غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

أحدهما لا تصدق الدار ، لكن قابلة للزيادة في الأجزاء فإنّها لو اشتملت على غرفتين كانت كلّ واحدة جزءا منها ولو اشتملت على ثلاث فكذلك أيضا إلّا أنّها لو انعدمت أحد الغرفتين تصدق الدار مع ذلك ، وكذا لو اضيف إليها حمام كان جزءا ولو فقد لم يخلّ فقده بالتسمية وهكذا فلا يكون الاستعمال في واجد الحمام بنحو المجاز لكونه جزءا من المعنى كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

ثمّ إنّ هذه الأجزاء بما أنّها غير معلومة لنا لا بدّ من مراجعة مخترع هذه الماهيّة في تعيينها كما هي العادة ، فإنّ المرجع في تعيين الأجزاء المقوّمة لكلّ مخترع هو المخترع له ، فيرجع إلى الشارع المقدّس في تعيين تلك الأجزاء التي هي الجامع التي تدور التسمية مدارها ، فننظر الأخبار فنرى منها ما يقول افتتاحها التكبير واختتامها التسليم فنعرف أنّ التكبير من الأجزاء الرئيسيّة التي تدور التسمية مدارها والتسليم كذلك على ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) من أنّ المخرج ليس إلّا التسليم ، فلو فقدته ولو نسيانا كانت باطلة ، فيكون من الأجزاء الرئيسيّة وإن لم نقل بما اختاره قدس‌سره لأنّ «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس» شامل لما إذا نسي التسليم ، كما هو الصحيح ، فنخرج التسليم من الأجزاء الدخيلة في التسمية أيضا (*).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠.

(٢) ذكره في هامش العروة ، انظر العروة الوثقى ٢ : ٥٩٢ طبع ونشر مؤسسة النشر الإسلامي ذيل «فصل في التيمم».

(*) وملخّص القول في التسليم : أنّه ذهب صاحب العروة قدس‌سره أنّه لو نسي السلام حتّى أحدث صحّت صلاته بحديث لا تعاد ، وذهب جماعة منهم : الميرزا النائيني قدس‌سره إلى بطلان الصلاة حينئذ ؛ لوقوع الحدث أثناء الصلاة فيكون داخلا في التسمية حينئذ. ولا يخفى أنّ كونه في أثناء الصلاة موقوف على بقاء جزئيّته حتّى حال النسيان ، وحديث لا تعاد يلغي الجزئيّة حينئذ ، فلا حدث في أثناء الصلاة بل بعدها.

١٦١

ثمّ ننظر دفعة اخرى إلى الأخبار فنرى خبرا يقول : الصلاة ثلثها الركوع وثلثها السجود (١) ، فنعرف أنّهما جزءان دخيلان في المسمّى أيضا ، ثمّ ننظر ثالثة فنراه يقول : لا صلاة إلّا بطهور (٢) ، وثلثها الطهور (٣) فنعرف دخل الطهارة أيضا ، فيكون الجامع بين الأفراد على الأعمّ هو التكبير والركوع والسجود والسلام متطهّرا ، وفي السلام ما تقدّم.

بقي الكلام في الإيرادين اللذين ذكرهما في الكفاية (٤) فنقول : أمّا دعواه لزوم صدق الصلاة على الجامع لخصوص هذه الأجزاء وإن خلا عن غيرها فصحيح لكنّ اللازم ليس باطلا ، بل حتّى على مختاره من كون الجامع على الصحيح هي الناهية عن الفحشاء تصدق على هذه الأجزاء ، كما إذا كبّر ثمّ نسي كلّ شيء ، فركع ونسي كلّ شيء ، فسجد ونسي كلّ شيء فيه ، فسلّم إذا كانت صلاة من ركعة

__________________

ـ ودعوى أنّه لا بدّ من مخرج من الصلاة ، وهو إمّا التسليم ، والفرض نسيانه ، وإمّا الحدث مثلا ، وهو مستلزم لوقوعه أثناء الصلاة ؛ لأنّه علّة للخروج والعلّة سابقة على المعلول رتبة كما ذكره بعض الأعاظم مدفوعة بمنع بناء الأحكام الشرعيّة على الدّقة الفلسفيّة ، فالتقدّم الرتبي لا أثر له ، بل العبرة بالزمان ، وزمان الحدث والخروج واحد.

على أنّه لو سلّم فإنّما يتمّ في الموانع التي يعتبر عدمها في الصلاة ، أمّا مثل الحدث والقهقهة من القواطع فإنّما تضر من جهة قطع الأجزاء السابقة عن اللاحقة ، والمفروض أن لا جزئية للّاحق بحديث «لا تعاد» فلا تضر حينئذ.

على أنّا يمكن أن نقول أن المخرج للمصلّي الناسي للتسليم هو التشهد بحديث «لا تعاد». (الجواهري).

(١) الوسائل ٤ : ٩٣١ ، الباب ٩ من أبواب الركوع ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ١ : ٢٥٦ ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.

(٣) الوسائل ٤ : ٩٣١ ، الباب ٩ من أبواب الركوع ، الحديث الأوّل.

(٤) انظر كفاية الاصول : ٤٠ ـ ٤١.

١٦٢

كالوتر فتصدق عليه الصلاة الصحيحة لا لفظ الصلاة فقط ، فما زعمه من عدم الصدق حينئذ باطل.

وأمّا ما ذكره من لزوم عدم الصدق بمجرّد فقد واحد منها وإن اشتمل العمل على بقيّة الأجزاء فمسلّم أيضا ، وليس اللازم منفيّا ، بل لو فقد أحد هذه الأجزاء من العمل كالركوع أصلا فليس ذلك العمل صلاة ، نعم لو فقد من ركعة من ركعاته ثمّ وجد في الثانية تصدق حينئذ الصلاة ؛ لأنّ الدخيل في التسمية طبيعي الركوع لا الركوع المتعدّد.

