القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

ومنها ما ورد في كتاب الحدود في حكم الساحر انه سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الساحر ، فقال : إذا جاء رجلان عدلان فشهدا بذلك فقد حل دمه (١).

ومنها ما ورد في باب الشهادة على الشهادة عن الصادق عليه‌السلام «ان شهد رجلان عدلان على شهادة رجل فقد ثبت شهادة رجل واحد» (٢).

ومنها ما ورد في أبواب الوقوف والصدقات عن أبي بصير قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : الا أحدثك بوصية فاطمة عليها‌السلام ـ الى أن قال ـ فان مضى علي فالى الحسن فان مضى الحسن فالى الحسين ، فان مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي ، تشهد الله على ذلك والمقداد بن الأسود والزبير بن العوام وكتب علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٣).

ومنها ما ورد في أحكام الوصايا عن علي عليه‌السلام قال : «من أقر لأخيه فهو شريك في المال ولا يثبت نسبه ، فإن أقر اثنان فكذلك ، الا ان يكونا عدلين فيثبت نسبه ، ويضرب في الميراث معهم» (٤).

هذا قليل من كثير مما ورد في هذه الأبواب مما يتجاوز حد التواتر وهي وان كانت واردة في موضوعات خاصة ، الا ان الناظر فيها يستدل بها على العموم في أول نظرة ، بحيث لا يبقى له شك في ان قبول قول الشاهدين في هذه الأبواب لا ينشأ من خصوصيات فيها ، بل هو ناش عن حجية قول العدلين على الإطلاق وفي جميع

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ كتاب الحدود أبواب بقية الحدود الباب ٣ الحديث ١.

(٢) من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٤٠ رقم الحديث ١٣٢.

(٣) الوسائل ج ١٣ كتاب الوقوف والصدقات احكام الوقوف الباب ١٠ الحديث ١.

(٤) الوسائل ج ١٣ كتاب الوصايا أبواب أحكام الوصايا الباب ٢٦ الحديث ٦.

٦١

الأبواب.

الثالث : الإجماع

لا يخفى على الناظر في أبواب الفقه ، من الطهارات الى الديات ، ان فقهائنا (رضوان الله عليهم) يعتمدون على البينة في كل باب بحيث يعلم الناظر منها حجية البينة عندهم بصورة عامه. نعم قد يحكى عن شرذمة قليلة عدم الاعتماد عليها في بعض الأبواب ، مثل ما نسب إلى القاضي ابن براج من إنكار حجية البينة العادلة في إثبات النجاسة ، وما حكى عن ظاهر السيد (قدس‌سره) في الذريعة ، والمحقق في المعارج ، وبعض آخر من ان الاجتهاد لا تثبت بشهادة عدلين لعدم الدليل عليه.

لكنها شاذة لا يمكن الاعتماد عليها في قبال ما عرفت.

نعم الإجماع وان كان ثابتا الا انه لا يمكن الاستدلال بها كدليل مستقل هنا ، لما حقق في محله من انه لا يمكن استكشاف قول المعصوم منه مع وجود أدلة أخرى في المسئلة ، مع ان معيار حجيتها هو استكشاف قول المعصوم منه ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لما عرفت من الأدلة الظاهرة الواضحة المتكاثرة من هذا الباب.

ولا بأس بالإشارة إلى أنموذج من كلمات الأصحاب في الأبواب المختلفة مما يشهد بمعلومية حجية البينة عندهم كدليل عام ، وكفاك في ذلك ما أورده شيخ الطائفة (قدس الله نفسه الزكية) في مختلف أبواب الفقه فإنه اعتمد عليها ، بل ادعى الإجماع على اعتبارها ، في أبواب «الصيام» و «الطلاق» و «الحدود» و «النكاح» وغيرها.

قال في «الخلاف» في كتاب الصيام في المسألة (٨) :

«لا يقبل في رؤية هلال رمضان إلا شهادة شاهدين. دليلنا إجماع الطائفة

٦٢

والاخبار» (١).

وقال في المسألة (٦١) منه : «لا يثبت هلال شعبان (شوال) ولا شيء من الشهور إلا بشهادة نفسين عدلين ، وبه قال الشافعي. دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا قبول شاهدين في ذلك مجمع عليه» (٢).

