غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

في أدلّة القول بالأعمّ

ذهب العدليّة إلى كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ من المتلبّس بالمبدإ والمنقضي عنه المبدأ وقد استدلّ بامور :

الأول : التبادر.

ولا يخفى عليك ما فيه : أوّلا : لأنّه لا جامع بين المتلبّس والمنقضي كما تقدّم فأيّ شيء يتبادر؟

ولو سلّمنا تصوير الجامع إلّا أنّ المتبادر ـ كما ذكرنا ـ هو خصوص المتلبّس ، ولذا اعترف القائل بكون الوضع للأعمّ بالانصراف إلى خصوص المتلبّس.

الثاني : عدم صحّة السلب عمّا انقضى عنه المبدأ ، فإنّ عدم صحّة السلب علامة للحقيقة.

والجواب : أنّ صحّة السلب ممّا لا تنكر قطعا ، فإنّ من كان نائما فانتبه يصحّ أن يقال : ليس بنائم ، نعم سلب النوم عنه حتّى في الزمن الماضي ـ فيقال : إنّه ليس بنائم في جميع الأزمنة أو في خصوص الزمان الماضي ـ لا يصحّ ، وأمّا سلب النوم عنه فعلا فأمر لا يمكن إنكاره.

الثالث : كثرة استعمال المشتقّ فيما انقضى عنه المبدأ ، فإذا فرض كونه حقيقة في خصوص المتلبّس لزم كثرة المجاز فلا بدّ من القول بالأعمّ.

وجوابه أوّلا : أنّ كثرة المجاز ليس محذورا بعد ما قيل : إنّ أكثر محاورات العرب مجازات.

وثانيا : أنّ المجازيّة إنّما تلزم لو علم أنّ استعماله في المنقضي كان بلحاظ حال النطق ، أمّا لو كان بلحاظ حال التلبّس فهو حقيقة وكلا الأمرين محتمل ، وانصراف الحمل إلى الحمل الفعلي وإن كان مسلّما إلّا أنّ القرينة ترفع ذلك الانصراف الناشئ من الإطلاق ، فإنّ الصبيان كانوا يشيرون إلى عمر بن سعد

٢٠١

وهو مثلهم صبيّ فيقولون : هذا قاتل الحسين عليه‌السلام مع كون الحسين حينئذ حيّا يرزق ، فحياة الحسين حينئذ أمارة كون الاستعمال بلحاظ حال التلبّس وكذا إطلاق «قاتل» عليه بعد ذلك.

وربّما توهّم بعضهم أنّ من ذلك : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(١) ، (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(٢) فزعم أنّ صدق السارق والزاني مبنيّ على القول بالأعمّ ، وليس كما توهّم ؛ ضرورة أنّ الشارع المقدّس علّق وجوب القطع على صدق السارق لا أنّه علّق القطع بذلك ، والوجوب متحقّق حال السرقة والزنا وإن تأخّر الامتثال والتنفيذ ، والقطع حال السرقة كالجلد حال الزنا إمّا غير ممكن أو فرد نادر فلا يمكن أن يكون هو المنظور فيها ، نعم بالنسبة إلى جملة من المشتقّات يكون الحكم دائرا مع المبدأ كما في قوله : اجتنب النجس ، ولكن جملة اخرى منها لم يعلّق الحكم فيها على المبدأ الفعلي بقرينة كما في موردنا ، فإنّ عدم إمكان التنفيذ حال السرقة والزنا قرينة على ما ذكرنا.

الرابع : استدلال الإمام عليه‌السلام على عدم لياقة الثلاثة لمنصب الإمامة الرفيع بقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٣) بتقريب أنّهم لم يكونوا عابدين للوثن ظاهرا حال التصدّي للخلافة ، فالاستدلال لا يتمّ إلّا على القول بكون المشتقّ حقيقة في الأعمّ.

وردّه الفخر الرازي (٤) بكون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس.

والتحقيق أن يقال : إنّ استدلال الإمام عليه‌السلام ليس مبنيّا على القول بالأعمّ ليورد عليه الفخر الرازي ، بل إنّ كلامه يشير إلى شيء ذكره المتكلّمون في كتبهم من أنّ العصمة وإن لم تكن معتبرة قبل النبوّة والإمامة إلّا أنّ عدم ارتكاب ما يوجب خسّة

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

(٢) النور : ٢.

(٣) الكافي ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، الحديث الأوّل ، وبحار الأنوار ٢٥ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ ، الحديث ١٠.

(٤) التفسير الكبير ٤ : ٤١ ـ ٤٢.

٢٠٢

النفس ومهانتها معتبر قبل زمان النبوّة والإمامة لئلّا تنفر عنه الطباع ، فلا يصدّق فيما يقول ، بل يقول له الناس إنّك بالأمس كنت تفعل كذا ، فهو عليه‌السلام في مقام بيان أنّ من أشرك بالله آناً ما الذي هو أخسّ الرذائل وأمهن المنفّرات عنه لا يليق لأن يكون منصوبا من قبل الله في ذلك المقام الإلهي الرفيع.

