غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

وعدم استقلاله ، بل المنفيّ اللحاظ الاستقلالي والآلي وهما منفيّان عن المعنى قبل تعلّق اللحاظ به ؛ ضرورة أنّهما من أوصاف اللحاظ اللاحق للمعنى لا من أوصاف نفس المعنى.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام صاحب الكفاية قدس‌سره وحينئذ فلا يرد عليه شيء إلّا أنّ افتراق المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي بكون المعاني الاسمية مستقلّة والمعاني الحرفية آلة وحالة للغير لا نهتدي إليه ؛ لأنّه إن أريد من كون المعاني الحرفية آلة أنّه مرآة لطرفيها ، مثلا في : سرت من البصرة تكون «من» مرآة للسير والبصرة ، ففساده واضح ؛ إذ المباين كيف يكون مرآة لمباينه؟ ومعلوم مباينة معنى «من» لمعاني طرفيها ، وإن أريد من كونها مرآة كونها مشخّصة لفرد من أفراد ذلك المعنى الكلّي فهي آلة لتحقيق فرد من أفراده فهو مسلّم لكنّه يقتضي أن تكون المعاني الاسميّة كلّها كذلك أي معاني حرفية ؛ إذ المعنى الاسمي الكلّي قد يلحظ بما هو هو فيقال : الإنسان نوع ، وقد يلحظ من حيث الوجود الخارجي فيقال : الإنسان ضاحك ، ضرورة أنّ الضحك ليس من عوارض مفهوم الإنسان وإنّما هو من عوارض وجوده الخارجي الذي يكون الإنسان في المثال مرآة له ، ونظيره قولنا : النار حارّة.

وأمّا حديث كون المعنى إن اتصف بكونه حالة لغيره كان حرفيّا فلا نتصوّر له معنى ؛ إذ المعنى الحرفي كونه حالة لغيره ذاتي له فكيف يكون وصفا له ، وذاتي الشيء لا يعتبر وصفا فيه؟

إلّا أن يقال : إنّ المعنى تارة يلحظ من حيث نفسه ويحكم عليه بذلك اللحاظ فيكون معنى اسميا ، واخرى يلحظ بما أنّه حالة من أحوال الغير فيكون معنى حرفيّا ، كما ذكروا نظير ذلك في الفرق بين المصادر وأسمائها فقالوا ـ يعني الفلاسفة ـ : إنّ المعنى المصدري إن لوحظ حالة لغيره فهو مصدر وإن لوحظ في نفسه فهو اسم المصدر.

١٢١

وبالجملة ، فحيث كان العرض ذا جنبتين فإنّها أوصاف في نفسها لكنّها لغيرها ، فإن لوحظت باللحاظ الأوّل فهي اسم مصدر ، وإن لوحظت باللحاظ الثاني فهي المصادر.

ولا يخفى عليك أنّ صرف كونها حالة لغيرها لو كان مقتضيا لكون المعنى حرفيّا لزم كون المصادر كلّها معاني حرفيّة وهو بمكان من البطلان ، فافهم.

وحيث بطل هذان المعنيان تعيّن الثالث يعني القول الثالث وهو كون المعاني الحرفية مغايرة للمعاني الاسمية بنحو المباينة وأنّ الموضوع له لأحدهما غير الموضوع له للآخر وقد ذكروا في تقريبه وجوها :

الأوّل : إنّ الحروف موضوعة للنسب بين الجواهر والأعراض ، مثلا زيد معنى مستقل والدار أيضا معنى مستقلّ ، فكما أنّ المعاني المستقلّة محتاجة إلى وضع لتفهيمها فكذلك الربط بين هذه المعاني المستقلّة له وجود خارجي ، فلا بدّ له من دالّ يدلّ عليه وهي الحروف. فإذا قلت : زيد في الدار فقد ربطت بين زيد وبين الدار ، وكذا قولك : زيد في السفر مثلا ، (مع أنّ المعنى الاسمي والحرفي لو كانا واحدا واختلافهما باللحاظ الآلي والاستقلالي الناشي من الاستعمال خارجا عن مدلولهما لكان استعمال أحدهما بمكان الآخر جائزا ، وكان أولى من المجاز المتّفق على صحته ؛ لأنّ المجاز استعمال في غير ما وضع له من جهة المشابهة أو غيرها ، وهنا الاستعمال في ما وضع له وإن كان بغير ما وضع له ، ونحن نرى من يستعمل أحدهما في مورد الثاني يعتبر مجنونا فهذا دليل اختلاف المعنى الموضوع له) (١).

وفيه : إنّ الحروف لو لم تستعمل إلّا بين الجواهر أو الأعراض لكان هذا الوجه وجيها ، ولكنها تستعمل في غيرها مما هو فوق الجواهر والأعراض كما في قولك : الملك لله ، فإن هذه اللام ربطت بين الملك وبين أي شيء؟

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات الدورات اللاحقة.

١٢٢

وكذا تستعمل فيما هو دون الجواهر والأعراض كما في قولك : اجتماع الضدّين في الخارج محال ، فلفظ «في» في المثال ربط بين الخارج وبين أيّ شيء؟

وبالجملة ، فقد تستعمل الحروف في أماكن لا يمكن تحقّق الربط والنسبة الرابطة ، إذ المراد بالنسبة النسبة الخارجيّة ، فتأمل.

(توضيح هذا الوجه الذي قد ذكره بعض مشايخنا المحققين (١) في توجيه وتوضيح المعنى الذي وضع له الحرف فذكر أنّ الوجود قسمان :

ـ وجود في نفسه وينقسم إلى وجود في نفسه لنفسه بنفسه وهو وجود الواجب ، ووجود في نفسه لنفسه إلّا أنّه بغيره كما في وجود الجواهر ، ووجود في نفسه لغيره بغيره وهو وجود العرض ، فهذه الثلاثة أقسام القسم الأول من قسمي الوجود وهو الوجود في نفسه.

ـ القسم الثاني هو الوجود في غيره وهو نحو من الوجود له تحقّق خارجي قطعا ، والبرهان على ذلك أنّه قد يكون المرء قاطعا بوجود زيد وقاطعا بوجود العلم إلّا أنّه شاكّ في ثبوت العلم لزيد ، ولا ريب في أنّ المشكوك غير المتيقّن وجودا ، فلهذا المشكوك فيه وجود يغاير وجود المتيقّن.

