القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

المقام الأول

في أقوال العلماء في المسألة

المشهور بين الأصحاب حجية خبر الواحد في الاحكام ، بل قد ادعى الإجماع عليه وهو الحق ، ويدل عليه الكتاب والسنة وبناء العقلاء وسيرة الأصحاب عليه ، كما أوضحناه في محله في الأصول.

ولكن الكلام هنا في حجيته في الموضوعات ، فإنها ترتبط ببحث القواعد الفقهية ، لما قد عرفت من ان مفاد القاعدة الفقهية دائما حكم شرعي كلي ، يجري في مختلف أبواب الفقه ، بخلاف المسائل الأصولية فإنها تقع في طريق استنباط الأحكام فحجية خبر الواحد في الأحكام تقع في طريق إثبات الحكم الشرعي ، فتكون مسألة أصولية واما حجيته في الموضوعات فهي حكم فقهي يستفاد منه حال موضوعات الاحكام ، ولكن لما كان كليا دخل في أبواب القواعد الفقهية.

والمعروف ان خبر الواحد لا يكون حجة في الموضوعات ، ولكن ذهب جماعة من الأصحاب ، ولا سيما المتأخرون منهم الى حجيته فيها ، حكي هذا عن ظاهر التذكرة وقواه في الحدائق (١) والمحقق الهمداني في مصباحه وغيرهم.

__________________

(١) حكاه في المستمسك في المجلد الأول في شرح المسألة ٦ من مسائل ماء البئر ، ولكن الذي ذكره في التذكرة في المسألة الثامنة من كتاب الطهارة من فروع الماء القليل هو انه : لو أخبره العبد بنجاسة الماء لم يجب القبول وهو ينافيه.

٨١

هذا ولكنهم انما تعرضوا للمسألة في موارد خاصة ، وقد لا يمكن استفادة العموم منها نعم يظهر العموم من بعض متأخري الأصحاب حيث ذكر هذا الحكم على الإطلاق واستدل عليه بدلائل يأتي الإشارة إليها ان شاء الله.

ويظهر من بعض علماء العامة ان القول بحجية خبر الواحد في الموضوعات شائع بينهم. وان ذكروه في موارد خاصة ، قال «ابن قدامة» : في «المغني» في باب أوقات الصلاة : «ومن أخبره ثقة عن علم عمل به ، لأنه خبر ديني ، فقبل فيه قول الواحد كالرواية» (١).

وتعليله دليل على عموم حجيته عنده.

وقال في أبواب القبلة : «وان لم يعلم عدالته وفسقه (اي المخبر بالقبلة) قبل خبره لان حال المسلم يبنى على العدالة ما لم يظهر خلافها ويقبل خبر سائر الناس من المسلمين البالغين العقلاء ، سواء كانوا رجالا أو نساء ، ولأنه خبر من اخبار الدين فأشبه الرواية ، ويقبل من الواحد كذلك» (٢).

وقال أيضا في أبواب المياه : «وان ورد ماء فأخبره بنجاسته صبي أو كافر أو فاسق لم يلزمه قبول خبره. وان كان المخبر بالغا عاقلا مسلما غير معلوم فسقه ، وعيّن سبب النجاسة لزم قبول خبره ، سواء كان رجلا أو امرأة ، حرا أو عبدا ، معلوم الدالة أو مستور الحال ، لأنه خبر ديني ، فأشبه الخبر بدخول وقت الصلاة ، وان لم يعيّن سببها قال القاضي : لا يلزم قبول خبره ، لاحتمال اعتقاد نجاسة الماء بسبب لا يعتقده المخبر» (٣).

والظاهر ان اعتماده على قول مستور الحال من جهة ان الأصل عندهم على

__________________

(١) المغني ج ١ ص ٣٤٢.

(٢) المغني ج ١ ص ٣٩٨.

(٣) المغني ج ١ ص ٧٥.

٨٢

عدالة المسلم كما أشار إليه سابقا ، كما ان عدم قبول القاضي لقول من لا يخبر بالسبب فإنما هو بسبب اختلاف الفتاوى عندهم ، فالمتحصل منها حجية خبر العدل عنده على الإطلاق.

فلنرجع الى بيان مدرك القاعدة وما قيل أو يمكن ان يقال فيه ونقل الأدلة عليه :

المقام الثاني

في مدرك القاعدة

يدل عليها الكتاب العزيز والسنة المستفيضة ، وبناء العقلاء.

الأول : كتاب الله

أقوى ما يدل عليه هو آية النبإ ، قال الله تعالى :

(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١)

وقد ذكرنا في مباحث خبر الواحد من الأصول انه يمكن الاعتماد على دلالة الاية باعتبار مفهوم الوصف في أمثال المقام ، مما يكون ظاهره الاحتراز بالوصف عن غيره ، ولذا إذا عرضنا الآية على أهل العرف وقلنا ان الفاسق لا يقبل خبره يفهمون منه ان خبر العدل مقبول.

