل يستند إليه ابتداء أو من جهة انتهاء إرادة العبد إليه تعالى وإلى إرادته ـ وعلى كلّ حال فلا يحسن منه العقاب إذ هو ظلم منه لمن يعاقبه ـ

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

(٢) شرح منهاج الكرامة للعلّامة الحلّي : ٩٢.

(٣) راجع كفاية الاصول : ٨٨ ـ ٩٠ ، وراجع ما قاله الفلاسفة في شرح المواقف ٨ : ١٤٧.

٢٢٨

صاروا إلى القول الثالث (١) ، فذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مفوّضة إليهم ؛ ولذا يحسن منه الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وأنّه ليس له في أفعال العباد إرادة ولا اختيار.

ولا يخفى أنّ هذا القول وإن رفع الظلم عن الله تعالى ، إلّا أنّ هذا سلب لسلطان الله تعالى ، فإنّه لا يستطيع أن يمنع العبد عن عمل تكوينا أصلا ، فهو سلب لسلطنة الله وقدرته.

ومن هنا ذهب الإماميّة تبعا لأئمّتهم ـ المعصومين من الزلل ومن الخطأ في القول والعمل ـ إلى أنّ أفعال العباد أمر بين الجبر والتفويض. وهذا في الحقيقة والتأمّل الصادق برهان إمامتهم عليهم‌السلام فإنّ الاهتداء إلى هذه النكتة الخفيّة في تلك العصور المظلمة برهان قاطع ودليل ساطع على خروجهم عن مستوى العقل البشري وبلوغهم رتبة لا يرقاها فلاسفة تلك الأعصار وحكمائها فضلا عن غيرهم ، ولا غرو ممّن هم باب مدينة علم المصطفى ومعدن العلوم والحكم وكفى.

ولنذكر مثالا للجبر المحض : كما إذا كان إنسان مصابا بالفلج الموجب لارتعاش اليد مثلا ، فارتعاش يده ليس أمرا اختياريا له وإن فرض أنّ إرادته المقارنة للارتعاش متعلّقة بذلك الارتعاش ، إلّا أنّها لا تصيّر العمل اختياريا ؛ إذ لا يستطيع أن يوقفها عن الارتعاش أصلا ، وهذا معنى خروجه عن اختياره.

ولنذكر أيضا مثالا للتفويض : وهو ما إذا فوّض الملك المستبدّ إلى شخص ولاية بلد من البلدان ، فهو يفعل فيها ما يشاء من دون علم ذلك الملك بما يصنعه ولا تعلّق إرادة منه بذلك الذي يعمله الوالي.

ولنذكر أيضا مبنى قول المفوّضة : وهو أنّ الممكن لا يحتاج إلّا إلى علّة محدثة وأنّه لا يفتقر إلى علّة مبقية ، بل بقاؤه حينئذ لا يحتاج إلى مؤثّر. ومثّلوا لذلك بالحجر

__________________

(١) راجع شرح المواقف ٨ : ١٤٦.

٢٢٩

الملقى على الأرض ، فإنّ علّة إلقائه هي السبب في بقائه فبقاؤه لا يحتاج إلى مؤثّر يؤثّر البقاء. وسيأتي تفصيل البحث في هذا الكلام.

ولنذكر أيضا مثالا للأمر بين الأمرين : مثلا لو اصيب رجل بالفلج بحيث لا يقدر على الحركة أصلا ، فوصلت به القوّة الكهربائية من شخص يستطيع قطعها وإبقاءها موصولة به ، فبسبب هذا الاتّصال قوي على الحركة فقام بإرادته واختياره حتّى أتى زيدا فقتله والقوّة الكهربائيّة المحقّقة لقدرته على التحرّك والقتل بعد متّصلة به من دون أن يقطعها الموصل لها به القادر على قطعها عنه في كلّ آن من آنات حركته ، فإنّه يصحّ أن يسند القتل إلى هذا المباشر وأن يسند إلى ذلك الموصل للقوّة الكهربائيّة بهذا المباشر ، فالفعل الذي يصدر من العبد باعتبار صدوره عن إرادته واختياره يكون عملا اختياريا له وإن كان هذا العمل الاختياري له يصحّ أن يسند إلى الله باعتبار أنّ الله مفيض للوجود والقدرة عليه في كلّ آن من آنات عمله ، بحيث لو أراد أن لا يعمل يسلب عنه القدرة أو الوجود فلا يعمل ، كقاطع تيّار الكهرباء عن المفلوج ، وهذا هو معنى قولهم عليهم‌السلام : «لا جبر ولا تفويض بل هو أمر بين هذين الأمرين» (١) فافهم هذا المدّعى (*).