إذا عرفت هذه المقدّمة فاعلم : أنّ المعاني الاسمية هي المعاني الموضوعة بإزاء الموجودات في نفسها ، أمّا المعاني الموجودة في غيرها فقد وضعت الحروف لها ، فالحروف موضوعة للربط الخارجي بين المرتبطين ، فهي موضوعة للوجود الربطي وهو وجود خارجي نظير الوجود الرابطي إلّا أنّه غيره فيربط بين زيد وبين العلم ، وليست موضوعة لمفهوم الربط والنسبة ؛ لأنّها مفهوم موجود في نفسه وإنّما هي موضوعة لتلك النسبة الخارجيّة المتحقّقة بين زيد وبين العلم.

__________________

(١) الشيخ محمد حسين الأصفهاني ، بحوث في الاصول : ٢٥ ـ ٢٦.

١٢٣

أقول : الكلام يقع في مقامين (١) وذلك أنّه يقع أولا في أنّ الوجود في غيره له واقع أم أنّ الموجودات غير الواجب منحصرة في الجواهر والأعراض ، وأن الوجود الربطي بعينه هو الوجود الرابطي؟ الظاهر : الثاني وما ذكر من البرهان لا يقتضي المغايرة ؛ إذ قد يكون الكلّي متيقّنا والفرد مشكوك ، وهذا لا يقتضي مغايرة الفرد للكلّي وجودا ، فإذا تيقّنّا بوجود إنسان في الدار إلّا أنّا نشكّ في أنّه زيد أم غيره فهذا لا يقتضي بأنّ زيدا غير إنسان ؛ لأنّ المتيقّن غير المشكوك ، ومقامنا من هذا القبيل ؛ فإنّ كلّي العلم وإن كان متيقّنا إلّا أنّ كون زيد فردا له مشكوك.

ويقع الكلام ثانيا في أنّه لو سلّمنا أنّ الوجود في غيره له تحقّق إلّا أنّه لا يمكن أن تكون الحروف موضوعة له ؛ لأنّ الموضوع له لا بدّ من تصوّره ذهنا حتّى توضع الألفاظ له ، والوجود الربطي الخارجي يستحيل وجوده ذهنا فكيف يوضع الحروف له؟

وثالثا أنّ هذا المعنى لو وضع له الحرف لم يصح استعماله إلّا في ربط الأعراض بالجواهر ، ونحن نرى صحّة استعمال الحروف فيما هو فوق الجوهر والعرض وهو الواجب ، فيقال : واجب الوجود موجود في نفسه ، فلفظ «في» قد استعملت كما تستعمل في غيره ، والوجود الربطي بينه وبين الأعراض مستحيل. وتستعمل الحروف أيضا فيما هو دون الجوهر والعرض وهو الاعتباريّات كقولنا : اجتماع الضدّين مستحيل في نفسه ، وقولنا : العدم مقابل للوجود ، ولا معنى للوجود الربطي الخارجي بين اجتماع الضدّين والاستحالة كما لا معنى له بين العدم ومقابلة الوجود.

وبهذا الوجه الأخير يظهر فساد ما ذكره بعض المحقّقين (٢) في توجيه المعنى الحرفي بعد اعترافه بمباينته للمعنى الاسمي ، فإنّه زعم أنّ الوجود الربطي قد وضعت له

__________________

(١) بل في ثلاث مقامات.

(٢) بدائع الأفكار : ٤٩ ـ ٥١.

١٢٤

الهيئات وأمّا الحروف فقد وضعت للأعراض النسبيّة كالكم والكيف ، بل هذا أظهر فسادا من سابقه ، وجه فساده أنّه يستعمل فيما لا يتصور ظرفيّته للأعراض النسبيّة كالواجب تعالى كما مثّلنا ، ووجه أظهرية فساده أن الأعراض النسبيّة كغيرها مفاهيم اسمية مستقلة وقد اعترف بمباينة المعاني الحرفية للاسمية ذاتا وهذا يقتضي اتّحادها وكون الاختلاف باللحاظ فإنّ الكمّ والكيف والظرفية كلّها معاني اسمية) (١).

الوجه الثاني : من الوجوه المذكورة في تصوير المعنى الحرفي بعد فرض مغايرته للمعاني الاسمية وأنّهما سنخان من المعنى ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) وملخّصه : أنّ المعاني الاسمية معان إخطارية ؛ لأنّها توجب إخطار المعنى عند ذكره ، مثلا إذا قلنا : زيد فهذه الكلمة توجب إخطار ذات زيد في ذهن السامع مثلا ، والمعاني الحرفية معان إيجادية ، فإنّك إذا تكلّمت بحرف «في» فقد أوجدت خارجا فردا من أفراد الظرفيّة مثلا ؛ ضرورة أنّك توجد الربط بين المفردات الإخطارية ، مثلا لفظ زيد لفظ مفرد يوجب إخطار ذاته ولفظ دار كذلك أيضا ، فلو ذكرت هذه الألفاظ متسلسلة من غير ذكر الحرف مثلا لم تكن مربوطة ، بل ولو جيء بالمعنى الاسمي بدل الحرف أيضا لا يحصل الربط ، كما إذا قلنا : زيد ظرفية تعريف دار تزداد عدم مربوطيّتها ، فيكون المحدث لهذا الربط هو الحرف ، مثل لفظة «في» في قولك : زيد في الدار. فالحروف تكون بمعانيها الإيجادية محدثة للربط ، فهي موجدة لواقع الظرفيّة في الخارج ومحدثة للربط بين المعاني الاسمية ، وهذا الربط المحدث إذا كان موافقا للربط الواقعي بين هذه المفردات فالقضيّة صادقة وإلّا فكاذبة.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٥.