وليس الاستدلال في المقام مبنيّا على كون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس أو الأعمّ منه ومن المنقضي ، بل لو قلنا بأنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس أيضا يتمّ الاستدلال ؛ لأنّ القضيّة في المقام حقيقيّة وهي محمولة على الموضوع على تقدير وجوده ، فافهم وتأمّل.

تنبيهات

[التنبيه] الأول : [مفهوم المشتق]

ذكر جمع من المنطقيّين أنّ المنطق ترتيب امور معلومة لتحصيل أمر مجهول فأشكل على ذلك بعضهم (١) بأنّ تحصيل المجهول لا يتوقّف على امور ، بل قد يفيده أمر واحد كما يقال في جواب السؤال عن أنّ الإنسان ما هو؟ : ناطق فإنّ ناطق واحد وبه يحصل المجهول.

وقد أجاب صاحب شرح المطالع (٢) بأنّ «ناطق» مركّب من شيئين ، فإنّ معناه : شيء له النطق.

وأشكل السيّد الشريف (٣) بأنّه إن اريد من الشيء مفهومه لزم دخول العرض العام في الفصل ، وإن اريد مصداقه لزم انقلاب الممكنة إلى ضرورية ، فإنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري وكلاهما باطل.

__________________

(١) انظر شرح المطالع : ١١.

(٢) انظر المصدر المتقدّم.

(٣) نقل عنه في حاشيته على شرح المطالع.

٢٠٣

وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من بيان معنى البساطة والتركيب اللذين هما محلّ الكلام فنقول :

المراد من التركيب أنّه بالتحليل العقلي ينحلّ إلى أكثر من شيء واحد.

والمراد من البساطة عدم الانحلال حتّى بالتعمّل العقلي إلى شيئين ، بل لا يتصوّر منه إلّا ما يتصوّر من إطلاق لفظ المبدأ غير أنّ بينهما فرقا اعتباريّا كما سيأتي ، بخلاف القول بالتركيب فإنّه ينحلّ إلى شيء له المبدأ.

وبهذا ظهر أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره وإن عبّر باختيار بساطة مفهوم المشتقّ وظاهر كلامه أوّلا دال عليه إلّا أنّه أخيرا صرّح بأنّ البساطة التي يختارها لا تنافي الانحلال بالتعمّل العقلي (١) وهذا هو القول بالتركيب ، فافهم.

ثمّ إنّ ما ذكره السيّد الشريف في الشقّ الثاني من أنّ أخذ المصداق في مفهوم المشتقّ باطل صحيح لا لأنّه يلزم انقلاب الممكنة إلى ضرورية ، بل من جهة أنّ أخذ الذات في مفهوم المشتقّ يلزم منه :

إمّا الاشتراك في كلّ لفظ من ألفاظ المشتقّات ؛ إذ الذات تارة تكون ذات إنسان ، واخرى ذات جدار ، وثالثة ذات شجر وهكذا ، بل جزئيات الإنسان أيضا كغيره غير متناهية فنحتاج الوضع الغير المتناهي ؛ لتباين الذوات.

وإمّا القول بأنّ المشتقّ موضوع بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ وليس كذلك قطعا ؛ إذ صدق القائم على الأفراد كصدق الإنسان على أفراده. هذا كلّه على تقدير صحّة ما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره (٢) فهذا الشقّ باطل.

بقي الكلام في الشقّ الأوّل وهو أخذ مفهوم الشيء في المشتقّ ، وقد اورد عليه بثلاث إيرادات :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٠ ـ ٧٤.

(٢) راجع الفصول : ٦١.

٢٠٤

أحدها : دخول العرض العامّ في الفصل. وجوابه ما ذكره في الكفاية (١) من عدم كونه فصلا حقيقيّا ، بل هو فصل باصطلاح المنطقيّين الذين يأخذون الأعراض الملازمة للفصل فيجعلونها فصلا ؛ لعدم عثورهم عليه ، بل استحالته كما ذكره بعضهم ؛ لأنّه لا يطّلع عليه إلّا علّام الغيوب ؛ ولذا قد يجعل أمران مكانه كما في الطائر الولود للخفّاش.

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) أنّه بناء على أخذ مفهوم الشيء فالمحذور هو دخول الجنس في الفصل ، بناء على ما اختاره قدس‌سره من عدم كون مفهوم الشيء عرضا عامّا ، بل هو جنس الأجناس ، وأنّ ما ذكره الفلاسفة من المقولات العشر لا وجه لها ، بل لفظ الشيء بمفهومه جنس الأجناس ، فإذا قلنا إنّ مفهومه داخل في ناطق فيدخل الجنس ـ وهو ما به الاشتراك ـ في الفصل ـ وهو ما به الامتياز ـ وهذا محال ، وكذا إذا قلنا بأنّ ناطق خاصّة ، فإنّ الجنس الذاتي لا يدخل في الخاصّة التي هي عرض خاصّ.

