القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

اللهم الا ان يقال : ان الرواية ناظرة إلى الحكم الظاهري في الشبهات الموضوعية والحكمية معا ، أو ان صدرها عام بالنسبة إلى الحكم الواقعي والظاهري ، وان كان ذيلها خاصا في الحكم الظاهري.

ولكن كل ذلك بعيد ، ولا أقل من الشك فالحكم بالعموم مشكل.

وهنا بيان آخر لإثبات هذه القاعدة في الشبهات الحكمية شبيه ما ذكروه في بحث البراءة ، بالنسبة إلى الأحكام التكليفية ، وحاصله ان النجاسات أمور محدودة معدودة ، والأصل الاولى في الأشياء هو الطهارة ، فلو كان شيء قذرا شرعا مما لا يستقذره العرف ، فعليه البيان ، فلو لم ينبّه عليه يعامل معها معاملة الطهارة ، فكما ان الحرام هو الذي يحتاج الى البيان وكذا الواجب ، واما المباح فغير محتاج إليه في عرف العقلاء وفي عرف الشرع ، فكذلك بالنسبة إلى الأحكام الوضعية مثل النجاسة وشبهها وهكذا الكلام بالنسبة الى النساء المحرمات ، فإنهن اللواتي لا بد من بيان حرمتهن فلو لم يبيّن الشارع حرمة أخت الزوجة جاز نكاحها ، لا بعنوان الحكم التكليفي والبراءة بل بعنوان الحكم الوضعي لأن جواز النكاح وضعا لا يحتاج الى البيان بل الحرمة تحتاج اليه.

ولعله لذا حكم غير واحد من الأصحاب بطهارة المتولد من الكلب والخنزير إذا لم يتبعهما في الاسم ولم يماثله حيوان ، أو ان المتولد من أحدهما وغيره طاهر كذلك.

وان شئت قلت : ان النجاسة وان كانت حكما وضعيا على الأقوى ، ولكن تنشأ منها احكام تكليفية التزامية ، ويمكن التمسك بالبراءة بالنسبة إلى آثارها التكليفية ، كالأكل والشرب وتلويث المسجد به ، وغير ذلك ، ولكن هذا لا ينفع في مثل الوضوء بماء لا دليل على طهارته ونجاسته بحسب الحكم الشرعي ، لأن استصحاب الحدث باق فتأمل.

٤٢١

فالعمدة ما عرفت من القاعدة العقلائية في أمثال المقام ، وان الحرمة والنجاسة الوضعيين ، وشبههما تحتاج الى البيان فلو لم يبين الشارع يحكم بالحلية والطهارة.

ومما ذكرنا ظهر الاشكال فيما أفاده في «التنقيح في شرح العروة الوثقى» فيما ذكره بقوله : طهارة ما يشك في طهارته ونجاسته من الوضوح بمكان ، ولم يقع فيها خلاف ، لا في الشبهات الموضوعية ، ولا في الشبهات الحكمية ، ومن جملة أدلتها قوله في موثقة عمار «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر إلخ.» (١).

وقد عرفت المخالفة في الحكم من صاحب الحدائق والمحدث الأسترآبادي في «الفوائد المدنية» وسكوت جمع من الأصحاب منه ، كما انك عرفت قوة اختصاص الموثقة بالشبهات الموضوعية ، وان طريق إثبات الحكم في الشبهات الحكمية طريق آخر غير الحديث.

تنبيه

هل الطهارة والنجاسة حكمان واقعيان أو علميان

ظاهر جميع الأصحاب هو الأول ولكن صاحب الحدائق اختار الثاني.

قال في مقدمات حدائقه :

«ظاهر الخبر المذكور (موثقة عمار) انه لا تثبت النجاسة للأشياء ولا تتصف بها الا بالنظر الى علم المكلف ، لقوله عليه‌السلام «فاذا علمت فقد قذر» بمعنى انه ليس التنجيس عبارة عما لاقته عين النجاسة واقعا خاصة ، بل ما كان كذلك وعلم به المكلف ، وكذلك ثبوت النجاسة لشيء انما هو عبارة عن حكم الشارع بأنه نجس وعلم المكلف بذلك ، وهو خلاف ما عليه جمهور أصحابنا (ره) فإنهم حكموا بان

__________________

(١) التنقيح ج ٣ ص ١٥٨.