١٢٥

ولا يخفى أنّ ما ذكره (من كون المعاني الحرفيّة إيجاديّة لأنّها ليست إخطاريّة ممنوع ؛ لأنّ عدم كونها إخطاريّة بنفسها لا تستلزم كونها إيجاديّة ؛ لأنّ عدم كونها إخطاريّة بنفسها لا ينفي كونها إخطاريّة بتبع متعلّقها ، كما نبيّنه إن شاء الله) (١) [كما أنّ ما ذكره](٢) من حدوث معنى عند الإتيان بالحرف لم يكن قبل الإتيان به مسلّم إلّا أنّ هذا المعنى ليس من لوازم الحرف الذاتيّة حتّى لا يحتاج إلى وضع بل هو محتاج إلى الوضع ، فكلامنا نحن في المعنى الذي وضعت له هذه الحروف حتّى صارت تفيد الربط كما ذكرتم.

وبالجملة ، فما ذكره مسلّم إلّا أنّه لا يثبت المقصود.

فالتحقيق أن يقال : إنّ معاني الحروف ـ بعد اشتراكها في كونها معان في الغير ـ ليس لها ضابط كلّي بل إنّها مختلفة لا يمكن حصرها في ضابط كلّي ، وإنّها ممتازة معنى عن المعاني الاسمية وسنخ مغاير لها.

بيان ذلك أن يقال : إنّ المفاهيم الاسمية متفاوتة في الضيق والسعة كما في مفهوم الحيوان ومفهوم الإنسان ، فإنّ الثاني أضيق من الأوّل ، وإنّ الألفاظ غالبا قد وضعت للماهيات المهملة المسمّاة باصطلاح القوم باللاشرط المقسمي غير ملحوظ بها حتّى الوجود أو العدم ، فترى بعض الماهيّات لم يعرضها الوجود أصلا.

ثمّ إنّ هذه المعاني الاسميّة سواء كانت كليّة أو جزئيّة تنحلّ إلى حصص ، مثلا الإنسان الذي هو كلّي ينحلّ إلى حصص غير متناهية ؛ لأنّه ينحلّ إلى طويل وقصير ، أبيض وأسود في الليل أو في النهار ، عربي أو غير عربي ، هاشمي أو غيره ، عالم أو غيره ، عادل أو غيره ، ولد ليلا أو نهارا إلى غير ذلك من الانقسام إلى المعاني الغير المتناهية ، فهو منقسم إلى حصص لا تتناهى ، وكذا إذا كان

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) ما بين المعقوفتين زيادة اقتضاها السياق.

١٢٦

المعنى الاسمي جزئيا فهو منقسم إلى حالات غير متناهية ، كما في انقسام زيد إلى الصحيح والمريض ، الأسود والأبيض ، الطويل والقصير ، الصغير والكبير ، النائم والقاعد ، الماشي والقائم ، المسافر والحاضر إلى غير ذلك من حالاته التي يمكن أن يتصف بها.

فالمعاني الاسمية كلّية كانت أو جزئيّة هي مطلقة بحيث لو ألقاها المولى في مقام البيان لشملت جميع هذه الحصص والحالات ، وإن وجد بعض الألفاظ موضوعا لحصّة خاصّة من حصص الماهيّة كما في الجلوس فإنّه موضوع لهذا المعنى حيث يكون مسبوقا بالقيام ، بخلاف القعود فإنّه موضوع لذلك المعنى حيث يكون مسبوقا بالاضطجاع فقد وضع الواضع هذين اللفظين لحصّتين من ماهيّة واحدة ، إلّا أنّ ذلك لمّا كان نادرا في لغة العرب وغيرها ، ولما كان تضيّقها بوضع معان اسمية لكلّ حصّة من هذه الحصص يحتاج إلى وضع غير متناه أو تطويلا بغير ملزم فقد وضعت الحروف لتضييق تلك المعاني الاسمية وتحصيصها إلى الحصص التي هي مرادة للمتكلّم ، مثلا قوله : الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في الدار فلفظ «في» في المقامين أبرز الحصّة المرادة المفضّلة على الحصّة المفضّل عليها ، ولو لم يؤت ب «في» في المقامين لبقيت الصلاة على إطلاقها.

فالحروف موضوعة لمعان إيجادية واقعية وهي التضيّق وهذا هو ما نسب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام من قوله : الحروف هي ما دلّت على معنى في غيرها (١) فإنّها قد دلّت على التضييق في غيرها وهي المعاني الاسمية. هذا هو القسم الغالب من الحروف ، وهذه الحروف نسمّيها اصطلاحا بالحروف الاختصاصية.

ثمّ إنّ هذا التضييق قد يستفاد من الإضافة كما في غلام زيد ، وقد يستفاد من التوصيف واستفادته من هيئتهما وهي معنى حرفي أيضا.

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٠ : ١٦٢.

١٢٧

وبالجملة ، فهذه الحروف ـ وهي الاختصاصية ـ موضوعة لتقييد المعاني الإفرادية ، كهيئة المشتقّات فإنّها موضوعة لتقييد المادّة وتضييقها بالصدور مثلا في ضارب وبالوقوع عليه في مضروب وكذا غيرها.

القسم الثاني منها هو ما وضع بإزاء المعاني الاسمية بلا فارق ، بحيث يصحّ استعمال الحرف والاسم فيه ، وذلك هو حروف التشبيه بأسرها ؛ فإنّه لا يستفاد من قولنا : زيد كالأسد ، إلّا ما يستفاد من قولنا زيد مثل الأسد أو نظير الأسد أو شبيه الأسد أو غيرها ، فهذه الحروف تسمّى باصطلاحنا بالحروف الاسمية ؛ لأدائها نفس المعاني الاسمية ، كما سمّيت أسماء الأفعال أسماء مع [أنّ] عملها عمل الأفعال (*).

وقسم من الحروف وهو الثالث ما كانت لسلب ما يستفاد من المعنى في الجملة الخبرية الإيجابية ، فإذا استفيد معنى في قولنا : زيد قائم مثلا فما يستفاد منها تكون تلك الحروف سالبة له لو دخلت ، فقيل : ما زيد بقائم أو ليس زيد بقائم أو لا يقوم زيد أو لم يقم أو لن يقوم.

وبالجملة ، فحروف السلب إنّما وضعت لمفهوم إيجادي وهو سلب المعنى المستفاد من الجملة الإيجابية وليس هي حرف وإن عدّت من الأفعال إلّا أنّها حرف حقيقة ، وعلامة ذلك أدائها معنى الحروف كما ذكرنا. ثمّ إنّ هناك أقساما أخر للحروف لا حاجة إلى ذكرها.