فتلخّص أنّ الجامع هو التكبير والركوع والسجود والسلام بطهور ، وبقيّة الأجزاء معتبرة في المأمور به لا في التسمية أصلا.

وأمّا القبلة فإنّها وإن ذكرت في خبر لا تعاد لكنّ الصلاة إلى غير القبلة كثيرا ما تكون صحيحة ، كما في العاجز عن الاستقبال أصلا ، وكذلك الوقت إنّما اعتبر في بعض الصلاة.

بقي الكلام في أنّ الركوع الذي هو دخيل في التسمية هل هو الركوع الحقيقي أم الأعمّ منه ومن بدله ليرد ما ذكره الآخوند قدس‌سره من لزوم تبادل الأجزاء؟ الظاهر أنّ الركوع الذي هو جزء الصلاة ، والسجود والطهارة التي هي شرطها هي الأعمّ من الحقيقيّة والتنزيليّة ، فإنّ الجزء الذي هو دخيل في المسمّى أعمّ من الركوع القيامي والركوع الجلوسي والإيماء بالرأس وبالعينين ، فالجزء هو أحدها. وكذا السجود ، هو السجود الحقيقي والتنزيلي من الإيماء بالرأس والعينين. والطهارة التي هي شرط دخيل في التسمية هو الأعمّ من الطهارة المائيّة والترابيّة. وتبادل الأجزاء الذي ذكره الآخوند محذورا إنّما يتمّ في المركّبات الحقيقيّة ، فإنّها هي التي يتمّ فيها منع تبادل الأجزاء. وأمّا المركّبات الاعتباريّة فلا يضرّ فيها لك ، كالحلوى فإنّها اسم لما يكون أحد أجزائه السكر ، فإن أضيف إليه الحنطة والدهن تكون قسما. وإن أضيف إليها الأرز تكون قسما آخر. وإن أضيف إليه الحمّص كانت آخر ، وهكذا.

١٦٣

وكذا ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من أنّ التبادل إنّما يكون في مقام الامتثال ، وأمّا في مقام التسمية فتبادل الأجزاء لا معنى له.

وجوابه أنّ الجزء الذي وضع اللفظ بإزائه وبإزاء بقيّة الأجزاء هو أحد هذه الأمور من الركوع القيامي والجلوسي والإيمائي بالرأس أو العينين ، لا أنّه وضع لفظ الصلاة بإزاء التكبير والركوع والسجود الحقيقيين ثمّ ابدل مكانهما غيرهما.

وبالجملة ، فكلّما ذكر من الإيرادات على تصوير الجامع على الأعمّ مبنيّ على المركّب الحقيقي ، سواء ما ذكره الآخوند أو الميرزا النائيني ـ قدّس سرهما ـ وكذا ما ذكره الثاني قدس‌سره من استحالة التشكيك في الوجود وعدم تعقّله وإمكان التشكيك في الماهيّات أيضا مبنيّ على المركّب الحقيقي.

وأمّا ما استدلّ على الصحيح من قوله عليه‌السلام : «الصلاة معراج المؤمن» (١) ، و «قربان كلّ تقي» (٢) وقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٣) وغيرها ، فلا يخفى ما فيه أوّلا : لأنّ المراد منها بقرينة المحمول هو خصوص الصحيحة.

وثانيا : أنّ هذا لا يتمّ حتّى على القول بما اختاره من الصحيح ، لأنّ الصحيح الذي هو محلّ الكلام هو الصحيح من حيث الأجزاء والشرائط لا من جميع الجهات ، ومعلوم أنّها لا تنهى عن الفحشاء والمنكر وليست معراجا ولا قربان كلّ تقيّ ما لم تضمّ إليها قصد القربة وتنتفي عنها الموانع من المزاحمات وغيرها. وإطلاق الصلاة في الأخبار على الفاسدة أو الأعمّ أكثر من أن يحصى.

__________________

(١) لم نعثر عليه في المجاميع الحديثية رغم توفر نقله في الكتب الفقهيّة ، نعم جعله المجلسي في موضع من البحار ٨٢ : ٢٤٨ ظاهرا من الخبر الوارد في علل الصلاة وفي ٣٠٣ منه نقله عن والده.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٠ ، الباب ١٢ من أعداد الفرائض ، الحديث ١ و ٢.

(٣) العنكبوت : ٤٥.

١٦٤

فتلخّص أنّ الجامع بين أفراد الصلاة على الأعمّ يمكن أن يكون هو التكبير والركوع بمراتبه والسجود بمراتبه والسلام ـ على الكلام فيه ـ مقرونا بالطهارة بمراتبها أيضا ، وبعد استحالة الجامع الصحيحي ـ لما ذكرناه ـ لا بدّ من الجامع الأعمّي ، فيكون تصوّره كافيا في إثباته. نعم لا بدّ من أن يضاف إلى الأركان المذكورة : الموالاة ، ضرورة أنّه لا يصدق الصلاة على هذه الأجزاء المذكورة مع الطهارة إلّا إذا كانت مشتملة على الموالاة ، وبدونها لا تصدق. فهي أيضا من جملة الأركان التي تدور التسمية مدارها.

نعم ، عليه تخرج صلاة الغرقى والصلاة على الميّت عن الصلاة ؛ إذ ليس فيهما ركوع ولا سجود ولا سلام ، وخروج الصلاة على الميّت تساعد عليه الأخبار وتصرّح به أنّها ليست صلاة ، وإنّما هي دعاء للميّت (١) ومن ثمّ لم يشترط المشهور فيها شرائط الصلاة من الطهارة من الحدث والخبث وكون الثياب ليست ذهبا ولا حريرا ، بل إنّ بعضهم لم يشترط فيها شرائط الاقتداء من العدالة وشبهها (٢).