وقال في المسألة (٥) من كتاب الطلاق : «كل طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان وان تكاملت سائر الشروط فإنه لا يقع. دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم (٣).

ومن الواضح ان حضور الشاهدين دليل على قبول شهادتهما في هذا الموضوع فيما يمكن ان يقع الخلاف فيه بعد ذلك.

وقال في كتاب اللعان في المسألة (١٨) : إذا قذف زوجته بان رجلا أصابها في دبرها حراما لزمه الحد بذلك. وله إسقاطه بالبينة (٤).

وقال في كتاب القضاء في المسألة (٩) في حكم الترجمة : «الترجمة : لا تثبت إلا بشهادة شاهدين لأنها شهادة» وبه قال الشافعي (٥).

وقال في كتاب الشهادات في المسألة (٤) : لا يثبت النكاح والخلع والطلاق والرجعة والقذف والقتل الموجب للقود والوكالة والوصية اليه والوديعة عنده والعتق والنسب والكفالة ونحو ذلك ما لم يكن مالا ولا المقصود منه المال ، ويطلع عليه الرجال ، إلا بشهادة رجلين. دليلنا ان ما اعتبرناه مجمع على ثبوت هذه الاحكام به (٦).

__________________

(١) الخلاف ج ١ ص ٣٤١.

(٢) الخلاف ج ١ ص ٣٥٥.

(٣) الخلاف ج ٢ ص ٤٤٢.

(٤) الخلاف ج ٣ ص ٣٦.

(٥) الخلاف ج ٣ ص ٣١٢.

(٦) الخلاف ج ٣ ص ٣٢٦.

٦٣

وعموم كلامه وشموله واضح لا يخفى على احد.

وهكذا كلمات غيره من أكابر المتقدمين والمتأخرين في هذا المعنى لا نطيل المقام بذكرها بعد وضوحها.

الرابع : بناء العقلاء

لا شك ان بنائهم على قبول قول الثقة في إثبات الموضوعات في مقام القضاء وغيره ، وان اختلف آرائهم في شرائطه وحدوده وقيوده وعدده ، ومن الواضح ان الشارع لم يردع عنه بل أمضاه ولكن مع شرط «العدالة» و «العدد» كما عرفت وسيأتي ان شاء الله أيضا في طي المباحث الآتية.

المقام الثالث

شرائطها والقيود المعتبرة فيها

ولا نحتاج في هذا المقام الى مزيد كلام بعد ما عرفت من الايات من الذكر الحكيم ، التي ورد فيها اعتبار الرجلين والعدالة ، فقد نص على ذلك في سورة المائدة في حكم الوصية ، وفي سورة الطلاق في حكم الطلاق ، وفي سورة البقرة في أحكام الدين ، وفي سورة المائدة في حكم أهل الخبرة بمساواة الكفارة والصيد.

كل ذلك دليل على اعتبار الأمور الثلاثة في البينة : «الذكورية» و «العدد» و «العدالة».

وقد صرح بذلك أيضا في طيات اخبار الباب التي عرفت الإشارة إلى طوائف منها ، فقد ورد فيها التصريح بالتعدد والعدالة والذكورية.

فمما ورد التصريح فيه بجميع ذلك مرسلة الصدوق عن الصادق عليه‌السلام في باب

٦٤

الشهادة على الشهادة (١).

وما رواه حماد بن عثمان عن الصادق عليه‌السلام في أبواب رؤية الهلال (٢).

وما رواه الحلبي عنه أيضا عن أمير المؤمنين في هذا الباب (٣).

وما رواه زيد بن علي عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حكم الساحر (٤).

الى غير ذلك مما يظهر للمتتبع.

ومما يدل على اعتبار «شاهدين عدلين» ما ورد أيضا عن محمد بن مسلم عن ابي عبد الله عليه‌السلام في باب الشهادة على الهلال (٥).

وما رواه بكير بن أعين وغيره عن أبي جعفر عليه‌السلام في باب الشهود على الطلاق (٦).

وما رواه في «البحار» عن «فقه الرضا» في باب الطلاق أيضا ، وانه لا يجوز إلا بشهادة عدلين (٧) الى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى.