__________________

(*) لا يخفى أنّه لا وجه لعدّ حروف التشبيه قسما آخر غير سابقه. ودعوى صحّة قيام المعاني الاسمية مقامها ، مدفوعة ؛ فإنّ الكاف موضوعة للتشبيه ، ولو جيء بلفظ التشبيه مكانه لم يرتبط ، بأن يقال : زيد تشبيه تعريف أسد. ولو اريد التشبيه بمشتقّاته كأن يقال : زيد شبيه الأسد صحّ مثله في غير حروف التشبيه فيقال : زيد مظروف الدار ومستعلي السطح وهكذا (الجواهري).

١٢٨

وبالجملة ، فالحروف بأسرها موضوعة لمعنى في غيرها وهو التقييد والتحصيص كما ذكرنا ، غايته أنّ التحصيص تارة يكون في معنى مفرد كما في قولك : زيد في الدار ، فهو تحصيص لزيد من ناحية الظرفية ، واخرى يكون التحصيص في معنى جملة كما في أداة الشرط والاستفهام وغيرها (*) ، وكالحروف المشبّهة بكان ، فمثل قولك : أكرم زيدا إن جاءك مثلا لمّا كان لفظ أكرم زيدا مطلقا من حيث مجيئه وعدمه ، فبإطلاقه كان يجب إكرامه على كلّ تقدير فتقييده بالشرط تقييد له وبيان لكون الحصّة المطلوبة من الإكرام حصّة خاصّة. وكذا الاستفهام على ما سيأتي في بيان معنى الجملة إن شاء الله تعالى.

وبالجملة ، فالتخصص والتقيّد هو المعنى الذي وضعت له الحروف وهو معنى قائم بالغير ؛ ضرورة أنّ التقييد لا يكون إلّا بين مقيّد ومقيّد به فهي تدلّ على معاني في غيرها.

بقي الكلام في أنّ هذه المعاني التي هي المعاني الحرفية يمكن أن تستقلّ باللحاظ أم إنّها ـ كما هو المشهور وإليه ذهب صاحب الكفاية (١) ـ لا يمكن أن تلحظ إلّا باللحاظ الآلي ، بل ذكر بعضهم (٢) أنّ المعاني الحرفية معان مغفول عنها في مقام الاستعمال؟ الظاهر : إمكان أن تستقل باللحاظ وإن كان المعنى في غيره ، فإنّ معنى كون المعنى في غيره أنّه بذاته غير مستقلّ ، ولا يلزم منه أن يكون تعلّق اللحاظ الاستقلالي به ممتنعا ، بل إنّ تعلّق اللحاظ الاستقلالي به أمر وجداني ؛ فإنّه ربّما يكون الذات والقيد

__________________

(*) قد أفاد في الدورة اللاحقة أنّ ما وضع له حرف الاستفهام والترجّي والتمنّي هو ما وضعت له الهيئات التركيبية في الجمل الإنشائية ، وهو إبراز كونه مستفهما عن كذا أو مترجّيا لكذا أو متمنّيا لكذا على ما اختاره فيما وضعت له الجمل ولم يذكر فيها غير هذا القسم مع القسم الأوّل.

(١) كفاية الاصول : ٢٧.

(٢) فوائد الاصول ١ : ٤٥ و ١٨١.

١٢٩

متحقّقين في الخارج قطعا ويسأل السائل عن تحقّق ذلك التقيّد وعدمه ، فيقول : صلاة زيد في المسجد أم في الدار مثلا؟ وضرب زيد بالعصا أم بالسوط؟ إلى غير ذلك مما يقع السؤال فيه عن نفس المعنى الحرفي ليس إلّا ، فهو ملحوظ بالاستقلال أيضا كالمعاني الاسميّة. فكما أنّ المعاني الاسمية تلحظ استقلالا كذلك المعاني الحرفيّة ، وهذا لا ينافي كونها بذاتها غير مستقلّة ، فإنّ غير المستقل قد يلحظ بلحاظ استقلالي كما مثلنا ، فافهم.

والغرض من هذا التطويل هو بيان كون المعاني الحرفيّة قابلة للّحاظ الاستقلالي. ويترتّب على ذلك صحّة اعتبار المفهوم ، ولا يتوجّه عليه الإشكال بأنّ معنى الهيئة معنى حرفي فكيف يصحّ أن يقيّد والتقييد يستدعي اللحاظ الاستقلالي وهو مفقود في المعاني الحرفيّة؟ لأنّ تعلّق اللحاظ الاستقلالي به أيضا ممكن فلا إشكال في استفادة المفهوم حينئذ سواء كان مفهوم شرط أو غاية أو وصف ، فافهم.

بقي الكلام في أنّ الموضوع له في الحروف عامّ كما ذهب إليه في الكفاية (١) بدعوى اتّحاد المعنى الاسمي والحرفي ، والفرق بينهما إنّما هو باللحاظ الآلي في الثاني والاستقلالي في الأول ، وهما ناشئان من الاستعمال ، أو أنّ الموضوع له خاصّ؟ الظاهر : الثاني ؛ فإنّ الواضع تصوّر مفهوم التقييد والتضييق إلّا أنّه وضع الألفاظ بإزاء واقعهما ، فإنّ لفظة «في» غير مفيدة لمفهوم التقييد على سعته وإطلاقه ، وإنّما هي مفيدة لتقييد واقعي وموجدة له ، فهي موجدة لفرد من أفراد التقييد والتضييق وكذا غير لفظ «في».

وبالجملة ، فالظاهر أنّ وضعها عامّ والموضوع له فيها هو واقع التقييدات لا مفهومها فيكون الموضوع له فيها حينئذ خاصّا. هذا تمام الكلام في المعنى الحرفي والكلام فيه أزيد من هذا تضييع للعمر وخسران للوقت.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥.

١٣٠

في وضع الهيئات

روت العامّة (١) والخاصّة (٢) عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه أمر أبا الأسود الدؤلي أن يدوّن علم النحو وأملى هو عليه‌السلام عليه : الاسم ما أنبأ عن المسمّى والفعل ما دلّ على حركة المسمّى والحرف ما أوجد معنى في غيره ، وقد اتّضح بما ذكرنا معنى الفقرة الأولى والأخيرة بقي الكلام في معنى الفقرة الثانية ، وإرادة الحركة بالمعنى المعروف لها غير صحيح ؛ إذ إنّ جملة من الأفعال لا تدلّ على الحركة وإنّما تدلّ على السكون فلا بدّ من ذكر معنى جامع لجميع الأفعال ومانع عن دخول غيرها ولنتكلّم قبل ذلك فيما وضعت له الهيئات.

