غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

أحدهما : أن يكون هناك استعمال مجازي بحيث يكون اللفظ مستعملا في معنى غير معناه الحقيقي ، أمّا إذا ادّعي ـ كما عن السكاكي (١) ـ أنّه مستعمل في معناه الحقيقي المطبّق على فرده الادّعائي بحيث لا يكون المجاز في الكلمة بل في خصوص الاسناد ؛ ولذا يفيد المبالغة كما هو غير بعيد فلا مجال حينئذ لهذا الكلام ؛ إذ ليس حينئذ استعمال في معنى غير ما وضع له حقيقة.

الثاني : أن لا يكون كلّ استعمال مسبوقا بالوضع والتعهّد كما ذكرنا ، أمّا إذا بنينا على أن كلّ مستعمل واضع ؛ لأنّ الوضع هو التعهّد بأنّه متى أراد هذا المعنى استعمل هذا اللفظ ليكون اللفظ مبرزا لذلك التعهّد ، فيكون متعهّدا أنّه إذا أورده مقرونا بالقرينة يريد المعنى الآخر فلا مجال لهذا الكلام أيضا.

استعمال اللفظ في نوعه وجنسه وفصله ونفسه

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) أنّ استعمال اللفظ في نوعه كما في : زيد لفظ ، وفي صنفه كما في : زيد في ضرب زيد فاعل إذا لم يقصد شخصه ، وفي مثله كما في المثال إذا قصد شخصه لا يحتاج إلى وضع ، بل هو أمر طبعي ، فهو حسن طبعا ومع حسنه طبعا لا يحتاج إلى رخصة من قبل الواضع ؛ ولأنّ العلقة بين اللفظ ونوعه وصنفه ومثله أكيدة جدا ، فهي آكد من العلقة الوضعيّة في المعاني الحقيقيّة فضلا عن المجازات ؛ لأنّها بنفسها حاضرة في الكلام وبينها وبين النوع والصنف مناسبة ذاتيّة ، فهي أقوى من المناسبة العرضيّة الحاصلة بالوضع فلهذا كانت أقوى.

ثمّ إنّه قدس‌سره تردّد في أنّ استعمال اللفظ في شخصه هل هو كذلك أم لا؟ واختار أنّه كذلك أيضا ، بعد ردّ ما ذكره صاحب الفصول (٣) من اتّحاد الدالّ والمدلول أو تركّب

__________________

(١) شرح المختصر : ٦١.

(٢) كفاية الاصول : ٢٩.

(٣) الفصول الغرويّة : ٢٢.

١٤١

القضيّة من جزءين بكفاية المغايرة الاعتبارية ، وكون التركّب من جزءين إنّما يكون إذا لم يكن شخص اللفظ بنفسه موضوعا ، أمّا إذا كان بنفسه موضوعا فلا يلزم تركّبها من جزءين ، وقد استدلّ صاحب الكفاية (١) على ما ذكره ـ من كون صحّة الاستعمال بالطبع لا بالوضع ـ بصحّته في المهملات أيضا كما في ديز في قولنا : ديز مهمل أو لفظ ، ولو كان بالوضع للزم الوضع في المهملات أيضا وهو باطل.

ونحن نقول : إنّ إطلاق اللفظ على نوعه وصنفه ومثله وشخصه ليس من باب الاستعمال أصلا كي يقع الكلام في أنّه بالطبع أم بالوضع ، وبيان ذلك موقوف على مقدّمتين :

إحداهما : أنّ الاستعمال سواء كان وجودا تنزيليا للمعنى أو علامة دالّة عليه كما ذكرنا إنّما يكون من حيث إنّ إخطار المعنى في ذهن المخاطب لا يمكن في كثير من الموارد إلّا بذكر اللفظ المختص به ، كما في الأمور العقلانيّة وكما في الأشياء الغائبة عن مجلس المخاطبة مثلا ، فالوضع من المنن الإلهية على البشر لبيان مقاصدهم ، وإليه ـ والله العالم ـ الإشارة بقوله : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(٢) فتقول : زيد سافر في هذا اليوم ، فبمجرّد النطق بلفظ زيد يرتسم في ذهن السامع ذاته فيحمل عليه المحمول المذكور وهو السفر في هذا اليوم وكذا غيره ، وحينئذ فاستعمال اللفظة الخاصّة إنّما هو لإخطار ذلك المعنى في ذهن المخاطب ، فإذا أمكن إخطار المعنى بغير الاستعمال بذكر نفس ما يحمل عليه المحمول من غير واسطة فلا حاجة إلى الاستعمال حينئذ.

المقدّمة الثانية : إنّ المعاني الحرفية كما ذكرنا إنّما هي غالبا تضييقات للمعاني الاسميّة ، وحينئذ فكما أنّ الإنسان إذا أراد حصّة خاصّة من الصلاة يقول : الصلاة في المسجد حكمها كذا ، أو الصلاة الجهريّة ، فبالهيئة الوصفيّة التي هي معنى حرفي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٩.

(٢) الرحمن : ٤.