والظاهر أنّه ليس كذلك بل الظاهر أنّ مفهوم الشيء ليس جنسا ؛ لصدقه على الموجود والمعدوم بل لصدقه على ذات الواجب ، وحينئذ فلو كان جنسا لاحتاج إلى ما به الامتياز في الواجب أيضا وهذا محال ، بل مفهوم الشيء من المفاهيم العامّة المبهمة الصادقة كما ذكرنا على وجود الواجب والممكن والممتنع وعلى الماهيّات الاعتباريّة (والانتزاعيّة وعلى الأعراض التسعة وعلى الجوهر ، ولا يعقل الجامع بين الأعراض وحدها فضلا عن انضمام الجوهر إليها فضلا عن انضمام الامور الاعتباريّة والانتزاعيّة ، فافهم) (٣). فهو حينئذ كما ذكره الفلاسفة عرض عامّ.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧١.

(٢) انظر فوائد الاصول ١ : ١١١ ـ ١١٣ ، وأجود التقريرات ١ : ١٠٢ ـ ١٠٤.

(٣) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات المتأخرة.

٢٠٥

(وما ذكره الميرزا : من أنّ العرض العامّ لا بدّ أن يكون خاصّة بالإضافة إلى الجنس الأعلى منه ، صحيح في العرض لا في العارض ، والناطق عارض لا عرض ؛ فإنّ العرض هو النطق ، فتأمّل) (١). ولا يلزم إلّا ما ذكره السيّد الشريف وقد عرفت جوابه.

الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) من لزوم كون المشتقّات مبنيّة ؛ لشبهها الحرف بالمعنى ؛ إذ فيها بناء على التركيب شيء له الضحك مثلا فمنتسب ومنتسب إليه ونسبة فيكون الشيء المأخوذ فيه منتسبا إلى المبدأ ؛ إذ لا معنى لأخذه مستقلّا أجنبيّا عن الآخر ، فهو مشابه للحرف في افتقاره إلى النسبة فيلزم أن يكون مبنيّا دائما وهو معرب ، فهذا يدلّ على عدم أخذ الذات فيه.

وجوابه أوّلا : أنّ ما ذكره النحويّون ليس حكما كليّا عقليّا غير قابل للتخصيص ؛ إذ كلّها علل بعد الورود فيجوز أن يكون هذا المشابه خارجا بالتخصيص عن ذلك الحكم الكلّي.

وثانيا : بالنقض بالمصادر فإنّ النسبة التقيّديّة مأخوذة فيه مع كونه معربا.

والحلّ الذي يكون هو الجواب ، ثالثا : أنّ كلام النحويّين فيما كان موضوعا بوضع واحد من حيث المادّة والهيئة ، وهذا بخلاف المقام فإنّ النسبة مستفادة من الهيئة التي هي معنى حرفي فلا يوجب البناء.

الثالث : انقلاب الممكنة إلى ضروريّة في قولك : الإنسان ضاحك ، فإنّ مفهوم شيء له الضحك ينحلّ إلى قضيّتين ضروريّة وممكنة.

وجوابه ما ذكره في الكفاية (٣) من عدم الانقلاب ، فإنّ الشيء المقيّد بالقيد

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات المتأخرة.

(٢) انظر فوائد الاصول ١ : ١٠٨ ـ ١٠٩ ، وأجود التقريرات ١ : ٩٨.

(٣) كفاية الاصول : ٧٣.

٢٠٦

المذكور ليس ضروريّ الثبوت بل قد يكون المقيّد ممتنعا ، وإن خلا عن القيد يكون جائزا كما في قولك : حيوان له الضحك بالنسبة إلى الحمار ، فإنّ حيوان وحدها صادقة وبهذا القيد تكون ممتنعة.

وبهذا يظهر فساد ما ذكره الميرزا النائيني (١) وجعله إيرادا رابعا وهو انقلاب الإدراك التصوّري تصديقيّا ، فإنّه لا انقلاب أصلا بل هو بتركيبه مفهوم إفرادي تصوّري ؛ إذ لا بدّ من ذكر خبر له أو مخبر عنه فتقول : الإنسان ضاحك أو بالعكس ، فافهم.

وبالجملة ، فقد ظهر أن لا محذور من القول بالتركيب بمعنى الانحلال العقلي إلى شيئين ، فيقع الكلام في أنّ هذا الممكن واقع أم لا فنقول : نعم ، الحقّ هو التركيب ، فإنّ ما يفهم من المشتقّ شيء متّصف بالمبدإ ، وما ذكروه من كون المغايرة بينه وبين مبدئه مغايرة اعتباريّة لا وجه لها أصلا ؛ فإنّ اللابشرطيّة والبشرطلائيّة لا توجب هذا التغاير المفهومي لنا ، والمبدأ يستحيل اتّحاده مع الذات المتصفة به خارجا ، فإنّ وجوده غير وجودها ، وكذا كلّ عرض وجوده غير وجود معروضه فكيف يتّحدان حينئذ؟

مع أنّ ما ذكروه في الأعراض ، وليس جميع المشتقّات من الأعراض ، فإنّ المشتقّ قد يكون من الامور الاعتباريّة كالزوجيّة فهل وجودها عين وجود الزوج والزوجة؟ وكالملكيّة فهل وجودها عين وجود المالك والمملوك؟ مضافا إلى شموله للفظ : ممكن وممتنع ، بل هل يتصوّر أحد الاتّحاد بين خلق وخالق فيما كان من صفات الفعل؟ مضافا إلى أنّه لو كان المشتقّ كذلك فهو عند الفلاسفة ، وأمّا العرف لا يفهمون منه إلّا ما ذكرناه ، فافهم.