ومن الواضح ظهور عنوان شاهدين عدلين في الشرائط الثلاثة «التعدد» و «الذكورة» و «العدالة».

وقد ورد في بعض اخبار الباب اعتبار كونهما رجلين عدلين مرضيين وهو يثبت المقصود مع تأكيد ، وهو ما رواه «مسمع بن عبد الملك» عن أبي عبد الله عليه‌السلام في باب الشهادة على الزندقة (٨).

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ كتاب الشهادات أبواب الشهادات الباب ٤٤ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ج ٧ كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب ١١ الحديث ٣

(٣) الوسائل ج ٧ كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب ١١ الحديث ١

(٤) الوسائل ج ١٨ كتاب الحدود أبواب بقية الحدود الباب ٢ الحديث ١.

(٥) الوسائل ج ١٨ كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب ١٤ الحديث ١.

(٦) الوسائل ج ١٥ كتاب الطلاق أبواب مقدماته الباب ١٠ الحديث ٢.

(٧) البحار ج ١٠٤ ص ١٤١ باب الطلاق واحكامه الحديث ٢١.

(٨) الوسائل ج ١٨ كتاب الشهادات أبواب الشهادات الباب ٥١ الحديث ١.

٦٥

نعم لم يرد في بعض الروايات الا توصيف الشهادة بالعادلة ، مثل ما رواه ضمرة ابن أبي ضمرة ، عن أبيه ، عن جده ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ان احكام المسلمين على ثلاثة : شهادة عادلة ، أو يمين قاطعة ، أو سنة ماضية ، من أئمة الهدى» (١).

وفي بعضها ورد عنوان الرجولية والتعدد ، من غير ذكر اشتراط العدالة مثل ما رواه محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام في باب الشهادة على السرقة ، من ان أمير المؤمنين عليه‌السلام قضى في رجل شهد عليه رجلان بأنه سرق ، فقطع يده (٢).

وما ورد فيه عنوان «البينة» من غير ذكر العدد والعدالة والذكورة ، وهي روايات كثيرة مبثوثة في أبواب الفقه.

ومن الواضح ان مقتضى القاعدة الجمع بين جميع هذه الطوائف وإرجاع مطلقاتها الى مقيداتها ، باعتبار الشروط الثلاثة ، فلا يكفي غير رجلين عدلين الا ما خرج بالدليل وسيأتي الإشارة اليه ان شاء الله.

المقام الرابع

الموارد المستثناة من هذه القاعدة

قد عرفت ان الأصل في البينة ان يكون رجلين عدلين فشهادة النساء ، واخبارهم لا تقبل إلا في موارد ورد الدليل الخاص فيها وسيأتي الكلام فيها في المقام الاتي ، وكذلك لا يعتبر أكثر من الرجلين إلا في موارد خاصة ، وقع التصريح بها في الأدلة.

واما انه هل يمكن الاكتفاء بقول عدل واحد مطلقا في جميع الموضوعات ، أو مع اليمين في أبواب الشهادات ، فهو بحث آخر سيأتي في محله ان شاء الله.

والذي قام الدليل على اعتبار الزائد من الرجلين فيها هو «الزنا» مطلقا ، المحصن

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب ١ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ج ١٨ كتاب الشهادات أبواب الشهادات الباب ١٤ الحديث ١.

٦٦

وغير المحصن ، واللواط ، والسّحق ، فان المعتبر فيها اربع رجال ، حتى ان قتل النفوس المؤمنة مع كثرة اهميتها وشدة اهتمام الشارع بها لا يعتبر في إثباتها غير الشاهدين فكأن الشارع المقدس أراد ستر الناس في هذين البابين مهما أمكن والاحتفاظ بأمرهم.

والذي يدل على لزوم الأربع في الزنا هو صريح الكتاب العزيز فقد قال (عز من قائل) في كتابه العزيز (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً)(١) دل على ان حكم القذف لا يثبت إلا بأربعة شهداء. والتعبير بأربعة وكذلك «الشهداء» دليل على كونهم من الذكور.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ)(٢).

