غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-79-6
الصفحات: ٧١٩
الجزء ١ الجزء ٢

وهكذا العكس ؛ فإنّ الحركة بالإرادة التي هي عارض الحيوان عارض للإنسان حقيقة وإسناده إليه أيضا حقيقي.

وبالجملة ، فلا ملزم يكون عارض الأخصّ غريبا بالإضافة إلى الأعمّ كما لا ملزم بكون عارض الأعمّ غريبا بالإضافة إلى الأخصّ. هذا تمام الكلام في البحث عن الموضوع كلية.

[موضوع علم الأصول]

(وأمّا موضوع علم الاصول فقد ذكر المشهور أنّه الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة.

ويرد عليه خروج مباحث الألفاظ ؛ فإنّ البحث فيها ليس عن دليليّة الدليل ، والالتزام بالاستطراد فيها كما ترى.

ومن هنا التجأ بعضهم (١) إلى جعل الموضوع هو الأدلّة الأربعة من حيث أنفسها وذاتها لا من حيث دليليّتها. ويرد عليه خروج مباحث الحجج كحجّية خبر الواحد والاستصحاب والتعادل والترجيح عنها ؛ لأنّ البحث فيها ليس عن ذوات الأدلّة بل عن دليليّتها ، وإرجاعه إلى ثبوت السنة بالخبر الواحد ـ كما عن الشيخ (٢) ـ إن تمّ فهو في خصوص خبر الواحد ، أمّا في غيره فالإشكال بحاله ، على أنّه في الخبر الواحد غير تامّ أيضا ؛ إذ الثبوت الواقعي غير معقول ؛ لأنّ الخبر معلول له فكيف يكون محقّقا له؟ وأمّا عندنا فغير معقول أيضا ؛ إذ الفرض احتماله الصدق والكذب ، ولو لم يحتمل الكذب لكان العمل بالعلم لا بالخبر. والثبوت التعبّدي من أوصاف الحاكي للسنة لا من أوصاف السنة نفسها. فالظاهر أنّ علم الاصول لا موضوع له ليجمع مسائله إلّا انتزاعا) (٣).

__________________

(١) وهو صاحب الفصول كما في المحاضرات ١ : ٢٩ ، وراجع الفصول : ١١ ـ ١٢.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

(٣) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٠١

[تعريف علم الأصول]

وأمّا تعريف علم الاصول فقد عرّفه غير واحد من الأصوليين (١) بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة. وقد أورد الآخوند عليه بعدم شموله للأصول العمليّة ولا لحجّية الظنّ الانسدادي بناء على الحكومة (٢).

ووجه ذلك أنّه قدس‌سره فسّر الحكم في قولهم : لاستنباط الحكم الشرعي بالحكم الواقعي ، نظير الحكم في عبارة الشيخ الأنصاري (٣) في قوله : إنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي ... وإلّا فلا يصحّ تثليث الأقسام وهو واضح. فلمّا فسّر الحكم بالحكم الواقعي قصر التعريف عن الشمول للأصول العمليّة ؛ إذ لا يعرف الحكم الواقعي فيها ، وكذا الظنّ على الحكومة فإنّها أيضا لبيان الوظيفة ، أمّا الحكم الواقعي فمجهول فيها ؛ ولذلك عرّفه بما عرّفه من قوله : صناعة يعرف بها ... (٤) إلى آخره ، وأضاف قوله : أو التي ينتهى إليها في مقام العمل. وقد ذكر الفعل مبنيّا للفاعل في باب البراءة (٥) فقال : أو التي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل.

والظاهر عدم الحاجة إلى هذا الإلحاق ؛ لأنّ المراد من الحكم في قولهم : لاستنباط الأحكام الشرعيّة هو الحكم الشرعي الفعلي الأعمّ من الظاهري والواقعي ، وبهذا تدخل الاصول العمليّة الشرعيّة كلّها ؛ إذ مؤدّياتها أحكام عند الشكّ وعند عدم العلم ، فهي أحكام ظاهرية. ويشهد لما ذكرنا قولهم (٦) في تعريف الفقه : هو العلم

__________________

(١) مثل المحقق القمي في القوانين ١ : ٥ ، والميرزا حبيب الله الرشتي في بدائع الأفكار : ٢٦.

(٢) كفاية الاصول : ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) فرائد الاصول ١ : ٢٥.

(٤) كفاية الاصول : ٢٣.

(٥) كفاية الاصول : ٣٨٤.

(٦) معالم الاصول : ٢٦.

١٠٢

بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، ومعلوم أنّ أغلب الأحكام الشرعيّة مظنونة ، فليس إلّا لأنّ المراد من الحكم : الظاهري الذي لا ينافيه كونه مظنونا. وليس الغرض بيان أنّ مؤدّى الأمارات أحكام ظاهريّة بل هي أحكام واقعية ، وإنّما الغرض بيان أنّ المراد من الحكم هو الحكم الفعلي الأعمّ من الظاهري وغيره.

نعم ، البراءة العقليّة ـ وهي قبح العقاب بلا بيان ـ والتخيير العقلي ـ وهو قبح الترجيح من غير مرجّح ـ وقاعدة الاحتياط العقلي ـ المعبّر عنها بقاعدة الشغل كما في أطراف العلم الإجمالي المنجّز ـ خارجة عن التعريف ، ولكنّها ليست قواعد اصوليّة ولا يبحث عنها في الاصول.