١٤٢

أيضا يضيّقها ويبيّن إرادة الحصّة الخاصّة وأنّ المصلحة قائمة بها ، وقد تكون المصلحة قائمة بالطبيعي من حيث هو فيقال : الصلاة خير موضوع فمن شاء استقلّ ومن شاء استكثر (١) بلا تقييد بحرف أو هيئة.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين عرفت أنّ إطلاق اللفظ على نوعه وصنفه ومثله وشخصه ليس من باب الاستعمال أصلا ؛ لأنّه في إطلاقه وإرادة نوعه وطبيعته نفس الطبيعة تحضر في الذهن ، كما في قولك : زيد ثلاثي ؛ فإنّ زيد بنفسه ينتقل إلى ذهن السامع ، وبما أنّه فرد والطبيعي موجود في ضمن أفراده ينتقل الذهن إلى الطبيعي أيضا ، فهو بنفسه موجود في الذهن بلا واسطة شيء من الأشياء ، وكذا في إطلاقه وإرادة شخصه أيضا نفسه ينتقل إلى الذهن ؛ إذ المفروض أنّ نفس المحكوم عليه قد أحضر في الذهن فأيّ حاجة إلى الاستعمال؟

وأمّا إطلاقه على الصنف أو المثل فتذكر الطبيعة أولا فيقال : زيد ثمّ تضيّقه بواسطة حرف الجر أو الهيئة الوصفيّة حسب ما تريد من التضييق لذلك الكلّي من صنف أو مثل ، فتقول : زيد الواقع بعد ضرب فاعل مثلا ، أو زيد في ضرب زيد فاعل إذا قصدت شخصه في المثال المذكور.

فقد ظهر أنّ هذه الإطلاقات ليست من باب الاستعمال أصلا وإلّا فلا يمكن صحّة الاستعمال في الإطلاق على الشخص ؛ ضرورة أنّ الشيء لا يكون وجودا تنزيليّا لنفسه ؛ لكونه وجودا حقيقيّا ولا يكون علامة لنفسه أصلا ، فافهم ، لا لما ذكره صاحب الفصول (٢) لاندفاعه بكفاية المغايرة الاعتباريّة وكون القضية التي يلزم تركّبها من جزءين لو لا الاستعمال هي غير القضيّة اللفظيّة ، وأمّا القضيّة اللفظيّة فالجزء الثالث لها نفس اللفظ فأين التركّب من جزءين؟ وبهذا ظهر فساد ما يورد علينا من جهة إنكار الاستعمال.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٣ : ٤٣ ، الباب ١٠ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث ٩.

(٢) الفصول الغرويّة : ٢٢.

١٤٣

(وإذا بنينا على أنّ الإطلاق استعمال فما ذكره صاحب الفصول في الشقّ الأوّل من الترديد متين لا يردّه ما في الكفاية (١) من كفاية المغايرة الاعتباريّة ، فبما أنّه صادر من لافظه دالّ ، وبما أنّه مراد مدلول ؛ وذلك لأنّ كلّ فعل يصدر من المكلّف لا بدّ أن يكون مرادا إذا لم يكن بالقهر كقيامه أو قعوده وغيرهما ولم يكن طبعيّا أيضا ، فجهة كونه مرادا هي جهة صدوره لا غيرها. وكذا لا يردّه ما ذكره بعض المحققين (٢) من عدم البأس بوحدة الدالّ والمدلول ؛ لأنّ التضايف ليس من التقابل دائما ، بل قد يكون من التقابل وقد لا يكون منه ، كما دلّ الله على ذاته بذاته فهو دالّ ومدلول ، وكعلم زيد بنفسه فهو عالم ومعلوم ؛ وذلك لأنّ هذا وإن كان صحيحا إلّا أنّه في غير باب الاستعمال ، أمّا باب الاستعمال فلا يمكن أن يدلّ اللفظ على نفسه) (٣).

في تبعيّة الدلالة للإرادة وعدمها

اللفظ له دلالة على معناه توجب تصوّر معناه متى صدر هذا اللفظ ، فمتى سمع السامع لفظ السيف مثلا يحضر في ذهنه معناه ، سواء صدر ذلك الصوت من إنسان أو من اصطكاك الحجر بالحجر ، وهذه الدلالة هي الدلالة التصوريّة.

وهناك دلالة اخرى وهي دلالة اللفظ على كون الناطق به مريدا لإفهام معناه للمخاطب ، سواء في ذلك أن يتلفّظ بلفظ مفرد أو جملة تركيبية ، فهو متى نطق بلفظ مفرد يفهم أنّه في صدد إبراز كونه مريدا لذكره ، وإن تلفّظ بجملة فهو مبرز لكونه في مقام الإخبار على ما حقّقناه في مفاد هيئة الجملة الخبرية ، وهذه الدلالة تسمّى بالدلالة الاستعماليّة أو التصديقيّة في اصطلاح المشهور.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٩.

(٢) نهاية الدراية ١ : ٦٥.

(٣) ما بين القوسين من اضافات الدورة اللاحقة.

١٤٤

وهناك دلالة ثالثة وهي دلالة الألفاظ على كون المتكلّم مريدا للإخبار وبصدده بإرادة جدّيّة لا هازلا أو كان في سخرية. ولا ريب في أنّ هذه الدلالة الثالثة إنّما هي ببناء العقلاء وليست بوضع فهذه الدلالة الثالثة أجنبيّة عن محل الكلام ، وإنّما الكلام في أنّ دلالة اللفظ الوضعيّة بإزاء المعنى الأوّل أم بإزاء الثاني ، وأنّ العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى الذي ذكرناه أوّلا أم بين اللفظ والمعنى الثاني؟ ذهب المشهور إلى كون العلقة بين اللفظ والمعنى التصوّري ، فهو يدلّ على معناه بالدلالة التصوريّة ، وذهب الشيخ الرئيس (١) والمحقق الطوسي (٢) إلى الثاني وهو الذي يقتضيه النظر الدقيق.