وقد قام الإجماع بقسميه على هذا المعنى وشهد بها السنة المعتبرة المستفيضة ، فقد قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لا يجلد رجل ولا امرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهود على الإيلاج والإخراج» (٣).

وقال عليه‌السلام أيضا : «لا يرجم رجل ولا امرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهود على الإيلاج والإخراج» (٤).

الى غير ذلك مما جمعه في الوسائل في الباب (١٢) من أبواب حد الزنا ، وغيرها.

وورد التصريح فيها بأنه إذا كانت الشهود أقل من أربعة يجلدون حد القذف!.

__________________

(١) النور : ٤.

(٢) النساء : ١٥.

(٣) الوسائل ج ١٨ كتاب الحدود أبواب حد الزنا الباب ١٢ الحديث ١١.

(٤) الوسائل ج ١٨ كتاب الحدود أبواب حد الزنا الباب ١٢ الحديث ٢.

٦٧

وهكذا الحكم بالنسبة إلى اللواط فإنه أيضا مجمع عليه بين الأصحاب ، وان لم يرد فيه رواية صريحة ، ولكن استدل الأصحاب هنا بما ورد في صحيحة «مالك بن عطية» عن ابن عبد الله عليه‌السلام من اعتبار اقرارات اربع وعدم كفاية إقرار واحد بل ولا ثلاثة (١).

فإن المترائى من أحاديث الإقرار في أبواب الزنا ان كل إقرار يقوم مقام شهادة فإذا اعتبر الإقرار أربع مرة فلا بد من اعتبار اربع شهود ، لا سيما مع كون الإقرار أولى من الشهادة في هذه الأبواب كما لا يخفى ، ولذا يكفي في أبواب الحقوق الإقرار مرة واحدة ، مع ان الشهادة فيها لا تكون الا باثنين ، فاذا لم يثبت اللواط بأقل من اربع اقرارات لا يثبت بأقل من اربع شهود بطريق اولى.

والحاصل ان الحكم في هذا الباب مما لا يقبل الإنكار ولا كلام فيه عندهم.

وهكذا الكلام في المساحقة ، فإن المعروف فيها أيضا عدم اعتبار الأقل من أربعة شهود ، بل ادعي الإجماع عليه في كشف اللثام ، وذكر في الجواهر ان المسألة مفروغ عنها ، وان حكي عن المحقق الأردبيلي في مجمع البرهان من كفاية الإقرار مرتين وشهادة العدلين ولكنه ضعيف.

لما ورد في الروايات انه هو الزناء الأكبر الذي أحدثه بنت إبليس كما أحدث أبوها اللواط (٢) بل وفيها ما دل على انه كاللواط في الرجال (٣).

وما دل على ان حدها حد الزاني (في غير المحصن مائة جلدة وفي المحصن الرجم) (٤).

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ أبواب حد السرقة الباب ١٩ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ج ١٨ أبواب النكاح المحرم الباب ٢٤ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ج ١٨ كتاب الحدود أبواب حد السحق الحديث ٢.

(٤) الوسائل ج ١٨ أبواب حد السحق الباب ١ الحديث ١.

٦٨

ويظهر من جميعها ان طريق ثبوتها كطريق ثبوت الزنا واللواط ، فلا يكتفي فيه بأقل من أربعة وتمام الكلام فيه في محله.

واما عدم قبول شهادة النساء في الموضوعات فهو ظاهر مما عرفت من الأدلة والاخبار الكثيرة التي صرح فيها باعتبار رجلين عدلين ، أو شاهدين مرضيين ، أو غير ذلك مما يفيد هذا المعنى ، فالأصل في أبواب الشهادات عدم قبول شهادتهن في غير ما ورد فيه الدليل.

فما ذكره بعض الاعلام من ان عنوان البينة عام يشمل الرجال والنساء كما ترى لما عرفت من ان إطلاق البينة ـ لو سلمنا صدقها على شهادتهن ـ مقيدة بما عرفت مما يدل على اعتبار الذكورية فيها ، من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة.

نعم قد ورد في أبواب الشهادات كفاية شهادتهن في بعض الموضوعات ، كما ورد كفاية شهادتهن منضمات الى الرجال في أبواب الحدود ، وتفصيل الكلام فيها موكول الى محلها من كتابي «الشهادة» و «الحدود».