وأمّا صلاة الغرقى فلا ضير في خروجها أيضا ، وإنّما هي عمل أقيم مقام الصلاة ليكون العبد في آخر لحظة من حياته متذكّرا لربّه. ويؤيّده عدم اشتمالها على التسليم مع قدرته عليه فافهم ، فإنّه لا ضير في خروج هذين الفردين عن كونهما صلاة أيضا.

في ثمرة القولين

قد ذكروا لهذين القولين ثمرتين :

__________________

(١) راجع الوسائل ٢ : ٧٨٤ ، الباب ٨ من أبواب صلاة الجنازة و ٧٩٨ ـ ٧٩٩ ، الباب ٢١ من الأبواب.

(٢) مثل بحر العلوم في الدرّة النجفيّة : ٧٧ ، وقوّى النراقي عدم اعتبار العدالة في المستند ٦ : ٢٩٧.

١٦٥

الثمرة [الأولى] : ذكرها بعضهم (١) وملخّصه أنّه بناء على الصحيح لا يمكن نفي الجزء المشكوك بالبراءة ؛ للشكّ في صدق المسمّى ؛ إذ يحتمل أن يكون هذا الجزء ممّا له دخل في المسمّى. وبناء على الأعمّ ينفى بالبراءة ؛ إذ المسمّى قد حصل حسب الفرض ، فنشكّ في اعتبار أمر زائدا على ما أتينا به وعدمه فينفى بالبراءة لكونه شكّا في التكليف.

وأشكل عليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) بأنّ جريان البراءة وعدمه مبنيّ على انحلال الأمر بالمركّب وعدمه ، فإن قلنا بالانحلال تجري البراءة وإلّا فلا تجري ، وليس مبنيّا على أنّ العبادات اسم للصحيح أم الأعمّ. ولذا ذهب المشهور القائلون بالصحيح إلى البراءة ، لبنائهم على انحلال الأمر ، فينحلّ العلم الإجمالي بالتكليف إلى متيقّن ومشكوك ، فينفي المشكوك بالبراءة. وبناء على عدم انحلال الأمر إلى أوامر بأجزاء المركّب بل هو أمر واحد بشيء واحد فإذا شكّ في اعتبار شيء وعدمه يكون المشكوك فيه مردّدا بين المتباينين إذ المركّب المكلّف به لا ندري أنّه أخذ بالنسبة إلى هذا الجزء المشكوك لا بشرط أو أخذ بشرط شيء ، ولا ريب أنّهما قسمان للماهيّة المهملة التي لا يمكن أخذها متعلّقا للتكليف ، لاستحالة الإهمال في الواقعيات (*).

__________________

(١) ذكرها المحقّق القمي في القوانين ١ : ٤٣ ، والمحقّق الأصفهاني في هداية المسترشدين ١ : ٤٨٤.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٧.

(*) سيأتي إن شاء الله في الأقلّ والأكثر الارتباطيين استحالة الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي من جهة أنّ الإطلاق بالنسبة إلى الجزء المشكوك جزئيّته أو التقييد بعد استحالة الإهمال في الواقعيّات لا بدّ منهما فحينئذ فالمقام من قبيل دوران الأمر بين المتباينين إلّا أنّ الانحلال الحكمي مختصّ من جهة أنّ الإطلاق ليس في رفعه امتنان ولا فيه احتمال العقاب فتجرى البراءة عقلا وشرعا في رفع التقييد من غير معارضة بالطرف الثاني.

١٦٦

وقد أورد عليه الميرزا النائيني قدس‌سره (١) بأنّه على القول بالأعمّ تبتني المسألة على القول بالانحلال كما ذكره قدس‌سره. وأمّا على القول بالصحيح فلكون الجامع لا بدّ أن يكون بسيطا فلا بدّ من القول بالاشتغال ، قلنا بالانحلال أم لم نقل. وذهاب المشهور إلى البراءة مع قولهم بالصحيح غفلة عن حقيقة الحال ، فافهم.

ولا يخفى أنّه على الأعمّ ، الحقّ كما ذكره الشيخ الأنصاري وأقرّه عليه الميرزا ، لكن على الصحيح ليس لا بدّ من القول بالاشتغال ، بل يمكن أيضا القول بالبراءة.

بيان ذلك : أنّ الجامع على الصحيح قد ذكرنا استحالة كونه مركّبا ؛ إذ كلّما فرض مركّبا يجوز أن يكون صحيحا وفاسدا كما تقدّم ، فلا بدّ من فرض الجامع بسيطا ، وحينئذ فهذا الجامع البسيط إمّا أن تكون نسبته إلى الفرد المأتي به نسبة الكلّي إلى الفرد بحيث يكون فردا لذلك الكلّي.

وإمّا أن يكون ذلك الجامع مسببا عنها ، فتكون الأفراد من قبيل الأسباب التوليديّة. وإمّا أن يكون أمرا انتزاعيّا منها.

إمّا على الأوّل فتجري البراءة على القول بالانحلال ؛ لأنّ الكلّي هو عين الفرد ، فإذا فرضنا انحلال الأمر فمعناه أنّ هذا المقدار من الأجزاء متيقّن ونشكّ في التقييد بما زاد ، فتجرى البراءة من الزائد.

وحينئذ فالحقّ مع الشيخ الأنصاري في الدوران على الانحلال ، لكن كون الجامع هو الكلّي المنطبق على الأفراد غير تامّ ؛ لأنّ الجامع البسيط كيف ينطبق على المركّب؟ فهو أمر مستحيل.