أمّا قبح العقاب بلا بيان فهي من فروع قبح الظلم على الله تعالى فهي مسألة كلاميّة ، وكلّ من الأصوليّين والأخباريّين معترفون بها ، وإنّما يدّعي الأخباريّ أنّ أخبار الاحتياط بيان ، فتكون واردة على هذه القاعدة ، وينكر الأصوليّ ذلك ، وإلّا فالقاعدة غير قابلة للجدال إلّا من الأشعري الذي يجوّز القبيح على الله ، قبّحه الله. وكذا قبح ترجيح المرجوح على الراجح أيضا مسألة كلامية وكلّ معترف بها ، وبعد قبحه تخلو المسألة عن الحكم فيتخيّر بحكم العقل ؛ لاحتمال الإصابة والإطاعة ، وإنّما البحث فيها عن أن دعوى كون دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ثابت أم لا؟

وأمّا قاعدة الشغل فدفع الضرر المحتمل واجب عقلا وهي أيضا كلاميّة ، وبها يثبت وجوب معرفة الله والنظر في المعجزة. وإنّما يدّعي بعضهم (١) شمول أدلّة البراءة لجميع أطراف العلم الإجمالي أو لبعضها (٢) وينكر الآخر (٣). فهذه المسائل ليست مسائل اصولية وإنّما تذكر لما ذكرنا.

__________________

(١) هو العلّامة المجلسي في أربعينه : ٥٨٢ ، على ما حكاه عنه في القوانين ٢ : ٢٧.

(٢) المحقق القمي في قوانين الاصول (الأقوى فيه أيضا أصالة البراءة ...) ٢ : ٢٥ ، وصاحب المدارك ١ : ١٠٧ ، وصاحب الذخيرة : ١٣٨.

(٣) كالشيخ في الفرائد ٢ : ٢١٠ ، وفي المدارك ١ : ١٠٧ : أنّه مذهب الأصحاب.

١٠٣

وأمّا حجيّة الظنّ على الحكومة فهي بهذا العنوان ليست مسألة أصولية. نعم ، كلّي حجيّة الظنّ على الانسداد مسألة اصولية ؛ لأنّ حجّيّته على الكشف يستنبط منه حكم شرعي ، وبناء على الحكومة ليس كذلك. ويكفي في كون المسألة اصولية ترتّب الاستنباط على أحد شقوقها كما هو واضح.

فالظاهر صحّة تعريف علم الاصول بما عرّفه الجماعة ، ولا حاجة إلى تعريف الآخوند قدس‌سره ولا إلى إضافته (١) ؛ لما عرفت من أنّ ما كان من المسائل الأصوليّة فهو داخل ، والخارج ليس منها.

نعم ، هناك شبهة معروفة ملخّصها أنّه لو اريد من المسألة الممهّدة ما يستنبط منها الحكم بلا واسطة فليس ثمة مسألة تكون اصوليّة ؛ لأنّ مسألة من المسائل الفقهية إنّما تستنبط من عدّة مسائل اصوليّة لا من مسألة واحدة. وإن اريد ما يستنبط منها ولو مع الواسطة فكثير من مسائل النحو والصرف والمنطق داخل في المسائل الأصوليّة ؛ لأنّها أيضا يتوقّف الاستنباط عليها.

والجواب أنّ المراد أنّ المسائل الأصوليّة كلّ مسألة هي ممّا يمكن أن يترتّب عليها استنباط الحكم بلا أيّ واسطة ، مثلا حجيّة خبر الواحد مسألة يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي ، كما إذا صرّح بوجوب شيء وأنّ تاركه مخلّد في النار ، فلا يتوقّف على كون الأمر للوجوب أم لا ؛ لمعلوميّة كونه مريدا للوجوب بغير الأمر ، ولا يتوقّف على حجيّة الظواهر بأن نفرضه نصّا ، مضافا إلى أنّ حجيّة الظواهر ليست مسألة اصوليّة ، إذ لا مناقشة في حجيّة الظواهر ، وإنّما وقع الخلاف في بعض خصوصيّاتها ، مثل كونها حجّة للمشافه أو الأعمّ ، وأنّها حجّة حتّى مع قيام الظنّ بخلافها أم لا ، وحجّة حتّى في ظواهر الكتاب أم لا ؛ لأنّه ليس بظاهر أو أنّه ظاهر ولكنّه لم يرد ظاهره. ولا إلى باب التعادل والترجيح ؛ لفرضه لا معارض له وهكذا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣.

١٠٤

وبهذا تدخل جميع المسائل الأصوليّة وتخرج غيرها من مسائل النحو والمنطق ؛ لأنّه ليس فيها مسألة يستنبط منها حكم بلا توسّط ولو فرضا ، فافهم.

ثمّ المراد من الحكم هو الحكم الشرعي الكلّي ، وبهذا تمتاز المسائل الأصوليّة ؛ فإنّ المسائل الأصوليّة مسائل يعلمها المجتهد بخلاف المسائل الفقهيّة فإنّها تلقى إلى المكلّف ابتداء ، مثلا في المسألة الأصوليّة لا يلقي المجتهد : رفع ما لا يعلمون إلى المقلّد ليعمل بها وإنّما يطبّقها على مواردها ، فيفتي بجواز شرب التتن مثلا وعدم وجوب صلاة ركعتين عند رؤية الهلال وهكذا ، وهذا بخلاف المسائل الفقهيّة كقاعدة التجاوز والفراغ ، فإنّ المجتهد يلقي إلى المكلّف قوله : كلّما شككت في صحّة عمل قد عملته فلا تعتني بشكّك.

ومن هنا يعلم أنّ مسألة أصالة الطهارة في الشبهات الحكميّة مسألة اصوليّة ؛ إذ نقول في مقام الإلقاء إلى المكلّف : الحديد طاهر مثلا وأشباهه.