وما قد يقال ان ذكر عنوان «الفاسق» هنا انما هو لبيان فسق الوليد وكفى بذلك فائدة في ذكر الوصف ، فاسد جدا ، مخالف لما يفهم منه عرفا.

أضف الى ذلك ان الآية لا تقصد بيان قضية خاصة بل مفادها حكم عام وقانون كلي بالنسبة إلى المؤمنين كلهم في جميع الموارد ، ولذا يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ ...).

__________________

(١) الحجرات : ٥.

٨٣

كما ان ذكر العلة وهي قوله تعالى (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) لا يدل على اعتبار العلم في العمل بالأخبار ، بل الجهالة هنا بمعنى السفاهة ، وما لا يكون عقلائيا ، وحيث ان الاعتماد على خبر الثقة أمر عقلائي ليس فيه سفاهة ولا ندامة ولو تبيّن كونه خلاف الحق ، فهو من قبيل العلم الذي هو جهل مركب لا ندامة في العمل به من حيث الاعتماد على أمر غير عقلائي ، بل من حيث الخطأ وهو محتمل في جميع الأمارات الشرعية والعرفية وفي حق غير المعصومين.

ومما ينبغي أن يذكر ان مورد الآية وشأن نزولها من الموضوعات لا من الاحكام وهو الخبر بارتداد قبيلة بني المصطلق ، والعجب من جماعة من الأصوليين حيث استدلوا بها على حجية خبر العدل في الأحكام ، أخذا بإطلاق الآية ، ولم يستدلوا بها على حجيته في الموضوعات الذي هو موردها ، فهل يمكن تخصيص العموم وتقييد الإطلاق بإخراج المورد وشأن نزولها؟ كلا.

وقد يستدل هنا بآيات الشهادة (١) ولزوم إظهارها ، وحرمة كتمانها ، مثل قوله تعالى (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)(٢) وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ)(٣) وقوله تعالى (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ)(٤) وقوله عز من قائل (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا)(٥) الى غير ذلك.

وكأنهم استندوا في ذلك الى دليل اللغوية ، وان الإظهار لو كان واجبا لوجب القبول ، والا كان لغوا ، ولكن هذا غير تام ، كما ذكر في أشباهه من وجوب إظهار العالم علمه وغيره ، فان دليل اللغوية يدل على ان في الإظهار فائدة ، ولكن هذه الفائدة

__________________

(١) استدل به في العناوين.

(٢ و ٥) البقرة : ٢٨٣.

(٣) الطلاق : ٢.

(٤) النساء : ١٣٥.

٨٤

هل هي القبول مطلقا ، أو إذا انضم اليه شاهد آخر ، ولا إطلاق لها من هذه الجهة ، فإنها ليست بصدد بيان القبول ، بل بصدد بيان وجوب الإظهار ، واما القبول فإنما يستفاد من ناحية أخرى ، ومن الواضح انه يكفي في عدم كونه لغوا قبولها في الجملة ولو عند وجود شاهد آخر.

الثاني : السنة

هنا روايات كثيرة وردت في مختلف أبواب الفقه يمكن استنباط حجية خبر الواحد في الموضوعات من مجموعها.

١ ـ ما ورد في أبواب رؤية الهلال عن محمد بن قيس عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إذا رأيتم الهلال فأفطروا أو شهد عليه عدل من المسلمين» (١).

دلت على كفاية شهادة العدل الواحد في ثبوت رؤية الهلال ، ولكن نسخ الرواية مختلفة ففي بعضها «واشهدوا عليه عدولا من المسلمين» وفي بعضها الأخر «أو يشهد عليه بينة عدول من المسلمين» ومن هنا يشكل الاعتماد عليها بالخصوص.

ويؤيده ما روي عن طرق العامة عن ابن عباس قال جاء أعرابي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال اني رأيت الهلال يعني هلال رمضان فقال أتشهد ان لا إله إلا الله قال نعم قال أتشهد ان محمدا رسول الله؟ قال نعم قال يا بلال أذن في الناس ان يصوموا غدا (٢).

٢ ـ منها ما وردت في أبواب النكاح من رواية سماعة قال سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها ، فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة وقال ان هذه امرأتي وليست

__________________

(١) الوسائل ج ٧ كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب ٨ الحديث ١.

(٢) رواه البيهقي في سننه ج ٤ ص ٢١١ (كتاب الصيام) باب الشهادة على رؤية الهلال وبهذا المضمون روايات عديدة أخرى في نفس الكتاب.

٨٥

لي بينة ، وقال ان كان ثقة فلا يقربها وان كان غير ثقة فلا يقبل منه (١).

والحديث ظاهر الدلالة على المقصود.

٣ ـ ونظيرها من بعض الجهات ما عن فقه الرضا قال : «ان كان البائع (أي البائع للأمة) ثقة وذكر انه استبرأها جاز نكاحها من وقته ، وان لم يكن ثقة استبرأها المشتري بحيضة» (٢).