٤٢٢

النجس انما هو عبارة عما لاقته النجاسة واقعا ، وان لم يعلم به المكلف ، وفرعوا عليه بطلان صلاة المصلي في النجاسة جاهلا ، وان سقط الخطاب عنه ظاهرا.

وأنت خبير بما فيه من العسر والحرج ، ومخالفة ظواهر الأخبار الواردة عن العترة الأبرار».

ثمَّ استدل على ما اختاره باستلزام قول المشهور التكليف بما لا يطاق ، وما دل على ان من رأى في ثوب أخيه دما وهو يصلي لا يؤذنه حتى ينصرف (١) وغير ذلك.

واستدل أيضا بما حكاه عن الشهيد الثاني : «ان ذلك يكاد يوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة لكثرة النجاسات في نفس الأمر ، وان لم يحكم الشارع ظاهرا بفسادها ، فعلى هذا لا يستحق عليها ثواب الصلاة ، وان استحق أجر الذاكر المطيع بحركاته وسكناته ، ان لم يتفضل الله تعالى بجوده» (٢).

ولكن ما ذكره قدس‌سره الشريف من أعجب ما يمكن ان يتفوه به ، فإنه يرد عليه أمور :

الأول : ان النجاسة هي القذارة ، والطهارة عدمها ، وهما أمران عرفيان قبل ان يكونا شرعيين ، فالطهارة والنجاسة ليستا من اختراعات الشرع ، بل كان من أول زمن وجود الإنسان ، بل وقبل وجوده ، فلذا يجتنب أهل العرف عن كثير من الأشياء لأنها قذارات ، ويطلب أشياء أخر لأنها طاهرات.

نعم الشارع المقدس زاد على ما عند العرف ونقص في بعض الأحيان واشترط فيهما شرائط وبين لها أحكاما ولكنها أشبه شيء بما ورد عنه في أبواب العقود والإيقاعات والمعاملات.

__________________

(١) الوسائل ج ٢ أبواب النجاسات الباب ٤٠ الحديث ١.

(٢) الحدائق ج ١ ص ١٣٦.

٤٢٣

وبالجملة لا ينبغي الريب في كونهما أمرين واقعيين عند العرف وقد امضاهما الشرع مع قيود وشرائط ، بل هما أمران تكوينيان لا اعتباريان كما توهمه بعض وان كان هذا المعنى لا يؤثر فيما نحن بصدده ، فاذا كانتا عند العرف بعنوان أمرين واقعيين وامضاهما الشرع كذلك تكونا أمرين واقعيين.

الثاني : ارتكاز المتشرعة ، فإنه لا شك عندهم في كون النجس كالطاهر امرا واقعيا ، علمنا به أو لم نعلم ، وهم قد أخذوا ذلك من لسان الشرع ، ومن البعيد جدا رميهم بالغفلة عن محتوى كلام الشارع ومغزاها في هذا الباب وجهلهم جميعا ، مع كثرة الأحاديث الواردة في أبواب الطهارة والنجاسة.

الثالث : ما ذكره مخالف لظاهر جميع ما ورد في أبواب الأعيان النجسة والطاهرة فإن قوله عليه‌السلام في الكلب «انه نجس» (١) وكذا الحكم بالنجاسة وما يفيد معناه بالنسبة إلى العناوين الأخر وكذا «حكمه بطهارة الماء» وغيره فهذه كلها ظاهرة في تعلق الحكم بعناوينها الواقعية ، مع قطع النظر عن العلم والجهل ، فان الكلب ، أو الدم ، أو المني ، أو الماء ، عناوين خارجية ، علمناها أو لم نعلم بها.