ثمّ يقع الكلام في البراهين ، ولنتكلّم أوّلا في قول الأشاعرة الذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري (٢) ـ المنتهى نسبه إلى أبي موسى الأشعري ـ فنقول لهم :

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٠ ، الحديث ١٣.

(*) ورد في هامش الأصل زيادة من دون إيعاز إلى موضعها ، وهي ما يلي : وليس المقصود أنّ الله تعالى قادر على إيجاد المانع من فعل العبد بنفسه ؛ لأنّ هذا الأمر لا ينكره المفوّضة أيضا ، ولا يصحّ نسبة الفعل إلى من لم يوجد المانع عن فعل غيره ثانيا ، بل المراد أنّ الله تعالى هو الموجد للمقتضي للفعل ، فإنّ من مقتضياته الحياة والقدرة والشعور مثلا ، صحّ.

(٢) راجع شرح المواقف ٨ : ١٤٥ ـ ١٤٦.

٢٣٠

بناء على ما ذكرتم من كون الفعل مخلوقا لله تعالى وأن ليس للعبد تركه وإن قارنته إرادته ، إلّا أنّها ليس لها تأثير في تحقّق الفعل خارجا ، فهل تفرّقون بين حركة نبض الإنسان وحركة يده؟

فإن التزموا أن لا فرق بينهما أصلا فهو مكابرة مع الوجدان وليس عندنا دليل أقوى منه.

وإن زعموا أنّ هناك فرقا بينهما ، فنسألهم عن الفرق بينهما ، فإن أجابوا بأنّ هذا مقارن لإرادة العبد وذاك ليس مقارنا لإرادته ، فنقول : إنّ المقارنة من دون أن يكون لها تأثير في الفعل لا توجب فرقا ، فإنّ الإنسان إذا أراد حركة نبضه وقارنت حركته هذه الإرادة لا يكون لهذه الإرادة في حركة النبض أثر أصلا ، فلا يصلح هذا فارقا بينهما ، فلا بدّ من القول بعدم الفرق بينهما وأنّ هذا الأمر الوجداني صورة فرق وليس له واقع.

وهذا أمر معلوم الفساد بالبديهة أوّلا ؛ ولذا لو سقط حجر على رأس الأشعري لا ينتقم منه ، بخلاف ما لو لطمه لاطم فإنّه يخاصمه ويحاجّه ، وعلى مسلكه لا فرق بينهما.

وثانيا فلما ذا يعاقب الله العصاة على عصيانهم؟ وهل هو إلّا أنّ العبد صار محلّا لفعل الله تعالى كما يصير الجسم محلّا للسواد ومحلّا للبياض باختيار الصبّاغ ، فلما ذا يعاقبه الله تعالى؟

فإن كان جهة عقابه مقارنته للإرادة المتكوّنة للعبد ، فمع فرض عدم تأثيرها في الفعل أصلا ينقل الكلام إليها ، فإن كان الله هو موجدها فلما ذا يعاقب العبد على العمل الصادر مقترنا بها؟ وإن كانت هذه الإرادة أوجدها العبد نفسه فقد تحقّق الشرك الذي فرّوا منه ؛ إذ لا فرق بين الموجودات الخارجيّة والموجودات النفسيّة في كونها ممكنة تحتاج إلى موجد ، فإذا كان العبد هو الموجد لها تحقّق الشرك.

٢٣١

وإن كان جهة عقابه هو الكسب ـ كما صرّح به أبو الحسين البصري في جواب هذه المصيبة المتوجّهة إليه ـ فنقول : ما معنى الكسب الذي ذكرتم أنّه هو سبب الإطاعة؟ فإن كان الكسب بمعناه الظاهري في قوله (١) [تعالى] : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٢) فهو معناه : لها ما فعلته فعلا ناشئا من اختيار مستندا إلى إرادة نفسانيّة ، وإن أراد من الكسب معنى آخر فهو لا يعقله ـ كما اعترف جملة منهم به ـ فما لا يعقل أولى أن لا يعاقبنا الله تعالى بسببه.