وبناء على تصوير الجامع بأحد النحوين الآخرين من كونه مسبّبا أو أمرا انتزاعيّا فلا ريب في الاشتغال حينئذ ؛ لأنّ الجامع مشكوك الحصول ؛ للشكّ في حصول المحصّل له والمنتزع منه.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٦٦ ـ ٦٧.

١٦٧

والظاهر أن يفصّل في صورة فرض الجامع كلّيا بين القول بوجود الكلّي الطبيعي في الخارج وأنّه عين فرده ، فيلحق بالقسمين المذكورين في الابتناء على الانحلال وعدمه ؛ للشكّ حينئذ في كون هذا الفرد فردا لذلك الكلّي المأمور به ومحصّلا له أم ليس فردا له. وإن قلنا بعدم وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ، وإنّما هو عنوان مشير إلى الفرد ، وإنّ الفرد هو المأمور به في الحقيقة ، وإنّما أخذ العنوان مشيرا له ، فتجري حينئذ البراءة.

فقد ظهر أنّ هذه الثمرة ثمرة صحيحة وغير مبنيّة على الانحلال على هذا الفرض الأخير في الصحيح وهو كاف في جعلها ثمرة (*).

الثمرة الثانية

التمسّك بالإطلاق. ولا بدّ قبل ذلك من الكلام في مقدّمة ، وهي أنّ الإطلاق قسمان :

إطلاق مقامي : وهو الذي يقتضيه المقام لا الكلام ، كأن يكون الشارع في مقام بيان أجزاء الصلاة بأسرها فلا يذكر الاستعاذة ، فالإطلاق المقامي يكشف عن عدم جزئيّتها. وكذا لو كان في مقام بيان شرائط الصلاة فإذا أهمل ذكر شيء نفهم عدم كونه شرطا.

وإطلاق كلامي : وهو الذي يستفاد من إطلاق الكلام ، وهذا الإطلاق يتوقّف على مقدّمات :

__________________

(*) قد ذكر في دورته اللاحقة نفي هذه الثمرة وتصويب ما ذكره صاحب الكفاية وأنّه في صورة فرض الجامع عنوانا انتزاعيّا فليس المأمور به عنوان الصحيح ، بل المنتزع منه وهو ذوات الأجزاء وحينئذ فيبتني القول بالبراءة على الانحلال أيضا وعدمه. نعم ، لو قلنا بكونه من قبيل الأسباب والمسبّبات لكان القول بالاشتغال هو الصحيح إلّا أنّ القائل بالصحيح لا يدّعيه وإنّما يدّعي أنّ المأمور به هو نفس الأفعال الخارجيّة.

١٦٨

الأولى : صدق اللفظ على الخارج ، فلو شكّ في صدقه على الفرد لا مجال للتمسّك به. مثلا إذا قال : ائتني بماء ، فلفظ ماء بإطلاقه شامل للحارّ والبارد والحلو والمرّ ، مثلا لكن بعد إحراز كونه ماء ، فلو شكّ فيه مفهوما كماء الزاج والكبريت فإنّه يشكّ في كونه ماء ؛ لعدم إحراز صدق مفهوم الماء عليه ، أو شكّ فيه مصداقا كأن شكّ أنّه ماء أو لبن مثلا فلا يمكن التمسّك بالإطلاق في المقام.

وله مقدّمات اخرى مثل : كون المولى في مقام البيان لا الإهمال والإجمال. وعدم القرينة على إرادة البعض. وعدم القدر المتيقّن على القول به وغيرها من المقدّمات. وحينئذ فإذا تمّت هذه المقدّمات وتبيّنت لك عرفت عدم إمكان التمسّك بالإطلاق على الصحيح ؛ للشكّ في صدق الصلاة حينئذ. وليس لأخذ مفهوم الصحيح فيه ، بل لأنّ المسمّى حينئذ لم يحصل. بخلافه على الأعمّ ، فإنّ اللفظ يصدق على المشكوك حينئذ فينفى الزائد الذي يشكّ في اعتباره وعدمه بالإطلاق.

فما ذكره بعضهم ـ يعني بعض الأساطين (١) ـ من أنّ التمسّك بالإطلاق لا يصحّ على الصحيح إذا أخذ فيه وصف الصحّة قيدا أو تقيّدا ، ولا يقول به الصحيحي فيجري التمسّك بالإطلاق حتّى على الصحيح.

لا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ وصف الصحّة غير مأخوذ على الصحيح أصلا لا قيدا ولا تقيّدا ، وليس عدم التمسّك بالإطلاق لذلك ، بل للشكّ في صدق الصلاة حينئذ ؛ إذ مفهومها مجمل وإنّما أخذناه بالإشارة إليه ، وقد ذكرنا أنّ صدق المطلق على الفرد المأتيّ به أوّل مقدّمة من مقدّمات التمسّك بالإطلاق المقامي.

فقد ظهر أنّه على الصحيح لا يمكن التمسّك بالإطلاق في نفي الجزء المشكوك جزئيّته ، وهذا بخلافه على الأعمّ في غير الأجزاء التي هي دخيلة في التسمية ، فلو شكّ في وجوب السورة وعدمها يمكن التمسّك بالإطلاق في نفي وجوبها.

__________________

(١) لم نعثر عليه بعينه ولعلّه يستفاد من كلام الشيخ في الفرائد ٢ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

١٦٩

وقد أوردوا (١) على هذه الثمرة بإيرادين :

الأوّل : أنّ عدم التمسّك بالإطلاق في ألفاظ العبادات لا يخصّ الصحيحي بل يشمل الأعمّ أيضا ؛ إذ ليس في المطلقات مطلق في مقام البيان كي يتمسّك بالإطلاق على الأعمّ فالتمسّك بالإطلاق منفي ، غاية الأمر أنّه على الصحيح لعدم إحراز الصدق ، وعلى الأعمّ لأجل عدم البيان. وعلى تقدير أن يكون مقام فيه بيان وليس في مقام التشريع ، بل في مقام بيان تمام الأجزاء والشرائط فالصحيحي أيضا حينئذ يتمسّك بالإطلاق.