ومن هنا ظهر أنّ التعريف المذكور صحيح وأنّ لفظة الاستنباط فيه واقعة بمعناها وأنّه الاستخراج. وظهر أنّه لا وجه لما ذكره بعض مشايخنا (١) من أنّ المراد منه تحصيل الحجّة وأنّه شامل حتّى للأصول العقليّة ، فإنّ المجعول في جميعها التنجير والإعذار عند الإصابة والخطأ ؛ ضرورة أنّ معنى الاستنباط ليس ما ذكره أوّلا كما هو معلوم لمن راجع اللغة (٢).

وثانيا : أنّ ما ذكره إنّما يتمّ حيث يكون الحكم الواقعي إلزاميّا ، فإن أصابه الأصل أو الأمارة نجّزه وإن أخطأه فهو معذور ، ولا يتمّ حيث يكون الحكم الواقعي عدم الوجوب والحكم الظاهري أيضا عدم الوجوب ، أو كان الحكم الظاهري الإباحة ؛ فإنّ التنجيز والإعذار لا مجال لهما ، مضافا إلى أنّ المجعول إنّما هو صفة الطريقيّة كما سيأتي لا التنجير والإعذار ، فافهم.

__________________

(١) بحوث في الاصول للشيخ محمد حسين الاصفهاني : ٢٠ ، ونهاية الدراية ١ : ٤٢.

(٢) مختار الصحاح للجوهري : ٦٤٣ ، (نبط).

١٠٥
١٠٦

الكلام في الوضع

فهم المعنى من اللفظ هل هو محتاج إلى الوضع ، أم إنّه غير محتاج إلى الوضع وإنّما يكون من مناسبة بين اللفظ والمعنى تكون هي المتكفّلة لفهم ذلك المعنى من اللفظ؟ المشهور هو الأوّل ونسب القول الثاني إلى بعض العامّة (١) فإن أراد أنّ تلك المناسبة بين اللفظ والمعنى علّة لفهم المعنى منه فهذا باطل بالوجدان ولا يتوهّمه أحد من العقلاء ؛ لأنّ لازمه أن يكون كلّ إنسان عالما بكلّ لغة من اللغات وهو باطل وجدانا.

وإن أراد أنّ هذه المناسبة هي التي توجب أن يكون هذا اللفظ موضوعا لذاك المعنى وذاك اللفظ موضوعا للمعنى الآخر دون العكس ؛ ضرورة أنّه لو لم يكن ربط بين هذا اللفظ ومعناه وبين اللفظ الآخر ومعناه لكان وضع هذا لهذا المعنى وذاك لذاك ترجيحا من غير مرجّح ، وأنّه مستحيل إن كان الواضع هو الله تعالى ، وقبيح إن كان غيره ، فهذا المعنى أمر ممكن إلّا أنّ إثباته يحتاج إلى دليل وبرهان وهو مفقود في المقام.

__________________

(١) قال العلّامة : فذهب بعضهم إلى أنّ دلالة اللفظ طبيعيّة أي لذاته وهو منقول عن عبّاد بن سليمان الصيمري وبعض المعتزلة وأصحاب الإكسير ، انظر نهاية الاصول : ٢٠ (مخطوط) ، والفصول الغرويّة : ٢٣.

١٠٧

ودعوى أنّ الدليل هو لزوم الترجيح من غير مرجّح (١).

مدفوعة : أولا بأنّ الترجيح من غير مرجح لا قبح فيه فلا يستحيل على الله ؛ لأنّ سبب الاستحالة عليه قبحه.

بيان ذلك : أنّ الترجيح من غير مرجّح لو كان قبيحا للزم أن يكون المريض الذي قد وصف له الطبيب المشي مثلا ، المتحقّق بمشيه إلى الجهات الأربع المفروض تساويها من جميع الجهات يتوقّف ولا يمشي إلى إحداها حتّى يموت ، وللزم أن يكون الفارّ من الأسد الواجد لبابين مفتوحين متساويين من جميع الجهات متوقّفا حتّى يأتي إليه السبع فيأكله ، فمن هنا نستكشف أنّه إذا كان الغرض متعلّقا بطبيعة تتحقّق بكلّ فرد من أفرادها يكون اختيار بعضها ترجيحا من غير مرجّح وليس بقبيح أصلا.

وثانيا : أنّ القبيح لا مانع من ارتكابه على غير الله تعالى ، فلو كان الواضع هو يعرب بن قحطان مثلا نقول بأنّه ارتكب القبيح.

وثالثا : أنّا لو سلّمنا قبح الترجيح من غير مرجّح على غير الله واستحالة القبيح على الله تعالى فهو يقتضي أن يكون هناك مرجّح ، أمّا أنّ ذلك المرجّح يلزم أن يكون هو المناسبة بين اللفظ والمعنى فغير معلوم ، بل لعلّها أمر آخر كما نشاهد بالوجدان مناسبات تقتضي اختيار بعض الألفاظ لبعض المعاني ، مثلا يسمّي الإنسان ابنه باسم أبيه لئلّا يندرس اسم أبيه في عالم الدنيا وغيرها من المناسبات ، كأن يسمّيه حسينا ؛ لأنّ ولادته يوم ولادته أو يوم قتله أو غير ذلك.

ورابعا : أنّ هذه المناسبة لا تنافي الوضع بل هي الداعية إلى تعيين اللفظ للمعنى الذي هو الوضع ، وإنّما تنافيه لو كانت علّة تامّة للتفهيم.

__________________

(١) انظر نهاية الاصول للعلّامة : ٢٠ (مخطوط) ، ونهاية الأفكار ١ : ٢٥.