والأصل وان كان يقتضي عدم الوطي فلا يحتاج الى الاستبراء ، ولكن لما كان ذلك غالبا في الإماء كان ظاهر حالهن كونهن موطوئة ، فلزم الاستبراء ، الا ان يكون البائع ثقة ، بل الظاهر من الرواية ان الوطي أمر مفروغ فيها.

هذا ولكن في سند الحديث (فقه الرضا) اشكال معروف.

٤ ـ ما ورد في «أبواب الأذان» من جواز الاعتماد على أذان المؤذن العارف الثقة ، مثل ما رواه عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده عن علي عليه‌السلام قال : «المؤذن مؤتمن والامام ضامن» (٣).

الى غير ذلك مما دل على اعتبار أذان المؤذن مطلقا المحمول على العارف بالوقت الثقة وان كان من المخالفين.

هذا ولكن الاعتماد على أذان العارف يمكن ان يكون من باب جواز التعويل في دخول الوقت على الظن المطلق ، وهو من أسباب الظن ، فلا يدل على جواز الاعتماد عليه في موارد يعتبر العلم ، أو ما يكون بمنزلته.

واستدل «ابن قدامة» في «المغني» في باب أوقات الصلاة بما روي عن طرقهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : المؤذن مؤتمن ، على حجية أذان الثقة العالم بالوقت (٤).

__________________

(١) الوسائل ج ١٤ كتاب النكاح أبواب عقد النكاح الباب ٢٣ الحديث ٢.

(٢) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٨٦.

(٣) الوسائل ج ٤ أبواب الأذان والإقامة الباب ٣ الحديث ٢.

(٤) المعنى ج ١ ص ٣٤٢.

٨٦

٥ ـ ما ورد في أبواب الوكالة عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل وكّل آخر على وكالة في أمر من الأمور واشهد له بذلك شاهدين ، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر ، فقال اشهدوا اني قد عزلت الفلان عن الوكالة. قال نعم ان الوكيل إذا وكّل ثمَّ قام عن المجلس فأمره ماض ابدا والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة (١).

دل على بقاء الوكالة على حكمها ونفوذ أمر الوكيل الا ان يثبت له العزل ، ومن طرق ثبوت العزل خبر الثقة.

٦ ـ ما ورد في أبواب الوصية عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل كانت له عندي دنانير ، وكان مريضا ، فقال لي : ان حدث لي حدث فأعط فلانا عشرين دينار ، وأعط أخي بقية الدنانير ، فمات ولم اشهد موته ، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي انه أمرني أن أقول لك انظر الدنانير التي أمرتك ان تدفعها الى أخي فتصدق منها بعشرة دنانير ، اقسمها في المسلمين ، ولم يعلم أخوه ان عندي شيئا فقال ارى ان تصدق منها بعشرة دنانير (٢).

ولكن يمكن الإيراد على الاستدلال بها من جهة ان في كلام المخبر هنا بعض القرائن الخفية التي كانت بين الموصي والوصي ، ولعله يوجب العلم فيشكل الاستدلال بها على حجية خبر الثقة إذا خلا من أمثال هذه القرائن.

هذا ويمكن الجواب عنه مضافا الى ان مجرد هذه القرينة لا توجب القطع بالصدق ، فلعله سمع الوصية السابقة من الموصي أو غيره وأضاف الباقي من قبل نفسه ، ان تعويل السائل على عنوان الرجل المسلم الصادق دليل على ان المرتكز في ذهنه كفاية قول المسلم الثقة في إثبات الموضوعات ، فلو كان هذا باطلا لوجب

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ كتاب الوكالة الباب ٢ الحديث ١.

(٢) الوسائل ج ١٣ كتاب الوصايا الباب ٩٧ الحديث ١.

٨٧

نفيه من قبل الامام عليه‌السلام فتدبر.

٧ ـ ما روي أيضا في أبواب نكاح الإماء عن ابن أبي عمير عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يشتري الأمة من رجل فيقول اني لم أطأها فقال ان وثق به فلا بأس ان يأتيها (١).

نعم يرد عليه انه من قبيل اخبار ذي اليد وحجية خبر ذي اليد لا تدل على حجية خبر الثقة مطلقا.

هذا ولكن من المشكل الاعتماد على اليد في أمثال المقام مما غلب عليها الحرمة وعدم الجواز ، لما قد عرفت من ان الأصل في الإماء كونها موطوئة الا من شذ منهن ، والا لوجب الاعتماد على قول ذي اليد إذا لم يكن متهما ، ولا يحتاج الى اعتبار الوثاقة كما في غيرها من موارد حجية قول ذي اليد ، فان عدم الإتمام كاف فيها ولا يعتبر الوثاقة بالخصوص.