بيان ذلك : أنّا ذكرنا أنّ ظاهر حال الناطق أنّه في صدد إفهام ما ينطق به فدلالته على المعنى تابعة لإرادته منه ؛ إذ لو لم يرد المعنى لم تكن الدلالة الاستعماليّة متحقّقة أصلا ، بل على ما ذكرنا من معنى الوضع وأنّه التعهد والالتزام لا بدّ من كون العلقة الوضعية كما ذكرنا ؛ إذ لا معنى لأن يتعهّد الواضع أنّ اللفظ دالّ على معناه وإن صدر بغير شعور واختيار ؛ ضرورة أنّ دلالته حينئذ ليست باختيار الواضع حتّى يتعهّد بها.

وما يقال من أنّا نتصوّر المعنى وإن صدر اللفظ من اصطكاك الحجرين فهو مسلّم إلّا أنّ هذه الدلالة هي الدلالة الأنسية وهي لا تتبع الوضع ، بل لو صرّح الواضع بأنه يضعها للمعنى المراد للمتكلّم لم تزل تلك الدلالة الأنسية ولو صدر اللفظ من اصطكاك الحجرين ، مضافا إلى أنّ حكمة الوضع كما أسلفنا ذلك هي التفهيم ليس إلّا ، فلا بدّ من كون دلالتها موقوفة على تحقّق قصد التفهيم.

__________________

(١) راجع الشفاء : قسم المنطق ، المقالة الأولى من الفنّ الأوّل ، الفصل الثامن : ٤٢ ـ ٤٣.

(٢) انظر الجوهر النضيد : ٨.

١٤٥

وما ذكره الآخوند قدس‌سره (١) من لزوم التجريد وكون الإرادة ناشئة من الاستعمال فلا تؤخذ في المستعمل فيه وهو المعنى ، وكون الوضع حينئذ في الجميع عامّا والموضوع له خاصّا إنّما يتمّ لو أخذ الإرادة جزءا من المعنى ، وليس كذلك بل المراد أنّ العلقة الوضعية إنّما تحقّقت حال الإرادة ، بمعنى أنّ التعهّد إنّما صار بين اللفظ وإرادة تفهيم المعنى ، لا أنّ اللفظ موضوع للمعنى المراد كي يتمّ ما ذكر. وأمّا بناء على كون الوضع علامة أو وجودا تنزيليا فبقرينة أنّ المقصود منه التفهيم يعلم أنّ إرادة الإفهام ملحوظة أيضا فيه.

هل للمركّبات وضع أم لا؟

إن أريد من وضع المركّبات أنّ المركب موضوع بوضع غير وضع مفرداته فهذا لا يليق بكلّ عاقل أن يدّعيه ؛ لأنّ المركبات لا تتناهى كما هو معلوم والوضع لغير المتناهي غير متناه ، فلا يستطيع البشر الوضع لها.

وثانيا : أنّ الوضع كما قرّرناه للتفهيم والتفهّم ومعلوم عدم توقّفهما على أكثر من وضع المفردات ؛ لأنّ الإنسان بعد اطّلاعه على وضع المفردات يؤدّي مقصوده بها من غير توقّف.

وثالثا : أنّا نرى الناس في مقام إبراز مقاصدهم بالمركّبات لا يتوقّفون حتّى يعلموا أنّ العرب أو الفرس أو الترك قد وضعوا هذا المركّب ونطقوا به أم لا ، بل يبرزون مقاصدهم بغير توقّف.

وإن أريد بوضع المركّبات وضع الهيئة التركيبيّة فهذا النزاع له وجه ؛ إذ حينئذ يكون النزاع في أنّ ما دلّت عليه الجملة الخبرية من ثبوت النسبة أو كون المتكلّم بصدد إبراز الإخبار والحكاية مستند إلى أيّ وضع؟ هل هو مستند إلى «هو»

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣١.

١٤٦

المضمر في الخبر أو إلى الهيئة؟ والظاهر استنادها إلى الهيئة وكون هيئة الجملة الخبرية موضوعة لإبراز قصد حكاية المتكلّم.

ثمّ لا يخفى أنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (١) قصّر الكلام على الجملة الاسمية ، والظاهر سريانه إلى الجملة الفعلية أيضا ؛ فإنّا نستفيد من الجملة الفعليّة معان لا نستفيدها من المفردات كما في الحصر في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وكون الفاعل المتقدّم في : ضرب موسى عيسى في كل اسمين قدّرت عليهما الحركات الإعرابية ، وغيرها من كون المتكلّم بصدد قصر الصفة على الموصوف أو العكس في قولنا : القائم زيد أو زيد القائم ، وغيرها ، وهذه المعاني لم تكن المفردات مفيدة لها فلا بدّ من كون الهيئة التركيبية موضوعة لذلك.

وقد ذكر الآخوند قدس‌سره (٢) التعبير بالوضع النوعي بالنسبة إلى الهيئات والشخصي بالنسبة إلى المادّة ، وأشكل بعضهم (٣) على هذا الاصطلاح بأنّ المراد من النوعيّة إن كان الوجود في غير الشخصي فهو سار في المادّة والهيئة ؛ إذ كما أنّ الهيئة لا تخصّ «ضارب» بل تسري في «قائم» ، كذلك مادّة «ضرب» لا تخصّ هيئة «ضارب» ، بل تجري في «ضرب ويضرب» وغيرها ، فلا وجه للتعبير عن بعضها بالنوعي وعن الآخر بالشخصي.

