غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

ذلك المعنى الغير المتقيّد بقيد والغير المتخصّص بخصوصيّة ، فإذا جعل ذلك اللفظ بطبيعيّة لمعنيين فهو مناف لكونه بطبيعيّة يفيد طبيعيّ المعنى الأوّل.

والحقّ أن يقال : إنّ جواز الاشتراك واستحالته مبنيّ على ما تقدّم في الوضع وحقيقته ، فإن قلنا بكون الوضع وجودا تنزيليّا للمعنى أو أنّه اعتبار كونه علامة على المعنى ، كوضع العلم على رأس الفرسخ والعمامة على الرأس فلا ينبغي الريب في جواز الاشتراك ؛ لجواز أن يكون اللفظ وجودا تنزيليا لشيئين يميّز بينهما بالقرينة. وكذا لا مانع من أن يعتبر الواضع اللفظ وجودا تنزيليّا لهذا مرّة ، ووجودا تنزيليّا لذاك اخرى ويميّز بينهما بالقرينة الحاليّة أو المقاليّة. وتكون فائدة الوضع حينئذ هو كون اللفظ مفيدا للمعنى بنحو الاقتضاء ، بمعنى كون اللفظ له أهليّة الاستعمال في أيّ المعنيين واقتضاء الإفادة وإن كان تمامها موقوفا على القرينة المعيّنة.

وأمّا بناء على ما ذكرنا من كون الوضع هو التعهّد بأنّه متى أراد المعنى جعل مبرزه هذا اللفظ ، فلا يعقل أن يتعهّد ثانيا بأنّه متى أراد معنى آخر جعل مبرزه نفس هذا اللفظ إلّا بعد إعراضه عن تعهّده السابق أو جعل اللفظ مبرزا لأحدهما وكلاهما مناف للاشتراك اللفظي. فلا بدّ من القول باستحالة الاشتراك لمنافاته لأصل الوضع لا لحكمة الوضع.

فلا بدّ فيما نراه من الاشتراكات من التزام أحد أمور :

إمّا القول بأنّ الوضع للجامع بين تلك المعاني كما هو الواقع في كثير من المشتركات كما هو ظاهر لمن أمعن النظر في كتب اللغة.

وإمّا القول بأنّه قد تعهّد عند الوضع للأوّل أنّه متى أطلق هذا اللفظ أراد هذا المعنى ، ثمّ أعرض عن تعهّده الأوّل وتصوّر جامعا يشمل الأوّل والثاني فوضع اللفظ بنحو الوضع العامّ الموضوع له الخاصّ.

وإمّا القول بتعدّد الواضع كما نقل عن جرجي زيدان المؤرّخ الشهير : أنّ منشأ وقوع الاشتراك في لغة العرب هو ضمّ لغات القبائل بعضها إلى بعض ، فافهم.

١٨١

في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى وعدمه

ولا يخفى أنّ الكلام لا يخصّ المشترك بل هو بالنسبة إلى استعمال اللفظ في المعنيين الحقيقيّين والمجازيّين والمعنى الحقيقي والمجازي.

وقد ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى الاستحالة بدعوى كون اللفظ وجودا تنزيليّا للمعنى ، وكون الألفاظ غير ملحوظة في مقام الاستعمال الدالّة ، بل قد تكون غير ملتفت إليها أصلا ، وحينئذ فاستعمالها في معنيين يوجب أن يلحظ اللفظ بلحاظين آليّين وهو محال.

ولا يخفى أنّه لو كان الأمر حقيقة كما ذكر للزم القول بالاستحالة ولكن اللفظ ليس غير ملحوظ الدلالة ، نعم قد يتّفق أنّ الإنسان لا يلتفت إلى لفظه في مقام الاستعمال لكنّه ليس دائميّا ، بل اللفظ في مقام الاستعمال ملحوظ استقلالا ، كما نشاهده كثيرا بالنسبة إلى الخطباء والشعراء ؛ فإنّ الخطباء يعنون بكلامهم حتّى لا يصدر منه الألحان والمخالفات للقواعد العربيّة وللفصاحة والبلاغة. والشعراء لو لا اعتناؤهم بالألفاظ لما تكوّنت القصائد والأشعار.

وبالجملة ، فبناء على ما ذكرنا من أنّ الوضع هو التعهّد لا مانع من أن يجعل المبرز لتعهّدين لفظا واحدا ويتعلّق اللحاظان بالمعنيين المبرزين ، فلا يتعلّق لحاظان بملحوظ واحد أصلا.

وبالجملة ، فلا ثمرة في هذا المبحث ، فإنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى إنّما يكون مع القرينة ، ومعها لا بدّ من تصوير جامع قد استعمل اللفظ فيه إن قلنا بالامتناع ، وإلّا فالمحقّق عندنا هو الجواز.

بقي الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية (٢) من الروايات الدالّة على أنّ للقرآن سبعة أبطن أو سبعين بطنا ، فقد ذكر صاحب الكفاية أنّه يمكن أن يكون المراد بها

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٣.

(٢) المصدر : ٥٥.

١٨٢

معاني اريدت بإرادات مستقلّة عند النطق بهذا اللفظ ، فلا تكون من قبيل استعمال المشترك في معنييه.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا يمكن تفسير البطون بما ذكره ، فإنّ باطن اللفظ ما له نسبة إليه ، وإرادة اللوازم الأجنبيّة لا نسبة لها إلى نفس اللفظ.