والجواب : أنّ دعوى كون جميع المطلقات في مقام التشريع إن كان في مطلقات الكتاب فنعم ، وإن كان حتّى لمطلق السنة فلا ؛ فإنّ أغلب مطلقات السنّة كانت في مقام البيان ؛ فإنّ الأئمّة عليهم‌السلام كانوا في مقام بيان مجملات الكتاب من دون فرق بين ألفاظ العبادات والمعاملات أصلا. وتمسّك الصحيحي بإطلاق رواية حمّاد (٢) فهو تمسّك بالإطلاق المقامي لا الكلامي ، فافهم.

الثاني من الإيرادين : أن يقال : إنّه لا يصحّ التمسّك بالإطلاق حتّى على الأعمّ أيضا ؛ لأنّ المأمور به ليس هو الطبيعة على إطلاقها بل هي الطبيعة الصحيحة قطعا ، فعند صدق الطبيعة إذا شكّ في صدقها بما هي مقيّدة بالصحّة لا يصحّ التمسّك بالإطلاق أيضا.

والجواب : أنّ قيد الصحّة غير مأخوذ في المأمور به على الصحيح فكيف يؤخذ على الأعمّ؟ بل وصف الصحّة وصف انتزاعي ينتزع من بعد الإتيان بالأجزاء ، فمرتبة الأمر واحدة ، ثمّ مرتبة الامتثال مرتبة ثانية ، ثمّ ينتزع وصف الصحّة وعدمها

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٦٧ ، وفوائد الاصول ١ : ٧٧ ـ ٧٨.

(٢) الواردة في تعليم الصلاة لحمّاد ، راجع الوسائل ٤ : ٧٤ ، الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث الأول.

١٧٠

بعد الإتيان والامتثال ، فهو متأخّر عن الأمر بمرحلتين كما ذكرنا ، فكيف يؤخذ في الأمر؟ بل بعد الإتيان بالأجزاء إن كانت تامّة الأجزاء والشرائط انتزع وصف الصحّة وإلّا انتزع وصف الفساد ، فافهم.

نعم ، لو كان منشأ عدم التمسّك بالإطلاق على الصحيح أخذ قيد الصحّة أو تقيّدها كان ما ذكر تامّا ولكنّه ليس كذلك ، وموارد التمسّك بالإطلاق في العبادات وغيرها كثيرة لا حاجة إلى ذكرها.

ثمّ إنّه قد ذكرنا في الدورة السابقة أنّه يمكن أن يكون من ثمرات القول بالصحيح والأعمّ المسألة المعروفة بناء على عدم جواز محاذاة الرجل المرأة في الصلاة وبطلان الصلاة حينئذ ، فلو تقارنا في الدخول في الصلاة بطلت صلاتهما معا ؛ لعدم المرجّح حينئذ ولصدق المحاذاة لكلّ منهما. وإن كان الرجل شارعا في صلاته فشرعت المرأة بطلت صلاتها حينئذ قطعا ؛ للمحاذاة. وإنّما الكلام في صلاة الرجل ، فعلى القول بوضع الألفاظ للصحيح لا يصدق [أن] المرأة حذاءه تصلّي ؛ لأنّ صلاتها باطلة فتكون صلاته صحيحة. وعلى الأعمّ تكون صلاته باطلة ؛ لصدق [القول بأنّ] المرأة حذاءه تصلّي. وكذا لو كانت تصلّي صلاة باطلة ، فعلى الصحيح ، للرجل حينئذ أن يصلّي حذاءها. وعلى الأعمّ ليس له ذلك.

وهذه الثمرة ثمرة ، لكنّها ليست ثمرة مسألة أصولية ؛ لأنّ ثمرة المسألة الأصوليّة يلزم أن تكون كلّية ، وهذه في مقام تشخيص أنّ هذه الصلاة يقال لها صلاة أم لا يقال لها صلاة ، فهي نظير لفظ «الصعيد» وكون المراد منه خصوص التراب أو وجه الأرض مثلا.

هذا كلّه في الثمرة بين القولين في العبادات وألفاظها. وأمّا ألفاظ المعاملات فنزاع الصحيحي والأعمّي فيها مبنيّ على أنّها أسماء للأسباب ؛ إذ هي المتّصفة بالصحّة وغيرها لتركّبها من أجزاء وشرائط. وأمّا بناء على أنّها أسماء للمسبّبات

١٧١

كما هو الظاهر ، فهي إنّما تتّصف بالوجود والعدم. والظاهر من الفقهاء التمسّك بالإطلاق فيها على كلا التقديرين ، وإنّما الكلام في وجه ذلك.

وربّما وجّه بأنّ الشارع بما أنّه واحد من أهل العرف وقد أمضى معاملاتهم العرفيّة ، وإن اعتبر فيها أشياء جعلها شروطا لها كالقبض في بيع الصرف ، فلا يفرق حينئذ بين القول بالصحيح وعدمه في التمسّك بإطلاقها في نفي ما يشكّ في اعتباره فيه بعد صدق المسمّى من كونه بالعربيّة أم لا ، وكونه محتاجا إلى لفظ أم تكفي المعاطاة ، وكون تقدّم الإيجاب معتبرا فيه أم لا.

ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام ، فإنّ أسماء المعاملات إن كانت موضوعة للأسباب كان لهذا الكلام مجال واسع ، ولكنّها موضوعة للمسبّبات ، فإنّ قوله : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ليس المراد منه أنّه أحلّ قول «بعت» و «قبلت» وإنّما المراد أنّه أحلّ المبادلة بين الطرفين ، وكذا قوله : «النكاح سنّتي» المراد منه المسبّب ، وهو العلقة الزوجية لا لفظ «أنكحت» وأشباهها.

وحينئذ فالإمضاء متحقّق في المسبّبات ، وأمّا الأسباب فلا دليل يدلّ على إمضائها.

نعم ، لو لم يكن للمسبّب إلّا سبب واحد ، أو كانت له أسباب متعدّدة عرفا وليس بينها قدر متيقّن ، فبدلالة الاقتضاء يستفاد إمضاء السبب من إمضاء مسبّبه ، صونا لكلام الحكيم عن اللغويّة.

وربّما يتوهّم دلالة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) على إمضاء الأسباب ؛ لظهور العقد في الإيجاب والقبول ، لكنّ الظاهر عدم دلالتها ؛ فإنّ لفظ العقد وإن كان ظاهرا في العقد إلّا أنّ لفظة «أوفوا» التي هي بمعنى : أنهوا المعاملة إنّما يصحّ تسليطها

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) المائدة : ١.

١٧٢

على أمر ذي استمرار ، والعقد بمعنى اللفظ ليس أمرا ذا استمرار ، فلا بدّ من أن يراد منه المسبّب وهو المبادلة في البيع مثلا.

وقد تخلّص الميرزا قدس‌سره (١) من إشكال عدم إمضاء الأسباب واختصاص الإمضاء بالمسبّبات بنفي كون ألفاظ العقود أسبابا ونتيجتها مسبّبات نظير الأفعال التوليديّة ، بل جعلها آلة والمسبّبات هي ذوات الآلة ، والإرادة الإمضائية من الشارع قد تعلّقت بالمعاملة ، فهي حينئذ وجود واحد قد تعلّق الإمضاء بها.

ولا يخفى أنّ كونها آلة لا يرفع الإشكال ؛ فإنّ الآلة وجودها غير وجود ذي الآلة ، فإمضاء ذي الآلة لا يكون إمضاء للآلة إلّا إذا لم يكن قدر متيقّن ، فصونا لكلام الحكيم وإمضائه عن اللغويّة نقول بإمضائه للجميع. لكن القدر المتيقّن في المعاملات من ناحية الأسباب موجود ، وهو اللفظ العربي المشتمل على الإيجاب الخاصّ والقبول المترتّبين على نحو لا تفوت الموالاة مع بقيّة الشرائط. وحينئذ فلا إمضاء للأسباب فيعود المحذور. والتمسّك بإطلاق الآلة في قولك : اقتل زيدا لأنّها من الأمور التكوينيّة فيتخيّر بمقتضى الإطلاق في تعيينها ، وهذا بخلاف الأمور التشريعيّة سواء كانت اختراعيّة له أم كانت إمضائية ، فإنّ التخيير فيها قبل الإمضاء لا معنى له.

والتحقيق في حلّ الإشكال أن يقال : إنّ حديث السبب والمسبّب وكذا حديث الآلة وذي الآلة ليس له واقعيّة أصلا. وكذا حديث أن الصيغة الإنشائيّة ايجاديّة فإنّا قد ذكرنا أنّه لا معنى له ، فإنّا إذا نظرنا إلى وجداننا لا نرى في موارد المعاملات إلّا اعتبارا نفسانيّا يعتبره البائع ، وهو أنّ هذه العين التي كانت ملكا له قد صارت بحسب اعتباره النفساني ملكا لعمرو مثلا. ثمّ إنّه يبرز ذلك الاعتبار بمبرز فيقول : بعت. ثمّ يأتي له الإمضاء الثابت من العقلاء ، فتارة تمضيه العقلاء إذا كان صادرا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٧٣ ـ ٧٤ ، وفوائد الاصول ١ : ٨١.

١٧٣

من مالكه بالشرائط ، واخرى لا تمضيه كما إذا كان البائع غير مالك مثلا مع عدم رضى المالك مثلا.

فالبيع في الحقيقة اسم لذلك الاعتبار النفساني منضمّا إلى مبرزه سواء أكان مبرزه لفظا أو عملا كتسليم المبيع في المعاطاة أو كان المبرز إشارته أو غيرها من الإشارات.

ثمّ إنّ هذا الاعتبار منضمّا إلى المبرز قد يمضيه العقلاء والعرف وقد لا يمضيه. وقد يمضيه الشارع وقد لا يمضيه أيضا. فكون ألفاظ المعاملات اسم للصحيح معناه أنّها اسم لذلك الاعتبار المبرز بقيد الإمضاء العقلائي. ومعنى أنّها اسم للأعمّ أنّها اسم لذلك الاعتبار المبرز الغير المقيّد بشيء أصلا.

وحينئذ فعلى كلا التقديرين يتمسّك بالإطلاق. وعند الشكّ ، فالصحيحي بعد إحراز الاعتبار النفساني المبرز الممضى عند العقلاء لو شكّ في اعتبار شيء آخر فيه عند الشارع المقدّس يتمسّك بالإطلاق. والأعمّي بعد إحراز أنّه اعتبار نفساني مبرز لو شكّ في أنّ الشارع اعتبر فيه العربيّة مثلا أم لم يعتبرها يتمسّك بالإطلاق أيضا.