وقد ذكر أبو بكر الباقلاني (٣) جوابا آخر هو : أنّ الفعل له جهتان : الاولى جهة كونه فعلا وهذه الجهة مسندة إلى الله تعالى ، وجهة كونه طاعة أو معصية وهذه مستندة إلى العبد وبسببها الثواب والعقاب.

والجواب : أنّ هذه الجهة وهي جهة كونها طاعة أو معصية انتزاعيّة ؛ إذ الطاعة ليست إلّا مطابقة المأتيّ به للمأمور به ، فموجدها هو موجد منشأ انتزاعها ، وإن لم تكن انتزاعيّة فهي أيضا موجود من الموجودات المتأصّلة فينقل الكلام إليها ، فنقول : من يوجدها؟ فإن كان العبد هو الموجد لها فهو الشرك المتوهّم الذي فررتم منه قد وقعتم فيه ، فلما ذا التزمتم بأنّ الله هو الخالق للأفعال ، فالتزموا من أوّل الأمر بأنّ العبد هو الموجد وحده أو بمعونة غيره ، وإن أوجد هذه الصفة الله ، فلما ذا يعاقب العبد عليها؟

وقد أجاب بعضهم بجواب آخر ملخّصه إنكار الحسن والقبح العقليّين (٤) ، والتزم بأنّ الله له أن يدخل أشرف أنبيائه في أسفل درك من جهنّم وأن يدخل أعصى

__________________

(١) في الأصل : قولها ، وهو سهو.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) شرح المواقف ٨ : ١٤٧.

(٤) راجع شرح المواقف ٨ : ١٨١ وما بعدها و ٢٠٢ وما بعدها.

٢٣٢

العصاة أرقى مراقي جنّته! وأنّ الظلم منه لا يتحقّق وإن عاقب غير المستحقّ للعقاب كما في العصاة ، فإنّ الظلم هو التصرّف في سلطان الغير ، وكلّ ما في العالم تحت سلطان الله تعالى ، فله أن يتصرّف فيه كيف شاء ، وإنّه لا يسأل عن شيء ، فله أن يعاقب العصاة (١) وليس ذلك ظلما لهم ؛ إذ هم تحت سلطانه والآيات الواردة في نفي الظلم عنه في الحقيقة من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، وكيف يحكم المربوب على ربّه بلزوم الثواب ووجوبه للمطيع ووجوب العقاب للعاصي؟ وهل يمكن أن يحكم العبد على مولاه؟ ... إلى آخر كلماتهم الفارغة عن المعاني المعقولة.

والجواب : أنّ معنى حكم العقل ليس بمعنى أنّ العقل يلزمه بذلك ، بل بمعنى أنّ العقل يدرك أنّ الله كذلك ، كما يدرك أنّه موجود وأنّه قادر وأنّه قديم أزليّ ... إلى آخر الصفات الثبوتيّة. فهذا العقل المدرك لذلك مدرك أنّه عادل وليس بظالم ؛ لأنّ الظلم إمّا أن ينشأ من الجهل أو العجز وتعالى الله عنهما ؛ إذ إنّه إمّا أن يكون مريدا لشيء في يد الغير فيعجز عنه فحينئذ يأخذه منه بغير حقّ فيكون ظلما ، أو يكون جاهلا بأنّ الظلم قبيح ، وكلاهما منفيّان عنه تعالى.

وأمّا ما ذكروه : من أنّ الظلم لا يتحقّق إذ كلّ ما في العالم فهو ملك له وليس تصرّفه فيه تصرّفا في غير ملكه ففيه ما لا يخفى ؛ إذ إنّ الظلم غير منحصر في التصرّف في ملك الغير ، بل الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير محلّه ؛ ولذا يقال : ظلم نفسه ، كما ورد في القرآن مرارا وكرارا. وحينئذ فإثابة العاصي وحرمان المطيع بل عقابه وضع للشيء في غير محلّه ، ويشهد لذلك ما نراه في الموالي العرفيّة ، فإنّ السيّد إذا كان له عبدان ملكا له وأحدهما من بدء أمره مطيع والآخر من بدء أمره عاص ، فهل يحسن منه أن يثيب العاصي ويمنع المطيع؟ كلّا! بل يعدّونه ظالما أو سفيها.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : المطيعين.