نعم ، لو وجد مثل ذلك في الأخبار لم يبعد أن يكون المراد : اللوازم التي لا تظهر لكلّ ناظر إلى القرآن ، كما إذا قال القائل : إنّ زيدا أكل عشر حبّات من الحبّ الفلاني مثلا ، فالعالم بخاصيّة ذلك الحبّ يعلم بأنّ زيدا قد مات ، وغير العالم لا ينتقل إلى مدلول اللفظ ، أمّا مثل هذه اللوازم فلا. ولا بدّ أن يكون الكتاب الإلهي المشتمل على علم ما كان وما يكون وما هو كائن مشتملا على مثل هذه اللوازم التي لا تظهر لنا ، وإنّما تظهر لمن خوطب به ؛ ضرورة أنّ الاطّلاع على لوازم الكتب العادية لا يحصل لكلّ أحد مثل فرائد الشيخ قدس‌سره فكيف بكتاب الله.

وممّا يؤسفنا جدّا أنّا لم نجد أخبارا بلسان سبعة بطون أو سبعين بطنا فيما وجدناه من الأخبار (١) ، وإنّما وجدنا : أنّ للقرآن ظهرا وبطنا وظاهرا وباطنا (٢) ، وقد فسّر في حديث أهل البيت الظهر والظاهر بما يعرفه أهل اللسان ، والباطن بكونه موعظة للبشر وعبرة للخلق (٣) ، كما ورد أنّ له تفسيرا وتأويلا (٤).

وبالجملة ، فهذا كلّه أجنبيّ عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، فافهم.

__________________

(١) انظر تفسير الصافي ١ : ٢٨ ، وتفسير الميزان ١ : ٧ ، وكتاب الأربعين للماحوزي : ٢٨٠ ولكن لم نجد ذلك في المصادر الأولية.

(٢) انظر البحار ٩٢ : ٧٨ ـ ١٠٦.

(٣) المصدر السابق.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٤٥ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧ وغيره.

١٨٣
١٨٤

في المشتقّ

لا ريب في أنّ استعمال المشتقّ بلحاظ حال التلبّس حقيقة مطلقا ، سواء كان حال التلبّس سابقا على حال النطق ، أم كان متأخّرا عنه ، أم كان النطق حاله. كما لا ريب في كون المشتقّ مجازا فيمن لم يتلبّس بعد بالمبدإ بعلاقة الأوّل.

وإنّما الكلام في كونه حقيقة في خصوص حال التلبّس أم في الأعمّ منه ومن انقضى عنه المبدأ ، ذهب إلى الأوّل عموم الأشاعرة ، وإلى الثاني عموم المعتزلة. وقبل الخوض في المبحث على نحو الإجمال نقدّم مقدّمة ، ولا نطيل الكلام في هذا المبحث ؛ لعدم فائدة مهمّة مترتّبة عليه.

فنقول ومنه الاستعانة : إنّ جميع المحمولات المحمولة على الموضوعات لا تخلو عن أقسام خمسة :

الأوّل : المحمولات التي بها قوام الذات كلّا أو بعضا ، كما في حمل الذاتيّات في باب الكلّيات على الذات ، كما في حمل حيوان أو ناطق أو هما على الإنسان فتقول : الإنسان حيوان ناطق أو حيوان أو ناطق.

الثاني : حمل الذاتي في باب البرهان على الذات ، ويسمّى بالخارج المحمول ؛ ضرورة أنّه خارج عن الذات ، وحيث إنّ تصوّر الذات وحدها كاف في حمل هذا المحمول عليها ، كما في حمل الإمكان على الإنسان ، فإنّ صفة الإمكان صفة خارجة

١٨٥

عن الإنسان ولكن نفس تصوّره كاف في حملها عليه ، ضرورة أنّه لو كان صفة الإمكان بواسطة أمر خارج لكان بحسب ذاته واجبا أو ممتنعا وهو محال.

الثالث : المحمول بواسطة الأمور الخارجيّة ، وهي إمّا أن تكون بواسطة عرض من الأعراض له وجود حسّي يدرك بحسب الحواسّ ، كما في البياض ، فإنّه عارض وله وجود حسّي في قبال معروضه ، فإنّ البياض له وجود غير وجود الجسم.

الرابع : العارض بواسطة أمر خارجي هو منشأ الانتزاع ، كما مثّلوا له في الفوقية ، فإنّ الفوقية أمر انتزاعي ينتزع من كون شيء في محلّ دونه شيء ، فهو بالإضافة إلى ذلك الشيء عالي ؛ ولذا لا يقال عالي من دون إضافة إلى شيء ، كما لا يقال سافل لذلك.

الخامس : ما كان عارضا بواسطة اعتبار المعتبر ، بحيث لا وجود لها مع قطع النظر عن ذلك الاعتبار أصلا ، كما في الزوجيّة والملكيّة والرقيّة والحريّة وشبهها ، فإنّها لو لا اعتبار الزوجيّة لم يكن المحمول محمولا.

أمّا القسم الأوّل فلا ريب في خروجه عن محلّ النزاع للمشتقّ ؛ لعدم بقاء الذات مع نفي ما به قوامها وانقضائه ؛ ولذا لا يقال للتراب إنسان ولو مجازا ، هذا إذا كان جامدا ، وأمّا إذا كان مشتقّا كناطق وحيوان التي هي صفة مشبّهة باسم الفاعل فلا ريب في كون وضع الهيئة لاسم الفاعل يشملهما. وعدم تحقّق بعض أفراد المعنى ، وهو المنقضي عنه المبدأ فيهما على القول بالأعمّ لا يوجب خروجهما عن محلّ النزاع.

نعم فيما كان جامدا حيث لا وضع لهيئته يتمّ الخروج ، فافهم.

وأمّا القسم الثاني فقد ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى خروجه أيضا ؛ لعين الوجه الذي خرج به القسم الأوّل ، فإنّ الذات بعد ذهاب الإمكان وانقضائه لا تبقى أصلا حتّى يقع النزاع في كونه حقيقة فيه أو مجاز كما هو واضح.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٧٩.