فنقول : أمّا الجملة الاسمية كما في قولنا : زيد قائم بل مطلق الجملة الإخبارية وإن كانت فعليّة [فقد] ذكر القوم ـ ولعلّه متسالم عليه بينهم ـ أنّ هيئة الجملة الاسمية موضوعة لثبوت النسبة في الخارج إن كانت إيجابية ، وسلبها إن كانت سلبيّة ، فإن كانت الجملة موافقة لنفس الأمر فالخبر صادق ، وإن خالف فكاذب.

ولا يخفى عليك عدم استقامة ذلك ، بيانه : أنّ جملة من الجمل الخبرية لا يمكن ثبوت النسبة الخارجية فيها بين المحمول والموضوع كما في قولنا : الإنسان حيوان ناطق ، وكما في قوله : أنا أبو الصقر وشعري شعري (٣) ، وكما في قولنا : الإنسان بشر وغيرها ممّا لا يكون معنى للنسبة فيها بين المحمول والموضوع ؛ لاتّحادهما ذاتا وخارجا والتغاير بينهما مفهومي ليس إلّا ، بل في بعض الجمل لا وجود للموضوع

__________________

(١) كنز العمال ١٠ : ٢٨٣ / ٢٩٤٥٦ ، أمالي الزجاجي : ٢٣٨.

(٢) بحار الأنوار ٤٠ : ١٦٢. وفيه : والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل.

(٣) لم نقف عليه ولكن وجدنا هكذا :

أنا ابوالنجم وشعري شعري

لله درّي ما اجن صدري

وهو لأبي النجم العجلي. انظر جامع الشواهد : ٧٠.

١٣١

خارجا حتّى ينسب إليه المحمول كما في قولنا : العنقاء معدوم أو شريك الباري مستحيل ؛ فإنّ الموضوع لا وجود له خارجا حتّى ينسب إليه في الخارج ، فلا بدّ فيها من التجريد والتجوّز ، ونحن لا نرى تفاوتا في الاستعمال بينها وبين غيرها كما في زيد قائم ، بل نرى استعمال الجملة فيهما واحد ، فهذا كاشف عن اتّحاد المستعمل فيه في كلتا الجملتين ، فلا بدّ من كونه غير ثبوت النسبة.

وثانيا : أنّ الهيئة لو كانت موضوعة لثبوت النسبة في الخارج لأوجبت إثباتها في الخارج ، وقولك : زيد قائم مثلا بعد صدوره نحتمل ثبوت القيام ونحتمل سلبه بالوجدان ، فهذا كاشف أنّ ما وضعت هيئة الجملة له معنى آخر غير ثبوت النسبة ، وإلّا لافادتها.

فالتحقيق أن يقال : إنّ الهيئة وضعت لإفادة كون المتكلّم قاصدا للحكاية ، وهذا واضح بناء على أنّ الوضع هو التعهّد ، فإنّ الواضع قد تعهّد والتزم أنّه متى أتى بجملة خبرية فهو بصدد الحكاية والإخبار ولا ضير في ذلك أصلا ، وحينئذ فتسميتها بالجملة الخبرية إنّما هو باعتبار أنّ صدورها من المتكلّم بقصد الحكاية والإخبار يحقّق فردا من أفراد الإخبار ومصداقا من مصاديقه ، وجميع العناوين القصدية تابعة للقصد ، فافهم ، فاتّصاف الجملة الخبرية بالصدق والكذب حينئذ لا معنى له ؛ إذ دلالتها على معناها دائما صادق ، فإنّ دلالة المفردات على المعاني التصورية لا تنتفي ولو علم بانتفاء النسبة. والهيئة إنّما وضعت لإبراز كون المتكلّم بصدد الحكاية فإذا كان بصدد الحكاية واقعا كان الاستعمال صحيحا وإلّا كان غلطا.

نعم ، لو كان ظهور حاله لا يقضي كونه بصدد الحكاية كما إذا طلب منه أن يأتيهم بجملة فيها مبتدأ وخبر فقال : زيد قائم فهذه لا تتصف لا بالصحّة ولا الغلط ، فافهم.

وبعبارة اخرى ، إنّ الهيئة للجملة الخبرية قد وضعت لإفادة المخاطب أنّ المتكلّم بصدد الإخبار بهذه النسبة ، فإذا نطق بها وكان بذلك القصد فهي صحيحة ؛ لمطابقتها لمدلولها وإلّا فهي غلط ، فالصدق والكذب تابع للمدلول وهو المحكيّ لا للدلالة ،

١٣٢

فإنّها متحقّقة على كل تقدير ؛ ضرورة دلالتها على كون المتكلّم قاصدا للحكاية على كلّ تقدير ، كان قاصدا واقعا أم لا ، ولكنّ المحكي إن كان واقعا في الخارج كان صادقا ، وإلّا كان كاذبا ، فافهم.

وأمّا هيئة الأفعال بل جميع المشتقّات فإنّ الأفعال بل جميع المشتقّات مشتملة على مادة وهيئة ، فأمّا المادّة فقد ذكر جمع من النحاة أنّها الفعل الماضي ، كما ذكر جمع آخر أنّه المصدر ، وذكر جمع آخر أنّه اسم المصدر.