١٠٨

فيقع الكلام في الوضع : الظاهر من كلام الآخوند قدس‌سره (١) أنّ الوضع أمر واقعي بين اللفظ والمعنى ينشأ هذا الأمر الواقعي من التخصيص أو كثرة الاستعمال ، وهذا أمر مستحيل ؛ لأنّ الأمور الواقعيّة لا تخلو من أن تكون جواهرا أو أعراضا أو ملازمات ، فالجواهر منتفية في الوضع قطعا ، وكذا احتمال كونه عرضا ؛ إذ ليس للوضع وجود خارجا والجواهر والأعراض لها وجودات متأصّلة إمّا بنفسها وإمّا بسبب ما هي عرض له ؛ إذ العرض لا بدّ له من موضوع يتحقّق به ، والموضوع هنا منتف ؛ إذ ليس إلّا اللفظ والمعنى ، ولا يتوقّف الوضع على وجودهما الخارجي ، بل الوضع متحقّق وإن لم يوجدا أصلا.

فبقي احتمال كونه من الملازمات العقليّة ، وهذا أيضا منتف ؛ لأنّه لو كان من الملازمات العقليّة لكان أزليّا ؛ ضرورة أنّ الملازمات العقليّة كلّها أزليّة. وثانيا : لو كان من الملازمات الذاتيّة لم يجهل معنى اللفظ بعد وضعه أصلا لكلّ إنسان وإن كان أجنبيّا عن تلك اللغة ، لتحقّق الملازمة الذاتيّة بعد تحقّق الوضع بين اللفظ والمعنى ، والجهل بالمعاني حتّى بعد الوضع لا تحتاج إلى مثبت في الخارج ، فافهم.

فظهر بما ذكرنا أنّ الوضع ليس أمرا واقعيا ، فيقع حينئذ الكلام في أنّ حقيقة الوضع ما هي؟ الأقوال في المقام ثلاثة :

الأوّل : أنّه أمر اعتباري صرف (٢).

الثاني : أنّه أمر حقيقي صرف (٣).

الثالث : أنّه أمر متوسّط بين الحقيقيّة والاعتباريّة (٤).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤.

(٢) انظر نهاية الأفكار ١ : ٢٣ ـ ٢٥.

(٣) انظر كفاية الاصول : ٢٤.

(٤) انظر أجود التقريرات ١ : ١٩.

١٠٩

أمّا الأوّل فقد يقرّب بأحد نحوين :

أحدهما : أن يعتبر الواضع اللفظ وجودا تنزيليّا للمعنى ، بأن يكون التلفظ بزيد كما أنّه وجود تكويني لفرد من أفراد الكيف المسموع يكون وجودا تنزيليّا لذاته أيضا ، كما يعتبر زيد وجودا تنزيليّا للأسد حيث يستعير لزيد لفظ الأسد فيقول : جاء الأسد عند مجيئه.

وفيه أولا : أنّ التنزيل يحتاج إلى مشابهة بين المنزّل والمنزّل عليه ، ولا بدّ من كونها من أظهر خواصّ المنزّل عليه حتّى يصحّ التنزيل ، وهذا الأمر مفقود في المقام ، ضرورة أن لا مناسبة بين لفظ الجبل مثلا وما وضع له ، ولا بين أيّ لفظ مع أيّ معنى.

وثانيا : أنّ التنزيل أمر محتاج إلى أن يكون المنزّل من العقلاء ، ونحن لا نرى اختصاص الوضع بهم ، بل إنّ الأطفال الصغار يضعون ألفاظا لمعان بحسب ما يختارون ، فتراهم يعبّرون عن العصا بالديدمّ مثلا ، بل الحيوانات أيضا كما هو مشاهد في الهرّة ، فإنّ لها عند ندائها أطفالها صوتا يغاير صوتها عند زجرهم ، ولها صوت عند طلبها الطعام يغايرهما معا ، وهكذا بقيّة الحيوانات كالديك ؛ فإنّ له صوتا خاصا عند نداء انثاه مفقود في غير تلك الحال. فهؤلاء يضعون مع عدم تعقّلهم التنزيل أصلا.

الثاني من الوجهين لتصوير كون الوضع أمرا اعتباريا أن يكون الواضع قد اعتبر هذا اللفظ موضوعا لهذا المعنى فقد اعتبر نفس الوضع ، وبهذا يكون الملحوظ هو الهوهويّة والاعتبار فإنّ الوضع من الأمور القابلة للاعتبار ، كما يعتبر الواضع للعلم على رأس الفرسخ هذا العلم علامة لانتهاء الفرسخ مثلا ، فيكون الواضع قد اعتبر اللفظ علامة ويكون الوضع أمرا اعتباريّا باعتباره.

وفيه أوّلا : ما ذكرناه ثانيا من أنّه محتاج إلى معتبر ونراه يصدر من الأطفال والحيوانات.

١١٠

وثانيا : أنّ الوضع يحتاج إلى موضوع وموضوع عليه وموضوع له ، ففي مثل علامة الفرسخ الموضوع عليه هو المكان ، والموضوع له هو الدلالة على الفرسخ ولكن في مقام الوضع ليس أمرا يكون موضوعا عليه أصلا.

فالتحقيق أن يقال بكون الوضع عبارة عن أمر حقيقي وهو القول الثاني ، وهو عبارة عن التزام وبناء صادر عن الواضع في أنّه متى أراد المعنى الفلاني يتكلّم باللفظ الفلاني ، وهذا معنى لا يرد عليه شيء مما أورد على ما تقدّمه ، ويكون جامعا بين وضع الأطفال والحيوانات ومثل وضع العلم للدلالة على الفرسخ وغيرها ، (ويكون موافقا لمعناه اللغوي (١) فإنّ الوضع هو الجعل والالتزام مجعول من نفس الجاعل وفعل من أفعاله وعرض من أعراضه.