فالحقّ أنّ مفهومه مركّب بما ذكرنا من معنى التركيب من كونه ينحلّ بالتعمّل العقلي إلى شيء له المبدأ.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٠٠.

٢٠٧

التنبيه الثاني : في الفرق بين المشتقّ ومبدئه

قد ذكر الفلاسفة الذاهبون إلى كون مفهوم المشتقّ بسيطا إلى أنّ الفرق بين المشتقّ ومبدئه هو أنّ المشتقّ معتبر بلا شرط من ناحية الحمل ، والمبدأ معتبر بشرط لا أي بشرط عدم صحّة الحمل.

وقد أشكل في الفصول (١) بأنّ العلم لو أخذ بلا شرط أيضا لم يصحّ حمله على الذات أيضا ، فليس التفاوت بينهما بما ذكر ، بل التفاوت بينهما مفهومي.

وقد أجاب صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) بأنّ مرادهم من أخذ المفهوم ليس هو المفهوم الواحد كما هو المتعارف عند إطلاق هذه العبارة ، بل مرادهم أنّ التفاوت بينهما تفاوت ذاتي وأنّ المشتقّ ذاته غير آبية عن الحمل ، بخلاف المبدأ فإنّ ذاته آبية عنه ، واستشهد لذلك بما ذكروه في الفرق بين المادّة والهيولى وبين الجنس وبين الصورة والفصل.

ولا يخفى أنّ ما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره متين جدّا ، فإنّ ظاهر كلامهم أنّ الماهيّة الواحدة المشتركة في جامع واحد يجمعها إن لوحظت لا بشرط كانت مشتقّا مثلا ، وإن لوحظت بشرط لا كانت مبدأ بنحو يكون هذان القيدان هما المميّزان للمشتقّ ومبدئه.

وما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من شهادة كلامهم في الهيولى والصورة على ما ذكره كافل بعكس مقصوده ، فإنّ الهيولى والجنس شيء واحد إنّما اختلفا باعتبار أخذ الهيولى بشرط لا والجنس لا بشرط ، فالذات فيهما واحدة ليس بينهما تغاير ذاتي أصلا ، وذلك أنّهم ذكروا أنّه تارة يتصوّر الشيء بتمامه فيتصوّر الإنسان بأنّه حيوان ناطق وهو النوع ، واخرى يتصوّر بأجزائه ، فإن تصوّر بما به الاشتراك فهيولى وإن تصوّر بما به الامتياز فصورة.

__________________

(١) الفصول : ٦٢.

(٢) كفاية الاصول : ٧٤ ـ ٧٥.

٢٠٨

وقد اختلفوا في أنّ الهيولى والصورة تركيبهما اتّحادي أم انضمامي ، فذهب المحقّقون إلى الأوّل واستدلّوا عليه بأنّه لو كان انضماميّا فذلك الجزء أيضا له ما به الامتياز وما به الاشتراك ، وهذا يلزم منه التسلسل الباطل.

وكيف كان ، فظاهر كلام الفلاسفة في باب الهيولى والصورة والجنس والفصل يقضي بالمغايرة الاعتباريّة بل يصرّح به قولهم : إنّ طور الشيء لا يكون مباينا له ،

وكيف كان ، فلا محيص عن القول بأخذ مفهوم الشيء في المشتقّ ، وبهذا يحصل التغاير الذاتي بين المبدأ والمشتقّ مفهوما ، فإنّ مفهوم أحدهما غير مفهوم الآخر وما ذكر من أنّه من أطواره مختصّ أوّلا بالعرض ، والمشتقّ ليس عرضيا دائما حتّى يكون وجودها في أنفسها عين وجودها لغيرها ، فإنّ المبادئ في المشتقّ قد يكون أمرا اعتباريّا كالإمكان والوجوب والامتناع. وثانيا أنّ العرض مغاير للذات التي يعرض ذلك العرض عليها فكيف يدّعى اتّحادهما؟

وبالجملة ، فالحقّ مع صاحب الفصول في كون مفهوم المشتقّ مركبا كما تقدّم تحليلا.

التنبيه الثالث : في ملاك الحمل

لا بدّ بين المحمول والموضوع من اتّحاد من جهة ومغايرة من جهة اخرى لئلّا يكون الحمل حملا للضدّ على ضدّه ولئلّا يكون حملا للشيء على نفسه.