والتحقيق بطلان هذه الأقوال كلّها ؛ لأنّ المادّة يلزم أن تكون بمعناها متحقّقة في جميع ما هي مادّة له ، ومعلوم أنّ الفعل الماضي له خصوصية لا تتحقّق تلك الخصوصيّة في الفعل المضارع ، كما أنّ المصدر واسم المصدر كذلك ؛ فإنّ المعنى الحدثي إن لوحظ وجوده في غيره وكونه حالة لغيره وأنّ وجوده هو الوجود في غيره فهو المصدر ، وإن لوحظ غير منتسب إلى غيره بل لوحظ هو في نفسه فهو اسم المصدر ، فالأوّل مشروط بكونه ملحوظا حالة للغير ، والثاني مشروط بعدم لحاظه حالة لغيره ، بل مشروط بلحاظه في نفسه ، فكلّ منهما قد أخذت فيه خصوصيّة غير موجودة في الآخر فضلا عن بقيّة المشتقّات ، فكيف يصير أصلا لها؟

وبالجملة ، فمادّة المشتقّات هي هذه الحروف الغير المتهيئة بهيئة غير التقديم والتأخير ، والمعنى الذي يكون لها هو المعنى الكلّي لا بشرط المقسمي المتجرّد عن كلّ قيد حتّى عن قيد تجرّده عن القيود ، فتلك الحروف المعلومة كالضاد والراء والباء بهذا المعنى المتجرّد عن كلّ قيد هي أصل المشتقات.

وأمّا الهيئات فهيئة المصدر واسم المصدر قد علم وضعهما لأيّ شيء ، وأمّا فعل الماضي فتارة يسند إلى المجرّدات فيقال : علم الله ، واخرى إلى نفس الزمان فيقال : مضى أمس بما فيه ، وثالثة إلى الزمانيات كما في قولنا : قال زيد أو قام عمر ، والموضوع له في الجميع واحد وهو كون الناطق بها قاصدا حكاية تحقّق الفعل المنسوب سابقا ، فتارة يكون السبق مطلقا كما في قام زيد ، واخرى يكون مقيّدا

١٣٣

كما في قولك : يجيء زيد بعد سنة وقد ضرب قبله بأيام ، فإنّ السبق هنا مقيّد بالمجيء بعد سنة ، فإنّ الظاهر أنّ هذا الإطلاق أيضا حقيقي ليس فيه تجريد ومجازية أصلا إذ إنّ هذا المعنى معنى جامع بين هذه الأمثلة بأسرها ؛ إذ لم يؤخذ فيما وضعت له الهيئة تحقّق الفعل في زمان قبل النطق حتّى نحتاج إلى التجريد في الإسناد إلى نفس الزمن ؛ لأنّ الزمن لا يتحقّق في الزمن وإلّا لتسلسل ، كما أنّه لم يؤخذ فيه الزمن حتّى يكون الإسناد فيه إلى الله في : علم الله ، وقال الله مفتقرا إلى التجريد ؛ لأنّ علمه عين ذاته وبعض أقواله كذلك فلا تتحقّق في زمان أصلا كما ذهب إليه بعضهم (١).

نعم ، إذا كان الفعل زمانيّا وقد أسند إلى زماني فلازمه التحقّق في زمان قبل النطق إلّا أنّ ذلك ليس مدلولا لنفس الفعل إلّا بالملازمة العقليّة نظير قولنا : زيد شرب السمّ ؛ فإنّ لازمه العقلي أنّه مات ولكنه ليس مدلولا له ، وأمّا نفس فعل الماضي فلا دلالة له على الزمان أصلا ، ولعلّ هذه الملازمة العقليّة في بعض الأفعال الماضيّة هي التي دعت النحاة إلى أخذ الزمان في مفهوم الفعل.

وأمّا فعل المضارع فهيئته إنّما تدلّ على كون المنسوب إليه الفعل متلبّسا به حال النطق ، ففعل المضارع إنّما تدلّ هيئته على كون المتكلّم قاصدا الإخبار عن تلبّس المنسوب إليه الفعل حال النطق ، وإذا جيء بالسين أو سوف فهو يدلّ على كون المتكلّم قاصدا للحكاية عن أنّ المنسوب إليه الفعل يتلبّس فيما يأتي من الزمن قريبا أو بعيدا بالفعل.

وأمّا هيئة بقيّة المشتقّات فإنّما تدلّ على كون المتكلّم بها قاصدا الحكاية عن ذات مبهمة من كلّ شيء إلّا من حيث إنّها متلبّسة بالمبدإ على أحد أنحاء التلبّسات من كونها مصدّرة أو واقع عليها أو كونها آلة للإصدار أو اسم زمان لصدور أو مكان أو غير ذلك ، وحديث كون المشتقّات بسيطة المفهوم سيأتي تضعيفه أو توجيهه إن شاء الله تعالى في المشتقّ.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

١٣٤

فالهيئة في جميع ما ذكر من المعاني الحرفيّة ، وهي دالّة على تضييق ذلك المعنى الكلّي المهمل الذي هو الماهيّة اللابشرط المقسمي المعبّر عنها عندنا بالماهيّة المهملة حتّى عن قيد الإهمال ، فتارة تضيّقه الهيئة بنحو يكون تحقّق النسبة المحكيّ قبل النطق ، واخرى حاله ، واخرى بنحو يكون مصدرا للمعنى ، واخرى واقعا عليه ، واخرى حادثا به ، واخرى مظروفا له زمانا أو مكانا وغير ذلك من المشتقّات.

وأمّا فعل الأمر فلمّا كانت مادّته إنّما تدلّ على الماهيّة المجرّدة عن جميع الخصوصيّات حتّى خصوصيّة كونه متعلقا للبعث والزجر فهيئته تدلّ على أنّ هذه الماهيّة التي كانت قابلة لأن تكون متعلّقا للبعث وأن لا تكون متعلّقا له قد انتقلت من قابليّتها لتعلّق البعث إلى فعليّة تعلّق الطلب بها والبعث نحوها ، ولا يخفى أنّ الفرق بينها وبين الفعل الماضي والمضارع واضح ؛ ضرورة أنّ هيئتهما إنّما تدلّ على كون المتكلّم في مقام الحكاية والإخبار عن الخارج ، ومن هنا يتّصف بالصدق والكذب بلحاظ مدلولها وهو متعلّق الحكاية ، وهذا بخلاف فعل الأمر فإنّه ليس حاكيا عن أمر خارجي ؛ ضرورة أنّه ليس إلّا طلب الفعل وليس وراءه أمر ليتّصف بالصدق والكذب.

إذا عرفت هذا عرفت معنى قول الأمير عليه‌السلام على ما نسب إليه من أنّ الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى أي ما أنبأ عن انتقال تلك المادّة المهملة القابلة لتعلّق الطلب بها وعدمه ، والقابلة للتحقّق سابقا وعدمه ، والقابلة للتحقّق فعلا وعدمه قد خرجت عن هذه القابلية إلى فعليّة أحد الطرفين وهو التعلّق والتحقّق في الإيجاب وعدمهما في النفي.