ودعوى أنّ العرض لا يقوم بالكليّات وقد يوضع اللفظ للكلّي كما يوضع للشخصي يدفعها أنّ الكلّي والجزئي ممّا يتعلّق بهما هذا العرض وليسا موضوعا له كي يستحيل عروض العرض عليه ، بل الموضوع نفس الواضع والوضع فعل من أفعاله كقيامه وأكله) (٢).

ويؤيّده أنّ هذا البناء موجود في كثير من العقلاء في أفعالهم ، فإنّه قد يبني على أنّه متى رفع عمامته فمعناه : هات الشاي للضيف أو أنّه متى صفّق فمعناه : أسرعوا في القيام ، فالوضع أيضا بناء منه على أنّه متى تكلّم بهذا اللفظ فهو مريد لهذا المعنى ، والوضع بناء على ذلك داخل في أفعال الواضع.

وأمّا القول بأنّ الوضع أمر بين أمرين فهو متوسّط بين الحقيقيّة والاعتباريّة كما هو رأي الميرزا النائيني قدس‌سره بتقريب أنّ البشر لمّا كان انتظام امورهم لا يتمّ إلّا بالتفهيم والتفهّم ، وكان التفهيم والتفهّم بالإشارة عسرا أو غير ميسور دائما كما في الظلمة

__________________

(١) انظر المفردات والمنجد : (وضع).

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

١١١

والعمى مثلا فقد ألهمهم يعني ألهم المتكلّم النطق بهذا اللفظ مثلا عند إرادة هذا المعنى ، فاستعمل المتكلّم هذا اللفظ في هذا المعنى بعد إلهام الله له ذلك اللفظ له لمناسبة ذاتيّة بينه وبين المعنى اطّلع الله عليها وخفيت علينا. فباعتبار أنّ المناسبة تكوينيّة من الإنسان فليس أمرا جعليّا صرفا كما في وجوب الصلاة مثلا. وباعتبار أنّ الملهم هو الله تعالى فليس أمرا تكوينيّا صرفا كالجوع والعطش ، فهو أمر بين الحقيقي والاعتباري الجعلي ، (وبهذا الاعتبار يصحّ إسناد الوضع إلى الله تعالى كما هو مقتضى قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(١).

وقد أيّد دعواه بأمرين :

الأوّل : أنّ المعاني غير متناهية فالوضع لها غير متناه فلا يصدر من البشر.

الثاني : أنّه لو صدر منهم لذكر الواضع ؛ لأنّه خدم البشر خدمة عظيمة ولم نر في التاريخ له أثرا مع عدم غرض في الإخفاء) (٢).

ففيه أوّلا : أنّ ما ذكرت من اعتبار المناسبة بين اللفظ والمعنى وإن كان أمرا ممكنا إلّا أنّه لا دليل على وقوعه. ودعوى لزوم الترجيح بلا مرجّح لولاه قد عرفت عدم قبحه حيث تكون المصلحة قائمة بما يشمله وغيره من أفراد تلك الحقيقة ، بل اختيار خصوص فرد من الأفراد مع فرض وفاء الجميع بالغرض ترجيح من غير مرجّح.

وثانيا : أنّ ما ذكره قدس‌سره من أنّه أمر بين الحقيقيّة والاعتباريّة لا نفهم معناه ؛ إذ إنّ الشيء إن كان له وجود في الخارج فحقيقي ، وإن لم يكن له وجود فاعتباري ، فجعل الوضع أمرا بين الأمرين لا نفهم له معنى ، فإن أراد أنّ كون الملهم هو الله هو الذي أدخله في الاعتباريّة باعتبار إلهامه فجميع الأفعال التي يفعلها البشر مستندة إلى إلهامه من حفر الآبار وغيرها ، بل وجميع العلوم أيضا كذلك وجميع الصناعات فهذا لا يخرجها عن كونها أمورا حقيقيّة.

__________________

(١) البقرة : ٣١.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

١١٢

(وأمّا ما ذكره مؤيّدا من عدم التناهي في المعاني فهو صحيح إلّا أنّ الواضع لا يلزمه أن يضع لجميع المعاني ، بل يضع بمقدار حاجته.

وأمّا عدم ذكره في التاريخ فإنّما هو لكون الوضع تدريجيّا فيضع آدم مثلا بمقدار حاجته ثمّ ولده بمقدار الحاجة المتجدّدة وهكذا ؛ ولذا لم يذكر واضع لكثرة الواضعين بحيث لا يمكن ذكرهم ولا مقتضى له لسهولة الوضع) (١).

وبالجملة ، فالظاهر ما ذكرنا من كون الوضع هو البناء والالتزام والتعهد أنّه متى أراد المعنى الفلاني يتلفّظ باللفظ الفلاني ، وإنّما أطلنا الكلام في هذا المقام مع أنّا بنينا على الاختصار في هذه المباحث التي لا يترتّب عليها كثير فائدة لأمرين :

أحدهما : ما سيأتي من عدم جواز استعمال المشترك في معنيين بإطلاق واحد ، بدعوى كون اللفظ ملحوظا فانيا في المعنى فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون ، فكيف يصحّ استعماله في معنيين؟ إلّا أن يكون اللاحظ أحول العينين كما في الكفاية (٢).

فقد ظهر صحّة الاستعمال ؛ إذ لا مانع من أن يبني أنّه متى تلفّظ بهذا اللفظ فهو يريد كلا هذين المعنيين كلّا على حدة ، كما يلتزم الواضع للعلم كونه علامة لانتهاء الفرسخ وكون الطريق من هاهنا.