والظاهر أنّ المراد أنّ الهيئة لما لم يمكن تصوّرها إلّا في ضمن مادّة فتلك المادّة التي يتصوّرها فيها ليس لها موضوعيّة فمن هنا كان وضع الهيئة نوعيّا ، ولكن المادّة يمكن تصوّرها من دون تكيّفها بهيئة ، فيقول : الضاد والراء والباء موضوعة للحديث الفلاني فيكون وضعها لخصوصها فيكون وضعها شخصيّا.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٧.

(٢) كفاية الاصول : ٣٢ ـ ٣٣.

(٣) انظر نهاية الدراية ١ : ٧٧.

١٤٧

ثمّ إنّ بعضهم (١) ذكر في المركّبات التشبيه والمجاز ومثّل للأوّل بقوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)(٢) وللثاني بقولهم : أراك تقدّم رجلا وتؤخّر اخرى.

ولا يخفى أنّ التشبيه في المركّبات ممكن سواء كان تشبيها بنحو العموم المجموعي لمثله أو بنحو العموم الاستغراقي ، يعني يكون كلّ جزء من مضمون أحدهما مشبّها بجزء من مضمون الآخر.

وأمّا المجاز فغير متصوّر ؛ لأنّ المجاز فرع الوضع ولا وضع لها كما قدّمنا ذلك ، وتمثيله بالمثال من باب التشبيه أو الكناية التي تفقد الإرادة الجدّيّة لمدلولها اللفظي.

ولا يخفى أنّ الكلام في علائم الحقيقة والمجاز لا جدوى فيه بعد أن كان المتّبع هو الظهور ، سواء كان الظاهر هو المعنى الحقيقي أو المجازي ، ولو فقد الظهور فالرجوع إلى الاصول العمليّة. وحينئذ فالكلام فيه في هذه الظروف الحرجة لا يخلو عن إشكال فلهذا أعرضنا عن الخوض فيه.

في الحقيقة الشرعيّة

ولا يخفى أنّا نجمل الكلام في الحقيقة الشرعيّة ؛ لعدم الفائدة المهمّة بها ؛ إذ ما ذكروه (٣) فائدة لها من لزوم حمل الألفاظ المشكوكة المراد على المعنى الشرعي على القول بالثبوت ، أو اللغوي أو التوقّف على القول بعدم الثبوت إنّما تتمّ حيث يكون جهل بالمراد ، وليس ؛ إذ القرآن معلوم مراداته والأخبار النبويّة إنّما تردنا غالبا على لسان الأئمة ، وثبوت الحقيقة المتشرعيّة غير قابلة للإنكار عند أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمانه فضلا عمّا تأخّر عنه من الزمان.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٨.

(٢) البقرة : ١٧.

(٣) كفاية الاصول : ٣٧.

١٤٨

الوضع التعييني والتعيّني

ثمّ إنّ الوضع قد يكون تعيينيّا ، وقد يكون تعيّنيا والوضع التعييني على قسمين : فإنّه تارة يكون بأن يصرّح الواضع بأنّه قد وضع اللفظ الفلاني للمعنى الفلاني ، وهذا القسم من التعييني مقطوع العدم ؛ إذ لو وضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الألفاظ للمعاني المخترعة لنقل ذلك إلينا متواترا ولا أقلّ من الآحاد ، ولم يرد ذلك أصلا.

وقياسه على نصّ الخلافة باطل ، أمّا أولا فلأنّ نصّ الخلافة لعليّ يوم الغدير قد زاد على التواتر من طرق أبناء العامّة فضلا عن الخاصّة.

وأمّا ثانيا فلأنّ القياس مع الفارق ؛ لوجود دواعي الإخفاء هناك ليتمّ مرامهم ، وليس لهم غرض في إخفاء وضع الألفاظ لمعانيها.

وتارة يكون الوضع التعييني بالاستعمال ، بأن يضع مستعملا بالقرينة ، وهذا أمر ممكن.

وما زعمه الميرزا النائيني قدس‌سره (١) رادّا على الكفاية (٢) بأنّ الاستعمال يقتضي كون اللفظ ملحوظا آلة والوضع يقتضي كون اللفظ والمعنى معا ملحوظين بنحو الاستقلال ، ولحاظ الآليّة والاستقلاليّة للّفظ غير ممكنة ، مردود أوّلا : بأنّ الاستعمال قد يوجب كون اللفظ ملحوظا استقلالا أيضا كما إذا كان الرجل عطشانا وأراد إفهام شخص آخر أنّه عارف باللغة العربيّة فيقول : أعطني ماء مثلا ، فهذا اللفظ ملحوظ بكلّ من اللحاظين ، الآليّة ؛ لعطشه ، والاستقلاليّة ؛ لكونه مريدا إعلامه معرفته العربيّة لغرض من الأغراض.

وثانيا أنّ الوضع سواء كان عبارة عن الاعتبار النفساني أو جعل اللفظ علامة على المعنى أو وجودا تنزيليا له أو تعهّدا هو أمر نفساني ، فلا يعقل أن يكون الاستعمال الخارجي محقّقا له ، نعم يكون كاشفا عن تحقّقه وسبقه وحينئذ فأين اجتماع اللحاظين؟

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٩.

(٢) كفاية الاصول : ٣٦.