لا يقال : عليه فالأفعال إنّما تدلّ على التضييق فلا حاجة إلى تثليث الأقسام ؛ لأنّا نقول إنّ التضييق هنا غير التضييق في الحروف ؛ فإنّ التضييق في الحروف تضييق في المفهوم مع قطع النظر عن الإمكان وعدمه ، فقولنا القيام على السطح مقيّد

١٣٥

بنوع من أنواع القيام بحسب مفهومه مع قطع النظر عن إمكانه فضلا عن وقوعه خارجا ؛ ولهذا قد يكون خبره مستحيل أو غير واقع. وهنا تضيّق في الواقع والخارج ونفس الأمر مع قطع النظر عن المفهوم ، فتأمّل.

نعم ، يبقى هنا أمران :

أحدهما : أسماء الأفعال فإنّها تدلّ على نفس ما يدلّ عليه فعل الأمر.

والجواب : أنّ اسم الفعل ليس له مادّة وهيئة وإنّما هو اسم ؛ لدخول التنوين عليه كما في رويدا وحيث إنّ معناه معنى الفعل سمّي اسم فعل.

الثاني : الجملة الاسمية كما في زيد قائم فإنّها أيضا دالّة على حركة المسمّى وخروج القيام المبهم عن قابليّة الصدور وعدمه إلى فعليّة أحدهما.

والجواب : أنّ ما ذكر وإن كان صحيحا إلّا أنّ كلام الأمير عليه‌السلام إنّما هو في تقسيم الكلمة والجملة الاسمية ليست كلمة فلا إيراد.

الفرق بين الخبر والإنشاء

ذكر جماعة (١) أنّ الفرق بين الخبر والإنشاء أنّ الخبر حاك عما في الخارج والإنشاء موجد لمعناه بعد أن لم يكن. وذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) أنّ الموضوع له في الخبر والإنشاء واحد وإنّما الاختلاف في الدواعي ، ففي مثل لفظ : بعت أو هي طالق وأشباههما إن استعملت بداعي الإخبار كانت إخبارا وإن استعملت بداعي الإنشاء كانت إنشاء ، وإنّما الموضوع له فيهما هو ثبوت النسبة.

ولا يخفى عليك أنّه قد ظهر لك أنّ الموضوع له في الجملة الخبرية ليس ثبوت النسبة وإنّما هو قصد الحكاية كما تقدّم ، وأنّ دلالتها على قصد الحكاية لا تتّصف

__________________

(١) منهم المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ١ و ٢ : ٥٦ ـ ٥٨.

(٢) كفاية الاصول : ٢٧ و ٨٦.

١٣٦

بالصدق والكذب وإنّما تتّصف بالوجود والعدم ؛ لأنّ التعهد إنّما كان أنّه إذا أراد إبراز قصد الحكاية يتكلّم بقوله : زيد قائم ، فإذا نطق بها ولم يكن قاصدا للحكاية كان غالطا ، نظير من نطق بزيد وأراد عمرا فهو غالط. فهو إن لم يكن قاصدا للحكاية عن تحقّق قيام زيد خارجا ومع ذلك تكلّم بقوله : زيد قائم فهو غالط ومستعمل للّفظ في غير ما تعهّد به ، وإنّما يتّصف الخبر بالصدق والكذب بلحاظ المدلول لا بلحاظ الدلالة ، ضرورة تحقّقها عند النطق بالجملة على كلّ تقدير ، فالجملة الإنشائيّة من ناحية إبرازها اعتبار المعتبر النفساني مثل الجملة الخبرية ، غير أنّها تفارق الجملة الخبرية في أنّ في الجملة الخبرية وراء إبراز قصد الحكاية خارج متعلّق للحكاية يتصف بالصدق والكذب من جهته ، وهذا بخلاف الجملة الإنشائيّة فإنّه ليس وراء إبراز الاعتبار أمر آخر كي يتّصف الإنشاء بالصدق والكذب من جهته ، فهما من ناحية دلالتهما على إبراز قصد الحكاية والاعتبار النفساني متساويان لا يتّصفان بالصدق ولا بالكذب ، والخبر باعتبار أنّ وراء قصد الحكاية أمر آخر خارجي وهو متعلّق الحكاية يتّصف بالصدق والكذب ، لكن الإنشاء باعتبار أنّه ليس وراء الاعتبار أمر آخر لا يتّصف بهما. وممّا يدلّ على اختلاف الخبر والإنشاء معنى وليس الاختلاف بالدواعي عدم صحّة استعمال الجملة الاسمية في الطلب الإنشائي ، ولو كان الاختلاف في الداعي فقط للزم أن يصحّ ذلك.

وأمّا حديث أنّ الإنشاء موجد (١) فهو صرف لقلقة لسان ؛ لأنّ الإيجاد الحقيقي لمعناه غير متحقّق قطعا ؛ إذ ليس من الجواهر والأعراض ، والوجود الاعتباري عند المعتبر قائم بنفسه ، نطق باللفظ أم لا ، واللفظ مبرز لذلك الاعتبار ، والوجود الاعتباري عند العقلاء أو عند الله وإن تحقّق بتلفّظ المتكلّم بهذا اللفظ لكنّه إذا كان قاصدا لمعناه والكلام بعد في المعنى الذي يقصد ، فافهم.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣١.

١٣٧

في وضع اسم الإشارة والضمائر والموضوع له فيها

ذكر الآخوند قدس‌سره (١) أنّ الضمائر وأسماء الإشارة الموضوع له والمستعمل فيه كالوضع عامّ ، والخصوصيّة إنّما نشأت من قبل الاستعمال كالمعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي ، فكما أنّ الاختلاف بينهما من جهة لحاظ الآلية والاستقلالية ، وهما إنّما يكونان ناشئين من قبل الاستعمال ، كذلك المقام فالموضوع له في «هذا» هو مفهوم المفرد المذكّر والخصوصيّة الموجودة للمشار إليه إنّما تنشأ من قبل الاستعمال.