الرابع : لازم ما ذكره ان تكون النجاسة امرا نسبيا فثوب واحد نجس بالنسبة الى من يعلم وطاهر بالنسبة الى من لا يعلم وهذا أمر عجيب لا يقبله ذوق الفقه وارتكاز أهل الشرع واحاديث الباب.

الخامس : لازم ما ذكره كون الطهارة أيضا امرا عمليا فاذا لم نعلم بطهارة

__________________

(١) الوسائل ج ٢ أبواب النجاسات الباب ١٢ الحديث ٦.

٤٢٤

شيء لا يكون طاهرا ، ومن البعيد ان يلتزم به ، وحينئذ يلزم التفكيك بين الطهارة والنجاسة مع أنهما أمران متقابلان.

وبالجملة أي داع على ارتكاب هذه التكلفات مع وضوح الأدلة وظهورها في كونهما أمرين واقعيين ، فمثل قوله عليه‌السلام في السؤال عن أبي حنيفة : «أيما أنجس البول أو الجنابة فقال البول؟.» (١) وقوله في حديث أبي بصير «إذا أدخلت يدك في الإناء قبل ان تغسلها فلا بأس الا ان يكون أصابها قذر بول أو جنابة» (٢) وغير ذلك مما يعثر عليه المتتبع وهو كثير كلها دليل على ما ذكرنا ، ولا داعي على حملها على خلاف ظاهرها.

واما ما تشبث به (قده) في هذا المجال فليس مما يركن اليه :

اما استدلاله بقوله «فاذا علمت فقد قذر» الظاهر في حصول القذارة بمجرد العلم يدفعها ، ما ورد في صدر الحديث من قوله عليه‌السلام «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر» فإنه ظاهر أو صريح في ان القذارة أمر واقعي حاصل قبل العلم ، وان العلم يحصل بعدها ، وهو قرينة على تفسير الذيل ، وانه إذا علم بالقذارة يتنجز الحكم في الظاهر والواقع ، وما لم يعلم فهي حكم واقعي غير منجز كما هو مشروح في باب الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي في الأصول.

وان شئت قلت العلم هنا طريقي كما هو الأصل فيه لا موضوعي.

واما بعض الاخبار الدالة على عدم اخبار الغير بكون الدم في ثوبه في حال الصلاة فقد فرغنا عنه بما ذكر في محله من ان الشرط على قسمين الشرائط الواقعية والشرائط العلمية ، فالنجاسة وان كانت امرا واقعيا ولكن اشتراط الصلاة بعدمها شرط علمي يختص بظرف العلم ، ومن فرغ عن هذا البحث اعني تقسيم الشرائط

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ أبواب صفات القاضي الباب ٦ الحديث ٢٧.

(٢) الوسائل ج ١ أبواب الماء المطلق الباب ٨ الحديث ٤.

٤٢٥

إلى الشرائط العلمية والواقعية فليس يصعب عليه هذه الرواية ومثلها ابدا.

ومن هنا يعلم الجواب أيضا عما نقله عن الشهيد الثاني فإن كثرة النجاسات في نفس الأمر لا تمنع عن صحة الصلاة بعد كون اشتراط الصلاة بعدمها من الشروط العلمية لا الواقعية.

نعم يبقى الكلام في مثل ماء الوضوء والغسل بما يظهر منهم كونها شرطا واقعيا في موردهما ولكن الالتزام بكونها شرطا علميا فيهما أيضا غير بعيد ووجوب الإعادة بعد الاطلاع على نجاسة الماء يمكن ان يكون من باب الشرط المتأخر فتأمل جيدا.

الى هنا تمَّ الكلام على قاعدة الطهارة وقع الفراغ منه

يوم الخميس ٣٠ / ج ١ / ١٤٠٥

والحمد لله رب العالمين

وللمؤلف تعليقات استدلالية بأسلوب جديد على العروة الوثقى في مجلدين ، المجلد الأول من أول كتاب الطهارة إلى أخر الخمس ، والمجلد الثاني من كتاب الحج الى آخر الوصية

٤٢٦