نعم ، سيأتي أنّ هذا خلاف الظاهر من المتعهد والملتزم فلا يصار إليه بغير قرينة ، وهذا مانع إثباتي لا ثبوتي كما ادّعاه الآخوند قدس‌سره (٣).

وثانيهما : كون المعاني التي قد وضعت لها الألفاظ هي إرادة تفهيم هذه المعاني دون نفس المعاني ، ودلالة اللفظ على معناه إنّما هي دلالة أنسية لا ربط لها بالوضع.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) كفاية الاصول : ٥٣.

(٣) المصدر : ٥٤.

١١٣

ويؤيّده ، بل يدلّ عليه أنّ وضع اللفظ لنفس المعاني من غير كون المتكلّم مريدا للتفهيم لا فائدة له ولا تترتّب عليه ثمرة ونحن غير محتاجين إليه أصلا ، فليس وضعه من الحكمة ؛ ولهذا لو سمعنا لفظ زيد من اصطكاك حجرين لانتقلنا إلى معناه لكن قيد الإرادة في المقام مفقود ، فالمتكلّم إنّما يريد إفهام السامع أنّه مريد لهذه المعاني.

فما ذكره الشيخ الرئيس (١) والمحقق الطوسي (٢) من أنّ الدلالة تابعة للإرادة مرادهما الدلالة اللفظيّة الوضعيّة لا الأنسيّة ، فلا مجال للردّ عليهما بأنّا بمجرّد سماع هذا اللفظ من اصطكاك حجرين نفهم هذا المعنى ويسبق إلى أذهاننا ؛ لأنّ هذه الدلالة هي الدلالة الأنسيّة ولا ينكرها هذان العلمان ، وإنّما ينكران الوضعيّة عند التكلّم بلا شعور ولا اختيار ، فافهم أنّ الحقّ معهما في كون ما يدلّ عليه الوضع هو كون المتكلّم في صدد إفهام السامع أنّه مريد لمدلول هذا اللفظ مثلا.

ومن هنا يظهر أنّ كلّ إنسان واضع ؛ لأنّه عند تكلّمه إنّما يريد إفهام المخاطب مداليل هذه الألفاظ ، فهو متعهّد بهذا الإفهام فهو واضع أيضا إلّا أنّه واضع تبعا لا استقلالا ، بل بتبع الواضع الأوّل كما هو واضح.

ثمّ إنّ هذا التعهّد تارة يستكشف من تصريح الواضع بذلك التعهّد إمّا بلفظه أو بكتابته وتسمّى بالوضع التعييني ، واخرى يستفاد من كثرة استعماله هذا اللفظ عند إرادة هذا المعنى وتسمّى بالتعيني ، كما هو مشاهد في أكثر اللغات ؛ فإنّ غير العالم باللغة الإيرانيّة مثلا إذا استفاد أنّهم متى عطشوا أطلقوا لفظ (آب) مثلا فيؤتون بالماء يعرف أنّهم تعهّدوا أنّهم متى أرادوا هذا المعنى أطلقوا لفظة (آب) عليه فيعرف تعهّدهم حينئذ.

__________________

(١) انظر الشفاء ، قسم المنطق ، المقالة الأولى من الفن الأول ، الفصل الثامن ، الصفحة ٤٢.

(٢) انظر الجوهر النضيد : ٨ ، ونهاية الدراية ١ : ٧٢ حكى عنه من شرح منطق الإشارات.

١١٤

في أقسام الوضع

ثمّ إنّ الوضع سواء كان هو التعهد (١) كما ذكرنا أو الوجود التنزيلي (٢) أو اعتبار نفس الوضع (٣) أو كونه علامة (٤) أو غير ذلك ممّا قيل في حقيقته لا بدّ من أن يكون مسبوقا بتصوّر معنى ، فذلك المعنى المتصوّر للواضع تارة يكون معنى كلّيا واخرى يكون معنى جزئيّا.

فإن كان كلّيا فتارة يضع اللفظ لذلك المعنى الكلّي ، كما إذا تصور حقيقة الإنسان الكلّية فوضع لتلك الحقيقة لفظ الإنسان مثلا ، وهذا يسمّى بالوضع العام ؛ لعموم المعنى المتصوّر عند الوضع ، والموضوع له عامّ ؛ لعمومه أيضا ، ضرورة كون المتصوّر هو ما وضع اللفظ بإزائه.

واخرى يضع اللفظ لأفراد ذلك المعنى الكلّي باعتبار أنّه مرآة لها ؛ فإنّ الكلّي مرآة لأفراده ، وهذا القسم يسمّى بالوضع العامّ أيضا ؛ لعموم المعنى المتصوّر ، والموضوع له خاصّ ، لكونها أفراد ذلك الكلّي.

وإن كان المعنى المتصوّر جزئيّا فوضع اللفظ بإزائه ممّا لا ريب فيه كما في الأعلام الشخصيّة ، ويسمّى هذا بالوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ لخصوصهما معا.

وإنّما الكلام بين الأعلام في إمكان أن يكون الوضع خاصّا لخصوصيّة المعنى المتصوّر ولكن الموضوع له عامّ واستحالته ، ذهب بعضهم (٥) إلى الإمكان والمساواة

__________________

(١) انظر تشريح الاصول للشيخ علي النهاوندي : ٢٦ ، ٢٩.

(٢) أصول الأصول للمحقّق الإيرواني : ٩.

(٣) نهاية الدراية ١ : ٤٦ ـ ٤٧.

(٤) شرح الكافية ١ : ١٠.

(٥) بدائع الأفكار للمحقّق الرشتي : ٤٠.

١١٥

بينه وبين القسم الثاني ، وهو كون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا بدعوى أنّه كما يكون تصور الكلّي موجبا لتصوّر الأفراد كذلك الفرد يكون موجبا لتصور الكلّي ، فإنّ الكلّي إنّما يتصوّر بأفراده الخارجية.