ولا يخفى عليك ضعفه ، فإنّا لو سلّمنا ما ذكره في المعنى الحرفي والاسمي من كون المعنى متّحدا والاختلاف في اللحاظ ، لا نسلّم ما ذكره هنا ؛ وذلك لأنّ اللحاظ من ضروريات استعمال اللفظ في المعنى ولكن خصوصية الإشارة في المقام ليست من ضروريات استعمال اللفظ في المعنى ، فلا بدّ أن تكون هذه الخصوصيّة ناشئة من خصوصيّة في المعنى الموضوع له اللفظ.

وبما ذكرنا ظهر ما في كلام الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) من أن أسماء الإشارة والضمائر موضوعة للمعاني المشار إليها بنحو يكون قيد الإشارة خارجا والتقييد داخلا ، فإنّه ما المراد بالمعنى المشار إليه؟ فإن أريد من المشار إليه كون اللفظ مستعملا فيه فهذا غير مختص بأسماء الإشارة والضمائر ، بل هو سار في كلّ لفظ بالإضافة إلى معناه ، وإن كان هناك غير الاستعمال فالكلام في تشخيصه.

وقد ذكر بعض المحققين (٣) أنّ اسم الإشارة والضمير موضوعة للمعاني التي يشار إليها باليد أو الرأس أو العين أو غيرها من الأعضاء بنحو يكون معنى «هذا» المفرد

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢١.

(٣) نهاية الدراية ١ : ٦٤.

١٣٨

المذكّر المشار إليه بأحد الأعضاء ، فالإشارة دخيلة في المعنى وجزء منه (*) وهذا حسن لو كان أسماء الإشارة مستعملة في الأشياء الحسيّة ، أمّا إذا كانت هي والضمائر قد تستعمل في الحسيّات كزيد وعمرو وقيامهما ودارهما ، وقد تستعمل في غيرها كما في استعمالها في العقليّات مثل أن يقال : إمّا أن يكون الأمر كذا أو كذا ، فعلى الأوّل فذلك غير صحيح وعلى الثاني فهو صحيح مثلا ، فقد استعمل اسم الإشارة والضمير في امور عقليّة فأين المعنى المشار إليه بالأعضاء؟

والتحقيق أن يقال : إنّ أسماء الإشارة والضمائر موضوعة لنفس الإشارة ليس إلّا ، فهي قائمة مقام اليد التي يشار بها ، فكما يمدّ الإنسان يده إلى دار زيد فيقول دار زيد كذلك يبدّل مدّ يده بالنطق ب «هذه» مثلا ، فهي موضوعة بإزاء نفس الإشارة ، والإيماء والإشارة في قبال التصريح ، ومنه الإيماء بدل الركوع والسجود للعاجز عنهما ، فكأنّه حين كان يركع ركوع الصحيح يصرّح بالركوع ولكنّه الآن حيث إنّه عاجز يومي ويشير إليه ، فهي والضمائر موضوعة لنفس الإشارة بدل مدّ الإصبع كما ذكرنا ذلك ، ومن حيث إنّها للإشارة والإشارة ـ كما ذكرنا ـ في قبال التصريح سمّيت بالألفاظ المبهمة ويوضّحها عطف البيان المذكور بعدها. كما يقال جئني بهذا الرجل فهو بيان لما أبهم فيها.

لا يقال : إنّه إذا كان موضوعا لنفس الإشارة المجرّدة عن المعنى فكيف يصحّ حمل زيد عليه فيقال : هذا زيد مثلا؟ إذ إنّ زيدا ليس نفس الإشارة ، بل هو المشار إليه ، فلا بدّ من أن يكون لفظ «هذا» موضوعا للمعنى المشار إليه.

لأنّا نقول : إنّها موضوعة للإشارة الفانية في المشار إليه فهي طريق إليه ، نظير الإشارة باليد وقول : دار زيد فهل ترى أنّك تحمل دار زيد على اليد؟ كلّا بل يحمل لفظ دار زيد على المشار إليه ؛ إذ اليد ليست هي دار زيد.

__________________

(*) قد اختار الأستاذ في دورته اللاحقة هذا القول واستضعف ما ذكره تحقيقا بعد ذلك.

١٣٩

وبالجملة ، فمن رجع إلى الوجدان ظهر له أنّ لفظة «هذا» موضوعة لنفس الإشارة كما قال ابن مالك : بذا لمفرد مذكّر أشر ... (١) إلى آخره.

في أنّ الاستعمال المجازي بالوضع أم بالطبع؟

لا ريب في كون الألفاظ محتاجة في الدلالة على معانيها الحقيقيّة إلى وضع وليست دلالتها بذاتها كما ذهب إليه الصيمري (٢) وقد تقدّم الكلام فيه. وإنّما الكلام في أنّ نفس هذا الوضع للمعنى الحقيقي ـ بأيّ معنى فسّرنا الوضع من التعهّد أو الوجود التنزيلي أو غيرهما ـ هل هو كاف في الاستعمال المجازي ، بمعنى أنّ أيّ معنى ناسب ذلك المعنى الحقيقي يجوز فيه الاستعمال ، أم لا بدّ من الوضع لذلك؟ الظاهر أنّ الوجدان مساعد على عدم الاحتياج إلى الوضع وأنّه دائر مدار الاستحسان الطبعي ، ففي كلّ مورد استحسن الطبع الاستعمال لمناسبة يجوز وإن لم يكن وضع ، وإن لم يكن استحسان طبعي لم يجز وإن وضع الواضع ورخّص ، مثلا يقال : فلان سلمان زمانه ولا يتوقّف بعد فرض المشابهة في التقوى إلى رخصة من واضع لفظ سلمان اسما لسلمان الفارسي ، ويؤيّده أنّ هذه الاستعمالات في جميع اللغات جارية بالنسبة إلى لفظة لفظة ، ويبعد أن يتّفقوا جميعا على المعنى المجازي ووضعه مع اختلافهم في الوضع للمعنى الحقيقي ، فافهم.

قد أفاد في دورته اللاحقة أنّ هذا الكلام الذي ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) وغيره موقوف على أمرين :

__________________

(١) البهجة المرضيّة : ٥٨.

(٢) الفصول الغرويّة : ٢٣ س ٢٠.

(٣) كفاية الاصول : ٢٨.

١٤٠