١٨٦

والإنصاف دخوله في محلّ النزاع ؛ إذ النزاع في هيئة فاعل ، والهيئة موجودة في المقام وإن استحال أحد أفراده على تقدير كونه حقيقة في الأعمّ ، نظير لفظ «غني» أو «عالم» أو «قادر» بالإضافة إلى الله ، فإنّ استحالة كونها ينقضي عنها المبدأ مع بقاء الذات لا يوجب خروجها عن النزاع.

وبالجملة ، الكلام فيما وضعت له هيئة المشتقّ وهي قاعدة عامّة ، واستحالة صدق بعض الموادّ مع انقضاء المبدأ لا يوجب قصر النزاع في غيرها ، فافهم.

وبالجملة ، فهذا القسم مع ما ذكر من المشتقّات من الأوّل مع بقيّة الأقسام وهي الثلاثة المتأخّرة هي محلّ الكلام. ومنه يظهر دخول اسم الزمان في محلّ النزاع ؛ لأنّ هيئته مشتركة بين اسم الزمان والمكان ، فعدم بقاء الزمان بعد انقضاء المبدأ لا يوجب خروج الهيئة عن محلّ النزاع ؛ لأنّها هيئة اسم المكان الممكن فيه تحقّق النزاع.

فمحلّ الكلام المشتقّات الاصطلاحيّة بأسرها والجوامد ممّا كان محمولا بضميمة الأمور الخارجيّة ، بل الكلام في مطلق ما يصحّ حمله وإن كان جامدا. فالجامد إمّا داخل في نفس النزاع أو إنّ حكمه وحكم المشتقّ واحد ، كما يشهد له ما ذكره فخر المحقّقين قدس‌سره (١) فيمن أرضعت زوجته الصغيرة زوجتاه الكبيرتان من أنّ المرضعة الثانية هل تحرم أم لا ، فبناه على مسألة المشتقّ مع كونه من الجوامد.

فيقع الكلام في ذلك ، وقبل الخوض في ذلك نتكلّم في أنّ بحث المشتقّ له ثمرة عمليّة أم أنّه بحث علمي صرف ، فنقول : الظاهر أنّه لا ثمرة له ؛ ضرورة أنّه لو قلنا بأنّه حقيقة في الأعمّ لكان المنصرف من الإطلاقات هو خصوص المتلبّس ، فلو قال القائل : «أكرم العالم» لا يتوهّم أحد وجوب إكرام من كان عالما ثمّ صار جاهلا. وكذا لو قال : «أهن الفاسق» فإنّه لا يتوهّم أحد وجوب إهانة من كان فاسقا ثمّ صار عادلا أصلا.

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٣ : ٥٢.

١٨٧

وبالجملة ، فالمدار الظهور وهو متحقّق بالنسبة إلى خصوص المتلبّس.

وأمّا ما ذكره فخر المحقّقين قدس‌سره من مسألة الزوجتين الكبيرتين والصغيرة المرتضعة فممّا لا تبتني على مسألة المشتقّ ، بل لها مبنى آخر نذكره إن شاء الله تعالى ، وبما أنّها مسألة شريفة فقهيّة فلا بأس بالتعرّض لها بشقوقها وبيان حكمها وصورها وذكر الأخبار أيضا.

في الكلام في مسألة الزوجتين والصغيرة الرضيعة

قد ذكر فخر المحقّقين قدس‌سره في من له زوجتان كبيرتان قد ارضعتا زوجته الصغيرة الثالثة ما لفظه : تحرم المرضعة الاولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين ، أمّا المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدي المصنّف رحمه‌الله وابن إدريس تحريمها ؛ لأنّ هذه يصدق عليها أمّ زوجته ؛ لأنّه لا يشترط في المشتقّ بقاء المشتقّ منه ، هكذا هاهنا (١) انتهى.

والظاهر كما أشرنا إليه عدم ابتناء المسألة على مسألة المشتقّ ، بيان ذلك أنّ هذه المسألة تفرض بثلاث صور :

الاولى : أن يفرض عدم الدخول بكلتا الكبيرتين.

الثانية : أن يفرض الدخول بالكبيرة الاولى فقط.

الثالثة : أن يفرض الدخول بالكبيرة الثانية فقط. وقبل الخوض في هذه الصور لا بدّ من ذكر أمرين تمهيدا للمسألة :

الأوّل : أنّ تحريم الجمع بين نكاح امرأتين كما في ما بين الاختين يقتضي بطلان عقدهما معا لو اقترن ، فلو تزوّج بكلتا الاختين في آن واحد ، بأن عقد هو على امرأة ووكيله على اختها في آن واحد بطلا معا ؛ لعدم بقاء الزوجية بالنسبة إلى كلتيهما

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٣ : ٥٢.

١٨٨

قطعا ، فلا بدّ من بطلان عقد واحدة منهما معيّنة أو غير معيّنة أو بطلان عقدهما معا ، وحيث إنّ بطلان عقد واحدة بلا تعيين إن اريد به تخيير الزوج فلا دليل عليه ، وإن اريد به واحدة لا بعينها في الواقع فلا وجود لها ، وبطلان عقد واحدة معيّنة ترجيح بلا مرجّح فيبطلان معا حينئذ ، فلو فرضنا أنّ الزوجة وامّها من هذا القبيل لزم بطلان عقدهما معا بانتهاء الرضاع ؛ لعين ما ذكر ، ولكنّ الظاهر أنّ الحرمة ليست بينهما من جهة الجمع.