فاعتبار الوثاقة هنا انما هو من باب حجية خبر الثقة في الموضوعات ولا دخل له بقول ذي اليد.

وقد يستدل هنا بروايات اخرى لا دلالة فيها.

منها ما ورد في أبواب النجاسات عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال اغتسل أبي من الجنابة فقيل له قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء فقال له ما عليك لو سكت؟ ثمَّ مسح تلك اللمعة بيده (٢).

وفيه انه قضية في واقعة ، ولعله كان يحصل العلم من قول المخبر وليس في الرواية عنوان عام ، يدل على التعويل على خبر الثقة حتى يستدل بإطلاقه على المقصود هذا مضافا الى اشتمال الحديث على بعض المسائل المنكرة ، اعني غفلة الإمام عن

__________________

(١) الوسائل ج ١٤ كتاب النكاح أبواب نكاح العبيد والإماء الباب ٦ الحديث ١.

(٢) الوسائل ج ٢ كتاب الطهارة أبواب النجاسات الباب ٤٧ الحديث ٢.

٨٨

غسله ، وبقائه على حاله بلا غسل وإتيان اعماله على تلك الحال لو لم يخبره المخبر فتأمل.

ومنها ما ورد في أبواب «ما يكتسب به» عن معاوية بن وهب وغيره عن ابي عبد الله عليه‌السلام في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك فقال بعه وبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به (١).

وفيه مضافا الى انه من باب حجية قول ذي اليد ولذا لم يقيّد بكونه ثقة ، انه من قبيل الاخبار المحفوفة بالقرائن ، لأن البائع لا يخبر بنجاسة زيته مهما أمكن فإذا أخبر يعلم انه كان مقطوعا ، لعدم الداعي على هذه الاكذوبة عادة ، لأحد من البائعين لما فيه من تقليل قيمة المبيع.

ومنها ما ورد في قصة إسماعيل ولد الصادق عليه‌السلام وانه دفع دنانير الى رجل شارب الخمر بضاعة ، ليعامل بها ، فأتلف النقود فوبّخه الصادق عليه‌السلام فاعتذر بأنه لم يره يشرب الخمر فقال عليه‌السلام : إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم (٢).

نظرا الى ان الجمع المحلى باللام هنا ليس بمعنى العام المجموعي ، لندرة اتفاق جميع المؤمنين على الشهادة على شيء ، فيحمل على العام الأفرادي.

وفيه انه يمكن حملها على الجمع لا بعنوان الاستغراق ، وحمله على ذلك هنا قريب ، لا سيما بقرينة قول إسماعيل لأبيه في مقام الاعتذار سمعت الناس يقولون ، فإن إطلاق الناس على الواحد قليل جدا ، وبالجملة الاستدلال بها على حجية خبر الواحد الثقة مشكل.

هذا ما ظفرنا به من الاخبار في هذه المسألة في طيات كتب الحديث وقد عرفت الإشكال في بعضها ولكن في الباقي لا سيما مع تظافرها وضم بعضها ببعض غنى

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به الباب ٦ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ج ١٣ كتاب الوديعة الباب ٦ الحديث ١.

٨٩

وكفاية ، لأنها وان وردت في موارد خاصة الا انه يمكن إلغاء الخصوصية عنها بعد ورودها في أبواب متفرقة.

أضف الى ذلك ان حجية خبر الثقة في الموضوعات كان مشهورا عند العقلاء كما سيأتي ان شاء الله.

وظاهر هذه الروايات إمضاؤها ، فلو كانت مختصة بموارد خاصة وجب على الامام التنبيه عليها ، لا سيما مع ذكر هذا العنوان في كلام الراوي في بعض تلك الروايات الذي يدل على انه كان امرا مركوزا في أذهان الرواة ولم يردع عنهم الأئمة عليهم‌السلام.

الثالث : بناء العقلاء

ويدل عليه أيضا بناء العقلاء الذي استدلوا بها على حجية خبر الواحد في الاحكام ، بل جعلوه أهم الدلائل وأقواها وعمدتها ، بل ارجعوا سائر الأدلة اليه.

وحاصله انهم لا يزالون يعتمدون على اخبار الثقة ، في ما يرجع الى معاشهم ، وحيث لم يردع عنه الشارع في ما يرجع الى معادهم فيكون حجة ، من دون اي فرق بين اخبار الثقة في الموضوعات ، أو في الأحكام.

فما ورد في القرآن الكريم ، أو الروايات الكثيرة التي قد عرفت جملة منها ، مما يدل على حجية خبر الواحد في الموضوعات ، إمضاء لهذا البناء.

وقد عرفت عند ذكر الأخبار الدالة على المقصود ان هذا المعنى كان مركوزا في أذهان الرواة كما يدل عليه اسئلتهم ، وهذا أيضا شاهد على المطلوب.