المقام الخامس

في اعتبار كون البينة في الأمور المحسوسة

لا ينبغي الشك في ان المعتبر في حجية البينة ان يكون في المحسوسات ، واما غيرها مما لا يحيط به الحس فهو غير داخل في أحكام البينة ، وان قلنا بحجية الشهادة فيها أيضا ، فإنه داخل في عنوان الرجوع الى أهل الخبرة ، وله أحكام أخر سيأتي الإشارة إليها ان شاء الله.

ويدل على ما ذكرنا أمور :

١ ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في هذا المعنى.

٦٩

٢ ـ أخذ عنوان الشهادة في هذا الباب دليل عليه ، فإنها من الشهود الظاهر في كون المشهود فيه امرا محسوسا.

٣ ـ الأخبار العامة والخاصة الواردة في البينة التي أشرنا إليها سابقا كلها أو جلها ظاهرة في ما كان المخبر به امرا حسيا ، فلا يستفاد منها عموم يشمل غير المحسوسات.

٤ ـ الروايات الخاصة الدالة على لزوم كون الشهادة عن حس دليل واضح على المقصود مثل ما رواه علي بن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك» (١).

وما رواه المحقق (ره) في الشرائع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد سئل عن الشهادة ، قال : «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع» (٢).

ولا أقل من الشك في شموله لما علم من غير طريق الحس ، والأصل عدم القبول ـ والأمر في هذا سهل ـ لا سيما مع بناء العقلاء أيضا في شهاداتهم على ذلك فلا يكتفون بشهادة من علم بشيء من قرائن حدسية.

انما الكلام في المراد من الحس هنا ، فإنه لو كان المقصود كون مورد الشهادة دائما محسوسا بأحد الحواس الخمسة (أو أكثر من الخمسة) فهذا غير صحيح قطعا ، فان من يشهد بان زيدا ابن عمرو ، أو اخوه ، أو عمه ، أو خالة ، فهل يمكن ان يكون هذا محسوسا له ، وهل شاهد تولده منه ، أو تولدهما من أم واحد؟ كلا بل رآه في بيته يعامل معه معاملة ابنه ، يربيه ويكفله واشتهر بذلك كل الشهرة ، فمن هذه الأمور يقطع بأنه ابنه فيشهد به.

وهكذا الكلام في الشهادة على العدالة فإنها ليست من الأمور الحسية ، بل مستفادة من قرائن كثيرة حسية.

ومثلهما الشهادة على الاجتهاد والإسلام والايمان وغير ذلك ، فان هذه كلها

__________________

(١ و ٢) الوسائل ج ١٨ كتاب الشهادات الباب ٢٠ الحديث ١ و ٣.

٧٠

أمور غير محسوسة تعرف من آثارها ولكنها تعد في نظر العرف أمورا حسية.

فالحس المعتبر في هذا الباب له معنى عام ، يشمل ما كان محسوسا بنفسه ، أو بآثاره التي يكون معها كالمحسوس.

وهكذا الكلام في المسببات التوليدية التي لا ترى إلا أسبابها ، وآثارها ، فقتل النفس وهو زهاق الروح ليس امرا حسيا ، بل المحسوس ضرب العنق بالسيف مثلا أو الإلقاء من شاهق ، أو الإغراق في الماء ، أو الإحراق بالنار ، ثمَّ بعد ذلك لا يرى الحس والحركة في البدن ولا يرى آثار الحيوة فيقال كان زهاق الروح مسببا منه لا محالة.

ومن هذا القبيل الشهادة بالسخاوة والشجاعة وإباء النفس أو البخل والدنائة والجبن وغير ذلك من الصفات النفسية ، فإن جميعها تعرف من آثارها.

وبالجملة المحسوس هنا أعم مما يحس بنفسه ، أو بأسبابه ، أو بآثاره التي تكون معها كالمحسوس بنفسه ، نعم لا يمكن التعدي منها الى غيرها.

فعلى هذا إذا علمنا من قرائن مختلفة ان زيدا قاتل عمرو.

من تلجلج لسانه عند الجواب.

ومن تغيّر حاله عند مشاهدة آثار هذه الجناية.