الثاني من الأمرين : أنّه كما ذكرنا بناء على انصراف المشتقّ إلى المتلبّس كما هو الظاهر لا بدّ من تحقّق عنوان أمّ لزوجة فعليّة وعنوان بنت لزوجة فعليّة ، ولازمه أنّه لو كانت له زوجة وطلّقها وبعد انقضاء العدّة تزوّجها شخص آخر فأولدها بنتا ، لازم ما ذكرنا أنّه يجوز للزوج الأوّل أن يتزوّجها يعني يتزوّج البنت ؛ إذ إنّها ليست بنتا للزوجة الفعلية له ، وكذا لو حدث لها رضاع لبنت بعد مفارقته بلبن غيره ؛ إذ هي ليست بنتا رضاعية لزوجته ؛ إذ قد خرجت هذه عن كونها زوجته ، ولكن هذا لا يلتزم به أحد من الفقهاء ، فالإجماع قائم منهم على أنّ الزوجيّة متى تحقّقت في آن من الآنات حرمت بنتها السابقة على التزويج واللاحقة له ، والظاهر أنّ الزوجة متى تحقّقت زوجيتها حرمت أمّها أيضا السابقة نسبا ورضاعا واللاحقة رضاعا أيضا ، ولا يعقل أن تكون لها أمّ لاحقة نسبا ، فقيام الإجماع دليل على كفاية التلبّس بالزوجيّة آناً ما في تحريم امّها وبنتها نسبا ورضاعا.

إذا عرفت هذين الأمرين فنقول :

أمّا الكلام في الصورة الاولى وهي التي لم يتحقّق فيها دخول أصلا إذا فرضنا الحرمة من باب حرمة الجمع بين الأمّ والبنت كما فيما بين البنتين فالظاهر أنّه لا يكون بينهما إلّا بطلان العقد فقط ؛ لأنّه بمجرّد انقضاء ما يعتبر في الرضاع بطل العقدان معا ؛ لما قدّمنا من استحالة بقائهما والواحد الغير المعيّن لا معنى له والمعيّن ترجيح من غير مرجّح ، ولم تتحقّق زوجيّة مع امومة أو بنتية ؛ لأنّ بمجرّد تحقّق الأمومة والبنتيّة بطل العقدان ، فلم يمض أنّ المرضعة أمّ ولا المرتضعة بنت إلّا وليستا زوجتين.

١٨٩

نعم ، تحقّق الرضاع قبل زوال الزوجيّة رتبة ، فإذا ضممنا إلى ذلك ما ذكرنا في المقدّمة الثانية من كفاية كونها زوجة في آن تحريم ابنتها وأمّها حرمتا معا ، وحرمت الكبيرة الثانية إذا أرضعتها تمام النصاب ؛ لعين الملاك المذكور في تحريم الاولى.

فليس التحريم مستندا إلى الخلاف في المشتقّ ومبنيّا على أن يكون للأعمّ ؛ لأنّ المبنى في التحريم كفاية كونها أمّ زوجة ولو كانت زوجة آناً ما ، فحتّى لو قلنا بأنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس لقلنا بالتحريم أيضا.

وأمّا إذا قلنا بأنّ التحريم في المقام ليس تحريما من باب حرمة الجمع ـ إذ لا دليل عليه ـ وإنّما الحرمة من جهة المصاهرة فالظاهر حينئذ بطلان عقد المرضعة بمجرّد تمام الرضاع وحرمتها الأبديّة دون المرتضعة ؛ لأنّ مناط تحريم الربيبة هو الدخول بالامّ وهو منتف ، وليس مناط البطلان تحريم الجمع حتّى يبطلا معا ، بل مناط البطلان صدق أمّ الزوجة وهو متحقّق ، فتحرم الأمّ مؤبّدا بعد بطلان عقدها ، وكذا المرضعة الثانية يبطل عقدها وتحرم مؤبّدا لما ذكرناه حرفا بحرف.

أمّا المرتضعة فلا يبطل عقدها ؛ إذ لا موجب لبطلانه أصلا بخلاف المرضعة ؛ إذ إنّها أمّ للزوجة الفعليّة وأمّ الزوجة من المحرّمات الأبديّة ، فتحقّق الرضاع يوجب بطلان عقد أمّ الزوجة ؛ لتحقّق العنوان الذي بسببه يتحقّق التحريم المؤبّد ، بخلاف بنت الزوجة فإنّها لا يتحقّق تحريمها إلّا مع الدخول بالامّ المفروض انتفاؤه في المقام. فصحّة عقد الصغيرة يرفع صحّة عقد الكبيرة ولكن صحّة عقد الكبيرة لا يوجب رفع عقد الصغيرة ؛ إذ لا دخول بالكبيرتين.

الصورة الثانية : أن يفرض الدخول بالكبيرة الاولى فقط فتحرمان معا الصغيرة المرتضعة والكبيرة المرضعة.

أمّا حرمة الصغيرة فلأنّا قد ذكرنا أنّ البنت للزوجة المدخول بها تحرم وإن تحقّقت بعد ذلك نسبا ، كما لو طلّقها الزوج فتزوّجت بآخر فأولدها بنتا فإنّها تحرم

١٩٠

كما دلّت عليه النصوص (١) فتحرم لو تحقّقت لها بنت رضاعية أيضا ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (٢) فبنت الزوجة المتأخّرة عن زمن زوجيّة امّها محرّمة أبدا أيضا.

وأمّا حرمة الكبيرة فهي وإن كان بمجرّد إكمال الرضاع انتفت الزوجيّة وتحقّقت الأمومة والبنوّة في آن واحد إلّا أنّ هذا المقدار كاف في صدق عنوان أمّ الزوجة فتحرم أيضا.

وأمّا المرضعة الثانية الغير المدخول بها فإذا أكملت الرضاع لا يصدق أنّها أمّ الزوجة الفعليّة ؛ لانتفاء زوجيّة الصغيرة بتمام إرضاع الاولى ، وقد يكون بينهما مدّة ستّة أشهر مثلا أو أزيد فتبتني حرمتها على ما تقدّم من أنّه إن تمّ الإجماع على أنّ أمّ الزوجة محرّمة وإن كانت الامومة الرضاعيّة متأخّرة عن زمن الزوجيّة فتحرم ؛ لأنّها أمّ من كانت زوجة ، وإن لم يتمّ الإجماع فلا تحرم أصلا.