الرابع : بناء الأصحاب

ويظهر من كلمات الأصحاب وعملهم انهم يستندون الى اخبار الاحاد في الموضوعات كاستنادهم به في الاحكام ويدل على ذلك أمور

٩٠

١ ـ اكتفاء كثير منهم في علم الرجال بتوثيق رجل واحد وان اعتبر بعضهم قيام البينة وتوثيق رجلين ، ولكن هذا شاذ ، فلو كان خبر الواحد في الموضوعات يحتاج الى التعدد لم يجز الاعتماد على واحد في توثيق الرجال وهو من الموضوعات.

قال المحقق المامقاني في تنقيح المقال ما نصه :

«انه قد صدر من الأصحاب الإفراط والتفريط في هذا الباب فمن الأول ما عليه جماعة منهم الشهيد الثاني من قصر الحجية على الصحيح الأعلى ، المعدل كل من رجاله بعدلين ، نظرا إلى إدراج ذلك في البينة الشرعية ، التي لا تختص حجيتها بالمرافعات على الأقوى ، لما نطق بذلك الأخبار الصحيحة. الى أن قال ـ ووجه كون هذا المسلك افراطا ان طريق الإطاعة موكول الى العقل والعقلاء ونريهم يعتمدون في أمور معاشهم ومعادهم على كل خبر يثقون به من أي طريق حصل لهم الوثوق والاطمئنان».

هذا ولكن يرد عليه بان الاعتماد على قول علماء الرجال وشهادة الرواة في تشخيص الثقات من غيرهم انما هو في حصول ما هو الملاك في حجية خبر الواحد في الأحكام اعني الوثوق بالرواية فإذا حصل هذا المعنى من أي طريق دخل في عنوان الأدلة.

وبعبارة أخرى : إذا أخبر ثقة بأن محمد بن مسلم ثقة مثلا لا فائدة في هذا الخبر الا قبول اخباره ، ومن المعلوم انه يكفي في قبول اخباره حصول الوثوق بروايته ولو من طريق اخبار ثقة بوثاقته (فتأمل جيدا).

نعم لو كان الملاك في حجية خبر الواحد على خصوص آية الحجرات وكان موضوعها العدالة تعبّدا كان عمل العلماء بقول واحد في تشخيص العدالة والفسق دليلا على المطلوب ، ولكن انّى لنا بإثبات ذلك وقد ثبت في محله ان جميع أدلة حجية خبر الواحد ترجع الى بناء العقلاء الذي هو الأصل في المسألة ، وبنائهم على

٩١

الوثوق بالرواية من أي واد حصل.

٢ ـ انهم لا يفرقون في مسألة قبول اخبار الاحاد بين ما كان مضمونه الحكم الشرعي فقط ، أو مع الموضوع الخارجي ، فاذا أخبر محمد بن مسلم ـ مثلا ـ بأنه دخلنا على الصادق عليه‌السلام في يوم الجمعة فقال هذا يوم عيد ، يعملون به ويفتون بان يوم الجمعة يوم عيد مع ان الامام لم يخبر بهذا ، بل أخبر بأن هذا اليوم يوم عيد ، ولكن محمد بن مسلم أضاف إليه بأن اليوم كان يوم الجمعة ، فنقبل أخباره في الموضوع كما نقبل أخباره في الحكم الشرعي.

هذا ولكن قد أورد عليه في «حقائق الأصول» لا في هذا المبحث ، بل بمناسبة أخرى في مبحث حجية قول اللغوي بما نصه :

«ان أقوى ما يستدل به على حجية قول اللغوي هو ما دل على حجية خبر الثقة في الاحكام ودعوى ان خبر اللغوي ليس متعرضا للحكم لأنه من الخبر عن الموضوع فاسدة لأن المراد من الخبر في الأحكام كل خبر ينتهي إلى خبر عن الحكم ولو بالالتزام» (١).

ولكن هذا الاعتذار يشكل الاعتماد عليه ، وليس هذا بأولى من ان يقال حجية خبر الواحد لا يختص بالأحكام ، بل تجري في الموضوعات أيضا.

بل قد ذكرنا في مبحث حجية قول اللغوي انها مما دارت عليه كلماتهم ، ولا يزالون يستدلون بأقوالهم لتحقيق مفاهيم الكلمات المرتبطة بأمور معاشهم ومعادهم وفي اسناد الوصايا ، والأوقاف ، وغيرها ، حتى ان من ينكره باللسان لا يتجافى عنه في العمل ، وهذا دليل على عموم الحجية في الموضوعات والاحكام.

ومما قد يستدل به على العموم قياس الأولوية ، قال في الجواهر في ذيل كلام له في حجية خبر الواحد في الموضوعات ما هذا نصه : «بل ثبوت الأحكام الشرعية

__________________

(١) حقائق الأصول ج ٢ ص ٩٨.

٩٢

به أكبر شاهد على ذلك» وان ذكر في آخر كلامه «ان الانصاف بقاء المسألة في حيز الإشكال ، لإمكان التأمل والنظر في سائر ما تقدم من المقال بمنع بعضه ، وعدم ثبوت المطلوب بالآخر» (١).