١٤٩

وبالجملة ، فهذا النحو من الوضع التعييني ممكن وقريب جدّا تحقّقه. ومن هنا ظهر أنّ دعوى تحقّقه قريبة جدا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه ، كما ظهر بطلان كلام صاحب الكفاية (١) من كونه حينئذ لا حقيقة ولا مجاز ؛ للزوم سبق الوضع وهو منتف ، ووجه الفساد أنّ سبق الوضع متحقّق فيكون الاستعمال حقيقة.

وبالجملة ، فدعوى تحقّق الوضع بهذا النحو قريبة جدا خصوصا مع ملاحظة انتفاء العلائق المجوّزة للتجوّز غالبا.

ثمّ إنّه لا يتفاوت ثبوت الوضع بهذا النحو بين أن تكون هذه المعاني ثابتة في الشرائع السابقة على شرعنا وبين أن لا تكون ثابتة ؛ لأنّ الغرض من ثبوت الحقيقة الشرعيّة هو حمل الألفاظ عليها عند الشكّ ، وهذا لا يتفاوت فيه ثبوته في الشرائع السابقة وعدمه حتّى لو كانت هذه الألفاظ مستعملة عندهم ، وإنّما المهمّ أن يكون نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد عيّن هذا اللفظ لهذا المعنى ، سواء عيّن من قبله له أم لا.

وثانيا أنّ ثبوت هذه المعاني لا يضرّ بثبوت الحقيقة الشرعيّة كما في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٢) وقوله : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ)(٣) وقوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ)(٤) لأنّ ثبوت هذه المعاني لا يقتضي استعمال هذه الألفاظ فيها والذي يضرّنا هو ذلك وهو الذي ينفي الحقيقة الشرعيّة ، ومعلوم أنّ استعمالهم كان باللغة السريانية والعبرانية وغيرها من اللغات ، فما ذكره صاحب الكفاية (٥) لا يخفى عليك ما فيه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٦.

(٢) البقرة : ١٨٣.

(٣) مريم : ٣١.

(٤) الحجّ : ٢٧.

(٥) كفاية الاصول : ٣٦.

١٥٠

ثمّ إنه لو لم يثبت الوضع التعييني بنحويه فدعوى الوضع التعيني ـ وهو القسم الثاني من أقسام الوضع ـ قريبة جدا بأن يستعمل اللفظة مجازا في المعنى مع القرينة ثمّ تشتهر فتفيده بلا قرينة حتّى في لسان نفس الشارع ، فإنّ إطلاق لفظ الصلاة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذه الأفعال كثيرة جدّا كما هو معلوم من الأوضاع العرفيّة للأمور المخترعة عند مخترعيها. ومنع صاحب الكفاية (١) من حصولها في لسانه ممنوع فإنّ استعماله في الإقامة وفي سورة الجمعة عند صلاة الجمعة وفي غيرها من سور القرآن المبارك ، بل وغير القرآن من موارد تعليم من أسلم جديدا وغيرها كلّه يورث القطع بحصول الوضع في لسانه ، مضافا إلى أنّ كثرة الاستعمال منه ومن أصحابه مع القرينة حتّى يستغنى عنها كاف في ترتّب الأثر المهمّ ، كما ذكرنا من كفاية ثبوت الحقيقة المتشرعيّة وهي ثابتة في زمان الصادقين قطعا وفي زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اطمئنانا.

__________________

(١) المصدر نفسه : ٣٧.

١٥١
١٥٢

في الصحيح والأعمّ

لا ريب في أنّ ألفاظ العبادات عندنا وفي زماننا قد صارت حقائق شرعيّة بلا كلام ، ولا إشكال وبما قرّرناه هي حقيقة عند الشارع المقدّس أيضا إمّا بالوضع بالاستعمال وهو الوضع التعييني أو بالاستعمال مع القرينة حتّى استغنى عنها وهو الوضع التعيني إلّا أنّ الكلام في أنّ ذلك المعنى الذي هو حقيقة عندنا يعني المتشرعة الذي استظهرنا أنّه من قبل الشارع بوضعه كما قدّمنا هل هو العمل الجامع لتمام الأجزاء والشرائط ليكون استعماله في الفاقد بالمجاز والقرينة أم أنّه الأعمّ من الجامع لها والفاقد وهو القول بالأعمّ. وذلك المعنى هو الموضوع له اللفظ؟

وثمرة النزاع التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار شيء في المأمور به على الأعمّ ؛ لصدق الماهيّة ، وعدمه على الصحيح ؛ للشكّ في صدق الماهيّة ؛ لاحتمال دخل المشكوك في الصحّة ، فافهم.

ثمّ إنّه على كلّ تقدير لا بدّ من جامع ليوضع اللفظ له سواء قلنا بالوضع للصحيح أو قلنا بالوضع للأعم ؛ إذ احتمال أن يكون الوضع من قبيل الوضع العامّ والموضوع له خاصّ مقطوع العدم ؛ إذ أنّا قد نلحظ اللفظ خاليا من جميع الخصوصيّات ونطلقه عليه من غير فرق بين إطلاقه عليه حينئذ وإطلاقه عليه حيث تلحظ الخصوصيّة ، وذلك نظير قولنا : الصلاة معراج المؤمن ، والصوم جنّة من النار.

١٥٣

وثانيا أنّه أيضا لا بدّ له من جامع ؛ إذ لولاه كيف يكون الوضع عاما؟ إذ لا بدّ من جامع له يتصوّر كي يتمّ كون الوضع عاما.