ويتفرّع على ذلك أنّه لو كان متزوّجا لامرأة من غير دخول يجوز له العقد على ابنتها النسبيّة أو الرضاعيّة ، فلو عقد بطل عقد الامّ وثبت عقده على البنت ، وكذا لو اقترن عقدهما يبطل عقد الامّ ويصحّ عقد البنت.

وبالجملة ، فليست المسألة مبتنية على المشتقّ.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما لو كانت الكبيرة الاولى غير مدخول بها والكبيرة الثانية مدخولا بها فقد ظهر حكمها من أنّ المرضعة الاولى تحرم ؛ لأنّها أمّ الزوجة فيبطل عقدها ، بخلاف البنت فإنّه لا موجب لبطلان عقدها ؛ لأنّ المرضعة لها غير مدخول بها ،

نعم ، إذا ثبت بإجماع أو غيره حرمة الجمع بينهما بطلا معا ؛ لبطلان الترجيح من غير مرجّح ولكنّه لم يثبت ، فيكون ترجيح بطلان المرضعة بمرجّح وهو كونها

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٥٠ ، الباب ١٨ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ١ و ٣ و ٤.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٨٠ ، الباب الأوّل من أبواب ما يحرم بالرضاع ، الحديث الأوّل.

١٩١

امّا لزوجة بأحد الأزمنة فتحرم ، ولكن البنت المرتضعة لا تحرم ؛ لعدم الدخول بامّها حسب الفرض ، فهي باقية تحت الزوجيّة ، فلو أرضعتها الكبيرة الثانية حرمتا معا ؛ لفرض الدخول بالكبيرة الثانية فصارت البنت بنتا لزوجة مدخول بها فتحرم لما ذكرنا ويصدق على الكبيرة أنّها أمّ الزوجة عرفا وإن انتفت الزوجيّة عند تحقّق الامومة ، ولكنّ الصدق العرفي كاف في ذلك ، فليست المسألة بشقوقها مبنيّة على النزاع في المشتقّ أصلا ؛ ضرورة أنّه لو قلنا بأنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ فلا أقلّ من انصرافه إلى خصوص المتلبّس وظهوره فيه ، فافهم (*).

الكلام في ما ذكره صاحب الكفاية من اختلاف المبادئ

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ مبادئ المشتقّات مختلفة ، فقد يكون المبدأ حرفة وصناعة كما في «نجّار» و «بنّاء» ، وقد يكون المبدأ قوّة وملكة كما في المجتهد بالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي ، وقد يكون المبدأ فعليّا كما في «قائم» و «قاعد» ، وزعم أنّ المنقضي بالنسبة إلى ما كان مبدأ فعليّا الانصرام الفعلي ، بخلاف ما كان مبدؤه حرفة

__________________

(*) قد ذكر أستاذنا في دورته الأخيرة (١٣٨٣ ه‍) تبعا لبعض المحقّقين ـ انظر أجود التقريرات ١ : ٨٠ ـ ٨١ ـ : أنّ الصغيرة تحرم مطلقا لما دلّ ـ راجع الوسائل ١٤ : ٣٥٠ ، الباب ١٨ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ـ على تحريم بنت الزوجة المدخول بها مطلقا وأمّا الزوجة الثانية الكبيرة والأولى فقد بنى تحريمهما على مسألة المشتقّ ، أمّا الثانية فواضح ، وأمّا الاولى فلأنّ زمان زوال الزوجيّة وزمان انتهاء الرضاع المحرّم هو زمان تحقّق الأميّة والبنتيّة ، فلم تصر الزوجة الكبيرة أمّ الزوجة الصغيرة إلّا وقد صارت الصغيرة بنت الزوجة الكبيرة ، فلم ترضع الكبيرة زوجته الصغيرة الفعليّة بل من كانت زوجته ، غايته أنّه في الثانية واضح جدّا وفي الاولى بتأمّل.

(١) كفاية الاصول : ٦٢.

١٩٢

وصناعة ، فإنّ انقضاء مبدئه بالإعراض عن ذلك ، كما أنّ ما كان مبدؤه قوّة ، الانقضاء فيها بذهاب تلك القوّة والملكة.

وما ذكره في لفظ «مجتهد» صحيح ؛ فإنّ الظاهر أنّ معناها الاصطلاحي هو واجد الملكة فإذا انقضى وجدانه للملكة انتفى عنه المبدأ وانقضى ، إلّا أنّ منشأ ما ذكره ليس اختلاف المبادئ ؛ إذ يلزم على ذلك أن يكون استعمال تلك المبادئ مثل لفظ بنى يبني مثلا مجازا في الفعل الخارجي وكذلك نجر ينجر مثلا وصاغ يصوغ ؛ ضرورة عدم استعمال ذلك المبدأ في الحرفة والصناعة ، أو يلتزم بالاشتراك في المبدأ.

والظاهر أنّ المبدأ في الجميع بمعنى واحد وإنّما نشأ الاختلاف المذكور من الهيئات ، فمثل نجّار وبنّاء بما أنّها من أمثلة المبالغة فمعناها من يتكرر منه ذلك العمل بكثرة ، وهذا المعنى منه موجود بالفعل ما دام لم يعرض ، والمادّة موضوعة لهذا العمل بإطلاقه ، ومثل مفتاح مثلا بما أنّه نسبة الفعل إلى اسم الآلة فلا بدّ من كونه اسم آلة بالفعل ؛ ولذا لو انكسر سنّ من أسنانه لا يصدق حينئذ اسم الآلة فلا تكون نسبة الفعل إلى اسم الآلة.