وحاصل الكلام ان الاحكام مع كثرة اهميتها ، وكليتها ، إذا ثبتت بخبر الواحد فكيف لا يمكن إثبات الموضوع الجزئي به؟! اللهم الا ان يقال ان طرق ثبوت الأحكام محدودة ، فلذا اكتفى فيه بخبر الواحد ولكن طرق إثبات الموضوعات كثيرة متعددة ، قل ما يحتاج فيها الى خبر الواحد ، بحيث لو نفى حجيته فيها لم يحصل اشكال ، بخلاف الاحكام فان نفي حجية خبر الواحد فيها يوجب سد باب إثباتها غالبا.

ولا يتوهم ان هذا رجوع الى انسداد باب العلم ، لان المقصود إمكان كون الانسداد من قبيل الحكمة لهذا الحكم ، لا العلة ، بخلاف الموضوعات كما ذكر في محله من الأصول.

وبالجملة لا يمكن الركون الى هذا الدليل مجردا عن غيره ، غاية الأمر يصلح جعله مؤيدا لما مر.

واما ما أشار إليه صاحب الجواهر (قدس‌سره الشريف) فيما عرفت من كلامه فيظهر عدم تماميته من تفاصيل ما تلونا عليك في هذه المسألة. وان الدليل على الحجية من الكتاب والسنة ثابت لا يمكن إنكاره عند التحقيق.

«أقوى ما يرد على المختار»

أقوى ما يرد على ما ذكرنا من حجية خبر الواحد في الموضوعات أمران :

الأول ـ ما أشار إليه بعض أعاظم المعاصرين بقوله «وقد يتوهم ، كما عن

__________________

(١) الجواهر ج ٦ كتاب الطهارة ص ١٧٢.

٩٣

غير واحد منهم ، ان السيرة على حجية خبر الواحد في الموضوعات مردوعة ، بما ورد في ذيل رواية «مسعدة بن صدقة» من قوله «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين أو تقوم به البينة» (١).

حيث حصر ما يثبت به الموضوعات ، في «الاستبانة» (أي العلم) و «قيام البينة عليه» ولو كان خبر الواحد كالبينة معتبرا شرعا لبيّنة عليه‌السلام لا محاله».

ثمَّ أجاب عنه : «أو لا بان الرواية ليست بصدد الحصر ، لوضوح ان النجاسة وغيرها كما تثبت بهما كذلك تثبت بالاستصحاب وبأخبار ذي اليد.

ثانيا : ان الرواية غير صالحة للرادعية لضعفها.

ثالثا : ان عدم ذكر اخبار العادل في قبال البينة والعلم انما هو لأجل خصوصية في مورد الرواية ، وهي ان الحلية في مفروض الرواية كانت مستندة الى قاعدة اليد في مسألة الثوب ، ومن المعلوم انه لا اعتبار لاخبار العادل مع اليد.

ورابعا : البينة في الرواية كما تقدم بمعنى الحجة وما به البيان ، وهو الذي دلت الرواية على اعتباره في قبال العلم الوجداني» (٢).

وبعض ما ذكره وان كان لا يخلو عن اشكال مثل ما أفاده أخيرا ، لما مر عليك من ان البينة في مصطلح الاخبار بمعنى شاهدي عدل ، وقد أثبتنا ذلك بدليل قاطع ولكن في بعضها الأخر كفاية ، مثل عدم اعتبار سند رواية «مسعدة» وعدم كونها في مقام الحصر ، وسيأتي ان شاء الله في الجواب عن الإشكال الثاني ما ينفعك في المقام أيضا.

الثاني ـ ان خبر الواحد لو كان حجة في الموضوعات لم يبق حاجة الى البينة

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به الباب ٤ الحديث ٤.

(٢) التنقيح ج ١ ص ٣١٩.

٩٤

فيها وكان حجيتها نافية لحجيته.

وان شئت قلت : حجية البينة لا يختص بأبواب القضاء ، بل قد عرفت انها عامة في جميع الموضوعات وان لم يكن فيها خصومة تستدعي القضاء ، وحينئذ يبقى الكلام في أنه لم اعتبر فيها العدد مع كفاية خبر الواحد فيها؟

وبعبارة ثالثة : مفهوم العدد لا سيما في أمثال هذه المقامات ينفي جواز الركون الى خبر الواحد في الموضوعات.

والانصاف أنه أهم إشكال يرد على حجيته ، بل الظاهر ان عدم اعتراف كثير من الأصحاب بحجية خبر الواحد فيها ، أو ترديدهم في هذا الأمر ، أو قبولهم للحجية تارة ونفيها اخرى ، انما نشأ من هذا الاشكال.

ولكنه مع ذلك انه قابل للدفع ، وانه يمكن الجمع بين حجيتهما بحيث لا يكون تمانع وتنافر.