ومن أجوبته المتناقضة عند السؤال عن القتل.

ومن كونه شديد العداوة مع المقتول ، وسماع الحوار بينهما في ساعة وقوع القتل ، وغير هذه الأمور مما يوجب اليقين بكونه قاتلا ، فشيء من ذلك لا يجوز الشهادة معها على القتل ، ولا تكون داخلا في عنوان البينة ، وان كان القاضي قد يعمل بها لو حصلت عنده بناء على حجية علم القاضي ، وجواز الحكم معه مطلقا ، أو فيما كان قريبا من الحس ، مثل ما روي في قضايا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في رجل توفي على عهده وخلف ابنا وعبدا ، فادعى كل واحد منهما انه الابن ، وان الأخر عبد له!

فأتيا أمير المؤمنين عليه‌السلام فتحاكما إليه ، فأمر أن يثقب في حائط المسجد ثقبين

٧١

ثمَّ أمر كل واحد منهما ان يدخل رأسه في ثقب ، ففعلا ، ثمَّ قال يا قنبر جرد السيف وأشار إليه لا تفعل ما آمرك به ، ثمَّ قال اضرب عنق العبد فنحّى العبد رأسه! فأخذه أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال للآخر أنت الابن (١).

وليس في هذا الحديث إشارة إلى اعتراف واحد منهما بعد ذلك وان ورد في قضية أخرى مشابهة لها ولكن الظاهر انهما قضيتان (٢).

ومثله ما حكاه المفيد في الإرشاد ، وقال روت العامة والخاصة أن امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل ادعته كل واحدة منهما ولدا لها بغير بيّنة ـ وفي ذيلها ـ ان عليا عليه‌السلام قال ايتوني بمنشار! فقالت المرأتان فما تصنع به؟ فقال أقده نصفين ، لكل واحد منهما نصفه! فسكتت إحديهما ، وقالت الأخرى الله الله يا أبا الحسن! ان كان لا بد من ذلك فقد سمحت به لها ، فقال عليه‌السلام الله أكبر هذا ابنك دونها! (الحديث) (٣).

الى غير ذلك مما يظفر بها المتتبع في طيات كتاب القضاء وغيره ، فهذا كله مما يجوز للقاضي الحكم به لعلمه الحاصل من هذه المقدمات القريبة من الحس ، ولكن لا يجوز للشاهد الاعتماد في شهادته على هذه الأمور وأشباهها.

المقام السادس

في كون حجية البينة عاما لكل احد ، وبالنسبة الى جميع الاثار

لا ينبغي الشك في ان مقتضى الأدلة السابقة حجية البينة بالنسبة الى جميع الاثار والى كل أحد ، كسائر الامارات القائمة على الموضوعات ، وانه لا اختصاص لحجيتها بمن قامت عنده البينة ، بل الملاك العلم بقيامها وشهادتهما ، سواء كانت عنده ، أو عند

__________________

(١ و ٢) الوسائل ج ١٨ كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب ٢١ الحديث ٩ و ٤.

(٣) الوسائل ج ١٨ كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب ٢١ الحديث ١١.

٧٢

غيره ، ولا يحتمل بعد ملاحظة الأدلة المذكورة ان يكون لقيام البينة عند شخص موضوعية ، حتى لا تكون حجة لغيره كما هو كذلك في سائر الأمارات.

بل لو لا وسوسة بعض الأصحاب في ذلك ، وتعرضهم للمسئلة وجعلها ذات قولين ، لم نحتج الى هذا المقدار من البحث أيضا ، وأي خصوصية للبينة من بين الامارات؟ وأي اثر لقيامها عندي أو عندك؟ بل المدار على تحققها في الخارج عند اي شخص.

نعم في أبواب القضاء والأحكام الصادرة من القضاة يمكن ان يقال ان لقيام البينة عند القاضي خصوصية ، ولكنه أيضا قابل للكلام ، وعلى كل حال لا دخل له بحجية البيّنة كامارة من الامارات القائمة على الموضوعات الخارجية ، والكلام هنا فيها فقط.