وأمّا مثل قاضي مثلا وأشباهه فإنّما اخذ فيه القضاوة الشأنيّة فمبدؤه القضاوة الشأنيّة فلا ينافي صدقها اشتغاله بالأكل أو الشرب أو الصلاة ، وكذا الحاكم مثلا فإذا عزل عزلا خارجيّا كما في عزل السلطان أو عزلا إلهيّا كما إذا فسق مثلا فالقضاوة الشأنيّة قد انقضت عنه ، فقد أخذ في مثل هذه المبادئ الشأنيّة ، فالمادّة فيها موضوعة للمادّة المنتسبة بأيّ نحو كان تلبّسه بذلك المبدأ ، فالاختلاف فيها في أنحاء التلبّس لا في المبدأ أصلا ، فإنّ نحو التلبّس بهذا المبدأ هو بنحو الشأنيّة كما أنّه في غيرها بنحو الفعليّة ، فافهم فإنّه دقيق.

١٩٣

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ النزاع يجري في جميع المشتقّات وبعض الجوامد وهي الغير المنتزعة عن مقام الذات ، إلّا أنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ذكر خروج اسم الآلة مثل مفتاح ومقراض ؛ لأنّه لا يعتبر في صدقه التلبّس أصلا بل يصدق مفتاح وإن لم يفتح به أصلا. ولا يخفى عليك ما فيه ؛ فإنّ صدق النسبة الآن لأنّه نسبة الفعل إلى آلة الفتح وكونها آلة الفتح متحقّقة بالفعل وإن لم يفتح به أصلا.

كما أنّه قد ذكر قدس‌سره (٢) خروج اسم المفعول فإنّه بعد وقوع الفعل عليه خارجا لا ينقلب عمّا وقع عليه ، فلا يتصوّر فيه الانقضاء حتّى يقال إنّه حقيقة في خصوص المتلبّس أو في الأعمّ منه ومن المنقضي عنه المبدأ. ولا يخفى عليك غرابة صدور مثل هذا من قلمه الشريف ؛ لأنّ الضارب خارجا أيضا لا ينقلب عمّا وقع عليه ؛ فإنّه من صدر منه الضرب وهو لا يتصوّر فيه الانقضاء وكذا جميع المشتقّات.

وثانيا أنّ ضارب ومضارب لم يوضعا لمن وقع عليه الضرب في الخارج ومن صدر منه الضرب في الخارج ، بل هما موضوعان لمفهوم كلّي ينطبق ذلك المفهوم الكلّي على أفراده ومصاديقه الخارجيّة ، وإلّا فليس الصدور في الخارج أو الوقوع عليه في الخارج ممّا اخذ جزءا لمفهوم المعنى ، فالظاهر أنّ جميع المشتقّات داخلة ، فافهم.

في المراد من الحال في العنوان

ذكر الآخوند قدس‌سره (٣) أنّ المراد بالحال هو حال التلبّس لا حال النطق ، واستشهد على ذلك بأنّ قولنا : «كان زيد قائما أمس ، وسيكون قائما غدا» حقيقة بلحاظ اتّحاد زمان النسبة والتلبّس ، ولو اريد من الحال حال النطق لزم كون الثاني مجازا قطعا

__________________

(١ و ٢) أجود التقريرات ١ : ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٣) كفاية الاصول : ٦٢.

١٩٤

والأوّل داخلا في محلّ النزاع وليس كذلك. ثمّ قال : ولا ينافيه الاتّفاق على أنّ زيد ضارب غدا مجازا ؛ لإمكان كون الحمل عليه بالفعل بلحاظ كونه ضاربا غدا وكون غدا قرينة عليه. ثمّ ذكر بعد ذلك أنّ زيد قائم غدا وكان زيد قائما حقيقة إذا كان زيد متّصفا بالقيام غدا في الثاني وإذا اتّصف بالقيام في الأوّل.

ولا يخفى ما في كلامه من التشويش ، أمّا أوّلا : فلأنّ ما زعمه من الاتّفاق على أنّ زيد ضارب غدا مجاز ليس كذلك ؛ إذ لا اتّفاق وإنّما ذكره العضدي (١) ، ولا يخفى أنّه إن اريد منه حال التلبّس كان حقيقة وإن اريد منه كون الحمل بالفعل وكون غدا قرينة على المجازيّة فلا ريب في بطلانه وكونه غلطا ؛ إذ أيّ معنى لكون الحمل بالفعل وكون غدا قرينة على أنّ الحمل بالفعل بلحاظ أنّه مشارف للتلبّس غدا؟ إذ لا بدّ من مناسبة بين القرينة وبين ذي القرينة ، ولا مناسبة بين الحمل الفعلي وكون غد قرينة عليه.

وثانيا : أنّ ما ذكره من كون الحمل في قولنا : «كان زيد قائما ، وسيكون قائما» حقيقة إذا كان متلبّسا به في الماضي أو إذا تلبّس به في المستقبل غير تامّ أيضا ؛ لأنّ التلبّس من زيد فيما مضى أو يأتي يوجب صدق القضيّة ، وعدمهما يوجب كذبها ، لا أنّ التلبّس يوجب الحقيقة وعدمه يوجب المجاز كما هو ظاهر كلامه قدس‌سره ؛ إذ الألفاظ إنّما وضعت لمفاهيمها المطلقة ولم توضع لمفاهيمها المقيّدة بالوجود ؛ إذ الوجود والعدم أجنبيّ عن مدلول الألفاظ.

ولا يخفى أن المعنى للمشتقّ يكون هو المفهوم الذي لو وجد فرده في الخارج كان فرده خصوص المتلبّس أو الأعمّ ، فإذا استعمل اللفظ في ذلك المفهوم كان حقيقة قطعا وإن لم يوجد فرده ؛ إذ الحقيقة هو استعمال اللفظ فيما وضع له ، فإذا فرضنا أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس والمتكلّم أطلقه على ذلك

__________________

(١) شرح المختصر ١ : ٥٨.