توضيحه : ان اخبار حجية البينة ـ كما لا يخفى على من راجعها وتدبر فيها ـ ناظرة في الغالب إلى المسائل المالية والحقوقية الأخرى ، والظاهر ان ذكر البينة فيها انه وان لم تكن موردا للدعوى بالفعل ولكن قد يؤدي الى المخاصمة ، فلا بد من التمسك بحجة ينفع في محكمة القضاء أيضا في المستقبل.

مثلا ورد في كتاب الله العزيز حجية شهادة العدلين في الوصية (١) والطلاق (٢) والدين (٣) والبيع (٤) ومن الواضح ان هذه كلها أمور مالية أو حقوقية قد تكون فيها المخاصمة في المستقبل ، فلا بد من أخذ شاهدين فيها حتى إذا انتهى الأمر إلى المحكمة يكون دليلا يمكن الاستناد إليه في إثبات المدعى.

__________________

(١) المائدة : ١٠٥.

(٢) الطلاق : ٢.

(٣) البقرة : ٢٨٢.

(٤) البقرة : ٢٨٢.

٩٥

نعم ورد في بعض ما عرفت من الايات لزوم الاعتماد على قول العدلين في كفارة الإحرام ، وانه لا بد ان يكون مماثلا للحيوان الذي اصطاده يحكم به ذوا عدل منكم (١).

ولكن لا يبعد ان يكون الوجه فيه ان المماثلة ليست من الأمور الحسية حتى يكتفى فيه بخبر الواحد فأوجب فيه التعدد حتى يكون بعيدا عن الخطأ.

وان شئت فانظر الى ما دل على حجية البينة من السنة مثل خبر «مسعدة» التي ورد في الثوب والعبد والمرأة ، وكذا ما دل من رواية يونس على ان استخراج الحقوق بوجوه أربعة ، منها شهادة رجلين عدلين (٢).

وما ورد في رواية صفوان الجمال فيمن يكون له المال ويكون له شاهدان فيأخذ حقه (٣).

وما ورد في أبواب النكاح والطلاق وأبواب الوقوف والصدقات الى غير ذلك مما قد يكون محلا للتنازع والتشاجر ، فان اعتبار العدلين في جميع ذلك انما هو من باب التهيأ لإثبات المدعى عند التنازع.

نعم ورد اعتبار العدلين في أبواب رؤية الهلال ، ولكن الظاهر مما دل على هذا المعنى انها انما تعتبر إذا أراد الحاكم ان يحكم بهما في حق جميع الناس فراجع أبواب أحكام شهر رمضان وما يثبت به الهلال.

وبالجملة لو لم ندع اليقين على هذا المعنى فلا أقل من الاعتماد عليه عند ملاحظة مجموع ما دل على حجية خبر الواحد في الموضوعات مع ما دل على اعتبار البينة فيها (فراجع وتدبر).

__________________

(١) المائدة : ٩٥.

(٢) الوسائل ج ١٨ كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب ١٥ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ج ١٨ كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب ٥ الحديث ٣.

٩٦

«ملاك حجية خبر الواحد»

بقي هنا شيء : وهو انه بناء على حجية خبر الواحد في الموضوعات هل يعتبر فيها «العدالة» أو يكفي «الوثوق» فقط؟ كما هو المختار عندنا وعند جل المعاصرين ، أو كلهم ، في حجية خبر الواحد في الأحكام.

الظاهر انه يتفاوت الحال بتفاوت الأدلة في المسألة ، فإن كان الدليل هو آية النبإ فظاهرها اعتبار العدالة لأنه المقابل للفسق.

وان كان الدليل هو الاخبار الخاصة الواردة في الأبواب المختلفة فمقتضاها متفاوت ، ففي بعضها اعتبار العدالة مثل ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا رأيتم الهلال فأفطروا أو شهد عليه عدل من المسلمين (١).

ولكن وقع التصريح بالوثاقة في كثير من رواياتها كما يظهر بالدقة فيما مر عليك من أدلة المسألة ، والجمع بينهما ممكن بحمل العدالة على الوثاقة.

وهكذا ما ورد من التعبير بالصداقة في قوله «فأتاني رجل مسلم صادق» فيما ورد في أبواب الوصية فإنه راجع الى الوثاقة ، والمتحصل من جميعها اعتبار الوثوق ، وحينئذ يمكن الجمع بينها وبين مفهوم آية النبإ بحمل العدالة فيهما أيضا على الوثاقة ويؤيده ما ورد من التعليل في الآية بقوله تعالى (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) فان الإصابة بالجهالة ، أو حصول الندامة انما هو من آثار عدم الوثوق ، لا الفسق فيما لا يرتبط بالأخبار ، فاذا كان إنسان متحرزا عن الكذب يمكن الوثوق بقوله ، دخل في مفهوم الآية ، ولا يكون العمل بقوله معرضا للندامة.