٢٣٣

مضافا إلى أنّ تجويز عقاب المطيع وثواب العاصي يرفع حكمة إرسال الرسل وإنزال الكتب ؛ إذ يجوز أن يعاقب من لم يخرج عن طاعته وهو المؤمن ويثيب من لم يخرج عن معصيته وهو المشرك.

فإن أجابوا ـ كما أجابوا ـ بأنّ وعده تعالى للمؤمن بالثواب وللعاصي بالعقاب هو الذي يحسن بعث الرسل وإنزال الكتب.

قلنا : ما المانع من أن يخلف وعده؟

فإن أجابوا بأنّه أخبر أنّه لا يخلف الميعاد ، قلنا : ما المانع من كذبه؟ إذ ليس عمله قبيحا حسب الفرض. وربّما أجابوا بأنّ الله قد جرت عادته على إثابة المطيع ومؤاخذة العاصي وإن كان لو عكس لم يفعل قبيحا. وليت شعري! كم عاشره الأشاعرة من السنين فعرفوا عادته؟

وبالجملة ، فهذه كلمات فارغة ليس تحتها شيء.

وقد احتجّوا على ذلك بوجوه :

أحدها : نقليّ ، وهو الاستدلال بظواهر بعض الآيات من أنّ الله ليس له شريك في خلق الممكنات وأفعال العباد من الممكنات.

والجواب أوّلا : أنّ البحث عقليّ فلا يحسن فيه الاستدلال بالظواهر. وثانيا : أنّ كونه خالقا لا شريك له نحن نقول به أيضا ، إلّا أنّ معناه خالق كلّ شيء ، يعني ليس هو خالق السماء وخالق الأرض غيره وليس هو خالق الإنس وخالق الجنّ غيره ، بل هو خالق جميع الأشياء من الجواهر بقرينة قوله تعالى لعيسى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)(١) فنسب الخلق إلى عيسى ، وكذا قوله : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً)(٢) فنسب الخلق إليهم ، وقوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(٣) فإذا لم يكن

__________________

(١) المائدة : ١١٠.

(٢) العنكبوت : ١٧.

(٣) المؤمنون : ١٤.

٢٣٤

خالق سواه فما معنى أحسن الخالقين؟ والحقّ أنّ الخلق بمعنى الإيجاد فكما نقول : أوجد زيد القيام ، تقول : خلقه.

وقد استدلّ بعضهم (١) بقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ.)

والجواب : أنّ الآية (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(٢) فالمراد من (ما تَعْمَلُونَ) الصنم الذي تنحتونه بأيديكم من الصخر والحجار.

ثانيها : ما ذكره الفخر الرازي (٣) ، وملخّصه : أنّ الأفعال الصادرة من المكلّفين صورة إمّا أن يعلم الله صدورها أو لا يعلم ، لا سبيل إلى الثاني لاستلزامه نسبة الجهل إلى الله تعالى فلا بدّ من تعلّق علمه بصدورها ، وحينئذ فيستحيل أن يتركها العبد ، وهذا هو معنى الجبر ؛ إذ لا قدرة للعبد إلّا على فعلها. ثمّ إنّه بعد أن أرعد وأبرق ذكر أنّ هذا الدليل لا يستطيع أحد ردّه إلّا أن يلتزم بمذهب هشام بن الحكم فينكر علم الله بذلك وينسبه إلى الجهل.

أقول : وقد ذيّل بعض الأشاعرة (٤) هذا البرهان بأنّ أبا لهب قد أخبر الله عنه بأنّه (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ)(٥) فهل يكون أبو لهب قادرا على الإسلام؟

والجواب : أنّ الله تعالى عالم بصدور هذا الفعل منه ، لكن علم الله بمعنى أنّه انكشف لديه أنّه يفعل ، لكن هذا الكشف ليس له دخل في إيجاد الفعل ، فهو نظير علمنا بأنّ زيدا لا يترك الصلاة أو أنّ الشمس تطلع غدا ، فهل لعلمنا بهذه الأشياء دخل في طلوع الشمس وعدم ترك زيد لصلاته؟ فكذلك علم الله من هذه الجهة ،

__________________

(١) انظر شرح المواقف ٨ : ١٥٨.

(٢) الصافات : ٩٥ و ٩٦.

(٣) انظر التفسير الكبير ٢٥ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ذيل الآية ، وشرح المواقف ٨ : ١٥٥.

(٤) انظر شرح المواقف ٨ : ١٥٦.