فقد يكون الاتّحاد في مقام الذات والتغاير في أمر خارج عن الذات كما في قولنا : الإنسان حيوان ناطق ، فإنّ الذات متّحدة فيهما والمغايرة إنّما هي بالإجمال والتفصيل ليس إلّا ، فإنّ الإنسان إجمال للحيوان الناطق وهما تفصيل لإجماله. ومنه الإنسان بشر ، فإنّ الذات متّحدة والتغاير اعتباري كما قيل ، فإنّ الإنسان مشتقّ من الانس كما قيل (١) فهو في قبال الوحش ، والبشر في قبال ملك فإنّه من المباشرة التي لا تكون للملك ، وهذا الحمل يسمّى أوّليا ذاتيّا كما يسمّى بالذاتي فقط.

__________________

(١) انظر لسان العرب ١ : ٢٣١ ـ ٢٣٣.

٢٠٩

وقد يكون الاتّحاد بين المحمول والمحمول عليه خارجيّا والمغايرة في المفهوم فقط كما في قولك : زيد قائم ، وكما في قولك : الناطق حيوان ، فبين المفهومين مغايرة صرفة ، فإنّهما مفهوما متباينان ولكن اتّحادهما بحسب الوجود الذي هو خارج عن الذات ؛ إذ الألفاظ موضوعة للماهيّات الصرفة مع قطع النظر عن الوجود والعدم ، ويسمّى هذا الحمل بالشائع لشيوعه في الاستعمال ، وبالصناعي لأنّ صناعة الشكل الأوّل في المنطق موقوفة عليه ؛ إذ لا بدّ فيه من كلّية الكبرى فلا بدّ من كون المحمول في الصغرى فردا لكلّي وهو المناط في الشائع.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ صاحب الفصول قدس‌سره لمّا رأى أن لا جهة تقتضي صحّة الحمل في قولنا : «الإنسان حيوان ناطق» لتغايرهما ذاتا ؛ إذ إنّه قدس‌سره زعم أنّ التركيب بينهما انضمامي لا اتّحادي ، فكلّ واحد من الجزءين غير الكلّ قطعا مفهوما وخارجا ، فاشكل عليه حينئذ صحّة الحمل ، ولكنّه تخلّص (١) بدعوى كفاية الاتّحاد الاعتباري ، فإنّا نعتبرهما أمرا واحدا فيصحّ الحمل.

ولا يخفى عليك أنّ اعتبارهما متّحدين إنّما يصحّح الحمل في مقام الاعتبار لا الخارج ، وبعبارة اخرى المغايرة الخارجيّة توجب صحّة الحمل خارجا والاعتباريّة تصحّحه اعتبارا ، ومن المعلوم أنّ صحّة الحمل في «الإنسان حيوان ناطق» خارجيّة لا اعتباريّة فلا يصحّ الحمل الخارجي حينئذ.

التنبيه الرابع : في مغايرة المبدأ مع الذات

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) كفاية مغايرة المبدأ مع الذات مفهوما وإن اتّحدا خارجا ردّا على صاحب الفصول ، فإنّ صاحب الفصول قدس‌سره (٣) ادّعى لزوم المغايرة

__________________

(١) الفصول : ٦٢.

(٢) كفاية الاصول : ٧٦.

(٣) الفصول : ٦٢.

٢١٠

الخارجيّة بين المبدأ والذات ، فأشكل عليه الأمر في صفات الذات من صفات الله تعالى وتقدّس بناء على ما هو الحقّ عند العدليّة من اتّحاد صفاته وذاته ، فالتزم بالنقل أو التجوّز في صفاته.

وقد أشكل الميرزا قدس‌سره (١) ـ تبعا لصاحب الكفاية قدس‌سره ـ بأنّه تكون صفاته صرف لقلقة لسان وألفاظ بلا معنى ؛ إذ لا نعرف لها معنى إلّا المعنى الذي يصحّ حمله حقيقة ولا نعرف معنى لذلك ؛ إذ إنّ المراد بالمشتقّ حينئذ المبدأ ليس إلّا وهو مفهوم ، فأيّ معنى حينئذ لهذا الكلام؟

وبالجملة فالآخوند قدس‌سره في مقام الردّ على صاحب الفصول حيث اعتبر المغايرة الخارجيّة ذكر (٢) أنّه يكفي المغايرة المفهوميّة ، وحينئذ فيكون الحمل حقيقيّا حتّى في صفات الذات من صفاته تعالى وتقدّس.

ونحن نقول : إنّ المغايرة المفهوميّة بين الذات التي هي الموضوع وبين المبدأ غير معتبرة أصلا ؛ ولذا يصحّ الحمل بلا تجوّز في قولنا : النور منير والضوء مضيء والعلم معلوم ، مع كون المبدأ في المقام متّحدا مفهوما مع الذات المحمول عليها ، فإنّ الموضوع هو نفس المبدأ. نعم يعتبر المغايرة بين الموضوع والمحمول ولا يعتبر أزيد من ذلك قطعا ، فافهم.