وبالجملة ، لا بدّ من القول بجامع.

وللميرزا النائيني تقريب (١) في الاستغناء عن الجامع ملخّصه : أنّ اللفظ موضوع للفرد الذي هو في أعلى مراتب الصحّة والكمال ، وإطلاقه على غيره ممّا كان صحيحا كصلاة الجلوس للعاجز من باب تنزيله ادّعاء منزلة الواجد ، لمشابهته في الأثر وهو الصحّة ، كما أنّ إطلاقه على الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط ممّا كان فاسدا للمشابهة في الصورة مجازا ، فيكون اللفظ موضوعا لخصوص مرتبة واستعماله في الباقي مجاز لادّعاء كونه فردا من أفراده مجازا بناء على مذاق السكاكي (٢). وحينئذ فترتفع ثمرة النزاع ؛ إذ لا يمكن التمسّك بالإطلاق للشكّ في تنزيل الشارع الفاقد منزلة الواجد ولا نحتاج إلى جامع.

ولا يخفى عليك ما فيه أمّا أوّلا : فلأنّ هذا خلاف الوجدان ؛ لأنّا نرى أنّ إطلاقه على الكامل والناقص بنحو واحد ولا يحتاج إلى قرينة فيهما معا ، ثمّ نرفع هذا الذي نراه شيئا فشيئا حتّى ينتهي إلى المعصوم وزمانه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المرتبة الكاملة ذات أفراد مختلفة ، فإنّ المرتبة الكاملة لصلاة الوتر ركعة ولصلاة الصبح ركعتان ولصلاة المغرب ثلاث ركعات وللعشاء أربع ركعات وللآيات عشر ركوعات فلا بدّ حينئذ من جامع على هذا القول أيضا.

ثمّ إنّ الصحيح الذي يدّعى الوضع له ليس هو الصحيح من جميع الجهات ، بل الصحّة من حيث الجمع لأجزاء المسمّى وشرائطه ، وأمّا عدم النهي عنه أو عدم المزاحم له أو قصد القربة فليس داخلا في الصحيح (لا لما ذكره الميرزا قدس‌سره (٣)

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٢ ـ ٥٣ ، أمّا الأولى فتصوير الجامع.

(٢) مفتاح العلوم : علم البيان ، الفصل الثالث في الاستعارة : ١٥٦.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٥٥.

١٥٤

من الاستحالة ؛ لأنّ الأمر بالشيء وعدم النهي عنه وكذا الأمر به إنّما هو بعد انتهاء تسميته كما ذكره ، فإنّه فاسد ؛ لإمكان لحاظ هذه الأشياء في مقام وضع الاسم ، فإنّ الموضوع له لا بدّ أن يكون موجودا في مقام اللحاظ لا في الخارج ، بل لأنّ الاسم إنّما يوضع بإزاء المعنى العرفي ، والمعنى العرفي يصدق على واجد هذه الأمور وفاقدها) (١) ، فليس المراد من الصحيح الصحيح من جميع الجهات كما هو واضح ؛ إذ بناء عليه لا ينبغي أن يتكلّم القائل بالصحيح في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ أو لا يقتضي أو أنّ النهي عن العبادة يقتضي فسادها أم لا.

وكيف كان ، فلا بدّ على كلا القولين من جامع. وقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) تصوير الجامع على الصحيح بدعوى اشتراك جميع أفراد الصحيح في الأثر المستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى ...)(٣) وغيرها من الأخبار ، وبقاعدة استحالة صدور الواحد من المتعدّد لا بدّ من جامع بينها يكون هو المؤثّر لذلك الأثر ، وعدم الاطلاع عليه لا يضرّ في جامعيّته ، فنشير إليه بلوازمه وعناوينه فنقول : إنّ الجامع هو عنوان الناهية عن الفحشاء والمنكر. وادّعى عدم تحقّق استحالة تصويره على الأعمّ ؛ لعدم اشتراكها في الأثر كي ننتقل إنّا إلى المؤثّر وهو الجامع (٤).

ولا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أولا فلأنّ الجامع يلزم أن يكون أمرا يعرفه العامّة ليحمل عليه عند الإطلاق والشكّ ، وهذا الجامع لا يعرفه العامّة ؛ لتوقّفه على استحالة صدور الواحد من المتعدّد.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) كفاية الأصول : ٣٩.

(٣) العنكبوت : ٤٥.

(٤) كفاية الاصول : ٤٠.

١٥٥

وأمّا ثانيا فلأنّ المستحيل هو صدور الواحد الشخصي من المتعدّد لا الواحد العنواني كما في المقام.

وأمّا ثالثا فلأنّ الأثر إنّما يترتّب على خصوصيات الأفراد من التسليم على ركعتين مثلا في الصبح وعلى ثلاث في المغرب وهكذا ، ولو كان على الجامع لم يكن للخصوصيّات أثر.

وأمّا رابعا فإنّ ما ذكره إنّما يتمّ على تقدير أن يكون المراد من الصحيح هو الصحيح الفعلي ؛ إذ هو الذي يكون مؤثّرا للأثر ، وليس كذلك لما تقدّم. وإذا أراد بالصحيح ما كان قابلا لأن يكون صحيحا دخل كثير من الفاسد فثبت مدّعى الأعمّ ، فإنّ الصلاة من جلوس فاسدة للقادر إلّا أنّها قابلة لأن تكون صحيحة كما إذا مرض ، وصلاة الظهر حضرا ركعتين فاسدة إلّا أنّها قابلة لأن تكون صحيحة إذا سافر أو كانت صادرة من مسافر.