(٥) المسد : ٣.

٢٣٥

فإنّه انكشف لديه أنّ زيدا يصلّي باختياره وأنّ عمرا يزني باختياره ، إلّا أنّ انكشاف ذلك له لا ربط له بأصل الصدور ؛ إذ ليس هذا العلم هو المحقّق له ، بل بما أنّه يتحقّق واقعا تعلّق علم الله به لا بالعكس ، بل لو صدر العمل منه بغير الاختيار لنسب الجهل إلى الله ، تعالى عمّا يقوله الظالمون علوّا كبيرا! لعلمه بصدوره منه اختيارا.

والظاهر أنّ كلامهم مغالطة ، فإنّ عندنا علما له مدخليّة في العمل الخارجي ، وهو تصوّر نفس الفاعل له ، إلّا أنّ هذا العلم إنّما هو من المكلّف لا من الله تعالى. ولو كان علمه بصدور الفعل يوجب الجبر لكانت أفعاله جبرية عليه أيضا ، لتعلّق علمه بأنّه يخلق ويرزق وينزل الغيث .. إلى آخر معلوماته ، فهل يلتزم الأشعري بأنّ أفعاله تعالى جبريّة عليه؟ ولا بعد في التزامه ذلك بعد نفي الحسن والقبح.

ثالثها : أنّ كلّ ممكن لا بدّ له من علّة حتّى يتحقّق ؛ إذ نسبته إلى طرفي الوجود والعدم متساوية ، فلا يعقل أن يتحقّق أحد الطرفين ما لم يحصل مرجّح له ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، فهذا المرجّح إن كان محقّقا لوجوب ذلك الفعل فلا يستطيع العبد ترك الفعل بعد وجوبه ، وإن لم يكن محقّقا لوجوبه فلا يوجد ؛ إذ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فلا بدّ من مرجّح آخر ليجب ، فإن وجب فيستحيل تركه ، وإلّا فلا يوجد ، وهكذا حتّى يجب صدوره وحينئذ فلا يقدر العبد على تركه وهو معنى الجبر.

والجواب : أنّا نرى وجدانا عند صدور عمل منّا أنّا نتصوّره أوّلا ، ثمّ نتصوّر فائدته لنا ، ثمّ نتصوّر عدم المانع منه ، أو نوطّن أنفسنا على ما يحدث بسببه من الموانع ، ثمّ نميل إليه ، ثمّ نرى أنفسنا قادرين على إيجاده وعلى استمرار عدمه ، وهذه هي القدرة ، ثمّ نختار أحد الأمرين ، وهذه هي رتبة الاختيار ومعنى الاختيار طلب الخير ، فليت شعري! متى صار الفعل جبريا وهو يصدر بالاختيار؟ ولو أراد أن لا يصدره لا يصدره.

٢٣٦

وقول : إنّه لما ذا وجد؟ نقول : لأنّ الموجد اختار إيجاده لملاءمته لطبعه فقد اختاره.

ودعوى : أنّ الممكن لا بدّ له من علّة مسلّمة لكنّها بمعنى الموجد وهو متحقّق في المقام ، وأمّا أنّ الفعل حينئذ يلزم أن يكون جبريا وواجب الصدور فلا ، ولو كان كذلك لنقل الكلام إلى أفعاله تعالى حرفا بحرف ، فهل يلتزمون بالجبر فيها؟ وغير بعيد منهم ذلك بعد نفي القبح والحسن عن أفعاله ، تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا!

ومن الظرائف المنقولة : أنّ ناصر الدين شاه سأل المحقّق السبزواري ـ لمّا مرّ على سبزوار ـ عن الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين ، فقال افصّل لك أم اجمل؟

فقال : بل أجمل ، فقال : الجبر «لا حول ولا قوّة إلّا لله» والتفويض «لا حول ولا قوّة إلا لي» والأمر بين الأمرين «لا حول ولا قوّة إلّا بالله». وقصّة بهلول رحمه‌الله مع أبي حنيفة ورميه له بالحجر مشهورة ومسطورة ، فافهم.

وبالجملة ، فليس في الأفعال الصادرة منّا غير ذلك كما ذكرنا.