١٩٥

المفهوم لكنّه أسند ذلك المفهوم إلى زيد وكان كاذبا في إسناد ذلك المفهوم إلى زيد لا يكون الاستعمال مجازا بل هو حقيقة ، غير أنّ القضيّة كاذبة كما إذا قال : جاء زيد وكان الجائي عمرا ، فقد استعمل لفظ زيد في معناه ولكنّه كان كاذبا قطعا ، ومنشأ هذا الكلام كلّه هو أخذ لفظ الحال في مفهوم المشتقّ ، ولو أنّه عبّر هكذا : هل المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس أو في الأعمّ منه ومن المسبوق بالتلبّس؟ لسلم من هذا كلّه ، فافهم.

في تأسيس الأصل في المشتقّ

أمّا في المسألة اللغويّة فلا أصل. يعني إذا أقمنا أدلّة على كون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس أو أقمنا أدلّة على كونه حقيقة في الأعمّ منه ومن المسبوق فلا كلام ، وإن شككنا في كلّ من القولين فهل هناك أصل يرجع إليه؟ الظاهر أنّه في المسألة اللغويّة لا أصل.

وأصالة عدم الخصوصيّة غير تامّة ، أوّلا : لأنّ كلّا من الوضع لخصوص المتلبّس أو الأعمّ حادث يشكّ فيه والأصل عدمه فيتعارض الأصلان.

وثانيا : أنّ العموم هو لحاظ القيد ورفض دخله كما ذكرناه مرارا في الإطلاق من أنّه رفض القيود ، فالعموم أيضا يحتاج إلى ملاحظة الخصوصيّة وإلغائها كما يحتاج الوضع لخصوص المتلبّس إلى ملاحظته واعتباره.

وثالثا : أنّه أصل مثبت ؛ إذ عدم ملاحظة الخصوصيّة يستلزم ملاحظة العموم عقلا ، فهو مبنيّ على حجيّة الأصل المثبت وقد ذكرنا عدم حجيّته ، فافهم.

بقي الكلام في الأصل العملي ، وقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) اختلافه باختلاف الموارد ، فإن ورد الحكم وقد انقضى المبدأ عن الذات فمقتضى الأصل العملي هو

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٣ ـ ٦٤.

١٩٦

البراءة من التكليف ؛ للشكّ في تعلّق التكليف بما زاد على المتلبّس فتجرى البراءة عنه ؛ لقبح العقاب من غير بيان ولرفع ما لا يعلمون.

وإن ورد الحكم والذات متلبّسة بالمبدإ ثمّ انقضى بعد ذلك فأراد العبد الامتثال فمقتضى الاستصحاب تعلّق الحكم حينئذ.

ولا يخفى أنّ ما ذكره في الشقّ الأوّل من إجراء البراءة متين لا كلام لنا فيه ، إلّا أنّ ما ذكره من إجراء الاستصحاب فلو سلّمنا جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة إلّا أنّ استصحاب الحكم هنا لا يجري ؛ إذ يحتمل كون الحكم متعلّقا بعنوان العالم لا بالذات ، وحينئذ فبقاء الموضوع مشكوك ؛ إذ لو كان المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس لكان الموضوع الذي تعلّق به الحكم مرتفعا قطعا ، ولو كان حقيقة في الأعمّ من المتلبّس والمنقضي لكان الموضوع باقيا ؛ إذ لو كان الموضوع هو الذات لكانت باقية ، أو العنوان لكان منتفيا ، وحينئذ فيكون المورد شبهة مصداقيّة لقوله : لا تنقض اليقين بالشكّ (١) ، وحينئذ فلا يجري الاستصحاب ؛ لأنّ إحراز الموضوع شرط فيه. هذا إن اريد استصحاب الحكم كما هو ظاهر كلام صاحب الكفاية أو صريحه.

وإن أراد استصحاب الموضوع كما يستصحب لو شكّ في انتفاء العالميّة عن العالم عالميّته فيرد عليه أوّلا : أنّ هذا يجري في الفرض الأوّل ، فكيف اجريت البراءة مع استصحاب الموضوع؟

وثانيا : وهو الحلّ أنّه ما ذا يستصحب؟ فإنّ الذات باقية قطعا فلا معنى لاستصحابها ، والعنوان منتف قطعا فلا معنى لاستصحابه ، وصدق العالم عليه الذي كان قبل ذلك لا معنى أيضا لاستصحابه ؛ لأنّ الشبهة فيه في مفهوم العالم وإنّ مفهومه بأيّ مقدار من السعة.

__________________

(١) انظر الوسائل ١ : ١٧٥ ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل.

١٩٧

وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّه لا معنى لاستصحاب الصدق إذا كانت الشبهة مفهوميّة ، كما في المغرب الذي يشكّ في مفهومه أنّه سقوط القرص أو ذهاب الحمرة المشرقيّة ، فإنّ سقوط القرص معلوم وعدم ذهاب الحمرة المشرقيّة أيضا كان معلوما والمغرب لا يخرج عنهما ، فأيّ معنى حينئذ لاستصحاب عدم المغربيّة؟

وبالجملة ، فالاستصحاب إنّما يجري حيث يشكّ في وجود شيء كان معدوما أو انعدام شيء كان موجودا وفي الشبه المفهوميّة ليس شيء من ذلك ، فالظاهر جريان البراءة في كلتا الصورتين ، فافهم.

في أدلّة الطرفين

الظاهر كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) كون تشعّب الأقوال المفصّلة بين المحكوم عليه وبه ، والمفصّلة بين بعض المشتقّات وبعض ، وبين مبادئ بعضها ومبادئ البعض الآخر حادثا بين المتأخّرين بعد أن كانت المسألة ذات قولين بين المتقدّمين : كونه حقيقة في خصوص المتلبّس وإليه ذهب عموم الأشاعرة ، أو الأعمّ وإليه ذهب المعتزلة ، والحقّ هو الأوّل وفاقا للأشاعرة.