التنبيه الخامس : في اعتبار قيام المبدأ بالذات وعدمه

قد ذكر صاحب الفصول قدس‌سره (٣) عدم صحّة الحمل في صفات الذات من صفات الله من جهة اخرى غير المغايرة الخارجيّة ، وهو أنّه يعتبر قيام المبدأ بالذات ولا قيام في صفاته ؛ إذ المبدأ فيها عين الذات والقيام يقتضي المغايرة ، فالتزم بالتجوّز في صفاته تعالى وتقدّس.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٢) كفاية الاصول : ٧٦.

(٣) الفصول : ٦٢.

٢١١

وقد ذهب جماعة (١) إلى عدم اعتبار القيام بالذات أصلا لا في صفاته ولا في غيرها مستدلّين بصدق الضارب والمؤلم مع قيام الضرب والألم بالغير.

ولا يخفى أنّ هذا القول من المضحكات ؛ إذ لو لم يعتبر القيام فلم لم يصدق ضارب ومؤلم على غيرهما؟ بل الظاهر ـ كما ذكره في الكفاية ـ اعتبار التلبّس وإن اختلفت أنحاؤه في كونه بنحو الصدور في «ضارب» و «مؤلم» وبنحو آخر في غيرهما.

بقي الكلام فيما ذكره صاحب الفصول من عدم القيام لاقتضائه حينئذ الاثنينيّة المنفيّة في حقّه تعالى وتقدّس.

وقد أجاب في الكفاية (٢) بأنّ العينيّة نحو من أنحاء التلبّس المختلفة.

والجواب الحقيقي أن يقال : إنّ المعاني الحرفيّة ـ كما قدّمنا ذلك في المعنى الحرفي ـ تضييقات في المفاهيم فهي تضييقات في مقام المفاهيم الاسميّة ، والمشتقّ ـ كما ذكرنا ـ مركّب من مفهوم شيء مع نسبة المبدأ ، فهيئة المشتقّ تضييق مفهوم شيء بقوله : له العلم ، فيكون مفهوم عالم : شيء له العلم ، ولا ريب في أنّه مفهوم يصحّ حمله على الذات ، وكون مصداقه عين الذات لا يخلّ بمقام المفهوم أصلا.

وبالجملة ، النسبة التي تفيدها هيئة المشتقّ إنّما تتحقّق بين مفهوم شيء والمبدأ ، فهي لتضييق ذلك المفهوم ، ولا يلزم أن تكون خارجيّة أصلا ، بل قد يستحيل تحقّق النسبة في الخارج كما في قولنا : اجتماع النقيضين محال وشريك الباري ممتنع ، وكون مصداقه حقيقة عين الذات لا ربط لها بالمفهوم.

وبالجملة ، حمل عالم على الله لا يضرّ أصلا ؛ إذ هو حمل لمفهوم على مفهوم ، وكون مصداق أحدهما عين مصداق الآخر لا يضرّ بمسألة المفهوم.

__________________

(١) منهم المعتزلة كما في شرح المختصر ١ : ٦٠ ، واختاره الكلباسي في الإشارات الورقة : ٣٢ ، ونسبه إلى معظم الأصحاب والحكماء وغيرهم.

(٢) كفاية الاصول : ٧٧.

٢١٢

بقي الكلام في أنّ الشيء الواحد كيف يكون تنتزع منه هذه الامور المتكثّرة؟ إذ كما لا يعقل أخذ الجامع من امور متشتتة كذلك لا يمكن أن يكون الشيء الواحد منشأ لامور كثيرة.

وجوابه : أنّ كثرتها لفظيّة لا حقيقيّة وإلّا فهي في الحقيقة شيء واحد وإنّما الاختلاف في الأسماء ، فهي نظير قول القائل : عباراتنا شتّى ...

توضيح الإشكال أن يقال : كما أنّ أخذ الجامع من امور متكثّرة على تكثّرها مستحيل ، بل لا بدّ له من جهة مشتركة حتّى بلحاظها يصحّ أخذ الجامع وانتزاعه منها ، كذلك لا يمكن انتزاع مفاهيم متعدّدة من شيء واحد بسيط ليس فيه نقص ولا تركيب أصلا ، فكيف يمكن انتزاع عالم وقادر وحيّ وغيرها منه على بساطته؟

والجواب : أنّ الألفاظ موضوعة للماهيّات الصرفة الغير المقيّدة بالوجود والعدم فقد تكون موجودة وقد تكون معدومة ، وقد ذكروا في أوّل علم الكلام وفي كثير من موارد علم الفلسفة أنّ أوّل ما يدركه الإنسان أنّه موجود ، والثاني ممّا يدركه أنّه غير غيره ؛ ولذا ترى أحد أفراده يغضب إذا غصب منه شيء مع أنّه لا وجه له لو لا إدراك أنّه غير غيره ؛ إذ لو لم يدرك ذلك فأيّ فرق بين أن يأخذه هو أو يأخذه شخص آخر؟ إذ كلاهما حينئذ غيران ، فلا مرجّح لأحدهما على الآخر أصلا.