ويؤيد ما ذكرنا بل ويدل عليه ما ورد في جواز الشهادة على الشهادة ، وانه حجة مطلقا ، أو إذا كان شاهد الأصل لا يمكنه الحضور ، ولا ينافي ما دل على انه لا تجوز شهادة على شهادة على شهادة كما لا يخفى ، فراجع الباب (٤٤) من أبواب الشهادات من الوسائل.

المقام السابع

في نسبة البينة مع غيرها

إذا تعارضت البينة مع الأصول العلمية المخالفة لها فالأمر واضح ، واما إذا تعارضت مع غيرها من الامارات كاليد وأصالة الصحة والقرعة ، بناء على كونها امارة والإقرار ، وغير ذلك ، مما يستند إليه في إثبات الموضوعات الخارجية ، ففيه تفصيل.

وحاصله انها تقدم على قاعدة اليد وأصالة الصحة بغير كلام ، والا لم يصح الحكم به في أبواب القضاء ، فان جميع موارد البينة أو جلّها في المسائل المالية تكون

٧٣

في مقابل اليد ، أو أصالة الصحة في فعل المسلم ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» دليل قاطع على ما ذكرنا.

أضف الى ذلك ورودها في خصوص مورد اليد في بعض ما مر من الاخبار ، مثل رواية مسعدة بن صدقة ، فان الأمثلة المذكورة فيها بعضها من موارد أصالة الصحة وبعضها من مصاديق قاعدة اليد مع انه عليه‌السلام حكم بأن الأشياء على هذه حتى تستبين أو تقوم به البينة.

وبالجملة لا ينبغي الشك في تقدمها عليهما ، والا لم تبق لأبواب القضاء قائمة.

واما إذا تعارض مع قاعدة «الفراغ» ، بان شك مثلا بعد الفراغ عن الصلاة أنه توضأ لها أم لا ، ثمَّ قامت بينة على انه كان محدثا حالها بان قام من النوم واقبل على الصلاة ، والظاهر انها أيضا مقدمة على قاعدة الفراغ أيضا ، سواء قلنا انها من الأصول أو من الامارات ، لقوتها عليها ، لا سيما مع تقديمها على قاعدتي اليد والصحة اللتان لا تقلّان عن قاعدة الفراغ.

واما إذا تعارضت مع «الإقرار» كما إذا قامت البينة على ان هذا المال لزيد ولكنه أقر نفسه بأنه ليس له ، فالظاهر تقديم الإقرار عليه ، لأنه أقوى حجة عند العقلاء والظاهر ان حكم الشارع بحجيتهما انما هو من باب إمضاء بناء العقلاء بجميع شئونهما حتى من هذه الجهة إلا ما خرج بالدليل.

والحاصل انه لا يشك أحد انه لو قامت البينة على ملكية شيء لإنسان ، ولكنه أقر نفسه بعدمها ، ان بناء العرف والعقلاء على تقديم إقراره وتخطئة البينة ، ولم يرد في الشرع ما يدل على خلافه.

نعم يظهر من بعض الروايات المعتبرة الواردة في أبواب القتل ، انه إذا شهدت الشهود على شخص انه قاتل ، ثمَّ أقر آخر انه هو القاتل ، وان المشهود عليه برئ من قتله ، ان أولياء المقتول مخيرون بين أمور.

٧٤

الأول : ان يقتل الذي أقر على نفسه ، وحينئذ لا سبيل لهم على الأخر كما لا سبيل لورثة الذي أقر على نفسه على المشهود عليه.

الثاني : ان يقتل الذي شهدت الشهود عليه ولا سبيل لهم على الذي أقر ، ثمَّ يؤدي الذي أقر على نفسه إلى أولياء الذي شهد عليه نصف الدية.

الثالث : ان يقتلوهما جميعا ولكن يجب على أولياء المقتول ان يدفعوا إلى أولياء المشهود عليه نصف الدية خاصة دون صاحبه.

الرابع : ان يأخذوا الدية منهما نصفين (١).

وهذه الرواية وان عمل بها جمع من الأصحاب الا ان العمل بها مع مخالفتها للقواعد والأصول التي بأيدينا من جهات شتى مشكل جدا ، لا سيما في أبواب الدماء فالاحتياط مما لا ينبغي تركه ، ولو قلنا به في موردها فلا يمكن التعدي الى غير موردها بل الواجب العمل بالإقرار ، إذا كان جامعا لشرائطه وترك البينة لما عرفت من انه أقوى منها.