وأظهر من الجميع إذا كان الدليل بناء العقلاء انه لا شك ان بنائهم على الاعتماد بخبر الثقة ، من دون ملاحظة العدالة فيما لا يرتبط بالأخبار ، فاذا لا يبقى شك في كفاية

__________________

(١) الوسائل ج ٧ كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب ٨ الحديث ١.

٩٧

الوثوق ، وعدم اشتراط العدالة تعبدا.

وقد صرح بما ذكرنا بعض المتأخرين والمعاصرين قال في مصباح الفقيه : الأظهر عدم اشتراط العدالة المصطلحة ، وكفاية كون المخبر ثقة مأمونا محترزا عن الكذب لاستقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على اخبار الثقات في الحسيات التي لا يتطرق فيها احتمال الخطأ ، احتمالا يعتد به ، لديهم مما يتعلق بمعاشهم ومعادهم ، وليست حجية خبر الثقة لدى العقلاء الا كحجية ظواهر الألفاظ (١).

وقال في التنقيح : لا تعتبر العدالة أيضا في حجية الخبر ، لان العقلاء لا يخصصون اعتباره بما إذا كان المخبر متجنبا عن المعاصي ، وغير تارك للواجبات ، إذ المدار عندهم على كون المخبر موثوقا به ، وان كان فاسقا أو خارجا عن المذهب (٢).

وقال «المحقق المامقاني» في كلام له عند بيان الحاجة الى علم الرجال ما نصه : ان الحق الحقيق بالقبول. ان العمل بالأخبار انما هو من باب الوثوق والاطمئنان العقلائي ، ومن البيّن الذي لا مرية فيه لذي مسكة في مدخلية أحوال الرجال في حصول الوثوق وعدمه وزواله ، فالأخذ بالخبر من دون رجوع إلى أحوال رجاله تقصير في الاجتهاد ، وهو غير جائز ، كما لا يجوز الفتوى قبل بذل تمام الوسع (٣).

بقي هنا أمران :

أحدهما : انه هل يعتبر الوثوق الفعلي (الشخصي) أو يكفي الوثوق النوعي؟

المصرح به من غير واحد منهم في باب حجية خبر الواحد في الاحكام ، ومن

__________________

(١) مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص ٩٢.

(٢) التنقيح في شرح العروة ج ٢ ص ٢٨٨ (باب إثبات النجاسة بقول خبر الثقة).

(٣) تنقيح المقال ج ١ ص ١٧٤.

٩٨

بعضهم في الموضوعات ، كفاية الوثوق النوعي ، وعدم الحاجة الى الوثوق الفعلي الشخصي.

والظاهر ان الدليل عليه هو بناء العقلاء واحتجاجهم بخبر الثقات فيما إذا أخبروا بموضوع أو حكم ، فإنهم يرونها حجة على العبيد ، ومن شابههم ، ولا يصغون الى اعتذارهم بعدم حصول الوثوق الفعلي ، اللهم الا ان يكون هناك قرائن خاصة توجب اتهام المخبر في خبره ، وحينئذ لا يبعد رده ، قبول العذر بوجودها.

ثانيهما : هل يكفي مجرد الوثوق بالرواية ، وان لم يوثق بالراوي ، بأن كان الراوي فاسقا كذابا ، أو مجهول الحال ، ولكن حصل من القرائن الخارجية وثوق بنفس الرواية ، فهل تكون حجة؟ وهل يحتج به أم لا؟

الظاهر انه كذلك لجريان سيرة العقلاء أيضا عليه ، فإنهم يعتمدون على اخبار تدل القرائن على صحة مضمونها ، بحيث يحصل الوثوق بها ، وان لم يبلغ حد العلم ، ويحتجون بمثل هذه الاخبار.

ومن هذا الباب ما هو المعروف من المتأخرين والمعاصرين من حجية خبر الضعيف أو المجهول إذا عمل به المشهور ، فينجبر ضعفه بعملهم ، وليس هذا الا من جهة الوثوق بنفس الرواية ، وان كان الراوي غير موثوق به.

وكذلك ما قال به بعضهم من الاعتماد على الاخبار المروية في كتب المعتبرة المعروفة ، وان كان هذه القرينة محلا للكلام بينهم من حيث الصغرى ، وانها توجب الوثوق أم لا؟

ومن هذا الباب أيضا ما يرويه وكالة الإنباء في عصرنا من الاخبار المختلفة المرتبطة بموضوعات شتى في العالم فكثيرا ما يعتمدون على أخبارهم في نقل بعض الأمور ، وان كانوا فاسقين وكذابين ، وليس ذلك الا من جهة الوثوق الحاصل بنفس

٩٩

الخبر بالقرائن المختلفة في قرائن خاصة.

هذا تمام الكلام في حجية خبر الواحد في الموضوعات وما يرتبط بها ، (والحمد لله).

١٠٠