ثمّ لو تنزّلنا وقلنا بأنّ المعاملات من قبيل الأسباب والمسبّبات فما ذكر من أنّ إمضاء المسبّب لا يلزم منه إمضاء السبب صحيح لو كان الإمضاء شخصيّا ، أمّا لو كان بنحو القضية الحقيقيّة المنحلّة إلى أفراد بعدد أفراد الموضوع لها فالمسبّب سواء كان عبارة عن الاعتبار النفسي أو الوجود التنزيلي أو اعتبار العقلاء أفراد عديدة ، فإنّ الاعتبار النفسي للإنسان تارة يتعلّق بتمليك داره ويكون مبرزه الفعل ، واخرى يعتبر بتمليك دكانه ويكون مبرزه القول العربي واخرى القول الفارسي وثالثة الهندي ، وكذا الوجود التنزيلي أو اعتبار العقلاء ، فإذا كان المسبّب أفرادا عديدة فالإمضاء ينحلّ إلى كلّ فرد فرد منها ، وإمضاؤه حينئذ شرعا يدلّ على إمضاء سببه بالملازمة كما هو واضح جدّا ، فافهم.

١٧٤

نعم ، تظهر الثمرة بين القولين فيما لو شكّ في أنّ هذا الاعتبار المبرز ممضى عند العقلاء أم غير ممضى عندهم ، فعلى الصحيح لا يمكن أن يتمسّك فيه (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مثلا ؛ للشكّ في صدق البيع عنده. بخلافه على الأعمّ فإنّه يتمسّك بها فيه. فالثمرة بين القولين تظهر في ذلك ليس إلّا ، وهذه ثمرة مهمّة تظهر في المعاملات الحادثة الآن التي لم تكن قبل موجودة ، فعلى الصحيح لا يمكن التمسّك فيها بأحلّ الله البيع ، وعلى الأعمّ مثلا يمكن التمسّك بها فيها.

وأمّا الإمضاء الشرعي فغير معتبر قطعا في أسماء المعاملات ؛ إذ لا معنى لأن يقال : أحلّ الله المعاملات التي هي حلال عنده أصلا ، مضافا إلى أنّها مستعملة قبل الشرع والشريعة ، والشارع لم يخالفهم في الاستعمال بل استعمل على طبقهم. غير أنّه اعتبر بعض الأشياء في بعض الأحيان كما في عدم كون البيع غرريّا ، فإنّ العقلاء يرونه نافذا مع علم الطرفين وإقدامهم ولكنّ الشارع لم ينفذه بحسب ما يعلم من المصالح.

كما أنّه معلوم أنّه ليس له حقيقة خاصّة في ألفاظ المعاملات ، فإنّها عند العرب بمعناها عنده. وأمّا لفظ العقد فإنّه بمعنى العقدة ، كأنّ الشخص يعقد التزامه بالتزام صاحبه وبالعكس أيضا ، فمعنى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) كما تقدّم في معنى الوفاء وأنّه الإنهاء و (به آخر رساندن) ويستفاد منها صحّته بالملازمة ؛ إذ لو لا الصحّة لما أمر بالالتزام به. كما يستفاد منه لزومه ما لم يخصّصه دليل آخر على الجواز.

وبالجملة ، فبعد إحراز العقد الذي جعله الشارع مبرزا لذلك الاعتبار ، لو شكّ في أنّ الشارع اعتبر فيه شيئا أم لم يعتبر ، من عربيّة وماضويّة وغيرها ينفى بالبراءة أيضا على كلا القولين. هذا تمام الكلام في الثمرة.

فصل [في محل النزاع في الصحيح والأعم]

قد ذكرنا في صدر مبحث الصحيح والأعمّ أنّ النزاع ليس في الصحّة من تمام الجهات ، وإنّما النزاع في أنّ الألفاظ موضوعة للصحيح أو الأعمّ ؛ الصحيح من حيث جامعيته للأجزاء والشرائط ، والأعمّ بمعنى الأعمّ من الجامع لها والفاقد لبعضها.

١٧٥

وأمّا الصحّة والفساد الناشئتان من قصد الأمر وعدمه أو من جهة الابتلاء بالمزاحم وعدمه أو من جهة وجود النهي عنه وعدمه فهي غير دخيلة في محلّ النزاع ؛ ضرورة أنّها أمور ناشئة من الأمر أو النهي المتعلّقين بالمسمّى ، كما أنّ ما ذكره بعضهم (١) من أنّ النزاع في الصحيح من ناحية الأجزاء فقط دون الشرائط ليس ما يقتضي الالتزام به.

(ودعوى أنّ رتبة الأجزاء رتبة المقتضي ورتبة الشرط رتبة فعليّة الأثر وهي متأخّرة عن رتبة المقتضي ، فلا يمكن أخذهما دفعة.

مدفوعة بإمكان ذلك في مقام التسمية الغير الموقوفة على غير لحاظ المسمّى الممكن تحقّقه بالإضافة إلى المراتب ، لتفاوته) (٢).

[الكلام في الخصوصيات الفردية]

ثمّ إنّه قد ذكر بعضهم ومنهم صاحب الكفاية (٣) أجزاء مستحبّة وشرائط مستحبّة وعبّروا عنها بخصوصيّات الفرد ، ومثّلوا للأوّل بمثل الاستعاذة للفاتحة وبمثل القنوت ، ومثّلوا للثاني بمثل الصلاة في المسجد. ولم يظهر وجه تسميتهم لها بالخصوصيّات الفرديّة ؛ فإنّ كلّ فرد من أفراد الطبيعة المأمور بها إمّا مشتمل على هذه الخصوصيّة أو غيرها وكلّ منها هي أفراد للطبيعة ، ولكن حيث إنّ الطبيعة لا توجد إلّا بمشخّصات فلا بدّ لها من خصوصيّة تتخصص بها الطبيعة حتّى توجد ، فقد تكون تلك الخصوصيّة هي الاستعاذة أو القنوت أو عدمهما ، وقد تكون كونها في المسجد أو في الحمّام أو في الدار أو غيرها.