وحينئذ فجواب هذه الشبهة هو أنّ المفاهيم المتعدّدة لا يمتنع انتزاعها من الشيء البسيط إذا كانت باعتبارات متعدّدة ، فباعتبار أنّه هو الذي منه يستمدّ الوجود في جميع الأشياء وإليه ينتهي ، ينتزع منه القدرة ، وباعتبار انكشاف جميع الأشياء عليه ينتزع منه العلم فيقال عالم. وحينئذ فانتزاع المفاهيم المتعدّدة ممكنة من البسيط كما ينتزع من الطول الخاصّ مثلا أنّه أطول من كذا وأقصر من كذا باختلاف اعتبار المعتبر كما هو واضح.

وبالجملة ، فالاختلاف في المفاهيم لا يضرّ بوحدة المصداق ولا ببساطته.

٢١٣

التنبيه السادس : في لزوم التلبّس بالمبدإ حقيقة

ذكر صاحب الفصول قدس‌سره (١) في صدق الحمل حقيقة تلبّس الذات المحمول عليها المشتقّ بالمبدإ حقيقة. وأشكل عليه في الكفاية (٢) بأنّ في مثل «جرى الميزاب» يصحّ أن يقال : الميزاب جار ، فيصحّ الحمل ؛ لأنّ جار مستعملة في معناها من غير تجوّز في الكلمة وإنّما التجوّز في الإسناد.

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) وجها لما ذكره في الفصول وهو أنّ النسبة الناقصة الموجودة في المشتقّ نسبة مجازيّة قطعا تبعا للنسبة الخبرية التامّة فإنّها نسبة مجازيّة حسب الفرض ، لكن هذا على التركيب أمّا على البساطة فليس المشتقّ إلّا المبدأ والفرق بينهما اعتباري.

وردّه بأنّه على التركيب كذلك ؛ إذ المدرك وحدة المشتقّ وإن انحلّ بالتعمّل العقلي إلى شيئين.

والحقّ أن يقال : إنّ النسبة الناقصة الموجودة في المشتقّ لا ربط لها بالنسبة الخبرية ؛ إذ هي حقيقة على كلّ حال ؛ إذ المأخوذ في المشتقّ على تقدير التركيب هو المفهوم لا الذات ومفهوم شيء له الجريان حقيقة قطعا.

نعم ، على تقدير أخذ الذات تتحقّق المجازيّة حينئذ.

والتحقيق أن يقال : إنّه إن أراد صاحب الفصول توقّف صدق المشتقّ في الخارج على الذات على تلبّسها بالمبدإ فالحقّ معه إذ لو لم تتلبّس بالمبدإ لا تكون من أفراده فيستحيل انطباقه عليها ، وإن أراد صاحب الفصول توقّف استعمال المشتقّ

__________________

(١) الفصول : ٦٢.

(٢) كفاية الاصول : ٧٨.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٢٧.

٢١٤

على التلبّس الحقيقي فأصل التلبّس غير معتبر فضلا عن كونه حقيقيّا ؛ إذ إذا قال الإنسان زيد عالم فقد استعمل لفظ عالم في معناها الحقيقي وإن كذب في دعواه علميّة زيد الذي هو أجهل الجهّال.

وبالجملة ، فالصدق موقوف على التلبّس حقيقة ليتحقّق كونه من أفراده فينطبق عليه ، لكنّ الاستعمال غير موقوف على التلبّس كلّية حتّى بنحو المجاز لجواز استعمالها فيمن ليس عالما أصلا كذبا.

هذا تمام الكلام في المقدّمات ، ويقع الكلام في مبحث الأوامر إن شاء الله تعالى.

٢١٥
٢١٦

في الأوامر

ويقع الكلام في مادّة الأمر وهيئته.

أمّا الكلام في المادّة فيقع في جهات :

[الجهة] الأولى : فيما وضع له لفظ «أمر»

وقد استعملت في معان كثيرة كما هو مذكور في كتب الاصول ، وإنّما الكلام في الموضوع له.

فقد ذكر الآخوند قدس‌سره (١) أنّه موضوع بنحو الاشتراك اللفظي لمفهوم الطلب والشيء.

وقد زعم الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) إرجاعهما إلى جامع واحد وهو الواقعة المهمّة ، فإنّ الطلب أيضا واقعة مهمّة وفرد من أفرادها.

ولا يخفى عليك ما في كلام الميرزا قدس‌سره فإنّ «أمر» التي هي بمعنى الطلب مشتقّة وببعض المعاني الآخر جامدة كما في الشأن ، فإن قولنا : «شغله أمر زيد» أي شأنه ، فهو جامد ، وحينئذ فكيف يمكن أخذ الجامع بين المشتقّ والجامد؟

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨١.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٣١.

٢١٧

وثانيا : أنّها تجمع في الاولى على «أوامر» وفي الثانية على «امور» واختلاف الجموع أمارة اختلاف المعاني.