والدليل على ذلك هو التبادر ، ولا يخفى أنّ التبادر في وضع الهيئات أمر يمكن إثباته بسهولة بخلاف التبادر في الوضع الشخصي ؛ وذلك لأنّ الوضع الهيئي لا يخصّ لغة خاصّة بل يعمّ سائر اللغات ، فيكون دعوى التبادر فيه سهلة الإثبات بالرجوع إلى أيّ لغة شاء وملاحظتها ، وهذا بخلاف الوضع الشخصي مادّة فإنّه يختصّ بتلك اللغة دون غيرها.

وبالجملة فالمتبادر لكلّ من أنصف نفسه ولم يتعصّب هو خصوص المتلبّس بالمبدإ وإن اختلفت أنواع التلبّس كما تقدّم.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٤.

١٩٨

كما أنّه يصحّ الاستدلال بصحّة السلب عن المنقضي عنه المبدأ ، وهذا الدعوى أيضا سهلة الإثبات ؛ لما تقدّم من كون الوضع النوعي لا يختصّ بلغة دون لغة. وهذان الدليلان يعني التبادر لخصوص المتلبّس وعدم صحّة السلب عنه ـ بناء على ما اختاره المحقق الشريف (١) والدواني (٢) وجملة من المتأخّرين منهم الميرزا قدس‌سره (٣) من بساطة مفهوم المشتقّ وأن لا فرق بينه وبين المبدأ إلّا بالاعتبار يعني اعتبار اللابشرطية وبشرط لا كما سيأتي ـ في غاية الوضوح ؛ إذ المفهوم البسيط ينتفي بانتفاء المبدأ وإن بقيت الذات ، وأمّا بناء على التركيب وأنّ معنى المشتقّ الذات المبهمة المتّحدة مع القيام مثلا فكذلك ؛ لأنّ المبدأ هو الركن الموجب لتحقّق الاتّحاد مع المبدأ وبانتفائه لا يتحقّق ذلك. فقد ظهر أنّ دعوى تبادر خصوص المتلبّس وعدم صحّة السلب عنه على كلا التقديرين.

وربّما يقال : إنّ التبادر مفقود وأمّا هذا فهو انصراف إلى بعض أفراد الحقيقة ، فلا يحقّق انحصار المعنى الحقيقي بخصوص المتلبّس.

وجوابه أوّلا : أنّ المقصود لنا ـ كما مرّ مرارا ـ هو انعقاد ظهور اللفظ في معنى ، فمع تحقّق الانصراف ينعقد الظهور ، ولا أثر يترتّب على معرفة خصوص ما وضعه الواضع الأوّل في لغة العرب.

وثانيا : أنّ استعمال المشتقّ في المنقضي كثير جدّا ، غاية الأمر كما أنّ القائل بالوضع لخصوص المتلبّس يدّعي أنّها مستعملة بلحاظ حال التلبّس ، والأعمّي يدّعي أن لا فرق بين الاستعمال بلحاظ حال التلبّس أو الأعمّ ، فما هو الموجب حينئذ لانصراف خصوص المتلبّس.

__________________

(١) نسبه إليه في بدائع الأفكار : ١٧٤ عن حواشيه على شرح المطالع.

(٢) لم نقف عليه.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٩٧ ـ ٩٨.

١٩٩

وبالجملة فمدّعي الانصراف إن سلّم أنّ اللفظ حقيقة في خصوص المتلبّس فهو وإلّا فيسأل ما هو سبب الانصراف مع عدم الفرق بموجب دعواه بين الاستعمال في خصوص الصحيح أو الأعمّ.

بل يمكن أن يقال : إنّ تصوير جامع بين المتلبّس والمنقضي لا يمكن أصلا فيستحيل القول بالوضع للأعمّ من المنقضي والمتلبّس ، بيان ذلك ـ وهو الذي اختاره الميرزا النائيني قدس‌سره وبنى عليه هو استحالة الجامع بين المتلبّس بالمبدإ والمنقضي عنه ـ أمّا على البساطة في مفهوم المشتقّ فواضح ؛ إذ لا فرق بينه وبين المبدأ إلّا باعتبار المبدأ بشرط لا واعتبار المشتقّ لا بشرط من حيث الحمل وعدمه ، فمع انقضاء المبدأ لا يبقى شيء حينئذ موجودا ، بخلافه في المتلبّس فالمبدأ موجود ولا جامع بين الموجود والمعدوم.

وأمّا على القول بالتركيب فلا جامع بين المنقضي عنه المبدأ والمتلبّس به إلّا مفهوم الزمان وقد ذكرنا أنّ الاسم لا يدلّ على الزمان ، فالقول بكون المشتقّ حقيقة في الأعمّ من المتلبّس بالمبدإ في الحال ومن انقضى عنه المبدأ لا بدّ له من القول بالاشتراك اللفظي وتكرّر الوضع لهذا مرّة ولذاك اخرى ، وإلّا فالجامع لا يمكن تصوّره.

أقول : أمّا ما ذكره من استحالة الجامع على البساطة بالمعنى الذي ذكره منها فصحيح إلّا أنّ البساطة بالمعنى الذي ذكره أمر موهوم كما سيأتي. وأمّا على التركيب فالاسم لا يدلّ على الزمان لا أنّه يستحيل دلالته عليه ، فلو فرض التصريح بوضعه للزمان صحّ ، على أنّا نتمكّن من أخذ عنوان ينطبق على المتلبّس بالمبدإ والمنقضي عنه ، بأن يوضع اللفظ في عالم مثلا (١) أو ضارب لمن قلّب صفحة عدم الضرب إلى صفحة وجوده ، ولو لم يمكن فالوضع لمفهوم أحدهما وهو الجامع الانتزاعي كاف كما تصوّرناه في وضع المشترك ، فيتصوّر المتلبّس مع المنقضي ويضع اللفظ لمفهوم أحدهما.

__________________

(١) كذا في الأصل.

٢٠٠