ثمّ إنّ هذا الجامع إمّا أن يكون مركبا وهو محال ؛ إذ المركب بالنسبة إلى الشخص المأمور به صحيح وبالنسبة إلى من أمر بأزيد أو أنقص منه فاسد ، وإما أن يكون بسيطا وهو أيضا لا يعقل تصوّره في صلاة واحدة ؛ لاشتمالها على النيّة التي هي من الكيف النفساني والقراءة التي هي من الكيف المسموع والركوع الذي هو من مقولة الوضع ، واستحالة أخذ الجامع الحقيقي لمقولتين غير محتاج إلى البيان.

(وأمّا خامسا فلأنّ الأثر إنّما يترتّب على الصحيح المأمور به الغير المنهي عنه والغير المزاحم بواجب أهمّ ، فإنّه الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، ومن المعلوم أنّ الصحيح الذي هو محلّ الكلام لا تعتبر فيه هذه الخصوصيّات كما مرّ) (١) ، وحينئذ فمعنى قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٢) أنّ الصلاة تنهى

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) العنكبوت : ٤٥.

١٥٦

عن الفحشاء والمنكر إمّا أنّها توجب القرب الروحاني فينتهي المرء بسببها ، أو أنّ معناها أنّها مشروطة بشروط فإذا أراد الإنسان الإتيان بها بشروطها فلا بدّ أن لا يغصب لتقع صلاته في ثياب غير مغصوبة وفي مكان غير مغصوب ، وأن يؤدّي الحقوق الشرعيّة ؛ لعدم صحّة الصلاة في ثيابه التي هي متعلّق لحقّ الفقراء ، ويجتنب النجاسات من الخمر والميتة وأشباهها ؛ لاشتراط الصلاة بالطهارة من الخبث ، فافهم.

ومن الغريب ما ذكره بعض الأعاظم (١) من أنّ استحالة أخذ الجامع بين مقولتين وإن أوجب استحالة الجامع بين الماهيّات ، فلا يمكن تحصيله في الماهيّة إلّا أنّه يمكن تحصيله من ناحية الوجود ، فإنّه جامع بين جميع الوجودات ، فبالتضييق يمكن أن يصوّر به الجامع.

وجه الغرابة أولا : أنّ الصلاة من قبيل الماهيّات فلا معنى لجعل جامعها الوجود.

وثانيا : أنّ الوجودات في الصلاة متعدّدة ومختلفة ، فإنّ التكبير وجود والقراءة وجود والنيّة وجود وهكذا ، فيعود المحذور ؛ لأنّ هذه الوجودات يستحيل الجامع بينها لما تقدّم من كونها مقولات متعدّدة ، مضافا إلى أنّه ما هو الجامع الحقيقي بين هذه الوجودات الاعتباريّة؟

وبالجملة ، فقد انقلبت الدعوى وصار تصوير الجامع على الصحيح مستحيلا عكس ما ذكر من أنّ تصويره على الأعمّ مستحيل ، فافهم وتأمّل.

وربّما ذكر بعض مشايخ أستاذنا المحققين (٢) تصويرا للجامع من غير ناحية الأثر على الصحيح بتقريب أنّ هناك أشياء مهملة الذات من جميع الوجوه والخصوصيّات إلّا من جهة واحدة ، كما في الخمر فإنّه اسم للمسكر ـ كان قليلا أم كثيرا متخذا من الحنطة أم الشعير أم الزبيب أم غيرها ـ فهو مهمل من جميع الجهات

__________________

(١) انظر نهاية الدراية ١ : ٩٩.

(٢) نهاية الدراية ١ : ١٠١ ـ ١٠٢.

١٥٧

والخصوصيّات إلّا خصوصيّة كونه مسكرا ، ونظيره الفداء لما يؤكل نهارا عند الزوال سواء كان خبزا أو ارزا أو شعيرا أو غيرها ، وحينئذ فيمكن أن تكون الصلاة مهملة من جميع الجهات إلّا جهة كونها وظيفة الوقت.

وفيه : أنّه إمّا أن يكون موضوعا لهذا المفهوم فيكون وضعه عامّا والموضوع له عامّا وحينئذ فيلزم أن يكون بينهما ترادف ، ومعلوم بالوجدان عدم الترادف بين لفظ الصلاة ووظيفة الوقت عرفا أو بينه وبين الناهية عن الفحشاء والمنكر.

وإمّا أن يكون موضوعا لمصاديقه الخارجية فيكون من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ولم يدّعه هذا المحقّق أصلا بل الوجدان على فساده ؛ إذ أنّا نستعمل لفظ الصلاة كما نستعمل الألفاظ الموضوعة للماهيّات والطبائع كما في قولنا : الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