وبالجملة ، إن كان التصوّر المعتبر في الوضع لا بدّ أن يكون موجبا لتصوّر الموضوع له بتمام خصوصيّاته فليس هذا التصوّر موجودا في القسم الثاني فكيف التزمتم به؟ وإن كان التصوّر بنحو ما كافيا فلا فرق بين هذا القسم الرابع والقسم الثاني.

ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام ، فإنّ الكلّي مرآة لأفراده فتصوّره تصوّر لها.

بيان ذلك : أنّ تصوّر الكلّي يكون بنحوين :

ـ فتارة يتصوّر للحكم عليه بحكم يخصّه ولا يسري إلى أفراده أصلا كما في قولنا : الإنسان كلّي أو نوع ، فإنّ هذا الحكم حكم خاصّ بالكلّي من غير أن يكون هذا المحمول ثابتا لفرد من أفراده ، وتسمّى هذه المحمولات بالمعقولات الثانوية ، وفي هذه لا يكون تصوّر الكلّي تصوّرا لأفراده أصلا ؛ ضرورة أنّ الكلّية والنوعيّة ليستا من أحكام الأفراد.

ـ واخرى يتصوّر للحكم عليه بحكم لا يصدق إلّا في الخارج كما في قولنا : النار حارّة ، فهذا الحكم إنّما يثبت للنار باعتبار وجودها الخارجي الكائن في ضمن الأفراد ، وإلّا فتصوّر النار ليس محرقا والوضع من الأحكام أيضا على الماهيّة بلحاظ أفرادها الخارجيّة ، فهو يعني الكلّي مرآة لها حينئذ ، فيصحّ أن يتصوّر ذلك المعنى ويوضع ذلك اللفظ لأفراد ذلك المعنى الكلّي المتصوّر ، وهذا بخلاف العكس فإنّ تصوّر الفرد إن كان مع خصوصيّته الفرديّة فلا يوجب تصوّر الأمر الكلّي أصلا ، وإن كان مجرّدا عن خصوصيّته الفرديّة فهذا تصوّر لنفس الكلّي لا الجزئي ، غاية الأمر أنّه صار واسطة في ثبوت التصوّر للكلّي.

١١٦

وما يقال من أنّا يمكن أن نتصوّر كلّيا من غير تشخيص فرده ويكون ذلك الفرد هو السبب في تصوّره ، كما إذا رأينا من بعيد شيئا لا نعرفه فنضع لفظا لكلّي ذلك الجزئي الخارجي الغير المعلوم.

ففيه : أنّ هذا الكلام مغالطة فإنّك عند وضعك قد لحظت كلّي ذلك الفرد وهذا مفهوم عامّ وهو الموضوع له.

وبالجملة ، فالفرد لا يوجب تصوّر الكلّي وليس مرآة له أصلا.

نعم ، قد يكون واسطة في ثبوت تصوّره. فالأقسام الممكنة هي الثلاثة الأوليّة ، والرابع مستحيل.

(ثمّ إنّه كما يكون المعنى الموضوع له عامّا تارة وخاصّا اخرى كذلك اللفظ الموضوع قد يكون خاصّا من حيث المادّة والهيئة وهو وضع الجوامد ، وقد يكون عامّا كوضع الهيئة في المشتقات فإنّه عامّ ، وكذا وضع المادّة في المشتقّات ؛ فإنّ المادّة موضوعة للمعنى في أيّ هيئة تحقّقت كما في مادة ق ع د ، وهيئة فاعل موضوع لاسم الفاعل من أيّ مادة تركّب ، ويسمّى بالوضع النوعي ، فافهم) (١).

فيقع الكلام في الواقع من هذه الأقسام في الخارج.

فنقول : أمّا القسم الأوّل فلا ريب في وقوعه كما في الوضع للكلّيات ، وكذا القسم الثالث كما في وضع الأعلام. وأمّا القسم الثاني فقد ادّعي (٢) وقوعه خارجا ومثّلوا له بوضع الحروف بدعوى أنّ المعنى المتصوّر عند وضعها عامّ والموضوع له خاصّ ؛ لأنّه الأفراد.

فيقع الكلام في المعنى الحرفي وتحقيقه أوّلا ، ثمّ يقع الكلام في كون القسم الثاني واقعا أم أنّه لم يقع وإن أمكن وقوعه.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) منهم السيد مير شريف الجرجاني والتفتازاني في حاشيته على المطوّل في مبحث الاستعارة ، وصاحب الفصول في فصوله : ١٦.

١١٧

في المعنى الحرفي

والأقوال فيه ثلاثة :

الأوّل : أنّ الحرف لم يوضع للدلالة على معنى وإنّما هو علامة نظير حركات الإعراب ، فهي علامة لكيفيّة إرادة المدخول ، مثلا : الدار تارة تستعمل ويراد منها أنّها عين موجودة في الخارج فيقال : دار فلان وسيعة ، واخرى بما أنّها ظرف مكان فيقال : زيد في الدار ، فلفظة «في» دالّة على المعنى الأيني الظرفي ، كما أنّ رفع زيد في قولنا : ضرب زيد ، علامة لكون الضرب صادرا منه ونصب عمرو ، علامة كون الضرب واقعا عليه ، كذا الحروف أيضا علامات وقرائن لكيفيّة إرادة المدخول (١).