المقام الثامن

في تعارض البينتين

هذه المسألة مذكورة في كتاب القضاء ، وقد ذكروا فيها ابحاثا كثيرة هناك ، الا ان الذي يهمنا هنا هو الإشارة إليها بعنوان كلي ، وإيكال جزئياتها إلى مباحث القضاء وحاصله ان دليل حجية البينة كسائر الأمارات الشرعية لا تشمل المتعارضين ، لأن حجية كليهما ـ والمفروض انهما متعارضتان ـ محال ، لاشتمالها على الجمع بين النقيضين أو الضدين ، كما ان شمولها لواحد معين منهما ترجيح بلا مرجح ، لا يمكن المصير إليه.

__________________

(١) الوسائل ج ١٩ كتاب القصاص أبواب دعوى القتل الباب ٥ الحديث ١.

٧٥

والقول بالأخذ بأحدهما مخيرا أيضا بلا دليل ، لان دليل الحجية قامت على حجية كل واحد منهما تعيينا واما حجية واحد منهما على التخيير فلم يدل عليه دليل.

كما ان حجية أحدهما لا بعينه مما لا ينبغي التفوه به ، لما ذكرنا في محلة من ان الواحد لا بعينه لا وجود له في الخارج ، فما في الخارج معين دائما ، وانما يوجد هذا المفهوم في الذهن فقط ، اللهم الا ان يرجع الى القول بالتخيير وقد عرفت حاله.

وحينئذ لا يبقى بحال الا للقول بتساقطهما بعد التعارض ، والرجوع الى أدلة أخرى.

هذا هو مقتضى القاعدة في هذا الباب ولكن هناك روايات كثيرة ، تدل بعضها على وجوب القرعة بين البينات ، وايها وقعت القرعة عليها ، فعلى صاحبها اليمين ، وهو اولى بالحق (١).

وفي بعضها ان الحق لمن حلف مع بينته ، وانهما ان حلفا جميعا جعل المال بينهما نصفين ، وان كان في يد أحدهما وأقاما جميعا البينة كان للحالف الذي هو في يده (٢).

وفي بعضها العمل على طبق اليد من دون يمين ، وانه لو لم يكن في يده جعل المال بينهما نصفين (٣) الى غير ذلك.

وذكر شيخ الطائفة في الخلاف انه إذا تعارضت البينتان على وجه لا ترجيح لأحدهما على الأخر أقرع بينهما فمن خرج اسمه حلف ، واعطي الحق ، هذا هو المعول عليه عند أصحابنا ، وقد روي انه يقسّم بينهما نصفين.

ثمَّ نقل عن الشافعي فيه أربعة أقوال : الأول وهو أصحها انهما تتساقطان وبه قال مالك.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب ١٢ الحديث ٥ و ٦.

(٢ و ٣) الوسائل ج ١٨ كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب ١٢ الحديث ٢.

٧٦

الثاني يقرع بينهما كما قلناه ، وهل يحلف أم لا؟ قولان.

الثالث يوقف ابدا.

الرابع يقسم بينهما نصفين ، وبه قال ابن عباس والثوري وأبو حنيفة وأصحابه.

ثمَّ قال دليلنا إجماع الفرقة على ان القرعة تستعمل في كل أمر مجهول مشتبه وهذا داخل فيه والاخبار في المسألة كثيرة أوردناها في كتب الاخبار. (١).

هذا ولتحقيق الحق من بين هذه الأقوال محل آخر قد عرفته.

__________________

(١) الخلاف ج ٣ كتاب الدعاوي والبينات المسألة ١٠ ص ٣٥٦.

٧٧
٧٨

٣ ـ قاعدة حجية خبر الواحد

في الموضوعات

أقوال العلماء في المسألة

مدرك القاعدة من الكتاب العزيز

مدركها من السنة

مدركها من بناء العقلاء

سيرة الأصحاب في المسألة

أقوى ما يرد على حجية خبر الواحد في الموضوعات وجوابه

ملاك حجية الخبر ومعيارها

٧٩
٨٠