وقد ذكر بعض المحققين (١) وجها رابعا لتصوير الجامع على الصحيح وملخّصه : أنّ الأفعال ذات العناوين الأوليّة لا يتفاوت صدق عنوانها الأوّلي عليها بين الناس ، بخلاف عناوينها الثانويّة فإنّها تختلف ، مثلا القيام عنوانه الأوّلي كونه قياما وهذا لا يختلف أصلا عند جميع الأصناف ؛ إذ لا يخرج عن كونه قياما عند الجميع ، لكن كونه تعظيما يختلف باختلاف العادات ، فإنّ التعظيم قد يكون به وقد يكون برفع ما على الرأس وقد يكون بالإطراق إلى الأرض وقد يكون برفع اليد ، والتعظيم قد يكون باختراع الإنسان واختياره فيقول : إنّ احترامي بالسكوت في مجلسي مثلا وقد يكون غير ذلك ، فهذه العناوين الثانويّة تختلف اختلافا بيّنا ، وحينئذ فيمكن أن تكون الصلاة معنونة بالعنوان الثانوي ، بالعطف مثلا لكن هذا العطف يختلف فإنّ الخضوع والعطف صبحا يكون عنده بصلاة العبد مثلا ركعتين وظهرا بأربع وعصرا بمثلها ومغربا بثلاث ركعات وهكذا.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

١٥٨

ولا يمكن المساعدة على هذا الوجه أيضا ؛ إذ إن أراد أنّها موضوعة بإزاء هذا العنوان فيلزمه الترادف وليس بينهما عرفا ترادف أصلا ، وإن أراد أنّها موضوعة بإزاء الأفراد الخارجيّة فيلزمه كون الموضوع لها خاصّا ، ويرد عليه جميع ما ذكرناه إيرادا على ذلك ، وإن أراد أنّه يشار بهذا العنوان إلى الجامع فيلزمه عدم جواز التمسّك بالإطلاق ؛ إذ حينئذ يكون من قبيل الشكّ في الامتثال بعد إحراز التكليف ومعلوم أنّه مجرى قاعدة الشغل ، فافهم.

هذه الوجوه هي عمدة الوجوه المذكورة لتصوير الجامع على الصحيح وقد عرفت فسادها وأنّه لا يمكن ؛ إذ لا جامع بين المقولات المختلفة كما تقدّم.

فيقع الآن الكلام في الجامع على الأعمّ فنقول : ذكروا له وجوها :

أحدها : ما ذكره بعض المحققين (١) من أنّ كل ما صوّر جامعا على الصحيح يكون جامعا على القول بالأعمّ حيث نلغي منه اعتبار صدوره من الشخص المكلّف به ، مثلا صلاة الجلوس صحيحة إذا صدرت من المريض العاجز عن القيام فما كان هو الجامع على الصحيح إذ ألغي منه اعتبار صدوره ممّن خوطب به كان هو الجامع على الأعم.

ولا يخفى عليك ما فيه فإنّه موقوف على مقدّمتين :

الأولى : أن يكون ثمّة جامع على الصحيح وقد ذكرنا استحالته.

الثانية : أنّه موقوف على أن تكون كلّ صلاة فاسدة تكون صلاة صحيحة في وقت من الأوقات كعكسه ، وليس هذا تامّا فإنّ بعض أفراد الصلاة الفاسدة لا يتصوّر فيها أن تقع صحيحة كما في الصلاة بلا طهارة أو بلا ركوع ولا بدله ، فهذه تخرج من الجامع ؛ إذ لا تصحّ من كلّ أحد أصلا ، فظهر بطلان تصوير الجامع.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ١١٣.

١٥٩

ثانيها : ما في الكفاية (١) نقلا عن صاحب القوانين قدس‌سره (٢) من أنّ الجامع هو الأركان وغيرها من الأجزاء المعتبرة في المأمور به لا في المسمّى.

وقد أورد عليه في الكفاية (٣) بلزوم كون استعمالها في الجميع من الأجزاء والشرائط مجازا بعلاقة الجزء والكلّ ، وبلزوم صدقها على الفرد الغير الحاوي إلّا للأجزاء فقط ، وبلزوم عدم صدقها على العمل الحاوي لجميع الأجزاء والشرائط إلّا الركوع مثلا أو إلّا تكبيرة الإحرام وهي لوازم فاسدة ؛ ضرورة أنّ صدقها حقيقة على الجامع للأجزاء والشرائط وأنّها لا تصدق لو كانت الأركان فقط دون بقيّة الأجزاء وأنّها تصدق ولو فقدت بعض الأركان.

وتمام الكلام في هذه الردود يأتي في ذيل الوجه الثالث من وجوه الجامع وهو ما ذكره بعض المحققين (٤) وهو أنّ الجامع مقدار من الأجزاء تدور التسمية مدارها ، توضيحه أنّ المركّبات على قسمين :

أحدهما : ما لا يتفاوت بالنظر إلى الكلّ كما في المركبات الحقيقيّة ، كالإنسان المركّب من الحيوان والناطق ، وتركّب الإنسان منهما تركّب حقيقي فإنّ الإنسان ليس النصف العالي منه هو الحيوان والسافل منه هو الناطق ، وهذا لا يتفاوت فيه نظر ونظر ولا حال وحال وهو غير قابل للزيادة والنقصان.

الثاني : هو المركبات الاعتباريّة وهي نظير الدار مثلا ، فإنّها عبارة عن أجزاء متباينة كالجدار والغرفة مثلا والسطح فإنّها أجزاء متغايرة وهي قابلة للزيادة ، بمعنى أنّها قد أخذت بلا شرط من حيث الزيادة فإن وجدت كانت جزءا وإلّا فلا تكون جزءا ، مثلا الدار أقلّ ما تصدق عليه أن تكون جدران وغرفة فلو فقد

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠.

(٢) القوانين ١ : ٤٤ و ٦٠.

(٣) كفاية الاصول : ٤٠.

(٤) في تقريرات الشيخ (نسبه البعض إلى جماعة من القائلين بالأعمّ) مطارح الأنظار ١ : ٥٤.

١٦٠