ولا يخفى عليك ما فيه ؛ فإنّ هذه العلاميّة المتحقّقة في المقام هل هي بوضع أم أنّها ليست بوضع؟ لا ريب في كونها بوضع ، كما نلتزم ذلك في المقيس عليه أيضا فإنّ حركات الإعراب أيضا ببناء وتعهّد من الواضع ، وكذا الهيئة التركيبيّة في قولنا : ضرب موسى عيسى ، فإنّ تقديم ما لا تظهر عليه الحركة أمارة كونه فاعلا إنّما كانت لتعهّد العرب بذلك حيث يلتبس الحال.

وبالجملة ، فالوضع لا يختص بالمفردات بل يسري حتّى في الهيئات التركيبيّة وفي المركبات أيضا كما سيأتي.

القول الثاني : أنّ المعنى في الأسماء والحروف واحد ، وإنّما تفترق في الاستعمال وكيفيّته ، فإن استعمل بنحو الآليّة كان المعنى معنى حرفيّا وإن استعمل بنحو الاستقلاليّة فهو معنى اسمي ، فمفهوم المعنى الاسمي والحرفي مفهوم واحد ، وإنّما يفرّق بينهما في كيفيّة الاستعمال ، فقد يلحظ آلة وقد يلحظ استقلالا ، إلّا أنّ هذين اللحاظين إنّما هما من شئون الاستعمال لا من خصوصيّات المعنى. وقد اختار

__________________

(١) انظر شرح الكافية للشيخ نجم الدين الرضي ١ : ١٠.

١١٨

هذا القول صاحب الكفاية (١) تبعا للشريف الرضي (٢) على ما نسب إليه كما نسب إليه القول الأوّل وهما على طرفي نقيض.

وقد أشكل على الآخوند قدس‌سره (٣) بأنّه لو اتّحد المعنى الاسمي والحرفي لصحّ استعمال أحدهما في مقام استعمال الآخر ، فيكون قولنا : سرت ابتداء البصرة بدلا عن سرت من البصرة ، كما يكون قولنا : من البصرة حسن بدلا عن قولنا : ابتداؤها حسن ، وبطلانهما في لغة العرب بل وغيرها من اللغات غير محتاج إلى بيان.

وقد أجاب الآخوند (٤) عن ذلك بعبارة تحتمل أوجها :

الأوّل : أنّ الواضع قد اشترط أن يكون استعمال لفظ الابتداء عند إرادة المعنى الاستقلالي ولفظ «من» عند إرادة المعنى الآلي ، فأشكل عليه النائيني قدس‌سره (٥) بأنّ شرط الواضع لا يجب الالتزام به أوّلا ، وثانيا إنّ مخالفة شرط الواضع لا توجب سوى الإثم على تقدير كون شرطه واجب الالتزام ، ولا يصحّ استعمال أحدهما في موضع الآخر ولو خولف ألف شرط وتحمّل ألف إثم.

الثاني : أن يكون مراد الآخوند بعبارته : أنّ المعنى واحد بحسب الجنس وإن تحصّص الابتداء الاستقلالي بلفظ الابتداء والآلي بلفظ «من» فالمعنى واحد جنسا ولكنّه متحصّص إلى حصّتين لكلّ حصّة لفظ خاصّ ، نظير زيد وعمرو فإنّهما مشتركان في كون جنسهما واحدا وإن تحصّص كلّ منهما بحصّة منه غير حصّة الآخر.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦.

(٢) شرح الكافية ١ : ١٠.

(٣) كفاية الاصول : ٢٦.

(٤) كفاية الاصول : ٢٧.

(٥) أجود التقريرات ١ : ٢٣.

١١٩

وفيه أوّلا : أنّ هذا لا يلائم مذاق الآخوند ؛ إذ بناء عليه يكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّ ومدّعاه عمومهما.

وثانيا : أنّ هذا يرد عليه ما أورده الآخوند قدس‌سره من عدم الانطباق على ما في الخارج ؛ لأنّ التقييد باللحاظ الآلي والاستقلالي للمعنى يوجب أن لا يكون له وجود خارجي.

وثالثا : أنّ هذا يوجب أن تكون جميع الكلّيات موضوعة وضع الحروف إذا كانت متحصّصة بالحصص.

فالأولى أن يكون مراد الآخوند من عبارته ـ كما يظهر ذلك من عبارته في المشتق عند تعرّضه للمعنى الحرفي ـ الثالث ، وهو : أنّ الواضع لمّا كان وضعه بيده فقد يضع اللفظ ويتعهّد أنّه متى أراد المعنى الفلاني أطلق هذا اللفظ بأيّ نحو أريد ذلك المعنى ، وقد يضع اللفظ لهذا المعنى ويجعل العلقة الوضعيّة في صورة خاصّة لا على الإطلاق ، مثلا يتعهّد أنّه متى أطلق لفظ زيد في الليل فهو يريد زيد بن عمرو ، ومتى أطلقه في النهار فهو يريد زيد بن بكر ، فكذا هنا يضع اللفظ للابتداء الغير الملحوظ فيه الآليّة والاستقلاليّة أصلا ، ويشترط بمعنى أنّه يجعل العلقة الوضعيّة بين لفظ الابتداء ومعناه عند إرادة استعماله مستقلّا ، وبين لفظ «من» والابتداء الذي هو المعنى الكلّي عند استعماله آلة ، وحينئذ فلا يكون استعمال أحدهما في محلّ الآخر صحيحا لفقده العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى ، فهو وإن كان مستعملا فيما وضع له إلّا أنّه بغير ما وضع له.

ومن هنا ظهر أنّ إيراد الميرزا قدس‌سره (١) بأنّ خلوّ المعنى عن كونه مستقلّا وغير مستقلّ نفي للضدّين ليس كما ينبغي ؛ إذ المعنى واحد والمنفيّ ليس استقلال المعنى

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٣.

١٢٠