وثالثا : أنّه قد يقال : «هذا أمر غير مهمّ» أو «امور غير مهمّة» ولو أخذت الأهميّة فيها للزم التناقض أو المجاز ، والحال أنّا لا نرى تفاوتا في إطلاقها بين الموارد في الاستعمال.

وكيف كان ، فكونها حقيقة في الطلب بالقول أمر مسلّم ، ومعرفة بقيّة معانيها غير ضروريّ ؛ لعدم اشتباه المراد منها في مورد حتّى يحقّق ويدقّق.

وما ذكره الآخوند قدس‌سره أيضا غير تامّ ؛ إذ لفظ «شيء» الذي هو المعنى الثاني لمادّة الأمر يطلق على الجواهر والأعراض ولا يطلق لفظ «أمر» على الجواهر ، لا يقال : «جاء أمر» كما يقال «جاء عمر» ويشار إلى الجدار فيقال : «هذا شيء» ولا يقال له : «هذا أمر» مع أنّه لو كان معناه «الشيء» لصدق حيث يصدق ، كما أنّ ما ذكره من استعماله في الفعل في (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) غير تامّ إذ المراد منه الطلب ؛ لأنّ الآية (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(١) كما أنّ ما ذكره من كونه حقيقة في القول المخصوص أيضا غير تامّ ؛ إذ ليس اسم القول المخصوص أمرا وإنّما هو اسم للطلب به.

الجهة الثانية : في اعتبار العلوّ والاستعلاء في معنى الأمر وعدمه

والاحتمالات أربعة : اعتبارهما ، وعدم اعتبارهما ، واعتبار العلوّ دون الاستعلاء ، واعتبار أحدهما لا بعينه. والظاهر اعتبار العلوّ في معنى الأمر ، إذ لو قال المساوي لمساويه : «آمرك بكذا» يغضب ، وليس إلّا لفهمه الاستعلاء من هذا الكلام.

__________________

(١) هود : ٩٧.

٢١٨

وأمّا الاستعلاء : فإن اريد به أن يكون الآمر لاحظا كونه مولى وأنّ المأمور عبد ، فهذا أيضا يكون معتبرا. وإن اريد من الاستعلاء الجبروتية والطاغوتية فهو غير معتبر ، لصدق الأمر على أمر المولى المستخفض لجناحه.

والظاهر اعتبار كون الأمر بنحو المولوية والطلب الجدّي ، فلا يصدق على الأمر الصادر بنحو الاستهزاء والسخرية والإرشاد ونحوها ، ويشهد له قوله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] بعد قول جويرية : أتأمرني يا رسول الله؟ «لا بل إنّما أنا شافع» (١) فإنّ ظاهره أنّ الشفاعة ليست أمرا ، فافهم.

الجهة الثالثة : في أنّه حقيقة في الوجوب أم لا؟

وقد ذكرنا أنّه حقيقة في الطلب بالقول المخصوص ، فإن كان القول المخصوص وهو صيغة «افعل» حقيقة في الوجوب كان حقيقة في الوجوب وإلّا فلا ، وسيأتي الكلام فيها.

__________________

(١) المستدرك ١٥ : ٣٢ ، الباب ٣٦ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٣.

٢١٩

في مبحث الطلب والإرادة

ويقع الكلام في موارد أربعة :

الأوّل : في اتّحاد مفهوم الطلب والإرادة أو مصداقهما وتغايرهما.

الثاني : في مفاد الجملة الخبريّة والصيغة الإنشائيّة. والبحث في هذين الأمرين لغويّ صرف.

الثالث : في وجود صفة اخرى غير تصوّر الشيء والتصديق بفائدته والشوق والعزم والجزم تسمّى بالكلام النفسي ، وعدم وجودها.

الرابع : في مبحث الجبر والتفويض. والكلام فيهما جهة كلاميّة.

أمّا الكلام في الجهة الاولى : [مفهوم الطلب والإرادة]

فنقول : ذهب الآخوند قدس‌سره (١) إلى اتّحاد مفهوم الطلب والإرادة وأنّهما مفهوما شيء واحد وإن انصرف الأوّل إلى الإنشائي والثاني إلى الحقيقي. وربّما زعم بعضهم اتّحاد مصداقهما وإن تغاير المفهوم ، فهما من قبيل اتّحاد الضاحك بالقوّة مع الكاتب بالقوّة مصداقا متّحدان وإن كانا بحسب المفهوم متغايرين.

والظاهر اختلافهما مفهوما ومصداقا.

بيان ذلك : أنّ الإرادة من الصفات النفسانيّة ، وهي لا يصدق عليها الطلب أصلا ، فإنّه لا يقال : «طالب العلم» إلّا لمن يبرز طلبه باشتغاله بمقدّمات تحصيله كما لا يقال : «طالب الضالّة» لمن يريد حصولها بيده من غير أن يشتغل بالفحص عنها ، وكذلك «طالب الماء» في باب التيمّم.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٥.

٢٢٠