وما ذكره بعضهم : من أنّ الفعل مستند إلى الإرادة وأنّها الشوق الأكيد النفساني ، فلا نعلم مستنده أصلا هل المستند إلى هذا هو الحاجبي أم هو العضدي أم غيرهما؟ وليس له أصل في كتب اللغة ، فإنّ الإرادة في اللغة بمعنى المشيئة ، ومنه : إذا أراد الله شيئا ... الخ ، يعني إذا شاء. ومنه : ما ورد في الحديث : «إنّ الله خلق المشيئة بنفسها وخلق الأشياء بالمشيئة» (١).

وبالجملة ، فالإرادة في جميع الأخبار الواردة عن أهل البيت المراد بها المشيئة ، وهي في العرف أيضا بهذا المعنى مشهورة الاستعمال. وقد تطلق لغة على معنى آخر وهو التهيّؤ في قوله [تعالى] : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ)(٢) وبهذا المعنى تسند إلى الجامدات أيضا.

__________________

(١) الكافي ١ : ١١٠ ، الحديث ٤.

(٢) الكهف : ٧٧.

٢٣٧

وبالجملة ، فليست الإرادة من صفات الذات في الحقّ وإنّما هي من صفات الفعل ، كما يظهر من جملة من الأخبار المعقّبة لها بالعلم والقدرة التي مؤدّاها : أنّ الله عالم قادر ثمّ أراد ، التي يظهر تراخي الإرادة عنهما.

وبالجملة ، فالفعل الاختياري هو العمل المسبوق بالعلم والقدرة وتوجده النفس بتحريك العضلات ، والشوق هو المرجّح لاختيار النفس إعماله وإيجاده ، فالموجد هو نفس الإنسان لا الإرادة ولا الاختيار ؛ إذ الاختيار ـ كما قدّمنا ـ هو طلب الخير ، وليس صفة نفسانية ، بل انتزاعية من إعمال النفس قدرتها في ايجاد الفعل الملائم لها ، فافهم.

ثمّ إنّ الأفعال الصادرة من العبد على قسمين :

أحدهما : طريقي ، وهو الأفعال النفسانيّة من العزم والبناء على إيجاد الفعل خارجا وقصده ذلك ، وهذا القصد والعزم لا يكون مسبوقا بعزم وقصد ، بل هو من الأفعال التي توجدها النفس بمجرّد تحقّق الملاءمة لإحدى قوى النفس ، وإلّا لزم التسلسل.

الثاني : الأفعال النفسيّة ، وهي الأفعال الجوارحيّة ، وهذه الأفعال تكون مسبوقة بالتصوّر والقصد إليها والبناء.

وبالجملة ، فقد اندفعت هذه الشبهة بأنّ كلّ فعل اختياريّ لا بدّ له من موجد وهو موجود في المقام ، ولا بدّ في اختيار النفس للفعل من مرجّح ليتحقّق الاختيار بمعنى طلب الخير والمرجّح هو ميلها الناشئ من إدراكها ملائمة ذلك الفعل لإحدى قواها.

ولهم شبهة اخرى تكون هي الشبهة الثالثة من الشبه العقليّة ، وملخّصها : أنّ فعل المكلّف لا بدّ أن تتعلّق إرادة الله بفعله أو تركه ، ويستحيل عدم تعلّق الإرادة به ، لاستحالة نفي الضدّين ، وإذا تعلّقت الإرادة فيستحيل تخلّف المراد عن الإرادة ، فلا بدّ من تحقّق الفعل إن كانت الإرادة قد تعلّقت بإيجاده ، أو استمرار الترك إن كانت الإرادة قد تعلّقت بعدمه.

٢٣٨

والظاهر أنّ نظر الآخوند قدس‌سره إلى هذه الشبهة ، حيث أجاب (١) بأنّ الإرادة الأزليّة قد تعلّقت بالفعل الاختياري ، فمع صدوره قسرا يلزم التخلّف.

ومعلوم أنّ جوابه عين الالتزام بالجبر ؛ إذ لو تعلّقت الإرادة بصدوره اختيارا فهو مقسور على اختياره ، فليس هو إلّا اسم الاختيار لا واقعه وحقيقته.