__________________

(١) لم نعثر على البعض بعينه ، نعم ذكر الشيخ الأعظم في مطارح الأنظار ١ : ٤٥ حكاية عن الوحيد البهبهاني أنّه نسب ذلك إلى القوم.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) كفاية الأصول : ٥٠ ـ ٥١.

١٧٦

وبالجملة ، فهي خصوصيّات لازمة للفرد ولها أمر استحبابي مستقلّ غير مربوط بأمر الصلاة ، فيكون من قبيل تعدّد المطلوب ، غاية الأمر أنّ أمرها الاستحبابي إنّما هو لتكون الصلاة (المأمور بها مطبقة على خصوص هذا الفرد دون غيره. وهناك مقارنات مستحبة لا تؤثّر محبوبيّة زائدة في الواجب ، ومحبوبيّتها فيما إذا صار الواجب) (١) ظرفا لها وإلّا فلا محبوبيّة لها ، فهي مستحبّة حال كون الصلاة ظرفا لها مثلا ، كقراءة : اللهمّ لك صمت عند إفطار الصائم.

وبالجملة ، فلم يعلم الوجه في تسميتهم لهذه الأشياء المقارنة بالنحو الأوّل بالخصوصيّات الفردية ، ضرورة كونه من قبيل المستحبّ في الواجب ، فإن أتى بالفرد مشتملا عليه كان له كلا الثوابين وإلّا كان له ثواب أصل الطبيعة فقط. نظير من نذر أن يصلّي الفرض في المسجد ، فهو من قبيل المطلوب في المطلوب ، فإن أرادوا هذا فوفاق.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٧٧
١٧٨

مبحث الاشتراك

الأقوال في الاشتراك ثلاثة : وجوبه واستحالته وإمكانه ، ومعلوم أنّ المراد من الوجوب والاستحالة الوجوب الوقوعي والاستحالة الوقوعيّة لا الذاتيّة ؛ إذ لا يلزم من تصوّر عدم الوجوب أو عدم الاستحالة محال كاجتماع النقيضين والضدّين ، وإنّما يدّعي القائل بهما ترتّب لازم باطل على عدمهما.

فالقول الأوّل هو لزوم الاشتراك ؛ لعدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ ، فلا بدّ من الاشتراك ليحصل الوضع لجميع المعاني.

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية (١) بأنّ المعاني الجزئيّة غير متناهيّة أمّا الكلّية فمتناهية. وعلى تقدير عدم التناهي فلا حاجة إلى الوضع لجميعها ؛ لأنّ المقصود منه التفهيم والتفهّم وهما حاصلان بالوضع لجملة من المعاني. وعلى تقدير الاحتياج لبقيّة المعاني فباب المجاز واسع ؛ إذ لا ملزم لكون الاستعمال حقيقيّا بل يجوز كونه مجازيّا. (مع أنّ المعاني الغير المتناهية يستحيل الاشتراك فيها ؛ لاستدعائه وضعا غير متناه وهو محال) (٢).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٢.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٧٩

وأنت خبير بأنّ الجواب الأوّل غير تامّ ؛ فإنّه أيّ معنى لتناهي المعاني الكلّية؟ فإنّ المعاني الكلّية الموجودة واقعا وإن كانت متناهية إلّا أنّ الكلّيات الفرضيّة غير متناهية أيضا. نعم جوابه الثاني حسن ولو فرضنا عدم قلعه للإشكال نقول بأنّ الألفاظ أيضا غير متناهية ، فإنّ قاعدة أنّ المركّب من المتناهي متناه تامة في ذوات الأجزاء الحسيّة ، وإلّا فالأعداد غير متناهية مع تركّبها من الأرقام المتناهية. وإليك تقريب المدّعى : فإنّ الحروف الهجائية التي هي ثمانية وعشرون حرفا تركّبها الثنائي ينوف على الألف. ثمّ لو أضيف إليها حرف واحد فهذا الحرف الواحد قد يكون أوّلا وقد يكون وسطا وقد يكون آخرا وعلى جميعها قد يكون مرفوعا وقد يكون منصوبا وقد يكون مخفوضا وقد يكون ساكنا. ثمّ لو أضفنا حرفا رابعا وهكذا صنعنا به كم تكون الاحتمالات؟

وبالجملة ، فالألفاظ بهذا التقرير أيضا غير متناهية قطعا ، فافهم.

وأمّا الذاهبون إلى استحالته فقد استدلّوا بأنّ الاشتراك يستدعي الإخلال بحكمة الوضع وهي التفهيم والتفهّم ، سواء قلنا بجواز استعمال المشترك في معنييه أم لم نقل ، غاية الأمر أنّا إن قلنا بالجواز يكون إرادة المجموع أحد المحتملات أيضا. وإذا استلزم الإخلال فكلّ وضع يلزم منه الإخلال بحكمة الوضع محال.

ولو كان الإشكال هذا فحسب فجوابه ما ذكره في الكفاية (١) من أنّ الغرض قد يتعلّق بالإجمال أحيانا وأنّ القرينة الحاليّة أو المقاليّة ترفع الإجمال.

وقد ذكر بعضهم (٢) أنّ وضع اللفظ للمعنى من قبيل وضع طبيعي اللفظ لطبيعي المعنى ، فمثلا إذا وضع لفظ «الإنسان» لهذه الطبيعة فمعناه وضع طبيعي لفظ الإنسان من أيّ متكلّم صدر ومن أيّ لغة صدر وفي أيّ وقت صدر فهو يفيد طبيعي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥١.

(٢) انظر نهاية الدراية ١ : ٤٤.

١٨٠