والحقّ في الجواب أن يقال : إنّ الإرادة بمعنى المشيئة إنّما تكون من كلّ فاعل بالإضافة إلى فعله ، ولا معنى لتعلّق المشيئة بفعل الغير ، وحينئذ فمشيئته تعالى إنّما تتعلّق بأفعاله التي منها استمرار إفاضة الوجود والقدرة على العبد ، ومشيئة العبد نفسه تتعلّق بأفعاله الصادرة منه ، فنفس الفعل يصدر من العبد المباشر وإن صحّ نسبته إلى الله باعتبار إفاضته الوجود والقدرة على العبد. وآية : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٢) أيضا بهذا المعنى ، يعني أنّ الله تعالى إذا تعلّقت إشاءته بعدم هذا الفعل فيرفع قدرة المكلّف عنه أو يرفع عنه الحياة.

هذه شبه الجبر ، وقد ظهر أنّ انتفاء الإرادة عن أفعال العبيد وجودا وعدما ممكن وأنّه ليس من نفي الضدّين ؛ إذ التقابل تقابل عدم وملكة ، فهما إنّما لا يجوز ارتفاعهما عمّا هو قابل لتعلّق الإرادة به ، وهو فعل الله نفسه وفعل كلّ فاعل (٣) وحيث انتهى الكلام إلى هنا ، فقد ظهر بحمد الله ـ جلّت عظمته ـ انتفاء شبه الجبر وأنّ الأفعال مخلوقة للعبيد وهم الموجدون لها وإن صحّ نسبتها إليه تعالى بما أنّه مفيض للوجود والقدرة ، فافهم.

هذا تمام الكلام في المجبّرة وجوابهم.

وأمّا الفلاسفة فحيث بنوا على أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد وطبّقوها على أفعال العباد زعموا أنّ فعل العبد ما لم يجب لم يوجد ؛ إذ لا بدّ لكلّ فعل من علّة يكون الفعل

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٨٩.

(٢) الإنسان : ٣٠ ، التكوير : ٢٩.

(٣) كذا في الأصل ، والصحيح ظاهرا : لا فعل كلّ فاعل.

٢٣٩

معلولا لها ، وعلى هذا أرجعوا الأفعال كلّها إلى الله وزعموا أنّه علّة العلل ومع تحقّق علّة الفعل وهو الإرادة يتحقّق الفعل بعدها بغير اختيار المكلّف نظير حمرة الخجل وصفرة الوجل ، فكما أنّ الإنسان عند الخوف يصفرّ وجهه بغير اختياره كذلك عند تحقّق الإرادة ، فيكون الفعل حينئذ واجبا حتّى يوجد خارجا ، فهو مستند إلى إرادة العبد ومع تحقّقها فلا بدّ أن يوجد. وعلى هذا بنوا القول بقدم العالم ، حيث إنّ إرادة الله تعالى قديمة بقدمه ، فلا بدّ من قدم العالم ، وعلى ذلك بنوا القول بالعقول العشرة وبقيّة مزخرفاتهم.

وقد ظهر لك ممّا قدّمنا سابقا أنّ الثابت عندنا هو أنّ الشيء لا بدّ له من موجد والموجد في المقام متحقّق وهو نفس العبد ، فإنّه تصوّره فمال إليه فبنى على إيجاده فأوجده ، وهذا البناء ليس هو صفة الإرادة ، وإنّما هو فعل من أفعال النفس كتصوّره ومطالعته ، بل إنّ نفس تصوّر ذلك الشيء أيضا من أفعاله. ويدلّ عليه أنّه بعد بنائه على إيجاده هو قادر على ترك إيجاده فيستمرّ العدم السابق مثلا ، فهذا العمل الذي يعمله المكلّف مستند إلى بنائه على إيجاده الناشئ من تصوّره وإدراكه ملائمة الفعل لإحدى قواه النفسية ، فإنّه قد جبلت النفس على جلب ما تميل إليه ودفع ما تكره ، من جهة أنّ الإنسان يحبّ نفسه.

وقد ظهر ممّا ذكرنا كثير ممّا في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره ونذكر منها أمرين :

الأوّل : تقسيمه الإرادة إلى تكوينيّة وأنّها العلم بالنظام على النحو الكامل التامّ ، وتشريعية وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلّف (١).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الإرادة ـ وهي البناء على الإيجاد ـ أمر تكويني دائما ، ولا يمكن أن يكون تشريعيا. نعم ، قد تتعلّق بأمر تكويني كخلق زيد ، وقد تتعلّق بأمر تشريعي كجعل الحكم بحسب ما يعلم من المصلحة ، أمّا أنّ الإرادة تكون نفسها

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٨.

٢٤٠